مقالات

ديمة الشكر.. الحجلة حين تسير على الرنين المطوق/ بشير البكر + فصل من كتاب: الرنين المطوّق

كتاب ديمة الشكر “الرنين المطوق” يختلف عن كثير من الكتب التي يكتبها بحاثة زماننا السريع. كتاب نحس حين نتصفحه أنه يليق بزمن آخر، لأن الكاتبة طرقت موضوعاً بعيداً من البحوث الدارجة والمعتادة اليوم، واقتحمت باب عروض الشعر العربي الموصد منذ زمن طويل كي تفكك الكثير من الشيفرات المعقدة، وتطرح حلولاً لألغاز مضت عليها قرون. بل إنها قامت بمغامرة ناجحة للذهاب في الاتجاه المعاكس، من الحداثة الشعرية بعيداً نحو أول الشعر العربي، من أجل ربط حاضر القصيدة العربية بماضيها، وجبر ما انكسر من أوزان بسبب المعارك الطويلة التي عرفها هذا الميدان قديماً وحديثاً.

هناك سؤال يستوقف القارئ حين يقع على العنوان، حول مفهوم ومعنى الرنين المطوق. وبالنسبة إليّ، لا أدري لماذا أوحى لي العنوان بكتاب ابن حزم الاندلسي، صاحب كتاب “طوق الحمامة”. لكنه لم يكن أكثر من خيال، مع أن الكاتبة تذهب إلى الأندلس في معرض بحثها عن تدوين العروض، ووصلت بذلك إلى نتائج فريدة حول علم العروض في الماضي والحاضر. وكتبت الشكر كتابها بلغة توحي وكأنها نسجته على أحد بحور الشعر العربي، كما لو أنها تجرب كتابة قصيدة واحدة تستعمل فيها خلطة من كل البحور، حيث يبدو موزوناً من أوله إلى آخره، من دون أي كسر في اللغة المشغولة برهافة عالية. واشتغلت على الشكل والتشكيل حتى جاء المطبوع منمنماً أليفاً لعين القارئ من الناحيتين الجمالية والدلالية. وقبل أن نجد جواباً للسؤال الأول، يقفز سؤال آخر: لماذا ذهبت الكاتبة الحداثية إلى العروض، وقد كتب الكثيرون قبلها في هذا المجال، وفوق ذلك هي غير متخصصة في الأدب؟ وعن هذا السؤال تجيب في حوار مع موقع “جدلية”: “تبلورت فكرة الكتاب خلال سنين من قراءتي لعلم العَروض، الذي لم يقدني إليه إلا شغفي بالشعر الحديث حصراً، بشقّيه الموزون (التفعيلة) وغير الموزون (قصيدة النثر). الشعر الحديث هذا هو أصل القصة كلها، إذ بدأت بقراءته منذ الصغر وكان حديقتي السرية، خلافاً للقصيد أي الشطرين المقفى الذي كان حصة ما هو رسمي وقتها، أقصد المدرسة”. أعجبها الشعر الحديث، فبدأت تقرأ عن شعرائه وعنه، فاكتشفت “خلافاً” لم يعجبها، إن جاز التعبير، بين شعراء الحداثة، حول أمر محدد هو الوزن، هكذا أرادت التعرف من كثب إلى ما اختلف حوله الشعراء الذين أحبهتم، وتوضح أكثر المفارقة التي قادتها إلى العروض: “لم أكن لأكتب عن العروض لو لم أولد الآن، فلو كنت قد ولدت في القرن التاسع عشر مثلاً لما خطر الأمر في بالي مطلقاً، من هنا أنا مدينة لشعراء الحداثة، هم من قادوني إلى علم العروض”.

هذا الكتاب، على أهميته الكبيرة، مظلوم لأسباب عديدة. أولها، أنه لم ينل حظه من الإعلام والاهتمام، وكان حرياً أن يحظى باستقبال خاص من الأوساط الأكاديمية، وغير الأكاديمية، لما وصلت إليه الباحثة من نتائج ذات قيمة استثنائية فعلاً، من خلال الربط بين حاضر وماضي الشعر العربي، في رد واعٍ وذكي على مَن أرادوا تكريس مفاهيم القطيعة بين الشعر العربي الحديث والقديم. والسبب الثاني، أن المهتمين بهذا النمط من الكتب، فئة ضيقة جداً، تنحصر في المتخصصين، ويمكن الجزم بأن عدداً محدوداً من أهل الصنعة كلف نفسه عناء الاطلاع عليه، رغم أنه كتاب نافع وضروري لهؤلاء الذين يعيش أغلبهم بين رفوف مجلدات يغطيها الغبار، ولم تحرضهم الجماليات الجديدة للحداثة لمواكبة الأشكال الجديدة وما طرحته من إيقاعات مختلفة. والسبب الثالث، يعود إلى تراجع الاهتمام بالشعر. وللأسف، فإن هذا الموقف انسحب على وسائل الإعلام ودور النشر ومراكز البحث والتدريس. ورغم أن العرب يباهون بكونهم أمة شعر، فإنهم باتوا غير مكترثين لما آل إليه حال الشعر والشعراء. وعلى ما يبدو، لم تراهن الكاتبة على رواج الكتاب كثيراً، واللافت هنا أنها لم تقطع في تصنيفه من حيث التقسيمات المتعارف عليها، لكنها انحازت إلى نسبه إلى “من يحبون الشعر ويقدرونه مثلي، ولا يجدون أن عليهم الاختيار بين التراث والحداثة أو بين الوزن وغيابه أو بين الأشكال الشعرية”.

ويبدو حب الكاتبة للشعر، المحرك الأساس لكتابة هذا الكتاب. ويسجل لديمة الشكر، التي لم تتخصص في الأدب، أنها أمضت وقتاً طويلاً تنقب في كتب العروض التي تتميز بأنها تعليمية، كي تضع كتاباً ذا قيمة علمية وعلى قدر كبير من المتعة. وغير حبها للشعر، ساهمت دراستها للموسيقى في فك لغز العروض: “فطنتُ فوراً إلى أنه لا يمكن مطلقاً تعلم العزف من طريق قراءة كتب الصولفيج، ولو أمضيت عمراً وأنت تقرأ، يجب أن تقرأ النوتة وأنت تسمع النغمة في آن واحد، العمليتان متلازمتان. والعروض كذلك، إذن هنا فهمت كيف دوّن الخليل علم العروض بالاستناد إلى أمرين يسمحان بالقراءة المنغمة من جهة، وبتدوين الإيقاعات بطريقة تجريدية من أجل حفظها من الضياع من جهة أخرى، وبكلام أبسط، النغمات: فعولن مفاعلين الخ تشبه إن جاز التعبير.. دو ري مي”.

وفي حوار دار بيني وبين الكاتبة، حول سر اهتمامها بالعروض، قالت: “إن أحدًا تقريبًا لا يحب علم العروض، وحين شغفت به منذ سنوات- وعادة ما أتكلم عما يشغفني- كان التعليق الأكثر تواتراً: يعني فعولن؟.. بنبرة لا تخلو من التعجب والسخرية المبطنة في آن واحد. لكني لم أهتم البتة لسبب بسيط: أنا أحب العروض. وفضائل العروض علي كثيرة، منها مثلًا تقديري للشعر الحديث، موزونًا وغير موزون، وانتباهي إلى قوة الشكل في ترتيب النغمات والمعاني، والأهم تدريبي على قراءة الكتب التراثية الأكثر تعقيدًا. كأن خزانة سحرية انفتحت من نغمات الشعر ومن قصص الشعراء واللغويين، فلعلم العروض، مثل غيره من العلوم، قصص وحكايا، ربما من أجملها حكاية عباس بن فرناس العالم والشاعر والموسيقي والمخترع، الذي كثيرًا ما يُشبّه بليوناردو دا فينشي، بصورة محقة. قصته مع العروض تدل على ذكاء استثنائي… إذ وصل جزء من كتاب الخليل بن أحمد، أو نسخة منه، إلى قصر الأمير عبد الرحمن في قرطبة، وهو الجزء الذي يحتوي شواهد الخليل، أي الأبيات الشعرية الممثلة لكل بحور الشعر بأنواعها كافة. واسم هذا الجزء: المثال. قيل إن جواري القصر كن يتلاهين بالكتاب في القصر. المهم أن الكتاب وصل ابن فرناس، فقرأ الشواهد الشعرية وعرف من نغماتها المتنوعة أنها تبطن علمًا، خصوصاً أن ابن فرناس كان عازفًا ومؤلفًا موسيقيًا، فأرسل إلى المشرق يطلب الجزء الأول واسمه: الفرش، قرأه وفهم العروض وصار يدرّسه في قرطبة، فانتشر العروض في الأندلس كلها. إلا أن أمور العلم لا تستوي مع فقهاء الدين، الذين اتهموا العالم بن فرناس بالشعوذة، نظرًا لقوله مفاعيل مفاعيل. لحسن الحظ أن القاضي لم يكن جاهلًا بالعروض، هذا صحيح، لكن الأفضل أن ينظر المرء إلى الأمر من وجهة نظر ثانية، تقول إن ابن فرناس أنقذ نفسه حين نشر علم العروض، فوصل إلى القاضي الذي دفع عنه تهمة الشعوذة. العبرة كلها هنا، انتشار العلم وحده، الكفيل بالتخلص من كل موبقات الشر والتخلف. أفكر كثيرًا في هذه القصة، وأستدعيها باستمرار بيني وبين نفسي، حين يستنكر أحد ما حبي لعلم العروض”…

ويبدو أن العمل على هذا الكتاب أخذ ديمة الشكر إلى التبحر في إشكاليات الشعر العربي، وتشهد على ذلك مقالتها عن طه حسين “في عشق العميد”، التي كرستها للحديث عن كتاب الشعر الجاهلي، لتمر على استعراض الكتب التي صدرت في هذا المضمار، ولعل أقواها وأمتعها كتاب ناصر الدين الأسد “مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية”. وتفسر الشكر سر اعتبار العميد، شعر امرؤ القيس، منحولاً، من خلال دراستها للعروض: “لكن العودة إلى علم العروض المرذول، تنصف امرئ القيس وغيره من الجاهليين، ذلك أن التقفية والتصريع (بتبسيط شديد: استعمال اللام في الشطور الأربعة مثلًا)، من أسس بناء القصيد، أي الشطرين المقفى. لقد كان القصيد وقتها، يتشكّل وفقًا لقواعد دقيقة، لم يستطع الشعراء الالتزام بها كلّها ودفعة واحدة، من هنا شاع الإقواء كعيبٍ عروضي في الشعر الجاهلي (لا تخلو منه معلقة امرئ القيس)”. وتخلص إلى أن العميد اختار، الشعر الجاهلي، “غطاءً” من أجل تمرير أفكار نقدية قوية تجاه التقديس، وثار عليه كثرٌ: “طائفة لأنها تهوى الشعر الجاهلي، فكتبت فيه، وأخرى لا تميل لإخضاع المقدس للبحث العلمي، فحاكمته”.

وفي الوقوف عند لغة هذه الكاتبة، تبدو الحرفية عالية. أولاً، هناك معرفة متعددة الحواس للغة. ثانياً، هناك بحث دقيق في المفردات. وثالثاً، تأتي القدرة على التوليف عالية جداً. ويبرز هنا الحب الخاص للعربية التي لم تتعلمها في الجامعات، فهي خريجة علوم اقتصادية، لكنها اشتغلت بالأدب والصحافة، وعلى معرفة معمقة باللغتين الفرنسية والانكليزية، لكن المجال الذي شدها أكثر من غيره هو النقد. ورغم أنها مقلّة جداً، فإنها صاحبة بصمة مختلفة في هذا المجال، ولديها قراءات ذات قيمة خاصة لبعض الشعراء مثل محمود درويش، سركون بولص، سعدي يوسف، وأنسي الحاج، وآخرين.

ديمة الشكر، الناقدة الأدبية، ذات اللغة الخاصة الخالية من الشوائب، الموزونة بإتقان، ذات الاختصاص. حين تكتب، فإنما تقوم بذلك بشغف وحب وفرح. تمتلك لغة حية، تلتقي فيها الموهبة والصنعة في سلسلة الافتتاحيات التي كتبتها للملحق الثقافي في صحيفة “العربي الجديد” الذي أشرفت على إصداره لسنوات، وفي افتتاحيات متنوعة، بعضها يتناول شخصيات ثقافية، روائية (حنان الشيخ)، أو قصصية (زكريا تامر)، تشكيلية (كمال بلاطة)..إلخ. وكانت تختار تلك الشخصيات وفق ما يمكن أن نسميه الحدس النقدي، بوصفه خياراً يتقاطع فيه الذاتي بالموضوعي.

المدن

———————————–

مقابلة مع ديمة الشكر

[ضمن سلسلة “كتب“ التي تعنى بالإصدارات الجديدة، تنشر ”جدلية“ حواراً مع الناقدة ديمة الشكر وفصلاً من كتابها الصادر حديثاً ”الرنين المطوّق: العروض قديماً وحديثاً“، الشارقة، دائرة الثقافة والإعلام، ٢٠١٣.]

جدلية: كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟

ديمة الشكر: تبلورت فكرة الكتاب خلال سنين  من قراءتي لعلم العَروض، الذي لم يقدني إليه إلا شغفي بالشعر الحديث حصراً، بشقيه الموزون (التفعيلة) وغير الموزون (قصيدة النثر). الشعر الحديث هذا هو أصل القصة كلها، إذ بدأت بقراءته منذ الصغر وكان “حديقتي السرية”، خلافا للقصيد أي الشطرين المقفى الذي كان حصة ما هو رسمي وقتها أقصد المدرسة. أعجبني الشعر الحديث، فبدأت أقرأ عن شعراءه وعنه، فاكتشفت “خلافا” لم يعجبني إن جاز التعبير بين شعراء الحداثة حول أمر محدد هو الوزن، هكذا أردت التعرف عن كثب إلى ما اختلف حوله الشعراء الذين أحبهم، وبدأت بقراءة كل ما يدور حول الأمر إلى أن وصلت عفويا وتلقائيا إلى الكتب التراثية فبدأت أقرا من دون ان أفهم الكثير، ومن دور تصور أو سياق، إذ إن كتب العروض متشابهة كلها حد التطابق، وهي لا تعطي القارئ فرصة للتفكير في سياق العلم أو تاريخه مثلا، ولا تفتح النافذة التي انتظرتها : ما تأثير غياب الوزن أصلا عن القصيدة؟، ما دوره تحديداً حين تكون القصيدة موزونة؟ فاكتشفت أن علي فتح النافذة بنفسي، وأن أوسع منظوري. الأمر بسيط  في رأيي : لم أكن لأكتب عن العروض لو لم أولد الآن، فلو كنت قد ولدت في القرن التاسع عشر مثلا لما خطر الامر في بالي مطلقا، من هنا أنا مدينة لشعراء الحداثة، هم من قادوني إلى علم العروض.

جدلية: ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب ؟

ديمة الشكر: نظراً إلى عدم وجود أي كتاب يبحث في تاريخ علم العروض ويبسطه كما تم الأمر مثلا مع علم النحو، كان لا بد لي من البدء مما قبل الخليل إلى اليوم. صحيح أن الفترة طويلة جدا، ثلاثة عشر قرناً، لكن لا يمكن البحث في العروض وبالتالي التوصل إلى نتائج علمية وأطروحات يعول عليها أو ذات صدقية من دون البحث في تاريخ العروض كله. الفكرة الرئيسة الأولى هي أن كتب العروض كلها كتب تعليمية، أمليت على طلبة العلم، وهي صورة شبه متطابقة مع كتاب الخليل الضائع. ومنهج الخليل في تأليف الكتاب أثر بشكلٍ طاغ على من جاء بعده. الخليل صاحب العقل الرياضي دوّن إيقاعات الشعر وفقاً للطريقة القياسية : القاعدة ثم مثال عنها. هذه نقطة الانطلاق أردت تصور كيف فكر الخليل؟ ولماذا دوّن الإيقاعات على هذا النحو؟ وما هذه الدوائر التي تزين غالبية كتب العروض؟ ما دورها ما وظيفتها؟ فتنني الخليل بن أحمد، ومن حسن حظي أنني تعلمت العزف على البيانو في صغري وأجيد قراءة النوتة، فطنت فوراً إلى أنه لا يمكن مطلقاً تعلم العزف عن طريق قراءة كتب الصولفيج ولو أمضيت عمراً وأنت تقرأ، يجب أن تقرأ النوتة وأنت تسمع النغمة في آن واحد، العمليتان متلازمتان. والعروض كذلك، إذن هنا فهمت كيف دوّن الخليل علم العروض بالاستناد إلى أمرين يسمحان بالقراءة المنغمة من جهة وبتدوين الإيقاعات بطريقة تجريدية من أجل حفظها من الضياع من جهة أخرى، وبكلام أبسط، النغمات: فعولن مفاعلين الخ تشبه إن جاز التعبير ”دو ري مي“ إلخ أما رسم الساكن والمتحرك على دوائر الخليل فيشبه سلم النوتة الموسيقية مع وجود اختلاف طبعا، فالنوتة الموسيقية التجريدية أعقد بما لا يقاس من رسمي الساكن والمتحرك، أما نغمات الخليل فأعقد من نوتة موسيقبة مثل الـ دو أو الـ ري. ولكل من هذين التدوينين النغمي والتجريدي وظيفة يضطلع بها، تتيح تعلم الإيقاعات العربية ونظم الشعر على منوالها. حين بحثت في تصور الخليل للإيقاع إذن، استطعت العودة إلى ما قبله، والنظر  في ما بعده، فغدا خياري في البحث من ما قبل الخليل إلى الحداثة أمراً مفروغاً منه. وهو ما قادني إلى نتائج مقنعة بالنسبة لي على الأقل، اكتشفت وجود فروق في التدوين بين الاندلسيين والمشرقيين الأوائل، إذ أدت مصادفة جميلة إلى وصول كتاب الخليل “الضائع” إلى الاندلس في القرن الثالث للهجرة واهتمام عبقري آخر هو عباس بن فرناس به، ما أثر بطريقة تدوين الاندلسيين للعلم، كتبهم أكثر منهجية وأفضل ترتيبا من المشرقيين الأوائل، لأنها صورة أصدق عن كتاب الخليل الذي عنوانه على ما أظن “الفرش والمثال”.

وتوصلت كذلك إلى تفنيد واحدة من أكثر الأخطاء شيوعاً: استدراك الأخفش على الخليل بحر المتدارك. لم يستدرك أحد شيئا على الخليل، والخليل نفسه نظم على البحر المتدارك. القصة أن ابن خلكان ذكر ذلك ولم تتم اعادة النظر بما قاله ابن خلكان. والاهم أن ظهور البحر المتدارك في كتب العروض الأولى، كان يشي بمكانته لدى الشعراء وقتها: لم ينظر إليه العرب إلا بخفة، كان يبدو مفتقراً إلى مهابة الإيقاعات العربية، لا يمكن مقارنة نغمته المتراقصة مثلاً مع نغمة بحر الطويل الفخمة. وكان لا بد من الانتظار حتى القرن الرابع الهجري حتى يوضع المتدارك بشكل منهجي في كتب العروض، وهو ما قام به الصاحب بن عباد في كتابه “الإقناع في العروض”.

وأحب فعلا قصة بحر المتدارك هذه، لأنها وسعت من منظوري تجاه استعمال البحور في الشعر الحديث: الأمر يتعلق بالذائقة، فهذا البحر بدأ بالانتشار وعندها دوّنه العروضيون أصولا في كتبهم، وهو واسع الانتشار اليوم في الحداثة. ويتعلق الأمر أيضا بطبيعة البحر نفسها، ما هي الإمكانيات الإيقاعية التي يمكن للشاعر استغلالها ضمن شكل بعينه: في القصيد، أو في الموشح أو في الشعر الحديث الموزون؟ أي أن الأمر يتعلق بالذائقة وبالخواص “التقنية” إن جاز التعبير للبحور. فعلى سبيل المثال لا يمكن مطلقا استعمال البحر الطويل في الشعر الحديث الموزون لأنه تقنياً لا يقبل الجزء ولا النهك ولا التشطير، أي لا يقبل التخفف من إحدى تفعيلاته أو أكثر، أو بكلام آخر لا يتمتع بالمرونة التي تسمح له بـ “التحرر” من شكل القصيد، ليحط وينزل في قصيدة حديثة موزونة مثل التي يكتبها محمود درويش مثلا.

كانت الأمور تسير فعلا بشكل متطابق مع ما نعرفه من مد للحضارة العربية ثم جمود وتراجع فيها، لم يشذ العروض عن ذلك، ففي زمن الشروح والشروح على الشروح، ظهرت منظومات تعليمية معقدة أقرب إلى المعميات والأحاجي، وكثرت الشروح وتعقد تعليم العروض وغدا مقتصراً تقريباً على حلقات ضيقة أدنى إلى المشيخة والتصوف منها إلى علماء اللغة ومعلميها، إلى أن وصلنا النهضة، هنا ظهر تطور ممتاز في التجديد في طرق تعليم العروض وتنوع لافت في مقاربته وهو ما لبث ان انتكس للمفارقة في فترة الحداثة بتأثير مضلل للمستشرقين الذين اهتموا بعلم العروض العربي.

بحثت بعمق في كتب المستشرقين عن العروض (في فترتي النهضة والحداثة)، ولمست مذاهبهم في تذليل صعوبات تعليمه لغير الناطقين بالعربية، ومحاولاتهم لتقريبه من العروض الإغريقي مثلاً، وبحثهم المحموم عن النبر في العربية والارتكاز في الشعر العربي، وهذا ما فتح أمامي نافذة للمقارنة بين أعاريض مختلفة، وطرق تعليمها وتدوينها وكيف أثر الامر على العرب الذين بحثوا في العروض في فترة الحداثة. بطريقة ما فتح علم العروض أمام عيني خزائن من الكتب، وقصص وحكايات جميلة وطريفة، ودلني إلى واحد من أهم الكتب: كتاب ”دائرة الوحدة“ لعبد الصاحب مختار، هو الكتاب الوحيد الذي نظر إلى علم العروض بعيداً فعلا عن طريقة الخليل، ابتكر طريقة حداثية ممتازة في التعرف إلى الإيقاعات الشعرية، وفتح الباب أمام اختلاط البحور، هذا ما يفعله شعراء الحداثة أحياناً، كتاب ممتاز ممتاز.

جدلية: ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟

ديمة الشكر: أهمها دحض الأفكار المسبقة التي تقول بجمود العلم، فالجمود يطول طرق تعليمه ولا شيء آخر. وكذلك أنه علم صعب ومعقد، وهذا صحيح لكن ليس العلم كله صعب، ثمة أجزاء صعبة منه، منها مصطلحاته الكثيرة والصعبة فعلا، بيد أن هذا لا يبرر العزوف عن تعلمه أو تعليمه. هل نتوقف عن تعليم وتعلم ما هو صعب ومعقد في الرياضيات إذن مثلا؟ الصعوبة يجب أن تكون حافزا لاستنباط طرق جديدة وحداثية في التعليم.

لم يكن الحصول على الكتب الخاصة بفترة النهضة يسيراً، لكن تنقلت بين بيروت ودمشق، واستطعت الوصول إلى أغلبها، ولم أعد ذلك صعوبة وقتها، فقد كان الشغف يقودني. ولكن في أحايين كثيرة كنت أقول لنفسي: لمَ أفعل هذا؟ لمَ أبحث في أمر يتطير الناس منه ويسخرون أيضاً؟ فأحبط بسبب صعوبة البحث، ثم أتابع مجددا وأنا أقول لنفسي طيب بما أنه متروك وهامشي فسأحتفي به، هو حصتي ولا أحد يريده.

وربما كانت الصعوبة الأكبر أن لا كتب بحثت في الامر أستطيع الاعتماد عليها لأطور بحثي، كان علي أن أبدأ تقريبا من لا شيء، وأن أكتشف بنفسي مسار العلم وتاريخه. صحيح ثمة كتب ولو قليلة جدا بحثت في نشأة إيقاعات الشعر العربي لكنها لم تتابع الأمر، بمعنى أنها خطت نصف خطوة ولم تربط النشأة بما صنعه الخليل بعد ذلك، ولم تتوسع كثيرا في ما يخص الأشكال السابقة على القصيد (الشطرين المقفى) لأسباب كثيرة منها مثلا قلة ما وصلنا من ذلك الشعر، وضعف المقارنات مع الشعر في اللغات السامية الأخرى. بالإضافة إلى الأخطاء الكثيرة المنتشرة في كتب الحداثة سواء أكانت بحثية أم تعليمية، أدت كلها إلى زيادة “الأفكار المسبقة” وابتكار صعوبات جديدة، شيء يشبه الفوضى، وفي ظني أن سبب ذلك هو الانقطاع المخل بين النهضة والحداثة، نادرا ما تجد حداثيا يشير إلى نهضوي، كما لو أن الحداثة طردت النهضة ورمتها. غياب التراكم، وعدم الاستفادة من النتائج التي توصل إليها النهضويون مشكلة كبرى في رأيي. ونادرا أصلا ما التفت الحداثيون إلى الشعر الحديث في كتبهم، لا يوجد ولا طريقة واحدة تدل الطالب اليوم كيف يفرق بين الشعر الحديث الموزون وغير الموزون. لهذا يستغرب الناس حين أقول لهم السياب ودرويش مثلا كتبا شعرا موزونا. النكسة فعلا في غالبية كتب الحداثة التي رمت النهضة وأدارت وجهها للشعر الحديث، وغرقت في جدالات غير ذات صلة متأثرة بأطروحات المستشرقين الذين لا يمكن أن يعرفوا العروض العربي كأهله، وهم أنفسهم وضعوا كتباً ممتلئة الأخطاء المعرفية.

جدلية: كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟

ديمة الشكر: هو كتاب في تأريخ علم العروض، كتاب بحثي، ينظر في أحد علوم اللغة العربية، لكنه بسبب منهجه يظهر في عيني أحيانا كصورة مصغرة عن علاقتنا بتراثنا ولغتنا اليوم، كيف نهتم بعلوم اللغة؟ اهتمامنا قليل، ومع ذلك لا نكف عن الشكوى من تراجع اللغة العربية مندهشين من الامر رغم إهمالنا لعلوم اللغة العربية وطرق تعليمها. مفارقة غريبة عجيبة، نحن كمن رسب في الصفوف الأولى في المدرسة ومع ذلك يتذمر ويصرخ لماذا لم يتم قبولي في الجامعة؟!! ويعد نفسه مظلوما كذلك.

أظن أن موضع الكتاب مع إخوته من كتب العروض هو مكانه الطبيعي، مع ذلك يمكن أن يغيّر مكانه فيذهب إلى كتب التاريخ بسبب “قصص” العروض فيه، ويمكن أن يذهب أيضاً إلى رف الشعر، ففيه شواهد الخليل ومنظومات تعليمية كثيرة، صحيح هي ليست شعرا لكن لها شكله، هي نظم أعرف هذا لكن أحب لو وضع الكتاب مع الشعر لأنه عنه.

 اعتنيت بتبويبه ليكون سهل المأخذ، أنت غير مضطر لقراءته كله، تستطيع أن تقرأ الجزء الذي يهمك فقط، من هنا من الممكن أن يكون التفاعل معه أكثر حرية، هو ينظر أيضا في طرق التعليم، وقد يكون مفيدا لمن يحب تعدد الأبواب المفضية إلى أمر بعينه. والكتاب يعتني بفكرة تدوين النغمات، وحفظ الإيقاعات أو ما سمي قديما “أبنية العرب”، تعجبني التسمية وأراها معبرة جدا.

جدلية: ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟

ديمة الشكر: هو كتابي الأول رسمياً  لذا فإن موقعه هو موقع القلب بالطبع، البحث في العروض قربني إلى التراث، وجعلني أحب الشعر الحديث أكثر وأفهم كيف أن تلك الإيقاعات الراسخة للشعر العربي التي فتنتنا على مر العصور وقليلا ما خرجنا عنها (خلا النزهة الأندلسية للموشح والأزجال)، جاء شعراء الحداثة وخاصة السياب ودرويش فاقترحوا لها بديلاً جميلاً استطاع الصمود لأزيد من نصف قرن، الكتاب يقول أيضاً ثمة إمكانيات هائلة  في الإيقاع لا مبرر للتفريط بها. كنت أكتب ونصب عيني الشعراء والنقاد الأقرب إلى قلبي، كنت أريد شيئا يليق بما كتبوه. وكان البحث العلمي الغربي نصب عيني كذلك، كنت أريد كتابة شيء محكم، عربي ومحكم، كنت لا واعية أتصرف وعنوان أحد كتب عبد الفتاح كيليطو يرن في رأسي: “لن تتكلم لغتي”، لهذا أفردت مساحة واسعة لما كتبه المستشرقون عن الأمر.

 جدلية: من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأملين أن يصل إليه القراء؟

ديمة الشكر: أظن وأتمنى أن يكونوا ممن يحبون الشعر ويقدرونه مثلي، ولا يجدون أن عليهم الاختيار بين التراث والحداثة أو بين الوزن وغيابه أو بين الأشكال الشعرية. لكن فلأكن واقعية، هذا كتاب للمختصين والذين يعشقون اللغة العربية، والاهم أنهم يعشقون البحث والتعمق فيها.

جدلية:ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟

ديمة الشكر: أتمنى أن يصيبني شغف مماثل لأكتب عن الشعر الحديث، عن شعراء أحبهم، سيكون كتابي نقدياً بالطبع.

————————————

فصل من كتاب: الرنين المطوّق: العروض قديماً وحديثاً  لديمة الشكر

استقرار التدوين

لا يفصلُ بين العَروضيّ (342/954)  وابن عبد ربّه[1] (328/939) إلا سنوات قليلة، لكنّ المكانَ يفصلُ بينهما: فالأوّل مشرقيّ، والثاني أندلسيّ. زد على ذلك، أنّ نِظرةً إلى مُؤلَفيْهما في العَروض، لن تجدَ إلا الفَصْلَ بينهما ثانيةً: فالـ كِتاب في عِلم العَروض، لا يملكُ شيئاً من منهجيةِ تأليفِ العِقْد الفَريد. وإن كانَ لكِتابِ الأوّل جذورٌ وأصولٌ، احتوى عليها وزادَ فيها وأضافَ إليها، فإنّ كِتابَ الثاني يبدو مُنبتّاً فَريداً كاسمه، إذ لا تكادُ تذكرُ كُتُب الأندلس، شيئاً عن العَروض قبْلَ ابن عبد ربّه[2]. ومع أنّ الأوّل هو الثاني وفاقاً مع النَقْد التأريخي، إلا أنّ صنيعَ ابن عبد ربّه لجهةِ حُسن التأليفِ والتبويبِ، يضعُ كِتابَ العَروضيّ قبْلَه. فاستقرارُ التَدوين هو الفيصلُ بينهما، وهو الذي غيّرَ من ترتيبِ الكِتابين زمنياً؛ فالأوّل هو الثاني، والثاني هو الأوّل. فلا يمكنُ لباحثٍ في العَروض، إلا أن يبدأ من العِقْد الفَريد، فهو أشهرُ المصادر، ويكادُ يرقى إلى المظان[3]. وفضلاً عمّا يؤهله لذلك، فقد اكتسبَ العِقْد الفَريد، مكانتَه هذه لسببٍ موضوعيّ ثانٍ: فهو من أوائلِ الكُتُبِ المحقّقة[4]، ويسبقُ من ناحيةِ التحقيق الكُتُبَ الثَلاثة السابِقةَ عليه زمنياً؛ أي كُتُب الأخْفَش والزّجاج والعَروضيّ، الأمرُ الذي ضاعفَ من قيمتهِ في نظرِ الباحثين، وأرساه كالمصدرِ الأوّل في عِلم العَروض.

يُمثّلُ هذا الكِتاب نقطةَ التقاءٍ فَريدة بين المَشْرق والأندلس، فمصادرُه مشرقيّة[5] وموطنُه أندلسيّ. ومن وجهة نظرِ النَقْد التأريخي، يَظهرُ العِقْد الفَريد كمثالٍ ممتازٍ لتَدوينِ العَروضِ عن بعد، إن صحّ التعبير، واستقراره. وكما رأينا فقد كانَ مسارَ تدوينِ العَروض في المَشْرق، مُرتبطاً على نحوٍ وثيقٍ بتَعليمِه، فكلّما انتشرَ تَعليمُ العَروض، اتضّحتْ الأبوابُ في الكُتُب، وتمّ التأليفُ بصورةٍ تُراعي التدرّج في المعلومات، الأمرُ الذي وجدناه دالاً على انتشارِ التَعليم بين غير المختصّين. فضلاً عن أنّ بعضَ الباحثين يُرجحّ إطلاعَ الأخْفَش على الأقل على كِتاب الخَليل[6] الضائع، وهو ما يقويّ من فرضيّة تقولُ إنّ كِتابَ الخَليل كانَ مُتداولاً في المشْرق، وبما أنّه كانَ صغيرَ الحجم حسْبَ الروايةِ الخاصّة[7] بابن مُناذر[8] (198/813)، فيمكننا القولُ إنّ كُتُبَ العَروض اللاحقة عليه، قامتْ بشرْحِ ما جاء َفيه وقيّدته على نحوٍ معين، وبذلك زادتْ أحجامُ تلك الكُتُب. ولا يمكنُ تصوّر أنّ الأخْفَش مثلاً قامَ وحدَه بابتداعِ طريقةٍ في التأليفِ من دون الإطلاعِ على كِتاب الخَليل، فالمصادرُ كلّها تتفقُ على أنّ الخَليل هو المصدرُ الأوّل للعَروض. أمّا كِتابُ ابن عبد ربّه، فلا يبدو حامِلاً في طِياته لمسارٍ مختلطٍ بين التَعليم والتَدوين، وكأنّه الثمرة من تشابكِهما معاً، فهو مُستقرُّ التَدوين والتَعليم على حدّ سواء.

من الصحيح أنّ القِسمَ الخاصَ بالعَروض “كِتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشّعر”، يظهرُ من اسمه، أنّه فصلٌ من فصول العِقْد الفَريد، لكنّ هذا الجزء، يحملُ في طِياته قصّةً فَريدةً في عِلم العَروض: فقد ذكرَ ابن عبد ربّه، في مُستهلِّ هذا الجزء ما يُحمّلنا على الظنّ أّنه اسّتقى مادتّه من كِتابِ الخَليل الضائع: “وجعلتُ المقطّعات رقيقةً غَزِلة، ليسهلَ حفظُها على ألسنةِ الرّواة. وضمّنتُ في آخر كُل مقطَّعة منها بيتاً قديماً مُتصلاً بها وداخلاً في معناها، من الأبيات التي استشهدَ بها الخَليل في عَروضه، لتقومَ به الحُجة لمن رَوى هذه المقطّعات واحتجّ بها”[9]. فهو يبيّن صراحةً أنّه احتفظَ بشواهد الخَليل. والسؤال الذي يلحّ هل صحيحٌ أنّ ابن عبد ربّه اسّتقى مادّته من كِتاب الخَليل؟ أم أنّ ثمةَ مصدراً مشْرقيّاً آخر، انتقلَ إلى الأندلس وألهمَ ابن عبد ربّه طريقَته في تَدوين العَروض؟ فنحنُ نعلَمُ أنّ مصدر العَروض مشْرقيّ، لكنّنّا نبحثُ بصورةٍ محدّدة عن كِتابٍ بعينه حَسَنِ التأليفِ والتبويب، وصلَ الأندلس، وحدا بابن عبد ربّه أن يتخذّه مرجِعاً لكِتابة “الجوهرة الثانية في أعاريض الشّعر”.

 أ- انتقالُ العَروض إلى الأندلُس: عَباس بن فِرناس (274/ 887)

نعلمُ أنّ القَرْن الرابع الهجريّ، شَهِدَ بداياتِ استقرار تَدوينِ العَروض في المشْرق. وأنّ حجمَ كِتاب العَروض، وصلَ إلى ذروتِه على يديّ أبي الحسن العَروضيّ، فاستقرّ كِتاباً كبيراً جامِعاً للعَروض والقَوافي ولمسائل أخرى واهيةِ الصِلة بالعَروض. لكنّ روايةً في كِتابِ الأغاني، تُخبّرنا أنّ كِتابَ الخَليل في أصْله، كانَ صغيرَ الحجم، ويكادُ لا يتجاوز بضع ورقات: “كان محمّد بن عبد الوهاب الثقفي أخو عبد المجيد يعادي محمّد بن مُناذر بسبب ميله إلى أخيه عبد المجيد، وكان ابن مُناذر يهجوه ويسبّه ويقطعه، وكلّ واحد منهما يطلب لصاحبه المكروه ويسعى عليه، فلقي محمّد بن عبد الوهاب ابن مُناذر في مسجدِ البصرة، ومعه دفترٌ فيه كِتاب العَروض بدوائِره، ولم يكن محمّد بن عبد الوهاب يعرف العَروض، فجعل يلحظ الكِتاب ويقرؤه فلا يفهمه، وابن مُناذر متغافلٌ عن فعله، ثم قال له: ما في كِتابك هذا؟ فخبأه في كمّه وقال: وأي شيء عليك ممّا فيه؟ فتعلّق به ولببّه، فقال له ابن مُناذر: يا أبا الصلْت، الله الله في دمي، فطمع فيه وصاح يا زنديق، في كمّك الزندقة، فاجتمع الناس إليه، فأخرج الدفتر من كمّه وأراهم إياه، فعرفوا براءته مما قذفه به، ووثبوا على محمّد بن عبد الوهاب واستخفوا به، وانصرف بخزيٍ” [10].

إنّ تأكيدَ الأصبهاني[11] صاحبِ الأغاني (356/ 967)، على وجودِ الدوائِر في هذه الرواية، يُرجحّ أمراً من اثنين: إمّا أنّ الكِتابَ هو كِتابُ العَروضيّ، لأنّه الأوّل الذي تضمّنَ صوراً للدوائِر، وإمّا أنّه كِتابُ الخَليل نفسِه أو نسخةٌ منه. وفي حالِ عَلمنا أن ابن مُناذر كانَ صديقاً لأبي نواس[12] (198/813) ولأبي العتاهيّة[13] (211/826)[14]، فإنّ الكِتابَ الذي كانَ بين يديّه هو كِتابٌ من القَرْنِ الثاني الهجري، وبالتالي فهو كِتابُ الخَليل أو نسخةٌ منه يقيناً. الأمرُ الذي يتّسقُ مع ما خلصنا إليه سابقاً، من مسارِ التَدوينِ المشْرقيّ، باعتبارِ مدوّناته تزدادُ حجماً، وتتجهُ إلى الشرح، وتتضّح أبوابُها وأقسامُها كلّما انتشرَ التَعليم. والآن هل يمكننا القولُ إنّ كِتابَ الخَليل الصغيرَ الحجم وصلَ إلى الأندلس بطريقةٍ ما، لأنّ كِتابَ ابن عبد ربّه يتضمنُ صوراً للدوائِر؟ أم أنّ كِتابَ العَروضي الكبيرَ الحجم هو الذي وصل؟ فلئن كانَ كِتابُ الخَليل، أمكننا القولُ إنّ طريقةَ التَدوين في العِقْد الفَريد طريقةٌ أندلسيّة، ولئن كانَ كِتاب العَروضي، لأمكننا من خلالِ المقارنةِ بينه وبين جزءِ العَروضِ من العِقْد الفَريد تأكيدَ ذلك.

إنّ الجوابَ العِلميّ عن السؤالِ أعلاه سيؤكدّ بشكلٍ كبيرٍ إطلاعَ ابن عبد ربّه على كِتابِ الخَليل، وصوّغه لجزءِ العَروض بالاستنادِ إليه. ونعلّلُ ذلك بأمور خمسة:

1- تؤكدُ الروايةُ التاريخية وصولَ كِتاب الخَليل الفَرْش والمِثال إلى الأندلس في القَرْنِ الثالثِ الهجري، إذ تُعيّن صراحةً أوّلَ من فكّ العَروض في الأندلس وقتذاك: عباس ابن فرناس (274/ 887). فقد روى الزُّبيدي[15] (379/989) في طبقات النحويين واللغويين: “جلبَ بعضُ التجارِ كِتابَ العَروض للخَليل، فصارَ إلى الأمير عبد الرحمن، فأخبرني أبو الفَرَج الفتى، وكانَ من خيار فتيانهم، قالَ: كانَ ذلك الكِتابُ يتلاهى به في القصر، حتّى إنّ بعضَ الجواري كانَ يقولُ لبعض: صَيّر الله عقلك كعقلِ الذي ملأ كِتابَه من “ممَا مِمَّا” فبلغَ الخبرُ ابن فرناس، فرفعَ إلى الأمير يسألَه إخراجَ الكِتابِ إليه، ففعل فأدركَ منه عِلمَ العَروض، وقالَ: هذا كِتابٌ قبْله ما يفسّره. فوجهَ الأميرُ إلى المشْرق في ذلك، فأُتي بكِتابِ الفَرْش فوصلَه بثلثمائة دينار وكساه”[16].

2- يُشيرُ ابن عبد ربّه في كِتابِه بشكلٍ صريحٍ إلى عنوانِ كِتابِ الخَليل الضائع. ويؤكدُ أنّه مؤلّفٌ من جزأين: الفَرْش والمِثال، فيقولُ: “فأكملتُ جميعَ هذه العُروضِ في هذا الكِتاب الذي هو جزآن، فجزءٌ للفَرْش، وجزءٌ للمثال، مُختصِراً مُبينّا مُفسِراً. فاختصرتُ للفَرْش أرجوزةً، وجمعتُ فيها كلّ ما يدخلُ العَروضَ ويجوزُ في حشوِ الشّعر من الزِّحاف. وبيّنتُ الأسبابَ والأوتاد، والتَعاقبَ والتَراقبَ، والخروم، والزيادةَ على الأجزاء، وفكّ الدوائِر في هذا الجزء. واختصرتُ المِثال في الجزء الثاني في ثلاثٍ وستين قطعة، على ثلاثةٍ وستين ضرباً من ضروب العَروض. وجعلتُ المقطّعات رقيقةً غَزِلةً، ليسهلَ حفظُها على ألسنةِ الرواة. وضمّنتُ في آخرِ كُل مقطَّعة منها بيتاً قديماً مُتصلاً بها وداخلاً في معناها، من الأبياتِ التي استشهدَ بها الخَليل في عَروضه، لتقومَ به الحُجّةُ لمن رَوى هذه المقطّعات واحتجّ بها”[17].

3- يستعملُ الشّنتريني الأندلسيّ (549/ 1057) في كِتابِه المعيارُ في أوزانِ الأشعار، لفظيّ الفَرْش والمِثال  “وإذ قد ذكرنا من الفَرْش ما لا بدّ لطالبِ هذا الشأن منه ولا غناءَ له عنه، فلنقلْ في المِثال بأوجز مقال”[18].

4- يبدو أنّ استعمالَ لفظي الفَرْش والمِثال عند ذِكْرِ كُتُبِ العَروض، كانَ خاصّاً بأهل الأندلس. فقد وجدنا في الذيل والتكملة، عند الكلام على أبي محمّد بن القُرطبي[19] (611/1214) ما يلي: “فكفّ عن الخوضِ في تلك المسألة، وهمّه ذلك وشغلَ باله، واشتدّ عليه، وانصرفَ إلى منْزِله، وعكفَ سائرَ يومه على تصفّحِ عِلم العَروض، حتّى فهمَ أغراضَه، وحصّل قوانينَه، وصنّفَ فيه مُختصراً نبيلاً لخّصَ في صدرِه فرْشه، وأبدعَ فيه بنظمٍ مثله في صدورٍ خمسة، لخمس دوائِر الشّعرِ العَرَبي، ينفكّ من كلّ صدرٍ أشطارُ دائرته وأعاريضها، ونظمَ لكلّ شطرٍ أيضاً عَجَزاً تُعرفُ به أنواعُ ضروبه، وجاءَ به الغد مُعجزاً من رآه أو سمعَ به”[20].

5- إنّ مقارنةَ الدوائِر بين كِتابِ ابن عبد ربّه من جهة، وكِتابِ العَروضيّ من جهةٍ أخرى، تؤكّدُ أنّ مصدرَ ابن عبد ربّه هو كِتابُ الخَليل، لا أي كِتاب مشرقيّ آخر، لأن العَروضيّ وضعَ التَفاعيل على الدوائِر، أمّا ابن عبد ربّه فقد وضعَ رمزيّ المتحرّك (5) والساكِن (1)[21]، وهما صنيعُ الخَليل كما نعلم.

وعليه، لا ريب في أنّ كِتابَ الخَليل ذا الحجم الصغير وصلَ إلى الأندلس، وأنّ ذكاءَ ابن فرناس المتوقّد وعبقريته التي لا تُبارى، قد حملاه على أنّ يُوليه العناية اللازمة؛ فبعد أن فكّ العَروض، واستطاعَ فهمه، قامَ بشرحه “للأميرِ عبد الرحمن ولبعضِ جلسائه من العُلماء والأعيان، وكذلك بدأ يطالعُ به الشّعراء والأدباء، ويتذاكرُ معهم حوله وعن أصولِه ومبادئِه، كما راحَ يذيعه على الناس، فكانَ أوّل من أُخِذَ عنه عِلمُ العَروض في الأندلس”[22]. وفي هذا المسار ما يُخبّرُ قصّةَ العَروض في التَعليمِ ثانيةً، فمن العالِمِ ابن فرناس، إلى العُلماء المختصّين، ومن ثمّ إلى الانتشارِ بين الناس.

الفَرْشُ والمِثالُ إذاً، كِتابٌ مؤلّفٌ من جزأين: 1- الفَرْش: وهو القِسمُ الذي يحيلُ إلى مصطلحاتِ العِلم ودوائِر الخَليل، ويمكننا عدّه جُزءاً نظرياً للعَروض. 2- المِثال: وهو القِسمُ الذي يحيلُ إلى البُحورِ الشّعريّة المرتبة تِباعاً حسبَ دوائِر الخَليل، وفي كلّ بحرٍ منها مثال عن أعاريضه وضروبه المختلفة، ويمكننا عدّه جزءاً تطبيقياً للعَروض. وعليه، لا بدّ من تحليل كِتاب الجوهرة الثانية في أعاريض الشّعر لابن عبد ربّه من أجلِ الكشْفِ عن التَدوينِ الأندلسيّ لعِلم العَروض.

[ضمن سلسلة “كتب“ التي تعنى بالإصدارات الجديدة، تنشر ”جدلية“ فصلاً من كتاب جديد للناقدة ديمة الشكر.”الرنين المطوّق: العروض قديماً وحديثاً“، الشارقة، دائرة الثقافة والإعلام، ٢٠١٣. اضغط/ي هنا لقراءة حوار مع ديمة الشكر حول الكتاب]

هوامش:

[1] هو أحمد بن محمّد بن عبد ربّه، عام الأندلس بالأخبار والأشعار وأديبها وشاعرها. نعدّ من شيوخه: مخلّد بن يزيد القرطبي، ومحمّد بن عبد السلام الخشني القرطبي ومحمّد بن وضاح. من مؤلفاته  الِعقْد الفَريد وديوان شعر مفقود. ابن عبد ربّه، العِقْد الفَريد، ص 21-24.

[2] مقداد رحيم، اتجاهات نقد الشّعر في الأندلس ص 10.

[3] “المَظانُّ جمع مَظِنَّة، بكسر الظاء، وهي موضع الشيء ومَعْدِنه، مَفْعِلَةٌ من الظن بمعنى العِلم”. ابن منظور، لسان العَرَب، 4/2764.

[4] حُقّق العِقْد الفَريد، وطُبع للمرّة الأوّلى في مطبعة بولاق 1872 م.

[5] بييركايكا، “الأدب الأندلسي”، الحضارة العَرَبية الإسلامية في الأندلس، ص 465.

[6] الأخْفَش، كِتاب العَروض، ص 35 – 38، (ت أحمد محمّد عبد الدايم عبد الله).

[7] الأصفهاني، كِتاب الأغاني، 18/ 187 – 188. وذكرها شتيفان فيلد في مقدّمة كِتاب العَروض للرّبَعي النّحوي، ص 13 م.

[8] هو محمّد بن مناذر أبو جعفر، شاعر كثير الأخبار والنوادر، كان من العلماء بالأدب واللغة، تفقّه وروى الحديث. وتزندق فغلب عليه اللهو والمجون. خير الدين الزركلي، الأعلام، 7/111.

[9] ابن عبد ربّه، العِقْد الفَريد، ص 424.

[10] الأصبهاني، كِتاب الأغاني، 18/ 187 – 188.

[11] هو أبو الفرج علي بن الحسين بن محمّد بن أحمد، الكاتب الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني. سمعَ من أبو بكر بن دريد وأبو بكر بن الأنباري وأبراهيم نفطويه، ومحمّد بن جرير الطبري، وغيرهم كثير.قال عنه التنوخي:”كان يحفظُ الكثير من الشّعر والأغاني والأخيار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أرَ قط من يحفظ مثله. ويحفظُ دون ذلك من علوم أخر: منها اللغة والنّحو والخرافات والمغازي والسير، ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطّب والنجوم والأشربة وغير ذلك، وله شعرٌ يجمعُ إتقان العلماء وإحسان ظرفاء الشّعر”.من أهمّ مؤلّفاته: كتاب الأغاني، وكتاب مجرّد الأغاني، وكتاب أخبار القيان وكتاب الإماء الشواعر، وكتاب المماليك الشّعراء وكتاب أدب الغرباء وكتاب الديارات وكتاب تفضيل ذي الحجّة وكتاب الأخبار والنوادر، وكتاب مقاتل الطالبيين وكتاب أدب السّماع وغيرها. وقد جمع الأصبهاني ديوان أبي تمام ولم يرتبه على الحروف بل على الأنواع، وجمع ديوان أبي نواس وديوان البحتري. الأصبهاني، م.ن، 1/15-37.

[12] هو أبو علي الحسن بن هانئ المعروف بأبي نُواس الحكمي الشاعر المشهور. وقال إسماعيل بن نوبخت: ما رأيت قط أوسع علماً كم أبي نواس، ولا أحفظ منه مع قلّة كتبه، ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا له إلا قمطراً فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو لا غير. ابن خلّكان، وفيات الأعيان، 2/95- 104.

[13] هو أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم المعروف بأبي العتاهية الشاعر المشهور. وكان يبيع الجرار فقيل له: الجرّار. واشتعر بمحبة عُتبة جارية الإمام المهدي. ابن خلّكان، م.ن، /219-222.

[14] انظر أخبار ابن مُناذر ونسبه في الأغاني.  الأصبهاني،م.س، 18/ 169- 210.

[15] هو محمّد بن الحسن أبو بكر الزُّبيدي الإشبيلي النّحوي، صاحب طبقات النّحويين. كانَ واحد عصره في علم النّحو، أخذ العَرَبيّة عن أبي علي القالي وأبي عبد الله الرّباحي، وأدّبَ ولد المستنصر بالله. وصنّف مختصر العين، وأبنية سِبويه، والموضّح، وما يلحنُ فيه عوام الناس، وطبقات النّحويين. جلال الدين السيوطي، بغية الوعاة، 1/84-85.

[16] قتيبة الشهابي، الطيران وروإدّه في التاريخ الإسلامي، ص 115. وكذلك، ابن سعيد المغربي،  المغرب في حلى المغرب، ص 333.

[17] ابن عبد ربّه، العِقْد الفَريد ص 424.

[18] الشّنتريني، المعيار في أوزان الأشعار والوَافي في عِلم القَوافي، ص 39.

[19] هو عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري القُرطبي المالقي أبو محمّد، كان محدّثاً حافظاً، حافظاً إماماً في وقته، أديباً، كاتباً، شاعراً، عارفاً بالقراءات وطرقها، فقيهاً زاهداً، ورعاً عالماً عاملاً، روى عن أبيه والقاسم بن دحمان والسّهيلي، وعن هؤلاء أخذ القراءات والعربيّة، وأخذها أيضاً عن ابن عروس وابن كوثر وابن الفخّار. وله تصانيفٌ في العَروض والقراءات. جلال الدين السيوطي، م.س، 2/37.

[20] ابن عبد المَلِك، الذيل والتكملة، 4/196.

[21] ابن عبد ربّه، العَقد الفَريد، ص 439.

[22] سوادي عبد محمّد، “عباس بن فرناس: من رواد الفكر العَرَبي في الأندلس”، مجلة عالم الفكر، مج 17، ع 4 ، ص 153- 172.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى