سمير قصير الحالم بنهضة مشرقية جديدة/ بشير البكر
فجأة كبُر سمير قصير وحلّق عاليا. من طالب جامعي إلى صحافي معروف، ومن صحافي لم يصل إلى قمة الشهرة إلى مفكر ورجل سياسة فاعل. كان جوزيف سماحة وفواز طرابلسي يسميانه، تحببا، بالطفل المعجزة (تبين أن صاحب اللقب الشاعر محمود درويش) حين يأتي الحديث عنه في غيابه. وهما المتمرسان بالعمل السياسي اللبناني من خلال حركة لبنان الاشتراكي ومنظمة العمل الشيوعي. كانا ينظران بإعجاب إلى سمير الشاب الذي طرح نفسه كاتباً صاحب رأي وسياسياً معارضاً بأطروحات ذات آفاق أبعد من لبنان، لتذهب نحو سوريا وفلسطين أيضا. وحين دخل إلى فريق التحرير في مجلة “اليوم السابع” في باريس عام 1984 لم يكن قد أتم الرابعة والعشرين (مواليد 4 أيار 1960)، وبرز ككاتب مقال على قدر من النضج والالمام السياسي والثقافي والقدرة على المحاججة توحي بأن عمر كاتبه أكبر من ذلك بعقد من الزمن على الأقل، في حين أن سمير لا يزال، حينذاك، طالبا يحضر الدبلوم في الفلسفة والفلسفة السياسية في السوربون، ومجلسه معقود في غالب الأوقات في مقهى “اسكالييه” على مدخل الجامعة، حيث يلتقي مجموعة من الشباب العرب، الغالبية من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، وكأن الدم والتراب حددا له كل شيء، ورسما خط مصيره السياسي والثقافي. فهو ينحدر من أب لبناني فلسطيني وأم لبنانية سورية، وولد في حي الاشرفية المسيحي في مدينة بيروت التي كانت ملهمة هذا الشاب المختلف، وكتب فيها “تاريخ بيروت” باكورة كتبه الذي وصفه بقوله “إنه مشروع عمري، في هذا الكتاب وضعت كل حياتي”. هكذا قدّم سمير قصير “تاريخ بيروت” لدى صدوره العام 2004 باللغة الفرنسية عن واحدة من دور النشر الفرنسية المرموقة (فايار). وكان ينتظر بشوق صدور الطبعة العربية (صدرت في عام 2007)، لكنّه لم يكد يقرأ ترجمة الفصل الأول ( ترجمة ماري طوق غوش) حتى سقط شهيداً في 2 حزيران العام 2005.
كتاب “تاريخ بيروت” أحد أجمل الكتب التي تناولت تاريخ هذه المدينة. وأنفق سمير 12 عاما وهو يشتغل عليه ليكتبه على شكل رواية سردية بفرنسية صافية، حيث يبدو التعمق بالثقافة الفرنسية طاغيا، كما يظهر سمير في الكتاب قارئا متميزا للتاريخ، ومسافرا عبر محطاته ليروي قصة بيروت منذ نشأتها. يتوقف ملياً عند أدق التفاصيل، الأثريات التي اكتشفت، وحتى القصائد التي كتبها الشعراء. وحين يطل على بيروت القرن العشرين، أو ما يسميه “ولادتها الثانية” لا يغفل شيئا “خاصرة الحرب الباردة”، اليسار العربي واليمين أيضاً، مسار تطور الحياة الاجتماعية، أسباب اندلاع الحرب الأهلية. ويتناول بيروت الصحافة والإعلام والفن وحتى جورجينا رزق التي اختصرت بعضاً من وجوه بيروت. ولا يبقى في الصورة الوردية فقط، فبيروت أيضا عرفت مباذل السبعينيات، وفي الوقت الذي صارت عاصمة حرية الصحافة ودور النشر والمطاردين من السياسيين المعارضين العرب، فإنها احتضنت أجهزة الاستخبارات العالميّة على اختلافها.
كتاب مرجعي موثق، وسردي ممتع يعيد اكتشاف المدينة ويسلط الضوء على ما يجب أن تكونه لتعيش وتتطور: مدينة ثقافية واقتصادية وكوزموبوليتية، عربية ومتوسطية. هو كتاب ولكنه تعبير حسي عن المدينة والتجربة المعاشة والصورة التي يريد أن تكون عليها. وما كان سمير يريد كتابة تاريخ بيروت من وجهة نظره، لو لم يكن مهجوساً قبل كل شيء بفكرة “ولادتها الثانية” التي بدأت في القرن التاسع عشر في فترة النهضة العربية، حيث انفتحت على العالم “هي المنفتحة على الغرب، وفي الآن نفسه، العربية بامتياز”، ولذلك عمل على الكتاب بوصفه “مشروع عمره”. مشروع المثقف والسياسي العربي المشغول في صورة أساسية بنهضة مشرقية جديدة.
وفي وقت كان يشهد لحظات استباحة دم بيروت ذهب سمير إلى كتابه الأخير “تأملات في شقاء العرب”، الذي كرسه للتفكير بالنهضة العربية على خطى رفاعة الطهطاوى الاصلاحي الذي سافر مع أول بعثة تعليمية مصرية ارسلها محمد علي باشا إلى فرنسا عام 1826، وكان عمره 24 عاما، وكتب في نهاية البعثة الدراسية بعد خمسة أعوام كتابه “تخليص الابريز في تلخيص باريز” الذي يعتبر تأسيسيا على مستوى النظرة إلى أوروبا التنوير، ويستعيد قصير كذلك بطرس البستاني، وهو الآخر من كبار رواد النهضة، الذي استعاد طرح الطهطاوي ليعبر عن نزعة وطنية عربية سورية لم تصل الى حد نبذ المواطنية العثمانية. ومع البستاني راح بعض المشاهير من رواد النهضة، مثل أحمد فارس الشدياق، المتعدد الثقافات الفريد في عصره، يبررون أعمالهم المعجمية من خلال تعلقهم بلغتهم، كما لو أنهم بذلك مهدوا للقومية اللغوية اللاحقة. ويسير الكتاب (تأملات في شقاء العرب) على أسس ثلاثة: مقاومة الاستبداد، والاستقلال، والدعوة الى عروبة ثقافية سياسية تعددية وديمقراطية وعلمانية.
والكتاب عبارة عن نص فاتن في لغته وأفكاره، يضاهي التوق والاندفاع نحو مشروع يأخذ العرب بعيدا عن هذا الشقاء المستفحل، الباقي، ويتمدد. ويخلص إلى أن الانحطاط ليس قدرا، وهو “نتيجة لجغرافية العرب، وليس لتاريخهم” .
صدر الكتاب بالفرنسية عام 2004 عن دار أكت سود، وبالعربية في تشرين الأول 2005، أي بعد اغتيال المؤلف بثلاثة أشهر، وهذا أمر يحز في النفس لأن قصير كان يريد أن يرى كتابه بالعربية وأن يصل قرائه العرب المعنيين بالموضوعات التي أثارها بجرأة وأضاء بطريقة نقدية على الكثير من المسائل الاشكالية التي انشغل بها العرب في العقود الأخيرة، وخصوصا الدين والعروبة والحداثة والجغرافيا والتاريخ. وحين يتأمل سمير الشقاء أو العجز العربي، فإنما يتم ذلك من منظور المثقف النقدي، المؤرخ والأكاديمي، والصحافي والمناضل السياسي، الذي ينظر إلى حال العرب اليوم من زوايا متعددة، ويسجل إحدى الخلاصات الهامة في أن العجز العربي سبب من أسباب عدم قدرة العرب على تمثل الحداثة كمشروع للنهضة والديموقراطية، ويرى “أن النهضة، الى كونها نهضة ثقافية، هي في الوقت نفسه، يقظة قومية تشبه النزعة الوطنية الإيطالية. كما لو أن “زمن النهضة الأوروبية” في القرنين الخامس عشر والسادس عشر قد أعقبه “زمن تمرد” لكن بلا ثورة مسلحة ولا مملكة “بيامونته” لتتمفصل حولها، فمصر التي كانت مؤهلة للعب هذا الدور اضطرت، بسبب تعقيدات المسألة الشرقية ولعبة الدول النافذة الى ملازمة حدودها بعد مغامرة ابراهيم باشا في بلاد الشام”، إلا أن ” النهضة العربية، سواء بمضمونها أم بأشكال التعبير عنها، وليدة الفكر التقدمي وعصر الأنوار الأوروبيين. والغالب عليها أنها تندرج في إطار الخط الذي رسمه منظرو الثورة الفرنسية، ولا يمكن اختصارها كلياً بالنزعة الوطنية”.”
كان الرجل غزيرا في الكتابة والنشر، ومولدا للمشاريع السياسية والثقافية. وقد عمل وشارك في تأسيس عدة صحف مثل اليوم السابع، لووريان اكسبرس الفرنكوفونية الشهرية، لوموند ديبلوماتك (النسخة العربية)، النهار، ومجلة الدراسات الفلسطينية باللغة الفرنسية، وكتب ما بين 1992 و2004 تسعة كتب، اثنان منها عن الصراع العربي الاسرائيلي مكرسان للسياسة الفرنسية في المشرق العربي وعلاقتها بالنكبة الفلسطينية، وذلك بالشراكة مع المؤرخ والناشر فاروق مردم بيه، وكرس بقية الكتب للبنان وسوريا، ومنها ديمقراطية سوريا واستقلال لبنان: البحث عن ربيع دمشق، هذا بالاضافة إلى عدد كبير من الافتتاحيات الاسبوعية في صحيفة النهار التي كانت أهم محطاته، سواء عمله في دار النهار، أو في الصحيفة اليومية. ويسجل لصاحب الدار غسان تويني ونجله جبران فتح باب هذا المنبر أمام مفكر حديث حر ومختلف في نفس الوقت، والدليل أنه دفع حياته في معركة الحرية التي كانت هاجسه الأساسي، ولم يكتف أعداء الحرية بقتل سمير، بل قتلوا بعد حوالي ستة أشهر جبران التويني. ولا نأتي بجديد حين نجزم بأن العقل الذي خطط جريمتي اغتيال سمير وجبران واحد، فالنهار صارت هدفا حين فتحت منبرها منذ عام 1998 لسمير قصير وتحولت إلى نصير للانتفاضة اللبنانية ضد النظام الأمني السوري اللبناني، وبعد اغتيال سمير كان جبران التويني أحد الذين تطوعوا لمتابعة قضية سمير على المستوى الدولي، وقد التقيته خلال الوقت القصير ما بين اغتيال سمير واغتياله عدة مرات في باريس، وكان، كما هو حال سمير، يدرك أنه في مرمى النار. وهذا شرف كبير يسجل لهذين الرجلين اللذين كانا يعرفان أن كلفة الكلمة ضد النظام السوري واتباعه في لبنان لا تقل عن الحياة.
ولعل من بين أحد أهم المشاريع الناجحة التي شارك سمير في قيامها هي تأسيس حركة اليسار الديموقراطي العام 2004، وذلك إلى جانب العديد من السياسيين والكتاب مثل الياس خوري، زياد ماجد، نديم عبد الصمد، الياس عطالله، بشير هلال، وكان لافتا أن هذه الحركة اكتسبت شعبية كبيرة خلال وقت قصير بين صفوف الشباب اللبنانيين، وخصوصا في الجامعات، وأثر اغتيال سمير على استمرارها بنفس الزخم، وتراجعت تدريجيا حتى ابتلعتها التطورات السلبية التي شهدها لبنان حتى صارت على الهامش.
وجاء تأسيس الحركة في وقت كان لبنان يشهد حراكا محليا ودوليا من حول الاحتلال السوري، وكان سمير أحد الأشخاص المساهمين في توليد موقف ضاغط من أجل خروج النظام السوري، وإنهاء تركته اللبنانية. ويؤكد غالبية الذين شاركوا في ولادة الانتفاضة ضد النظام السوري بعد اغتيال الحريري، أن سمير هو صاحب فكرة “انتفاضة الاستقلال”، وكان في ذهنه إحالة إلى الانتفاضة الفلسطينية عام 1987 ضد الاحتلال الاسرائيلي. وهذا جاء في شهادة لزوجته الصحافية جيزيل خوري.
لم يكن سمير قصير يكبر بسرعة فقط، بل كان يريد أن يصل بسرعة أيضا. ولذلك كان كثير المشاريع والأحلام والطموحات. متعدد، موزع بين البحث العلمي، والكتابة السياسية التنظيرية والعمل الصحافي والحزبي. وأعطى وقته وحياته للبنان وفلسطين وسوريا. رجل على عجلة دائما كأن أحداً يلاحقه، وكان يعلم أنهم يلاحقونه منذ عام 2001 وحدثنا عنهم عدة مرات بالاسماء، وكتب عنهم على صفحات الصحف، وخصوصا مدير الأمن العام في تلك الفترة جميل السيد الذي صادر جواز سفره في مطار بيروت في ذلك العام.
أدرك سمير أنهم كانوا يحفرون له عميقا، ولكن كما قالت زوجته جيزيل خوري “كانت معركته أكبر من أن يخاف”.
سمير قصير ذهب في التحليق حتى أقصى اللحظة العربية، لكن الشقاء العربي قاتل، وثقافة الموت أقوى من ثقافة الحياة. ومنذ اغتياله تراجع المثقف النقدي والاصلاحي أمام مشاريع وحكم المافيات التي دمرت كل ما يعد بالأمل، وصار مصير لبنان وسوريا مهددا كما لم يكن من قبل، وإن تعددت أسباب ذلك، يبقى النظام السوري سيد الخراب الذي ضرب لبنان وسوريا وفلسطين والعراق.
المدن