ثلاثون كلمة/ جولان حاجي
كُتب هذا النص في باريس في صيف 2019، وقُرئ قسم منه ضمن ملتقى «الأنا أو السياسة في المرآة» الذي نظمته آفاق في برلين من 4 إلى 6 تشرين الأول 2019.
مخاطرة
النظرة محتواها الصمت. الكلمة محتواها الموت. لكلّ روح هاويته، يدفن فيها ما لا يُستطاع قوله، مثل بئر الأسرار التي لا قرار لها في الحكايات الشعبية، ناضبة ويلفّها ضباب الوديان وغبار المواشي، لكنها ضاجّة بالأصداء. القائلون أنفسهم لا يتعرّفون إلى أصواتهم حين ترجع إليهم، أصداء بطيئة يؤخّرها عن الرجوع موتى كثيرون لاشاهم الماء والتراب.
لا شيء يقع هنا. لا صمت. شفتان مطبقتان، عقل ثرثار بمائة لسان، قلب ناطق لا يُسمع. أحدهم يعي حضور أحدهم، ينتبه إليه بغتة أو يتذكّره ثم يتجاهله، يخشاه ويشمئز منه أو يتوعّده. تلك الهُنَيهة منبع حيرة. يتعذّر التخمين أيّ كلمة تُقال وراء العينين حين تسكت الأفواه، أيّ كلمة تتردّد حين يتبدّل بريق النظرة؟ هل تتواقتان أم تتكرّران وتتسابقان كالبرق والرعد، كالموجة يفضحها الزبَد؟
نظرة لا تترجَم بأيّ لغة، وكلمة طريقُها إلى العلن مسدود. بينهما قناطر كأقواس النصر لا تجسر شيئاً. جسور يستحيل المشي فوقها كالحدود الملغومة أمام الهاربين، كل خطوة تالية منجاة أو سقطة مُهلِكة، بينهما حفرة سحيقة القاع تصعد منها الأوهام ثم تتهاوى وتترسّب كالوحول بعد الفيضانات، خصبةً وحزينة.
أسماء اللذّة
لا مناص. تلاحقكِ النظرة أينما حللتِ. تفكرين بصدرك لأن عابراً تفرّس فيك توّاً. كانت لعينيه الواسعتين يدان طويلتان يروز بهما نهديك. تستقبحين الكلمة: «نهديك!». من أين أتى هذا الفراغ في أطرافهما، كأنّهما مأكولان ناحيةَ إبطيك الحليقين اللذين تختلسين شمَّهما؟ لا مفرّ من التكرار: نهديك. ضامران مثل رأسَي أخطبوطين رأيتِهما على ألواح الجليد، هذا الصباح في سوق السمك. خفيّتان كعينيهما حَلَمَتاك، الجعْدتان الآن، كانتا منذ خمس سنين تنفثان في فم ابنتك الوحيدة حليباً، دافئاً ورقيقاً كالحبر. يقبض الصياد عادةً أذرع الأخطبوط في باقة واحدة كحدّاد يهيّئ مطرقته، ثم ينهال برأس الحيوان على أحجار المرسى في الفجر. تتواصل الضربات الصامتة الرتيبة حتى الموت، حتى تتراخى الأذرع وتهمد ويبقى اللحم مكتنزاً بالطراوة.
عمل من لا عمل له
ستأتي ساعة أخرى يبدو فيها كل شيء سليطاً ووقحاً. كنت متكئاً إلى شجرة دلب معمّرة في حديقة النباتات، جالساً على العشب تستلذّ بشمس نيسان الصباحية، وكأنّ خيباتك تتبخّر في ضيائها. كنت تقضم خبزاً بالشوكولا قضمات صغيرة بطيئة، وتحاول أن تقرأ كتاباً مبسّطاً لتعليم اللغة الفرنسية عبر الإنكليزية، وأنت تلمح المارّة القليلين بزاوية عينك. لست ممّن يوحون بالثقة أو المعرفة ليستفسرك التائهون عن عنوان لا يهتدون إليه. انعطف شابّ من بين العابرين. اقترب منك بضع خطوات فرفعت رأسك. حسبته جزائرياً، على الطريق إلى مالاكوف، معتذراً منه في قلبك، كأنك تجور عليه بهذا الظنّ. من دون أي مقدمات، باغتك باستجواب ليعرف أصلك. لا تزال عاجزاً عن منع نفسك من التفكير بأن العابرين يفكّرون بمثل هذه الأسئلة حين يرونك. لكن العابر توقّف هذه المرة. ترقّبت أن ينقضّ على صمتك بقهقهة ترتعد لها فرائصك، بالمعنى الحرفي للتعبير، أو يسدّد عليك شتيمة عربية دخلت رسمياً قواميس اللغة الفرنسية، أو يسرّع كلامه ويطعّمه بمفردات يستحيل أن تفهمها، ثم ينصرف دون أن تدري بمَ سبّك، ولن تحضرك البديهة في هذه المفاجأة لتردّ بتجديف سيستفزّه أكثر من الشتائم. شممت رائحة الحشيش تفوح من أنفاسه ولحيته المرسومة بالشفرة، ممتزجة بالكولونيا. ظننته سيُجبرك على شراء «صاروخ» منه، وأنت تستغرب تدخينه في وضح النهار. ما كنت تدري أن الحشّاشين كرجال الشرطة فضوليون إلى هذا الحدّ، منشغلون بمسألة الهوية، ويرمون أول سهامهم إلى جذورك.
تلاحقت أسئلته القصيرة، وهو ينكش أسنانه ببطاقة الترام، والحشيش يُسيل لعابَه فيبصق على العشب: «من أين أتيت؟ أنتَ هنديّ؟ أفغاني؟». لم تضايقك «أنت» المقصودة، لأنك ارتحت للوهلة الأولى حين رأيت احتمال «عربي» مستبعداً إلى خارج التوقعات، وأمسكت لسانك كيلا تفاجئه وتُسكته بكلمتين عربيتين.
ملامحك حيّرت الشابّ المشدود الجسم، إذ صمتَّ في البداية مكتفياً بالنظر إلى عينيه المتّقدتين، ممتنعاً عن الجواب. توجّست من أنّ إلحاحه على مخاطبتك بهذا الاستعراض يشي بتأنّثك ونفوره من شعرك الطويل، وأنت لا تني توبّخ نفسك لأنك تثدّيت في كآبات البطالة. وتنجلي هذه الحقيقة حين ينغرز حزام الحقيبة الصغيرة بين ثدييك، بعدما تعلمت حذراً جديداً هنا؛ هذا الأسلوب المضادّ لسرقة الحقائب.
أمثال هذا الشاب يلتقطون أضعف الذبذبات التي يبثّها التردّد. غرائزهم يقظة وبديهتهم الحاضرة تحلّل الأمور بلمح البصر وتُربكك، كما يعشقون الصياح والمشاجرات، مثل المراهقين الذين ينقبض صدرك عند ظهورهم وكأنهم يهددونك شخصياً، وإن كانوا في الحقيقة لا يرونك إلا إذا اعترضت طريقهم. لا بدّ أن الكلمات الإنكليزية على غلاف الكتاب قد أزعجته، وكنت تتعمّد إبرازها للعيان لكيلا يرتاب أحد بأنك تقرأ العربية؛ هكذا دفعتْه إلى الظنّ بهنديّتك، ولو كنت قد أجبته بالإنكليزية لجزم بصواب تخمينه. لست سائحاً أميركياً لتكون لكنتك الفرنسية طريفة وتأتأتك محبَّبة وتستدعي الثناء. ربما أحد الأسباب وراء استجواب الشابّ لك هو رواجُ خبرٍ أقلق مكاتب السياحة أياماً عديدة في ذروة الموسم، وأفسد أحلام السائحات الحالمات بسحر الهند. قرأتَ عن هذا الخبر مراراً: طالبة تناوَبَ ركّاب على اغتصابها في أحد باصات نيودلهي. حين نسبك الشابّ العربي إلى أبناء عمومتك الهنود، السيخ أو البوذيين، فربما تحوّلت على الفور إلى مجرم جنسي محتمل، تحجب الكاميرات وجهه بغمامة كالأعضاء الداكنة للممثّلين في النسخ المهذَّبة من الأفلام الإباحية. قلتَ: «أنا من كردستان»، كأنك ترمي بطُعم صغير لتستدرجه إذا كان أمازيغياً. أنت متأكد من أنّ كل تلك البلدان المنكوبة التي تذيّل «ستان» أسماءَها سواسية في التقييم، ولا فرق لدى معظم الناس هنا بين أفغانستان وباكستان وطاجكستان وكردستان. إيران مسألة أخرى. خوفك الغامض من استعلاء الفارسيين والفارسيات يستبعدك من عراقة دائرتهم. استقوى أملُك بالمقاتلات الكرديات الجميلات السافرات اللواتي حارَبْن داعش، وكنّ يظهرن أحياناً حتى في ملصقات السينما، وكأن جدائلهنّ حبل خلاصك.
يعود سؤالك الدائم: متى سينفجر العنف الذي يكبته الخوف من القوانين؟ الفراسة مزدهرة حول العالم، ولا مفرَّ من مزاولتها. حين تتملّى أيّ بلد محتمل ينسبك إليه العابرون بنظرة واحدة، يرجح الظنّ بأنك من بنغلاديش. طبعاً، لم يسمع أحد هنا بحارة بنغلاديش في قامشلي، وإنما القصد تلك البلاد الصغيرة التي نخرها البؤس جنوب الهيمالايا وتغصّ بسُمْر فقراء مثلك يطفحون على جسد هذا العالم، لكنهم لا يترفّعون مثلك كالآغوات، يقبلون القيام بأيّ عمل، مهما كان الراتب زهيداً، ولا يُلحّون على أحد ليبيعوه رأس ثوم أو حفنة من فستق العبيد المشوي؛ وهم فوق هذا بارعون في التوفير، يُعيلون أهلهم ببضع يوروهات ترسَل شهرياً عبر حوالات الوسترن يونيون إلى أمهاتهم المريضات في قرى بعيدة. أنت تخلط دائماً بين نيبال وبنغلاديش. بأية حال، السمعة الطيبة لهؤلاء المهاجرين طمأنتْك. مسالمون أو ليسوا عنيفين، ودودون، مخلصون، دقيقون في تنفيذ ما يوكَلون به، لا يكذبون ولا يسرقون، ابتساماتهم قابلة للتصديق ولا يشوبها التشنّج عادة. فكرة الطيبة هذه استفزّتك فجأة حتى خبطت جذر شجرة الدلب ونهضت في قفزة واحدة كأنك تستعدّ للنزال. تسارعت دقّات قلبك. أدركتَ أن ادّعاء البرود ليس إلا شكلاً آخر للجبن، ولا تستطيع الآن أن تحدّد مَن أعداك بهذه اللامبالاة، مَن أورثك هذا الشرود. أَولاك الشاب الجزائري ظهره ومضى ضاحكاً. كانت نقرة عنقه حليقة بالشفرة، ومشيته رشيقة.
دسستَ كتاب الجيب في جيب معطفك المستعمل، وذهبت مشياً لتركب السفينة البيضاء إلى ترانتمو. هناك حديقة بجانب نهر اللوار احتفل فيها أكرادُ نانت بالنوروز هذه السنة، لكنك تتجنب عادةً مثل هذه المناسبات. حين اصطحبت ابنتك إلى هناك في عطلة عيد الفصح، ركضتْ أمامك مسرعة إلى ساحة الألعاب لتصعد شبكة السلالم وتتزحلق. لا متعة الآن إذا تذكرت تزحلقك في نيسان على ميازيب الحصّادات التي لا تنتهي تصليحاتها في مسقط رأسك كل ربيع، «غزالة جون» مطبوعة بالأصفر على مؤخراتها الخضراء والميازيب ملساء حيث ستتزحلق أكياس الحنطة أو الشعير، تلقيها أيدي خيّاطين ملثَّمين وسط غمامات ذهبية من التبن وغبار الصيف.
كان هناك ثلاثة أطفال. توقفوا عن اللعب وحدقوا بك كأنك طفل غريب لا يقبلون أن يشاركهم اللعبة. قالت لك طفلة منهم، مصوّبةً عليك تلك التحديقة المطوّلة المحيِّرة التي يتميّز بها الأطفال في مثل هذا العمر، ناظرةً إلى ابنتك أولاً ثم إليك: «هل أنتَ البيبي سيتر؟». لعلّ الطفلة كانت تردّد كلام الكبار، فحسبتْك أيضاً من نيبال أو بنغلاديش، إذ هذه المهنة الاضطرارية لا تعيب الرجال هناك. لن يخطر ببال أحد أن مورّثات جدتك وجدّة زوجتك قد تلاقت وأفرزت هذا البياض النادر. لطالما احتميتَ ببشرة ابنتك وخضرة عينيها، هذا إذا لم تصرّح باسمك. على كل حال، لن يفكّر أحد أنّ في مقدور زوجين مثلِكما تلبية الشروط الصارمة لتبنّي طفلة هنا.
مَن يدري ماذا يلقَّن الأطفال في منازلهم؟ «هل أنت البيبي سيتر؟» ربما هذا سؤال عادي، عند ظهور رجل أسمر مثلك، يصحب طفلة شقراء في مثل تلك النزهات، في مثل تلك الساعة من النهار. ربما الرجال في نيبال لا يأنفون هذا الدور، لأن تعدّد الأزواج مسموح للنساء هناك. هذا إذن سبب إضافي لامتداح جرأتك واحتقارك في آن واحد. آسيويّ جليس أطفال في دولة أولى مثل فرنسا، تخلو رياض أطفالها من الرجال، لأنهم لا يرضون بمثل هذه المهن التي يعتبرونها عمل من لا عمل له. ولأنك تحسب اليمينيين متمترسين في الأرياف، فكّرت أن هناك من يرى عملك هذا الذي لا وجود له جزءاً تافهاً من السوق السوداء، جنياً للمال دون أي عقد مسجَّل، وأنت تتهرّب من الضرائب التي تُخيفك كلما رأيتَ رسالة من دائرتها في صندوق بريدك. تحتال عليها احتيالَ الانتهازي، المتهرّب من الذين يتطفّل عليهم. لا تفهم شيئاً من عالم الضرائب شديد التعقيد سوى التهديد والملاحقة والمزيد من الديون والإفلاس. هذا الذلّ استقرّ كطعنة مؤبَّدة، ولن يعوّضك عن فداحته أيّ شيء.
ما الفارق بين ما توهّمت وما شهدت؟ لفرط ما خفتَ تحقّق خوفك. لفرط ما استعدتَ هذه الحادثة بِتَّ تشكّك في وقوعها، كأنك تخيّلتها بالكامل ولم تقعْ قطّ. أخيراً أتى ما سمعتَه بقلبك، وقرأتَه في عيون المارّة مئات المرّات. أخيراً سمعت ما كنت تتوقّعه وتخشاه، ولكن بفم طفلة. فكيف الردّ، وكلّ انفعال يفاقم ركاكة اللسان؟ لم تؤنّب الصغيرةَ ذات الجديلتين الكستنائيتين. لم تحتجّ. ابتسمتَ ولُمْتَ ذقنك النابتة وشعرك الطويل الذي تنعقف أطرافه. شتمت نفسك في السر لقلة اهتمامك بهندامك، المهلهل حقاً، المشترى معظمه من H&M وC&A أثناء التنزيلات. ما عدت تُطيق استراق النظر إلى العوائل المبعثرة على العشب، وقلق طفيف يُكهرب محاولات استرخائهم تحت الشمس. جُلتَ بعينيك حتى رأيت جدّة الطفلة. كانت تحلّ شبكة سودكو، بوقار شَيبِها ونظارتها الثمينة وأناقة ملابسها باهظة السعر، جالسة وحدها على المقعد المشمس الوحيد قبالة الملعب حيث كنت واقفاً في حيرتك. لم تسمع الجدة شيئاً، أو لم تكترث بشيء مما سمعته. هي لن تؤدّب حفيدتها من أجل عابر مثلك قد تحسبه واحداً من هؤلاء الذين اعتادوا الهوان والمبالغات. لست أهلاً لأيّ اعتذار. الشمس غنيمة في هذه البلاد، ولا يجوز التفريط بها للوقوف على مثل هذه الترّهات التي تزعزع أمثالك.
المركب الأبيض
كيف ستتخلّصين من شعورك الدائم بأن العابرين يرونك جليسة أطفال ترعى ابنتك ولستِ أمّها؟ تُطرقين حين تتنقّل عيونهم بشيء من الاستغراب أو الامتعاض بين بياضها وسمرتك. تَرْتبك خطواتك. تتلعثمين.
وحدكِ قدّام الزجاج القاتم لمحطة القوارب، تتنقّلين بخطوات بطيئة أمام واجهاتها المضلّعة. خلسةً، تمسحين دبقاً رقيقاً عن أنفك، تمسّدين خدّيك وتتحسّسين سَمَاكة جلدك كما يقيس الخبّازون سماكة العجين. طبقة سريعة التكوّن من الدهون تلمع مرة أخرى. تنفضين غرّتك. تلمحين بزاوية عينك أوباراً وأبواغ شجر التصقت بكتف معطفك الأسود الخفيف، كقشرة الرأس في دعايات الشامبو، كجوز الهند المرشوش على «رأس العبد» الذي أكلتِه توّاً. بشرتك لا تناسبها صفة «الزبدة». ترينها هذه المرة أقرب إلى كاكاو «ميلو» اشتريتِه من بائع عربة خلف الجامع الأموي، ولم يذُب في الماء لأنه منتهي الصلاحية. ملاسة غامقة تغطّي ملامحك، تخضرّ قليلاً كاختناق وجه أبيك حين تعطّلت كليتاه، كهذا الوحل في نهر اللوار الذي ستعبرينه بعد قليل ذاهبةً إلى ترانتمو. هناك، وراء منازل الصيادين الصغيرة ذات الطوابق الثلاث، تقع عينك على شجرة تشبه الأرْز باصطفاف أوراقها وغصونها على شكل رفوف، كأنّها صورة مكبَّرة لنبتة الهوى الناعم التي سقيتِها قليلاً من العرق البلدي وسمّدتِها بحبةٍ من حبوب منع الحمل، ليستفيد منها سواك قبل انتهاء صلاحيتها. هذه عادتك في الاستفادة من كل شيء حتى الرمق الأخير. رغم موانع الصواعق المبثوثة بالتأكيد على هذه الضفاف، تتخيّلين صاعقة تضرب رأس تلك الشجرة وتُفحّمها. عمّا قريب، سيحلّ موسم العواصف الرعدية.
حاضِرُك هذه اللحظةُ التي ينهار فيها المستقبل فوق الماضي. تأخر الترام منذ ساعة أو أقلّ. بالنسبة إليك، كل تأخّر في رحلاته سببُه محاولة انتحار، ناجحة أو فاشلة. ربما عالج سكران خوفه بزجاجة نبيذ رخيص وعدّة علب من الدوليبران وارتمى تحت العجلات. لا تزالين على اعتقادك بأنّ من يقرع نواقيس الكنائس هم المنتحرون. يربطون الحبال إلى أعناقهم ويدقّون أجراس الصلوات بأجسادهم التي تموت.
كنتِ في الترام توّاً. مرَّ بمحاذاة قصر دهاقنة بروتاني، فرأيتِ مرة أخرى أنّ شموخه يتزلزل وحجارته تتحطّم لتملأ الخندق المائي الذي يسوّره. هذه التداعيات الفورية معضلتُك: المتحف صنو الجريمة، القصور الفارهة منازل أشباح، الصروح العظيمة تنقضّ على نظرات المارّة ثم تنهار في غمضة عين. لا تشاطرين أحداً هذه التصوّرات. ستشمئزين إذا سمعتِ من يفسّر عنفها بإسلام أجدادك.
الأنهار خلاسيّة في نيسان. عند المصب يتّسع المجرى وتغزر الوحول، فيتباطأ الماء ويتعكّر. الجسر النازل من الرصيف إلى المركب مثل عمود كهرباء اقتلعه إعصار.
أنتِ الآن على متن المركب، الجاري على فرع مادلين من اللوار. ربما سِعتُه عشرون شخصاً. كلاكما تتحركان ببطء على المجرى الأزرق في الخريطة المتخيلة داخل رأسك. الركاب قليلون. السلم قصير. تصعدين إلى السطح حيث لا أحد، لأن الهواء لا يعكس صورتك. هبوبه يخفّف من إحساسك المفاجئ بالحمّى. تقفين في المقدّمة، متشبثة بالدرابزين. تلوح منازل ترانتمو الملوّنة. جدرانها حمراء وبرتقالية كحبوب الفيتامينات التي يتعاطاها لاعبو كمال الأجسام. عبر هذه المسافة، تشمّين روائح تلك العقاقير المعشّشة في مستوصفات الأرياف، وتكفي هذه الذكرى ليمتزج الغثيان بارتياح مبهم.
جزيرة نانت إلى يسارك. هنا ورشات العبيد الذين أجبِروا على أن يصنعوا بأيديهم سفن المتاجرة بهم ولا تبارح روائحُهم أخشابها حتى الآن؛ أقاموا داخل قتامة أقبيتها، على الطريق إلى جزر الأنتيل؛ لا يُرَون، كالأشباح؛ بهزال جسومهم يجذّفون ليل نهار، وسط القيء والبراز؛ والبحّارة الجبابرة يُرغمونهم على الأكل لمواصلة العمل، يفتحون أشداقهم بآلات كالكلاليب ليصبّوا في حلوقهم عفونةَ الحساء والبُقول المسلوقة. من يَنفق يُرمى في مقبرة الأطلسي ولا يُحاسَب الرّماة حين يعودون إلى قلاعهم وحصونهم؛ ومَن يتمرّد يأمر الربّان بقطع رأسه تأديباً للجميع، على سطح السفينة، على رؤوس أهله الأشهاد، ويلتصق دمه بأقدامهم. كانت تتقدّم القادمين من الشرق روائحُ الموت والعَرق والوسخ والمرض، يشمّها التجّار المنتظرون في موانئ الغرب الأطلسي، متأهّبين لتدقيق العدد المتبقّي من «الآلات السوداء» في شحنة مشتراة بالتقسيط. ظلّ الناجون يعودون محمّلين بقصب السكّر إلى هذه المصانع التي تحوّلت قاعاتها الآن إلى ورشات للفن المعاصر. هاتان الرافعتان الصفراء والرصاصية شاهدتان من حولك، وكذلك البارجة التي صارت متحفاً حربياً عائماً: السكّر ثمنه الدم، ثمرة اغتصاب بدأه برتغاليون.
لم تتغيّر عاداتك. تراقبين كيف يتجاهل عابر عابراً آخر أو كيف يتفرّس فيه. تغافلينهم عادةً، وتشهدين تحولات البريق في العيون، من شرود الحالمين وعذاباتهم السرية إلى اللامبالاة والخوف والشهوة فالقرف.
سرُّك أنّك أول الهابطين إلى هذا المركب. حطّت قدماك على متنه فالتفتِّ فرأيتِ شاباً أسود وراءك، رياضيّان زيُّه الأسود وجسده المرصوص البنيان. خشيتِ أن يظنّ التفاتَكِ ارتياباً أو خشيةً منه. وحدكما «الملوَّنان». شعرتِ بقلقٍ يتنقل في الهواء بينه وبين الركاب ويبعثرهم، كارهةً أن مشاعرك محكومة بهذه الوجهة في التفسير. ألا يشعل الخوف وقرينُه الاشمئزاز النظرةَ نفسها لدى الخائف والمخيفين؟ تستطيعين أن تشمّي في مثل هذه النظرة فلفلاً مسحوقاً يتبّل الشواء الإفريقي، أو زبدة مائعة متروكة تحت شمس نانت؛ تستطيعين أن تسمعي في لمعانها صفيرَ سياطٍ على جلود متعرّقة. تتّسع العيون قليلاً أثناء لحظات هذا التلاقي الخاطفة كالبروق؛ تعلو الجفون وتلوح أعلى الحدقات أقواس بيضاء صغيرة كأظافر مقصوصة؛ ينبعث في العروق رعبان متوارَثان يعبران القرون، فيتواجهان في الصمت كقلبين يخفقان: رعبُ مَن رأى دمَ أهله فأخرسه، ورعبُ الذين يهجسون بالمنتقمين. الأنوف الفطساء فوق الصدور السوداء المنفوخة بهواء الكبرياء، إزاء الأنف العالي لأصحاب الأنَفة الذين يُقايضون ماضيهم بالكفّارات ولا يعتذرون عنه، بل ربما يحنّون إليه نادمين على سذاجةِ تسامحهم. تُراكِ، يا سريعةَ الندم، تتوهّمين كلّ هذا؟ كم مرة ظلمتِ بوقاحةِ تعميماتك أناساً لا تعرفينهم؟ ألن يطردوك من هذه البلاد إذا سمعوا ما يُساورك، واصِفينكِ بالباصقةِ في صحن مَن أطعمك؟
لا يدَ لك في الأسئلة. هل هناك، بين هؤلاء الركّاب المجهولين، مَن يعتقد أنّ أحفاد الضحايا لم ينسوا، ولن يرحموا أحفاد المجرمين؟ لا بدّ أنّ اللطف شكل من الرياء، لا بدّ أن الضعفاء يتحيّنون سانحة الثأر. هل كان جدُّ هذا الشابّ الأسود واحداً من الهاربين من الخدمة في مزارع السكّر، وكانت صورهم تُنشر في الصحف، وتُلصَق إلى الأعمدة، حين يختفون فجأة مثل ثعبان أو ببغاء ضائع؟
على ضفة الأنتيل، الضفة اليسرى للوار، زُرعت حلقات ضخمة في رصيف الجزيرة، أمام علب الليل، الفارغة طبعاً في مثل هذه الأوقات. هل هذه الحلقات تكبير للأصفاد في رقاب العبيد؟ تضخيم لخواتم السادة والنخّاسين؟ أطواق نجاة لغرقى الأيام الآتية؟ جلستِ هناك مراراً، قلقة تحت تلك المظلات الخشبية المائلة، تتفرجين على جريان الماء حتى تتبدّد غمامة الأفكار الحبيسة في رأسك. ذات مرة، على دعامة مظلة، قرأت منمنمة هذا الغرافيتي: «أشهر سفينة عبيد في تاريخ الجمهورية اسمها الحرية»، وكرهتِ هذه المفارقة الذكية. كان يوماً حاراً تشمّين فيه عبق الإسفلت أو القار المراق على الحصى، وثلاثة عصافير تطير وتحطّ داخل سلال الخبز الفارغة أمام مطعم مقفل. ليلاً، تضاء تلك الحلقات بالمصابيح فتبدو من بعيد كأطواق نارية أمام فهود السيرك، تنعكس على سكون الماء وترتسم معها الأطياف السود لشبّان يشربون البيرة. لا تعلمين لماذا اختير هذا التصميم. من قصص التاريخ كلها اعتُصر نصب تذكاري صغير للزنوج، وحلقات فولاذية قد ترمز إلى أيّ شيء؛ من حركة التاريخ، الدورية الخطية اللولبية، إلى الدائرة التي يزأر فيها أسد هوليوود قبل بداية الفيلم.
الضفة اليسرى تُرجعك إلى تشوّشك المعتاد بين اليمين واليسار؛ في الجهات، في جسدك، في السياسة. المركب يشقّ الماء الذي فاض وتوحّل. تحدّقين فيه مليّاً حتى تتشوّش معالمُ ما ترين ولا تعلمين أين أنت. يتحول العالم إلى سطح مائي رجراج تحت قدميك.
يرتجّ المركب قبل أن يرسو في ترانتمو. يلذّ لك هذا الارتجاج. تصعدين المعبر إلى رصيف النهر، وتتجهين يميناً، أي يسار مطعم «الملكة البيضاء» المزيّن بصور كاترين دونوف، يجاوره شعار بسكويت «لُو» المكتوب على حائط؛ اختصار آخر لكلمتين لا تعرفينهما وينبغي عليك حفظه. تحت سقف الموقف، المظلل بشجرة تُوهِم نضارة أوراقها بالذبول، هناك لوحة إعلانات شبه فارغة، وآلة لقطع التذاكر، وبينهما مقعد خالٍ. ملصق صغير باللغة البروتانية، تدعو ترجمته الفرنسية إلى الاعتصام احتجاجاً على قرار البلدية بناء مراحيض عامة جافّة في قلب الطبيعة. تفكرين أن المتمسّكين بمثل هذه اللغات المهدّدة بالانقراض متمسّكون حكماً بالتقاليد، ولا تسأم شفاههم كلمة «الهوية» ولا يقبلون الغرباء بسهولة.
تذهبين يميناً بمحاذاة النهر، ولا تدخلين الأزقة الضيقة الملونة. كلمة «الحميمية» تنفّرك الآن، وتخنقك فكرة الباحات-الفراديس التي تتقاسمها عوائل الجيران هنا، ولا يكفيك للدخول جمالُ القطط والكلاب المسترخية تحت تعريشات الياسمين. هناك حديقة على مبعدة خطوات من هنا. سمعتِ أن أكراداً أشعلوا فيها نار النوروز، وربما أتى إلى الاحتفال بروتونيون متضامنون وتعلّموا منهم رقصة الباكيّه (ستسألين في المرة القادمة عن الصلة اللغوية بين خطوات البغال وهذه الرقصة السهلة المتنازع عليها بين الأكراد والسريان). تظهر صومعة بيضاء صدئة ومبنى أحمر متعدّدُ الحجراتِ الأسطوانية حديديُّ الجدران، فتفكرين بمصنع آخر احتلّه فنانون هاربون من غلاء نانت. تقتربين أكثر فتسمعين صفيراً في الهواء كعبور جناح ضخم فوق رأسك. ليس طنينَك المعتاد الذي لا يسمعه أحد غيرك. إنه رقّاص أسود عملاق لا تتخامد حركته، مثبَّت إلى الجدار الغربي للمصنع المهجور، يروح ويغدو، يظهر ويختفي، مثل دفقات الزمن التي تدقّ صدغيك بالصداع.
عند العودة إلى موقف ترانتمو تتأكّدين من اسم الحي. كنتِ قد سمعتِ زوجك يلفظه Trentemots، وأحببتِ معناه. تقرئين Trentemoult. لقد أخطأ إذن، كما يخشى دائماً. خطؤه أجمل من الصواب. كثيراً ما يبتلع أواخر الكلمات ويغمغم، أو يختم جهله بضحكة مبتورة. يتبجّح بالشبه أو التطابق بين الحروف الصوتية الكردية والفرنسية، مكرّراً نكتته حول مقدرته على تمييز الشفاه التي تُحوّل برج «إيفل» إلى برج «الشرّ».
ولكن ماذا تعني Trentemoult؟ تتساءلين، متأمّلة المركب نفسه مغبّشاً يعود إلى الضفة الأخرى المشمسة، وأنت في ظلّ الشجرة تنتظرين أن يتلاشى البخار عن زجاج نظارتك التي خلعتِها، بعدما غامت عدستاها لأنك توقفتِ بغتة عن المشي.
جولان حاجي: شاعر سوري
موقع الجمهورية