أجساد مُسيّجة: عن جنسانيّة ذوي الإعاقة
“تبّاني بالدّم”: حفصة والكروموسوم الملعون
Rim Benrjeb
أخاف من الكوابيس التي أفقد فيها صوتي ولا أكون قادرة على الصُراخ. يتّخذ صوتي شكل كُريّة حجريّة ويظلّ عالقًا داخل حُنجرتي. أفتح فمي مثل تمساح رابض في الوحل يستعدّ للقبض على فريسته، آخذ نفسًا عميقًا ينتفخ بسببه بطني الخاوي وأحاول الصُراخ دون جدوى. أخاف من الوحدة. الوحدة ثقيلة ومُوجعة. أصدّ كلّ المُقرّبين منّي بالتقوقع والانعزال ولا أشاركهم كثيرًا مخاوفي. هذا لا يعني أنّني غير قادرة على البوح ولكنّني أجد صعوبة في الحديث عن مشاعري والتعبير عن جحافل الأفكار التي تدور داخل رأسي. أخاف من الزهايمر وأحسّ بأنّني مُرشّحة جيّدة لهذا المرض اللّعين. أنسى الأسماء والأشخاص والنمائم والأحداث والتواريخ. أنسى أين وضعت هاتفي الجوّال ومفاتيح شقّتي. أنسى كلّ شيء تقريبًا. صحيح أنّ ذاكرتي بصريّة ولكنّها انتقائيّة وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنّني عبقريّة أوذكيّة. أخاف من الموت رغم أنّني حاولت الانتحار أكثر من مرّة. الموت مريرٌ وساذج. قضّيت أكثر من نصف عمري وأنا أعدّ نفسي لموت جدّتي مبروكة عوض استنشاق روائحها المُعتّقة. ذهبت الجدّة الغضّة ولم تعد وأنا الآن أعدّ نفسي لموت أدونيس، كلبي الصغير الذي اشتريته مثلما أشتري فساتيني وكتبي وأقلام الزينة التي ألوّن بها أحلامي. قتلتُ الكثير من أطفال المدينة من أجل كلبي وقبلها قتلتُ كلّ أطفال القرية من أجل حفصة، أختي التي وُلدت بمتلازمة داون حاملة معها وعدًا جديدًا بالخوف.
وُلدت حفصة بعدي بستّ سنوات ولم أكن أعرف شيئًا عن إعاقتها ولم أنتبه حتّى إلى اختلافها عن باقي الأطفال. كانت طفلة جميلة وحادّة الذكاء. تُحبّ اللعب مع الدّجاج الذي يُربّيه أبي في كوخ خشبيّ بناه بنفسه. كنت أتأمّلها بانبهار شديد وهي تحمل سطلا بلاستيكيّا أكبر من حجمها تضع فيه بحكمة فطريّة كميّة مدروسة من القمح توزّعها بعدل على الصيصان الصغيرة الصفراء. لم أغر منها لأنّها صارت فتاة العائلة المُدلّلة، فقد استحقّت عن جدارة لقب “قريّد العش”. كنّا بين فترة وأخرى نأخذها إلى العاصمة كي يفحصها الطبيب وكانت أمّي بعد كلّ زيارة تعود إلى القرية حزينة ومنكسرة. لم أفهم سرّ حزن أمّي الدائم والذي تحاول جاهدة إخفاءه عنّا ولم أهتمّ إلى طريقة نطق حفصة للكلمات. مازالت طفلة صغيرة والأطفال في سنّها لا يقولون الشعر ويغنّون المواويل ويتكلّمون بفصاحة وبلاغة إمام القرية. جميع الأطفال يتعثّرون في النطق ويصعب عليهم تحديد ما يريدونه لكنّ حفصة ظلّت إلى سن الخامسة غير قادرة على قول أيّ شيء سوى بعض الكلمات والتهتهات. أذكر جيّدًا اليوم الذي علمت فيه بإعاقة أختي المكتنزة والطريّة. كان يومًا غائمًا حزينًا نهرتها فيه لسبب ما فصرخت أمّي في وجهي باكية: “أختك مُعاقة”. خرجت من البيت مرعوبة. ماذا يعني أن يكون المرء مُعاقًا؟ هل يعني هذا أنّ أختي المُكتنزة والطريّة ستموت قريبًا؟
كبرت حفصة ودخلت إلى المدرسة في إطار برنامج الدمج البيداغوجيّ لذوي الإعاقة. لم يكن هناك بقريتنا النائية التي تقع على الحدود الجزائريّة أطفال مصابون بمتلازمة داون سوى حفصة وجهاد، جارنا الذي كان عنيفًا مع الأطفال الأسوياء ولم يقدر على الاندماج مع عالمهم الغريب، لذلك كانت أختي الصغيرة بمثابة الكائن الفضائيّ، مثيرةً للعجب والدهشة. كان الجميع يعرفها ويحبّها لأنّها طيّبة القلب وتضحك في الوجوه العابسة ومع ذلك تعرّضت إلى التنمّر من قبل مجموعة من الأطفال الأشرار الذين ينتظمون في شكل عصابات مُحترفة في سرقة أشجار المشمش والعنب وتعذيب الحيوانات. طلبت منها مرارًا أن تكون قويّة وتردّ الفعل حتّى أنّي خصّصت لها حصصًا تدريبيّة في فنون إجرام الأطفال وحاولت تعليمها الضرب بالحجارة ولم ينفع معها شيء. المرّة الوحيدة التي رمت فيها أحدهم بالحجارة كان أنا ولأسباب دفاعيّة بحتة. كنّا جالستين في حقل العجوز الشمطاء قمرة ننظر إلى الأبقار وهي ترعى، اقتربت منّا بقرة سوداء اللون وضخمة، خافت حفصة المكتنزة والطريّة وعوض أن تضرب العدوّ القادم ضربتني أنا على رأسي فخرج الدّم حارًا متدفّقًا. لم أغضب منها بل ضحكت لسذاجتها ومن وقتها ألغيت حصصي التدريبيّة وقرّرت أن أتولّى بنفسي حمايتها من العصابات المُنظمّة. أعلنت عن هذا القرار الخطير أمام كلّ أبناء وبنات الحيّ، وقفت منتصبة شامخة رغم قصر قامتي وصرخت بصوت أجشّ لا يليق بطفلة رقيقة: “الحرب بدأت يا أبناء القحاب”.
كنتُ أتنقّل بين الأحياء والأزقّة ككلب مسعور باحثة عن الأطفال الذين يضربون أختي أو ينادونها بـ”المجنونة”. لم أترك طفلا حقيرًا شرّيرًا إلاّ وضربته أو هدّدته حتّى صاروا يهابونني ويرتعبون لمجرّد سماع اسمي الذي لا يليق بوحش مثلي. كان لحفصة صديقات كثيرات يُحببنها بصدق وليس خوفًا منّي، يلعبن معها ويدافعن عنها بشراسة وصرن مُخبرات لديّ يشين بكلّ طفل أو شخص يُزعج تلك المكتنزة والطريّة. كنت أسيطر على الأمور وكان كلّ شيء يسير على ما يُرام إلى أن جاء اليوم الذي عادت فيها حفصة من المدرسة وقالت لأمّي: “هناك دم في تبّاني”. كنت مراهقة أعيش مع جدّتي مبروكة في بيت غير بعيد عن بيت أهلي الذي خرجت منه حانقة بعد أن سمعت الخبر المشؤوم. كنت أصرخ وأشتم وأبكي وأتنقّل في الغرفة كثور هائج. لم تفهم جدّتي سبب حالتي الهستيريّة ظنّت أنّني تخاصمت مع أبي الذي لم يقبل انخراطي المبكّر في السياسة وأسئلتي البدائيّة المُشكّكة في وجود الله وفي ماهيّة الدين الإسلامي. لم أكن أعرف غيره وقتها. خرجت الجدّة متأكة على عصاها الخشبيّة من الغرفة ونادت صديقتي رانية التي تعرف كيف تتعامل معي. هدأت قليلا وقلت لهم بصوت مُختنق: “حفصة صارت امرأة وهي في سنّ التاسعة”. رأسي يدور في الفراغ الكبير. كيف ستتعامل تلك الطفلة الصغيرة مع دم الحيض وآلام البطن. كيف ستضع فوطة صحيّة وتذهب إلى المدرسة دون أن تتّسخ ملابسها بالدّم. كيف ستتعامل مع الأطفال بعد هذه الفاجعة وقبلها كيف ستتعامل مع جسدها الجديد الذي دخل لتوّه إلى عالم الكبار. لم أعد أتحكّم في الأشياء وفقدت جزءًا من سلطتي الرمزيّة. لم تعد الحرب بيني وبين عصابات الأطفال المُنظّمة، صارت بيني وبين إلهٍ بعيد غير عادل.
فاجأتني حفصة بحكمتها الفطريّة التي لم توظّفها فقط في توزيع القمح بعدل على الصيصان بل أيضًا في إدارة الأزمات الطارئة. عرفت كيف تتعامل مع العادة الشهريّة ربّما أحسن منّي. لم يكن حدثا دراميّا في حياتها وإلى اليوم تتعامل بصبر وقناعة مع كلّ النوائب والشدائد مثل شيخ جليل. كانت فتاة كتومة ولا تتحدّث عن مشاعرها رغم أنّ كل شيء فيها حيّ ونابض. أحبّت أسامة جارنا وزميلها في المدرسة في صمت. علمتُ من إحدى صديقاتها النمّامات أنّها تحبّه. لم أرد إحراجها بشكل مباشر فكنت أغمزها بخبث عندما يمرّ أمام بيتنا أو يأتي للعب معها. يحمرّ وجهها المدوّر وتضحك أو تقول لي متصنّعة الجديّة: “يزّي”. كان أسامة طفلا هادئًا ورجلا صغيرًا، مُكتنزًا وطريًّا مثل حفصة التي تفرح بوجوده وتنظر إليه بجرأة في بؤبؤ عينيه. كانت مُستيقظة الحواس ومُنطلقة، تلعب وتجري وتُقهقه مع رفيقاتها وترسم وتدرس. مواعيد زياراتها إلى بيت جدّتي مضبوطة مثل مواعيد المُذاكرة. تفتح كتبها وكرّاساتها وتكتب أشياء لا نفهمها ولكنّها تكتب بهمّة وعزم. لا يمرّ يوم إلاّ وتزور فيه جارتنا زهرة المُقعدة، تجلس إلى جانبها وتنقل لها أخبار الحيّ. وحتّى عندما انتقلت مع عائلتها إلى حيّ آخر ظلّت تزورها باستمرار إلى أن ماتت. تتعامل حفصة مع الموت وفق معادلة بسيطة: جميع من تحبّهم سيشيّدون في الجنّة مدينة صغيرة ويعيشون فيها بسلام آمنين. تتأثّر لموت أقاربنا وتبكي بحرقة عجوز هرمة ثمّ تستعيد ألقها وتخرج للعب. كنّا نخاف أن تضيع أو أن يغتصبها أحد فكانت أمّي توجّهها ببعض النصائح أهمّها: “لا تأخذي الحلوى من أي شخص يُعطيها لك”. الحلوى طريقة سهلة لإغواء الأطفال واغتصابهم أو التحرّش بهم جنسيًّا.
كبرت حفصة وكبر من حولها وبدأت صديقاتها يتخلّين عنها تدريجيًّا. أكملن مشوارهنّ كمُراهقات يُردن استكشاف عالم الذكور وانقطعت هي عن التعليم لأنّها لم تكن قادرة على الانتقال من المدرسة الابتدائيّة إلى المدرسة الإعداديّة. كنّا كلّ سنة ومع دخول التلامذة إلى المدارس والمعاهد نشتري لها كتبًا جديدة وكلّ اللوازم التي تحتاجها لتدرس في البيت. نظام تعليميّ قائم على الحشو والتلقين ومدرّسون لا يُمكنهم استيعاب خصوصيّة أختي، هكذا كنتُ أقول لنفسي كي أواجه غضب انقطاعها الإجباريّ عن التعليم. لم نكن نثق في مراكز إدماج ذوي الإعاقة لأنّها لا تقدّم لهم شيئًا مُفيدًا بل تزيدهم عزلة وانبتاتًا. لم تتغيّر عادات حفصة كثيرًا ظلّت تدرس في البيت وتزور الجيران وتلعب مع أصدقاء جدد وتجلس مع صديقاتها القدامى عندما تتوفّر الفرصة. مُنى هي الوحيدة من بين كلّ صديقاتها التي ظلّت وفيّة لحفصة المُكتنزة والطريّة إلى اليوم الذي انتقلنا فيه من القرية، عندها انقطع حبل الودّ بينهما.
نعيش الآن في مدينة غير بعيدة عن قريتنا، وصرنا نخاف على حفصة أكثر من قبل لأنّ العالم صار أكبر وأوحش ولم تعد نصيحة “لا تأخذي الحلوى من الغرباء” تُجدي نفعًا. تخلّت حفصة عن كلّ أحلامها وصارت عصفورًا مسجونًا في بيت كبير لا تخرج منه إلاّ رفقة أبي أو أمّي أو أختي. كانت تجري بخفّة كوعلٍ صغير يتنقّل بين الصخور وصارت امرأة تشاهد بنهم المُسلسلات التركيّة وتُعجب في صمت بأبطالها الوسيمين. مازالت تتعامل بحكمة مع العادة الشهريّة ومع التغيّرات الكثيرة التي طرأت على جسدها ولكنّها بين فينة وأخرى تُعلن عن حزنها وتذمّرها عندما لا تجد ملابسًا تليق بسنّها بسبب وزنها الزائد. حاولت جاهدة أن تلعب الرياضة وتصير ممشوقة القوام كي ترتدي الفساتين القصيرة التي ينبهر بها الجميع ولكنّها فشلت. مازالت تدرس وترسم وتكتب أشياء لا نفهمها. مازالت تضحك وتثرثر ولكن مع أشخاص غير حقيقيّين خلقهم خيالها الواسع. مازالت طيّبة القلب وتضحك في الوجوه العابسة ورغم وحدتها وضيق عالمها الماديّ تعتني بشعرها وتريده مسبولا وعندما أقول لها: “أنت جميلة”، تبتهج وتردّ بغنج ودلال: “فعلا؟”. في المدينة الكبيرة لا يوجد صيصان ولا دجاج ولا قمح، حلّ محلّهم أدونيس كلبي الصغير الذي لا تقربه ولا تمسّه ولكنّها تحاول أن تُحبّه. لم تعد الحرب بيني وبين عصابات الأطفال المُنظّمة أو بيني وبين إله يُحبّ أن يتخفّى ويتنصّل من مسؤوليّته بل صارت مع نظام قمعيّ يُحقّر ذوي الإعاقة ويستلّ منهم حياتهم وأحلامهم الصغيرة. مازلتُ مُنتصبة شامخة رغم قصر قامتي، ومازالت الحرب قائمة يا أبناء القحاب.
ذوي اعاقة