24 كاتبا يلاحقون 22 ديكتاتورا في ملف واحد/ رضاب نهار
لم ينتشر الديكتاتوريون أبدا بقدر ما انتشروا القرن الماضي في ظل التكنولوجيا التي حاربوها بشراسة وأصبحت إحدى أدواتهم في القمع والسيطرة
منذ صدوره أواخر العام الماضي عن دار نشر PERRIN Le Point، حقق كتاب “قرن الديكتاتوريات” نجاحاً كبيراً في المكتبات الفرنسية، متضمناً مساهمات 24 مؤلفاً ومؤرخاً كتبوا وشاركوا خبراتهم وتحليلاتهم عن أهم ديكتاتوريات في العصر الحديث ممن أثروا بالسياسات العالمية والكوارث الإنسانية والاجتماعية بين الأمس واليوم.
يحاول الكتاب تحليل الفكر الديكتاتوري، السمة البارزة للعقود الماضية، والتعريف بأدواته وتوصيف طرائقه في سيطرته على نهج القرن العشرين بشكل كبير… إذ، وعلى الرغم من أن الديكتاتورية قديمة قدم التاريخ، فإنها أخذت منعطفاً واضحاً وبارز الملامح في نهاية الحرب العالمية الأولى مع ظهور الشمولية السوفياتية والفاشية، حتى قبل أن تفضي أزمة الكساد الكبير عام 1929 إلى انتصار النازية في ألمانيا.
ويثبت أنه وعلى مدى أربعة أجيال، في جميع القارات، أدت الأنظمة الأيديولوجية إلى سلطة حديدية ترأست الحروب والإبادة في القرن الهمجي الذي قلب التقدم ضد الإنسانية. وقادت هذه السلطات والأنظمة ذات الحكم المطلق مجموعة من القادة “الأشرار” الذين مهما اختلفت ملفاتهم الشخصية وكاريزماتهم لكنهم يشتركون في عدم الثقة بالآخرين، الازدراء الشديد للحياة البشرية، وعلى نطاق واسع، لجميع أشكال الحرية.
ولأول مرة ترسم 22 صورة لـ22 ديكتاتوراً حكموا العالم بالدم والنار. جمعها في ملف واحد وقدم لها الصحافي والسيناريست الفرنسي أوليفيه غويز بأسلوب يمزج بين الكتابة الصحافية والسرد الأدبي. ومن بين مؤلفي الكتاب “لورانس ديبراي، جيرمي أندري، باتريك موريو، وكاثرين روبرت”.
عدوى الديكتاتوريات
يؤكد غويز أن هذا الكتاب ليس له سابقة، فهو ليس فقط عن التاريخ، إنه يحكي عن كل المفاهيم والمواضيع المتراكمة والمتشعبة بطرق معقدة، التي تسببت بها عقلية الديكتاتور. إنه نتيجة العمل الجماعي على مدى عدة سنوات لعدد من المفكرين والصحافيين البارزين، حيث من الضرورة اليوم أن يكون ثمة مرجع يحلل ويحاكم تلك الظاهرة التي عصفت بالبلاد 100 عام وأكثر.
من وجهة نظر غويز، أن ما كتبه الشاعر الفرنسي بول فاليري في كتابه “نظرة على العالم اليوم” حين قال: “من اللافت للنظر أن الديكتاتورية أصبحت معدية الآن، كما كانت الحرية في السابق”؛ أكثر ما يمكن أن يشرح سياسة القرن العشرين المستمرة إلى اليوم.
ويسترجع غويز بعض الأيقونات والرموز الثورية التي تحولت إلى أدوات ديكتاتورية للسيطرة على الشعوب من أجل إخافتهم مدى الحياة. “إنها رموز مقدسة صنعت نفسها بنفسها”. ويقول “منذ بيسيستراوس Pisistratus، أول طاغية لليونان القديمة، مارس الرجال بضراوة سلطتهم الشخصية، خارج كل سيطرة وكل قانون، ضد قبائلهم. كان هناك قياصرة رومانيون، بما في ذلك كاليجولا، متعطشين للدماء، وهناك حكام مستنيرون إلى حد ما، وحكام مستبدون وسفاحون مثل تشين شيهوانغ، أول موحد للصين الذي دفن الأدباء أحياء، والذي تفاخر ماو بوجوده هناك. لكن لم ينتشر الديكتاتوريون أبداً بقدر ما انتشروا القرن الماضي، في ظل التكنولوجيا الحديثة التي حاربوها بشراسة واستفادوا منها لتصبح إحدى أدواتهم في القمع والسيطرة”.
أولى الصور المروية في “قرن الديكتاتوريات” يقصها ستيفان كوروتوا عن “لينين… نبي الشمولية” وهو فلاديمير ألييتش أوليانوف الذي استولى على السلطة في روسيا وأسس أول ديكتاتورية شيوعية هناك، وأول نظام شمولي في التاريخ. طريق مبهر جعل من الاتحاد السوفياتي بعد عام 1945 القوة العظمى الأخرى إلى جانب الولايات المتحدة قبل أن ينهار كل شيء بين 1989- 1991 كمجموعة أوراق متطايرة.
بعد لينين يتعاقب ديكتاتوريو القرن على صفحات الكتاب واحداً تلو الآخر. اختار كل كاتب ديكتاتوراً ليحلل شخصيته ويدرس تغلغله الاجتماعي والجغرافي والآثار المترتبة على شعبه خلال فترة حكمه وما بعدها. فمن موسيليني إلى ستالين وماو والقذافي مروراً بصدام حسين والخميني وغيرهم.
كل ديكتاتور مريض نفسياً
يقول غويز في تحليله لشخصية الديكتاتور “في البداية هم كلهم من الرجال. يعانون من الأرق وزاهدون أو تراهم معتلين جنسياً وغير عاطفيين. غالباً ما يكونون قصار القامة (كان كل من كيم جونغ إيل، لينين، ستالين، فرانكو، وموسيليني أقل من 1.70 سم). لقد أحبوا التبختر بالزي العسكري مرتدين ميداليات وألقاب صاخبة جداً توحي بالتعظيم والتقديس مثل الفوهرر والدوتشي والأب الصغير للشعوب والقائد العظيم والليدر والمرشد وغيرها الكثير”.
ثم يضيف “تخللوا تاريخ القرن العشرين وهم في الأصل لم يكونوا شيئاً أو بالكاد كانوا شيئاً يذكر. إن هؤلاء الفاشلين والمخفقين والمهمشين الأسطوريين والانتقاميين لم يكونوا ليصلوا إلى السلطة دون يد المساعدة أو دون ما يمكن أن نسميه ركلة من القدر”.
ويبدو معقولاً جداً ما قاله الروائي الألماني الياس كانيتي إن “الديكتاتور هو أحد الناجين من جنون العظمة. إنه الشخص الأقل رغبة في الموت من بين جميع الرجال (…)، الشعور بالخطر لا يفارقه أبداً (…)، لذلك يظل دائماً على أهبة الاستعداد ويراقب المؤامرات التي قد تختمر وراء ظهره (…)، عيناه في كل مكان، ويجب ألا يدع أدنى صوت يفلت منه أيضاً، لأنه قد يحتوي على نية معادية”.
ما إن يستلم أي ديكتاتور الحكم، فإن الأسابيع الأولى في حكمه تكون حاسمة. خلالها يفرض إرادته على السلطة ويعيد النظام ويحول المجتمع إلى ثكنات يكون هو قائدها العسكري، تماماً كالمروض. وفوراً تحظر المعارضة، تخضع وسائل الإعلام والمثقفون للرقابة والتقييد. ينفى الخصوم ويحبسون ويعذبون ويقتلون. الديكتاتور في داخله يخشى جماهيره التي يكبتها، لكنه يدير اللعبة لصالحه ويوهمه بأن يخشوه إلى الأبد.
في الوقت نفسه يستولي أنصاره على الشرطة، الجيش والحرس الخاص. يصلون إلى أعلى المراكز ويلقون بقبضتهم على مفاصل الدولة الأمنية والاقتصادية والسياسية. لقد كانوا معه منذ البداية وشكلوا زمرةً حوله لا نستطيع إنكار أنها ليست دائمة تبعاً للظروف أحياناً ولأمزجته الخاصة أحياناً أخرى.
لكل ديكتاتورية زيها الرسمي. في الماضي في ممالك أفريقيا وأميركا الوسطى، قام الطغاة بتمييز أنصارهم ومحاربيهم بـ”وشمهم” وجعلهم يرتدون الريش والأقنعة القتالية. لكن العصر الجديد يفرض أدوات جديدة وهيئة أكثر تطوراً، مع أن الفكرة في جوهرها واحدة. لذا نجد في زمن الديكتاتوريات الجديدة: العلم، الشارات وبعض الرموز والأيقونات متعددة الاستعمالات والأماكن، الطوابع التي ترتسم بشعارات وصور الديكتاتور، الزي الموحد وغير ذلك الكثير.
من يصنع الطغاة؟
تثبت كل الدراسات في الكتاب أن الطغاة ينشؤون دائماً من الفوضى. تسهم في تكوينهم الصراعات والثورات والأزمات الاقتصادية من بطالة، تضخم، كساد وحروب أهلية. حيث وفي كل مرة تثبت السلطات عجزها عن الاستجابة لمطالب الناس وحمايتهم، كان المنقذ الكاريزيمي رمز الخلاص.
ومع حلول منتصف ثلاثينيات القرن الماضي كان أكثر من نصف الدول الأوروبية يحكمها طغاة. وساعدت الحرب العالمية الثانية على توسيع إمبراطورياتهم.
في الجزء الثاني من القرن العشرين، برز من تحت أنقاض تلاشي الاستعمار رجال أقوياء صادروا استقلال بلادهم وربطوها بإحدى القوتين العظيمتين اللتين أصبحتا تقودان العالم. دعمت الولايات المتحدة الأميركية “بينوشيه، ستروسنر، موبوتو، ودوفالييرز”. ودعم الاتحاد السوفياتي “الأسد الأب، صدام حسن، كاسترو، معمر القذافي”. لقد كان هؤلاء مجرد بيادق على رقعة الشطرنج الكبرى بيد عرابهم الذي دعموه في مجلس أمن الأمم المتحدة.
نتيجة هذا الدعم، نال البيادق ضمان استقرار أنظمتهم، وكانت لهم الحرية في تعذيب شعوبهم وإثراء أنفسهم مع الإفلات دون شك من العقاب.
ختاماً، نؤكد إصرار جميع مؤلفي الكتاب على أنه ومن دون شك لا يمكن أن يستمر الفكر الديكتاتوري بالتوالد دون أن تغذيه، إلى جانب السياسة، الأفكار العظمى التي لطالما سيرت الإنسان منذ القدم وإلى يومنا هذا. لقد قام الديكتاتور فوق خوف الناس من العيش وحيدين وأحراراً دون قوى عظمى تسيرهم وتمسك بقبضتها على تفاصيل حيواتهم وقراراتهم المصيرية. ولا بد من الاعتراف، أن المعابد والكنائس والمساجد ساعدت في تصوير الديكتاتوريين كقديسين مصطفين، حتى راح الناس يعبدونهم وكأنهم مختارون من الإله.