أثاث منزل مقابل علبة حليب: السوريون يعيشون بالمقايضة/ نور عويتي
ينهش الفقر الشارع السوري بمختلف أطيافه، وتقف حكومة النظام السوري غير مبالية بتأمين الاحتياجات الأساسية لمواطنيها الأساسية، بما فيها الطعام والشراب، ما يدفع عدداً كبيراً من السوريين إلى بيع ما يمتلكون من أدوات منزلية ضروية لتأمين قوتهم اليومي عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي. وفي ظل فقدان الليرة السورية قيمتها بشكل متسارع خلال العام الجاري، يلجأ البعض إلى المقايضة.
وانتشر في الآونة الأخيرة عدد من المجموعات السورية في مواقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك، واتس آب) لبيع وشراء الأغراض المستعملة، ورغم أن هذه المجموعات تحتوي على عدد كبير من إعلانات المقايضات، إلا أن ذلك لم يفضِ إلى إنشاء مجموعات خاصة بالمقايضة كما جرى في لبنان عقب انفجار بيروت في آب/أغسطس الماضي، عندما تحولت مجموعة “لبنان يقايض” إلى أشهر المجموعات الفعالة في “فايسبوك” في البلد المجاور.
وبالمقارنة فإن التجربة السورية في هذا الإطار تبدو خجولة، إلا أن المنشورات الكثيرة التي أعلن فيها السوريون عن رغبتهم بمقايضة ممتلكاتهم مقابل الاحتياجات الرئيسية للعيش، تعكس الحالة الماساوية التي وصلت إليها العائلات السورية اليوم.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة ومؤشرات صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية إلى أن 80% من السكان يعيشون تحت خط الفقر في داخل سوريا، كما أن نظام الأسد شبه الاشتراكي الذي برع منذ السبعينيات بالتحكم بمقدار الثروات في بلاده ومعايير الغنى والفقر فيها، يقف اليوم غير مبالياً بتأمين الاحتاجات الأساسية لمواطنيها الأساسية، ويمكن الدلالة على ذلك يتحويله الدعم التقليدي للمواد الأساسية الذي كان سارياً منذ عهد حافظ الأسد، إلى دعم شكلي فقط يغطيه بتقنية البطاقة الذكية، بعد أن تراجعت ميزانية سوريا من 60 مليار دولار قبل الحرب إلى 15 ملياراً العام 2016.
دفع ذلك عدداً كبيراً من السوريين إلى البحث عن حلول بديلة وإسعافية لتأمين قوتهم اليومي، فلجأ عدد كبير منهم إلى مواقع التواصل الاجتماعي ليبيعوا ما يمتلكون من أدوات منزلية ضروية ومقتنيات شخصية عزيزة، ليتمكنوا من تأمين الغذاء والدواء وحليب الأطفال فقط.
ويزداد الأمر سوءاً مع تفضيل واضح للمقايضة مقابل البيع، بسبب فقدان الليرة السورية قيمتها وعدم استقرارها في الأشهر الأخيرة، التي سجلت فيها أدنى معدل لها تاريخياً، قبل أن تستقر مؤخراً بشكل نسبي على سعر 2200 ليرة مقابل الدولار الواحد من دون أن يكون لهذا الاستقرار أثر إيجابي على الأسواق المحلية.
وخلال الأشهر الأخيرة، يمكن تتبع إعلانات السوريين الذين عرضوا ممتلكاتهم الشخصية للبيع، فيما تحولت “محلات البالة” إلى ملاذ يلجأ إليه السوريون لبيع ملابسهم، ليحصلوا من خلال النقود على الطعام والدواء، وهو أمر رصده بعض الناشطين الداخل من خلال منشوراتهم التي أشارت إلى تغير وظيفة “محلات البالة” في سوريا من بيع الألبسة الأوروبية المستعملة إلى شراء وبيع ثياب السوريين المستعملة لتعين السوريين على تدبير أمورهم اليومية.
كما بدأت تنتشر مؤخراً ضمن مجموعات البيع والشراء في “فايسبوك” منشورات تدل على حالة العوز التي وصل إليها السوريون، حيث بدأ البعض بعرض أغراضهم الخاصة والثمينة للبيع بأسعار بخسة، والبعض بدأ يعلن عن رغبته ببيع سلل المعونات الغذائية التي توزعها الجمعيات الأهلية السورية أو وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين، من أجل تأمين حاجيات أساسية أخرى كالدواء وحليب الأطفال.
إلى ذلك، بدت منشورات المقايضة أكثر غرابة، ليس لكونها تعبر بشكل أوضح عن المأساة التي باتت جزءاً من حياة السوريين اليومية، بل لأنها أتت بين كفتين غير متوازنتين كما هو معتاد في إعلانات المقايضة الخاصة بالشقق والسيارات مثلاً. ويعني ذلك أن عروض المقايضة السورية ينشرها أشخاص فقراء مستعدون للتخلي عن أثاث منازلهم مقابل الحصول على الطعام والدواء. ويمكن قراءة عشرات المنشورات التي تضمنت طلباً لمقايضة غسالات أو أفران أو غرف نوم مقابل علبة واحدة من حليب الأطفال، والتي بات سعرها يبلغ 38 ألف ليرة سورية.
كما تعكس بعض المنشورات أيضاً حاجة الناس للمواد الأساسية من المحروقات، التي يدعي النظام السوري تأمينها لمواطنيه عبر البطاقة الذكية، حيث تضمنت العروض طلبات للحصول على جرة غاز أو بضع لترات مازوت مقابل قطع من أثاث المنزل.
عدد كبير من السوريين تعاطوا مع هذه المنشورات على أنها طلب للصدقة والمال بشكل غير مباشر، فجاء العدد الأكبر من التعليقات والتفاعلات معها تعبيراً عن الشفقة، وهو أمر كرسته بعض منشورات البيع أو المقايضة، التي تم ترويسها بعبارة “حالة إنسانية”. لكن حالة الشفقة والتعليقات الاستعراضية التي باتت الرد الأكثر شيوعاً، دفعت عدداً كبيراً من أصحاب المنشورات إلى حذف منشوراتهم بسرعة لتفادي الإحراج، بينما لجأ البعض الآخر إلى حسابات وهمية لنشر عروضهم من دون أن يتعرضوا للإحراج.
إلى ذلك، جاءت بعض التعليقات بصورة تخلو من الإنسانية، حيث تعامل أصحابها مع العروض بسخرية فظة، ليتهكم البعض على الاغراض التي يرغب المحتاجين لبيعها أو مقايضتها، ليكتب البعض: “لو شفتها بالطريق ما باخدها” أو “روحي كبيها بالزبالة”. لتظهر هذه التعليقات أن بعض السوريين يعيشون في عوالم منفصلة عن الواقع، وأنهم غير قادرين أبداً على الإحساس بمآسي الآخرين، حتى لو تعلق الأمر بأبناء بلدهم الذين يعيشون معهم في المدن ذاتها.
وتزداد حدة السخرية في التعليقات مع امتزاجها بالروح الذكورية عندما يتعلق الأمر بالعروض التي تقدمها النساء لعرض أغراضهن للبيع، مثل فساتين العرس والمكياجات. ووصلت هذه السخرية إلى ذروتها في منشور لفتاة في مجموعة “فرص عمل في حمص”، عرضت فيه شعرها الذي قصته للبيع لتأمين احتياجاتها الضرورية، فجاءت ردود أعضاء المجموعة ساخرة وبغيضة.
ولم تخلُ التعليقات من عروض الزواج والتعالي الذكوري الذي يحط من مكانة المرأة، إلى جانب التعليقات الإسلامية من قبل أشخاص نصبوا أنفسهم قضاة، وأكدوا بتعليقاتهم على أن ما تقوم به الفتاة “حرام”، وأن الشعر عورة بالنسبة للمرأة، ونشر صوره وبيعه هو أمر يتعارض مع الإسلام. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تم التقاط صورة للمنشور وأعيد نشره في العديد من المجموعات السورية الساخرة كنكتة لا تضحك سوى أصحاب النفوس المريضة.