السوريون بلا خبز -مقالات مختارة-
الأسدية وقد أكلت ذاتها/ عمر قدور
لم تعد الأخبار القادمة من الداخل السوري تثير الفضول، هكذا هو عموماً حال أخبار البؤس، فهي ليست بالمبهجة، ولا بالطريفة عندما تصبح معتادة. ربما، لو أتى خبر، على سبيل المثال، مفاده ازدهار حالات الدعارة بين القاصرات، لأثار الخبر انتباهاً ورواجاً، حتى يصل القارئ إلى تفسير الظاهرة بانتشار هائل للبؤس، وحينها يتحول الخبر برمته إلى خبر نمطي ممل. الطرافة وما يبدو لامعقولاً، حتى ضمن الوحشية الأسدية، لهما حظ من الاهتمام والانتشار يفوق حظ أولئك البائسين المنسيين. وكي لا نتسرع في لوم الذين يشيحون أبصارهم عن ذلك البؤس؛ بالتجاهل يحمي كثر أنفسهم من ذلك الإحساس بالقهر والعجز معاً. ذلك إذا كنا مدفوعين باللباقة، وأغفلنا الأثر الأقسى لانعدام الأمل.
بالمقارنة مع الأسعار العالمية، ما يراه السوري غلاء فاحشاً هو ليس كذلك، فالأسعار في غالبيتها حتى الآن تقارب الأسعار العالمية أو أقل منها. الغلاء يظهر بالقياس إلى الدخل، عندما مثلاً بالكاد يشتري راتب موظف حذاءين قليلي الجودة، أو بالكاد يكفي لاستئجار شقة، وأخيراً بالكاد يطعم عائلة متوسطة الخبز فقط. العتبة الأخيرة من الغلاء تختلف عن سابقاتها، ففي المراحل الأولى المتدرجة، كان لمدخرات بعض الشرائح أن تخفف عنها الصدمة، وكان للمساعدات البسيطة التي يتلقاها البعض من أفراد العائلة في الخارج أن تعوّض الغلاء. العامل النفسي كان يساعد على امتصاص موجات الغلاء الأولى بعدّها طارئة، مما لا يؤثر جداً في أنماط عيش المتضررين ولا يستهلّ تأثيرات اجتماعية مستدامة كما هو الحال الآن.
السوريون موعودون بارتفاع جديد للأسعار مرده الارتفاع الرسمي لأسعار المحروقات، تحديداً المستهلكة في القطاع الصناعي في بلد منهار يحتاج إلى البدائل الصناعية المحلية! وكالة الأنباء الرسمية الأسدية، في نقلها قرار رفع الأسعار، ألقت بالمسؤولية على “الحصار الجائر” الذي تفرضه الإدارة الأمريكية، ما يعني الاعتراف ضمناً بجدوى الحصار، بل تحميله تبعات الفشل الأسدي كلها، لكن مع الاحتفاظ بنغمة التصدي للحصار وعدم الرضوخ للتدخلات الخارجية. إذاً، لا ضوء ينتظر السوريين في آخر النفق، لا شمعة وهمية على الأقل ترسمها سلطة الأسد في نهايته.
العزاء الوحيد الذي تقدّمه السلطة للخاضعين لسيطرتها هو أنهم جربوا من قبل صعوبات العيش، وهذه مجرد محنة أخرى تُضاف إلى طبيعة حياتهم. لا المؤامرات الغربية المزعومة بجديدة على الإعلام الأسدي، ولا شظف العيش بجديد على السوريين الذين ينبغي أن يتصدوا لها. بين هذين الحدين هناك أمل غامض، غير محدد زمنياً، فالسلطة سبق لها الانتصار على المؤامرات، وستنتصر هذه المرة أيضاً. ينبغي أن نتذكر دائماً أن ثمن التصدي للمؤامرة يدفعه السوري البائس، بينما النصر تحققه السلطة القوية الحاذقة.
لعل مواجهة الثمانينات هي المثَل الذي لم تتوقف الأسدية عن التذكير به، علناً أو ضمناً. حينها كانت بموجب روايتها المعتادة “تحارب في الداخل عملاء الخارج”، وتحقق الانتصار الذي دفع السوريون ثمنه المعيشي والقمعي. آنذاك فرغت خزينة المصرف المركزي تماماً، قيل أن مخزونها قبضه رفعت الأسد ثمناً لمغادرته، وارتفعت الأسعار مع انخفاض شديد في سعر صرف الليرة، ومع هروب رساميل ضخمة إلى الخارج. ثم في التسعينات انفرجت الأزمة المعيشية، مع انفراج علاقات السلطة بالخارج، بإعادة الدفء إلى علاقاتها الخليجية، وكذلك الانفتاح على الغرب والموافقة على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام مع إسرائيل.
هكذا، وفق الإحالة السابقة، توحي الأسدية بأنها تملك المفاتيح في جيبها، وستخرجها في الوقت المناسب. هي، بتعبير طالما أطلقه المعجبون بها، تلعب سياسة “حافة الهاوية” وتتقنها. أي أن تحمّل الأزمات المعيشية هو جزء من اللعب على حافة الهاوية، وسيأتي الحل “لا بد أن يأتي” عندما ييأس الخصوم من تعديل سلوك الأسدية، فيرضخون لها مجدداً كما فعلوا مرات ومرات. تخاذلُ العالم عن إنقاذ السوريين من المقتلة الأسدية يغذي الانطباع ذاته، فالقوى الكبرى رغم كل ما حدث تفضّل الأسدية على أي بديل، وفي اللحظة المناسبة ستعيد التطبيع معها ليعود الوضع إلى ما كان عليه قبل عام 2011.
ركن من أركان سياسة حافة الهاوية، إذا أقرينا بوجودها وجدواها، أن الأسدية كانت تضع السوريين معيشياً أيضاً على حافة الهاوية، وعندما يتدافعون لتحاشي الأخيرة فقد كان هناك متسع لهم كي لا يسقطوا فيها. كانت الأزمات تحت سيطرة نسبية، أو تامة أحياناً، وأودت أزمات الثمانينات على نحو خاص بالطبقة المتوسطة، بعد أن أودى انقلاب البعث بالرأسمالية الوطنية الناشئة. في أسوأ أيام الثمانينات لم يصل الحديث إلى احتمال حدوث مجاعة، أو هبوط النسبة الساحقة من السوريين إلى ما دون خط الفقر، بل كان يكفي أن ترخي السلطة قليلاً قبضة احتكارها الاقتصاد كي يُحلّ العديد من الأزمات الضاغطة. لم تكن هناك عقوبات دولية ولا حصار، كانت ثمة عزلة وانعزال يتوسطهما احتلال بلد آخر “لبنان” هو بمثابة رئة لصفقات السياسة الخارجية وبمثابة رئة للاقتصاد المنهك.
تآكلت الأسدية بصيغتها السابقة عندما سقطت في الهاوية، وعندما أسقطت السوريين فيها. على مستوى السلطة، لم تعد المفاتيح في جيبها كما من قبل، فالسياسات الخارجية محكومة من قبل قوتي الوصاية الروسية والإيرانية، ولعلنا نخطئ باستخدام تعبير “السياسة الخارجية” لسلطة لا تربطها علاقات مع معظم دول العالم. السياسات الاقتصادية الداخلية ليست محكومة فقط بعوامل العقوبات والحصار، وبقاء مناطق سورية مهمة اقتصادياً خارج السيطرة، هي محكومة أيضاً بالدائنين الروسي والإيراني ومطالبهما التي لها الأولوية على قوت السوريين.
في ثنايا ذلك، يمكن القول أن الأسدية أكلت ذاتها، بانقضاضها على العقد غير المكتوب مع السوريين، وهو عقد قد لا نجد له مثيلاً من حيث إبقائهم على حافة الهاوية. الدفع بهم إلى السقوط هو تحلل من ذلك العقد المجحف أصلاً، ولا غرابة في أن شهدت سنوات التحلل منه إبراز ترف العصابة الحاكمة وشركائها القلائل على نحو لم يكن معهوداً من قبل. لقد ترافق إفقار الطبقة المتوسطة في الثمانينات مع قليل من الحياء اقتضى إبقاء الثروات المنهوبة بعيدة عن أعين السوريين، أما الدفع بالغالبية الساحقة إلى ما دون خط الفقر فلم يلازمه قدر ضئيل من الحياء، لا لأن مَن أباد وهجّر الملايين لن يتحلى بالحياء وإنما لأنه أيضاً فقد مشروعه المستقل كصاحب سلطة.
لن يستثير بؤس السوريين العالم، ومن المرجح بقاؤه مهملاً تماماً لزمن ليس بالقصير، ولدينا في التاريخ القريب أمثلة على بلدان تُركت لشتى أصناف البؤس لأن العالم لا يريد تحمل مسؤولية التغيير. ولعلنا نخطئ بأن نربط تراكم عوامل الثورة مع البؤس المدقع، فالاحتجاج على الأخير عندما يشتد قد لا يتعدى ازدياد حوادث العنف والقتل والانتحار، وهذه تأخذ حظها من الاهتمام بقدر ما قد تحمل من غرابة وطرافة.
المدن
————————————
مَشاهد من دمشق التي تتداعى/ سلوى زكزك
الثامنة صباحاً بتوقيت دمشق، طفل في التاسعة برفقة أمه وعمّته، يبحثون عن مركز لبيع وتفصيل الأطراف الاصطناعية في شارع الحمراء التجاري المشهور. استدلوا إلى عنوان المركز، لكنه مغلق، فراحوا يتجولون في الشارع الطويل لتمضية وقت الانتظار.
في واجهة محل لبيع ملابس الأطفال، عامل ينزع الملابس الصيفية عن أحد مجسمات العرض، فقد حان موعد عرض الملابس الشتوية. تسقط يد “المانيكان” بفعل الشد، يلتقط الطفل المشهد ويحدق بشدة في المجسّم المعروض، ينتبه العامل ليد الطفل الغائبة، يحاول زج اليد الفالتة من المجسّم بقوة وحزن، فيفشل وتسقط اليد مراراً على أرضية الواجهة.
يصرخ الطفل منادياً أمه: هذا الولد يشبهني، يده اليمنى مقطوعة أيضاً!
حبة مسكّن
يمر الوقت، ترتفع وتيرة حركة العابرين في المكان. عامل بسطة لبيع الشراشف والمنامات يئن من وجع ضرسه، يقول لزميله، أريد أن أنام. قضى ليلته متألماً بعدما أجلّ موعد العودة إلى عيادة طبيب الأسنان الذي وصف حالته بنخر عميق يحتاج لنزع العصب، مقابل مئة ألف ليرة سورية وهو لا يملكها أصلاً.
تقترب سيدة من الشاب، تمنحه حبّة مسكن للألم، يشكرها ويعلن بأنه بلا عشاء وبلا فطور، تطلب منه تناول الطعام أولاً تجنبا لتلف المعدة، فيسألها، هل أنت طبيبة أسنان؟ تجيب لا، أنا طبيبة نفسانية، فجأة وبقسوة غير متوقعة، يقول لها: أبي مجنون وأريد التخلص منه، هل بإمكانك مساعدتي بإيداعه في مشفى ابن سينا؟
تداعت إلى ذهن الطبيبة حادثة طرد أبناء لوالدهم في أحد أحياء دمشق منذ ثلاثة أيام، رموه في الشارع، وبعد يومين وتدخل أبناء الجوار، تم الاتصال بمركز لرعاية المسنين واستلامه وإيداعه في المركز. تبكي الطبيبة، يبكي الشاب، يصرخ محاولاً تبرير طلبه: يكسر كل أثاث المنزل، يبول على نفسه، يخلط الطعام بالماء. تنصرف الطبيبة صامتة حزينة وغاضبة، يرمي الشاب حبة المسكن على الأرض ويهرسها بقدمه، ينادي على بضاعته (بيجامات عرايسية، مفارش طاولة، شراشف محجرة، وجوه تكايات).
مناوشة قميص
في الباص الأخضر الكبير، رجل محاط بولديه يجلسون خلف السائق تماماً، عند كل محطة يسأل الرجل السائق إن كان قد وصل إلى وجهته، فيردّ السائق بعصبية: حفظت وجهتك! اطمئن وتوقف عن سؤالك المتكرر! يصمت الرجل، أحد الطفلين يقول لأبيه: بلكي نِسِينا وضعنا؟ يُطمئن الوالد ابنه قائلاً: لا تخف فأنا أسمع أسماء المواقف من الناس، لن نضيع.
يصرخ السائق: حجاز، مين نازل حجاز؟ ومكث الأب وطفلاه جالسين في أمان حذر. يصرخ السائق بالأب: هنا الحجاز يا حجي. فيجيب الأب: أنا طلبت منك التوقف عند البريد. يصرخ السائق قائلاً: البريد في الحجاز. يتلعثم الرجل في كلامه وهو يرتجف، ما بين اعتذار للسائق وعتب عليه لأنه لم يوضح المسار جيداً للرجل الذي سيضطر عند النزول إلى الاستعانة بإجابات أشخاص آخرين ترشده إلى وجهته. ينهض مسرعا بعد أن يشد على يدي طفليه وكأنه يعطيهما أمراً بالانطلاق، وفور وقوفه نكتشف أنه ضرير. يسبقه الطفل الأول وهو ممسك بقميصه من الجهة الأمامية عند البطن. أما الولد الثاني فيُحكم يده على قميص أبيه من جهة الظهر أيضاً لمنع الأب من السقوط أو التعثر. يصلون عتبة الرصيف، يصرخ بهما الأب: اتركا قميصي، كاد أن يتمزق من قسوة الشَّد.
دور رعائي
لجسر الرئيس أدراج حلزونية، تتسع مساحاتها عند الجهة التي تشكل بروزاً للخارج، بروز تفرضه الاستدارة المعدنية لاكتمال تنفيذ الدرج. هنا وفي هذا البروز المتسع داخل درج الجسر، تتشكل مساحة ما، تتسع لأجساد اتخذتها مكاناً للنوم. هم ثلاثة أشقاء أو أصدقاء، لم يعد التوصيف ولا درجة القربى تشكل أي فارق. فتية قرروا أن يكون هذا المكان سريراً لهم في الليل، يتناوبون على الحراسة. كل يوم يتقاسمون الأدوار، الحارس أو الحامي، أو الأم أو الأب، لا فرق أيضاً، فكلهم غائب وبشدة، ومنذ زمن طويل. الحارس هو مَن ينام على حافة المساحة تلك، الشابان الآخران ملتصقان بالسور المعدني بوضعية رأس وعقب كي تتسع المساحة لثلاثتهم. مسؤول الرعاية، اليوم وفي كل يوم، هو صاحب الجسد المتروك بلا حماية ترتجى حتى من جسد منهك لشريك التشرد، قد يكون عرضة للانتهاك، لدعسة قدم أحد النازلين لم يتسع لها المكان، أو ليد تمرست في سرقة أي شيء وكل شيء، حتى لو كان سيجارة نصف محروقة. يبقى الحارس يقظاً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يرمم انحسار الأغطية الرمادية القذرة بلفتة من يده، يركز أسماعه على صوت يصرخ “كبسة!”، فيوقظ رفيقيه ويتركون أغطيتهم وأكياسهم الرثة وربما أحذيتهم البلاستيكية الرخيصة، ويهربون صعوداً، فراراً من احتمال الإمساك بهم وزجهم في مركز الأحداث أو النظارة.
في الحرب تتبدل الأدوار الرعائية، تندرج تحتها أشكال جديدة، لكنها بلا رعاية، فارغة من مضمونها، وأصحابها ضعفاء ومنهكون ومهدورون وبلا حماية. مجرد أعقاب سجائر لرجال اعتادوا دهس أعقاب سجائرهم، حتى ولو كانت مطفأة.
المدن
————————–
دمشق بلا خبز.. وطوابير تعلوها صورة الأسد/ علي سفر
أثناء وبُعيد مأساة الحرائق التي شهدتها منطقة الساحل السوري قبل أكثر من أسبوع، أعاد ناشطون سوريون وعرب على صفحات التواصل الاجتماعي تداول منشورٍ مكرر، يمنح سوريا ميزات أسطورية أمام الغير، وتضفي عليها كبلد مواصفات مختلفة عن البلدان العربية الأخرى لجهة أقدمية الحضارات التي سكنتها، ولجهة تطورها المضطرد في النصف الأول من القرن الماضي، وبما يجعل من نقاط التفاضل هذه سبباً لاستهدافه، من قبل الكثيرين الذين يشعرون بالغيظ منه، وكراهيته، ولا سيما منهم الشركاء في المؤامرة عليه، أي دول الخليج العربي، والتي غالباً ما يذكر بعض المعلقين على المنشور تفاصيل عن “تخلفها”! في نفس الوقت الذي كانت تعيش سوريا “ألقها الحضاري”! المنصوص عليه في الكلام الذي يمنحها الأوسمة والنياشين بشكل مرسل ودون التمحيص بدقة المعلومات، أو مدى أهميتها، في سياق إبراز “حضارية” أي بلد!
يعدد المنشور في بعض سطوره وتحت عنوان “لن تسقطوا سورية” مجموعة من الأحداث التاريخية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها سوريا، منذ بداية القرن العشرين، وصولاً إلى تاريخ محدد هو عام 2011 أي عام انطلاق ثورة الكرامة!
مثل كونها “البلد الأول الذي شهد وصول الكهرباء إلى شوارع عاصمته”، وأن سوريا هي “أول دولة في العالم تدرس الطب باللغة العربية منذ عام 1911″، وأنها هي الدولة الوحيدة التي كانت تسمح لأي مواطن عربي بزيارتها بدون سمة دخول (فيزا)، وأن دمشق “هي أول مدينة عربية افتتح فيها بنوك وشركات وفنادق عالميه مثل بنك كريدي” إضافة إلى الاستقلال المبكر عن الاستعمار، ومنح حق التصويت للمرأة قبل عدد من البلدان الأوروبية، مروراً بالاكتفاء الغذائي، وصولاً إلى عدم وجود مديونية للبنك الدولي!
تتوارى غايات كاتب المنشور وراء حديثه عن سوريا كبلد يتم تعظيم إمكانياته بشكل مبالغ فيه، وراء جعل حضاريته سبباً في تعرضه لمؤامرة، ولكن ما يحاول إخفاءه يظهر فجاً، حينما يغيب في كلامه كله الحديث عن الشعب السوري صانع هذه “الملامح الحضارية”.
إذ تظهر سوريا موضوع الحديث هنا أشبه بكائن خرافي، لا يمكن أن يراه القارئ أو يتخيل حضوره إلا من خلال الميزات والصفات التي يتم تعدادها هنا، لتصبح مواصفاتٍ لآلة، أو مؤسسة، أو شركة تجارية رابحة، لا أحد يعلم من يمسك دفتها، أو من جعلها تصبح هكذا!؟
وبالتجاور مع هذا التغييب غير البريء للملامح الإنسانية، تجرف البلاغة في عبارة “لن تسقطوا سورية” القارئ إلى أسفل الوادي، حيث يتم اختصار البلد ذاته، الذي كان موضع تفخيم وتعظيم قبل قليل إلى مجرد جدار أو عامود، أو حتى أصيص زرع مهمل على حافة شرفة!
دون أن يدري القارئ العابر سر هذا القفز بين العتبتين، عتبة التفخيم والتعظيم، وعتبة اللا شيء الذي لن يسقطه المتآمرون!
لكن القارئ الآخر، الذي لا تنقصه الحصافة، سيدرك ومنذ أن أطلت روح الممانعة والمقاومة عليه عبر تحديد كاتب المنشور سنة 2011 كتاريخ لبدء المؤامرة على سوريا، أن غايات الدفاع عن النظام لا يمكن لعبارات التودد والمحبة لسوريا أن تخفيها!
وبإعادة قراءة سريعة لما سبق، سيتم ملء الفراغات بالكلمات المناسبة: فسوريا التي يتم الحديث عنها هنا هي “سوريا الأسد”، وهي المستهدفة بالمؤامرة، التي تحاول إسقاطها، والتي بدأت في عام 2011، وعلى يد “العرب” المتخلفين، الذين ما برحوا يشعرون بالحنق، من تفوقها عليهم!
بالتأكيد، يشعر السوريون الذين يعرفون الحقيقة كاملة، وليس خمسها أو عشرها، أن بلدهم تستحق أن يشار لها بالبنان، حينما يتم الحديث عن الإنجازات في تاريخها، ولكن هذا لا يكتمل دون تحديد عن أي تاريخ نتحدث! وكذلك وضع ما يجري الحديث عنه في سياقه الطبيعي، والذي ستظهر فيه أدوار الفاعلين، والملهمين، وأيضاً أفعال المعارضين، والداعمين، ما سيؤدي حكماً إلى إظهار وجود فجوات كبيرة في هذا التاريخ، تمتلئ بالقيح، وبالأحداث غير المشرفة!
وما يعني في المحصلة، أن يتم تأسيس النظرة إلى هذا التاريخ بشكل واقعي، وليس عبر منطق غيبي، يمنح القوى الخارقة لأصحاب أفعال، يبنيها كتبة المنشور على المجهول، ولكنهم سرعان ما ينكشفون حينما، ينطق خطاب المؤيدين الفج، بما يحاول هؤلاء إخفاءه، فيصبح الأسد الأب هو القائد الخالد المؤسس! بينما يستمر ابنه في قيادة العالم، بعد أن انتصر في معركة بقائه ضد 80 بلداً!
يتبع هؤلاء الكتبة في سياق دفاعهم عن النظام الأسدي، أسلوباً رخيصاً، عديم الروح والفائدة، يحيلون في سياقه الصفات على غير أصحابها، وينسبون المنجزات إلى من لم يقوموا بها، ولكنهم يقعون في شر أعمالهم حينما لا يجدون أي منجز خاص قام به أي من الأسدين، يمكن وضعه في سياق الحديث عن حضارية البلد الذي حكماه طيلة نصف قرن؟!
لا بل إن عودة بسيطة للأرقام الاقتصادية، وفي كافة المجالات، لا بد ستظهر كيف أن الإنجازات التي قام بها سوريون، قبل وقوع سوريا تحت حكم الطغمة، كانت أهم وأفضل، بالقياس مع الإمكانيات، وتوفر الأدوات!
وبغض النظر عن لغة المقارنات، لا يمكن لهؤلاء أن يجدوا سبيلاً، لإقناع الجمهور الذي يخاطبونه، وهو يرى الواقع السوري ذاته، حيث أنه بالتوازي مع نشرهم وتعميمهم لهذا الهراء، كانت صفحات السوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام تتحدث عن وصولهم إلى حافة الكارثة الشاملة، إذ اختفت المشتقات النفطية من محطات الوقود، في ظل طوابير عملاقة، ينتظر فيها الناس حصولهم على حاجياتهم الأساسية!
بينما حملت أخبار اليومين الفائتين، تفاصيل إضافية عن اختفاء مادة الخبز، ما يؤشر إلى سقوط البلاد التي يحكمها الأسد المنتصر على شعبه في هوة المجاعة المطبقة!
تلفزيون سوريا
————————————
طوابير الخبز والوقود مسؤولية النظام أم العقوبات؟/ عقيل حسين
مع كل أزمة طوابير تظهر في مناطق سيطرة النظام يعود الجدل داخل أوساط المعارضة حول الموقف من العقوبات الغربية المفروضة على النظام، والنتائج المتوقعة أو المرجوة منها، سواء في إسقاط النظام كما تأمل المعارضة، أو على الأقل تغيير سلوكه كما تردد الولايات المتحدة باستمرار.
آخر المشاهد المؤلمة القادمة من دمشق وحلب بشكل رئيسي، ومن بقية المناطق أيضاً هي نتيجة نقص حاد في الوقود تسبب في تجدد طوابير الانتظار أمام محطات التعبئة، لكن الأهم هو تعطل عمل قسم كبير من الأفران ما أدى إلى عدم توفر مادة الخبز، الأمر الذي جعل الكثير من قادة وناشطي المعارضة يعيدون طرح السؤال حول انعكاسات العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة ضد النظام على الشعب السوري.
والواقع أن هناك انقساماً حاداً داخل أوساط المعارضة حول هذه العقوبات، وهو انقسام لم
يعد خافياً على اعتبار أنه سبق أن طرح للعلن خلال أزمات الوقود والخبز السابقة، بل ومنذ الإعلان عن التحضير لفرض قانون العقوبات “قيصر”، لكن الانقسام لم يصنعه فقط الخلاف حول جدوى هذه العقوبات في التأثير على النظام فقط، بل والخشية من استغلال النظام ذاته لهذه العقوبات في ممارسة المزيد من النهب والإذلال ضد الشعب.
فبينما يشكو النظام من نقص الوقود فإنه لا يتردد في التهديد بشن عملية عسكرية جديدة على إدلب، بل ولولا الردع الروسي لما تأخر النظام في شن هذه العملية منذ أشهر مع ما تتطلبه من كميات ضخمة من الوقود الذي يمكن توفيره لخدمة المشافي والمخابز والمدارس ووسائل النقل الداخلي.
وبينما يشكو النظام من نقص شديد في مادة الطحين فإن وزراءه لا يتوقفون عن الإعلان عن استيراد كميات شهرية من القمح يفترض أنها تكفي وتزيد عن حاجة سكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والذي لا يتجاوزون اليوم نصف عدد الشعب السوري، وهنا من المهم التذكير بتصريح وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية محمد سامر الخليل يوم الأحد أن حكومته “تستورد شهرياً ما بين 180 إلى 200 ألف طن من القمح”، فأين تذهب هذه الكميات المستوردة إذاً؟!
أيضاً رئيس مجلس الوزراء حسين عرنوس أكد يوم الاثنين “أن الأزمات التي يعيشها المواطنون في طريقها إلى الحل بعد أن عادت دمشق لتحصل على كميات البنزين ذاتها التي كانت تتزود بها قبل الأزمة الأخيرة، ومع عودة مصفاة بانياس لإنتاجها الكامل، فإن الأزمة في مراحلها الأخيرة جداً”.
لكن عرنوس لم ينس التذكير بـ “أن على المواطن أن يعي جيداً حجم الصعوبات والعقوبات وضعف الإمكانات نتيجة الحرب المستمرة والعقوبات المفروضة على سوريا..” وهي الذريعة ذاتها التي تبرر معها حكومة النظام الأزمات والمشكلات التي تواجه المواطنين في مناطق سيطرتها، والتي يتضح غالباً أن النظام هو من يصنعها لتحقيق أهداف تصب في صالحه.
وأهم هذه الأهداف، ليس فقط حسب التقديرات، بل وأيضاً بناء على متابعة ودراسة الأزمات التي تكرر ظهورها في مناطق سيطرة النظام، خاصة منذ بداية الحديث عن قانون قيصر، هي فرض المزيد من رفع الأسعار والتقليل من المخصصات المقررة لكل مواطن من المواد الأساسية التي تباع عبر البطاقة الذكية، ضمن سياسة النظام في الاستيلاء على ما تبقى في أيد المواطنين من أموال، والتملص من واجباته تجاه السكان في مناطق سيطرته لجهة تقديم الخدمات المناطة به كسلطة مسؤولة عن تأمين احتياجات المواطنين.
لقد بات واضحاً أن هذه سياسة ممنهجة يعتمدها النظام وتبدأ في كل مرة باختلاق أزمة ما وخاصة على صعيد الوقود، ومن ثم خفض المخصصات ورفع الأسعار قبل أن يعلن بشكل مفاجئ عن حل المشكلة، وغالباً ما يكون ذلك بالحديث عن وصول شحنات جديدة إلى المصافي الحكومية في حمص وبانياس، الأمر الذي أزعج حتى أكثر حلفائه صلابة وهم الروس، كما يظهر من التغطية الإعلامية الروسية لأزمة الخبز والوقود الأخيرة، حيث انتقدت العديد من الصحف والمحطات في موسكو عجز النظام عن إيجاد حلول مستدامة لقطاعي الوقود والمخابز بعد أن تحدثت قبل ذلك عن استشراء الفساد داخل هذا النظام، ما دفع إعلام الأسد إلى شن هجوم جديد على روسيا إلى حد اتهامها بتوقيف ناقلة نفط كانت متوجهة إلى السواحل السورية !
الغريب أنه ورغم هذا الاتهام الموجه لموسكو إلا أن النظام لم يتردد عن استكمال برنامج خطته الذي بات مكروراً، فأعلن بعد أسبوع من بدء الأزمة الأخيرة عن “عودة مصفاة بانياس للعمل بكامل طاقتها بعد إنجاز العمرة وتوفر كميات إضافية من مادة البنزين بما يتجاوز الحاجة اليومية للقطر” حسب تصريح لوزارة النفط يوم الثلاثاء، كما أكد مدير فرع ريف دمشق للمخابز أن “جميع الأفران تقريباً التابعة للمؤسسة السورية للمخابز بدأت العمل بطاقتها الإنتاجية، حتى أن بعضها يستمر بالعمل خارج أوقات الدوام المحددة..” لكن من دون الكشف عن كيفية تحقق ذلك؟
ما سبق لا يعني إطلاقاً أن العقوبات لا انعكاس سلبياً لها على حياة المواطن العادي في مناطق سيطرة النظام، وأكثر من ذلك فإنها محل إعادة تقييم من قبل المعارضة وخاصة الفريق المسؤول عن ملف قانون قيصر في الائتلاف، لكنه يعني بالضرورة أن هذا النظام مستمر في اختلاق الأزمات أو تضخيمها لاستغلال حاجات السكان والاستيلاء على ما تبقى من مدخرات لديهم أو ما يصلهم من تحويلات مالية من الخارج لتغطية عجزه عن دفع رواتب جيشه وأمنه، وتسديد التزاماته المالية تجاه حلفتيه إيران وروسيا بعد أن قدم لهم معظم ثروات البلاد ومقدراتها من أجل حمايته وتثبيته في السلطة.
تلفزيون سوريا
————————–
ثأر الأسد مع الخبز/ عمر قدور
قبل ثلاثة أيام بدأت وزارة “التجارة الداخلية وحماية المستهلك” تطبيق آلية جديدة لبيع الخبز عبر البطاقة الالكترونية، وفق نظام الشرائح الذي يحدد لكل أسرة ما ينبغي لها استهلاكه، في جميع مخابز دمشق وريفها واللاذقية. بالتزامن، قررت وزارة النفط تعديل مدة تعبئة البنزين لجميع الآليات، بحيث تم تحديد مدة التعبئة مرةً واحدة كل سبعة أيام للخاصة ومنها الدراجات النارية، ومرة واحدة كل أربعة أيام للآليات العامة. سبق صدور القرارين انتشار صور عن طوابير السيارات التي تمتد لكيلومترات في انتظار التعبئة من محطات الوقود، وانتشار صور أكثر فظاعة للازدحام أمام أفران الخبز، حيث لا تكفي كلمة “طابور” لوصف تلك الأجساد المتراصة والمتسابقة للحصول على ربطة خبز.
مشهد الطوابير الطويلة للسيارات هو جديد نسبياً على “سوريا الأسد”، فتقريباً خلال العقود الثلاثة الأولى من حكم الأسدية كان امتلاك السيارة الخاصة امتيازاً لحلقة ضيقة من المسؤولين وكبار شركائهم من الأثرياء. أما مشهد الازدحام أمام الأفران فهو عريق من عُمر الأسدية نفسها، إذ قلّما حصل السوريون على الخبز بكرامة، كما يحصل عليه عموم البشر، وهذه الـ”قلّما” بمعنى الندرة المطلقة، فيكون الاستثناء عابراً زماناً ومكاناً فيما يخص ما يُسمى “الخبز المدعوم”، وقد كان الخبز الوحيد المتاح قبل انفتاح التسعينات الذي أتى بتسمية غريبة هي “الخبز السياحي”، الخبز الذي يشتريه القادرون على الدفع بأسعار لا تناسب مع مداخيل غالبية السوريين.
كان وصف “السياحي” هو اجتراح الأسدية الأهم الذي شاع منتصف التسعينات، فصار في وسع السوري شراء ربطة الخبز بعيداً عن الأفران بسعر مرتفع، بوصفه سائحاً، وصار في وسعه أيضاً استئجار سيارة “قبل السماح بامتلاك السيارات” من إحدى شركات الاستثمار السياحي، وصار متاحاً له استئجار مسكن لمدة لا تتجاوز الأشهر قابلة للتجديد بعقد آجار سياحي، بعدما أقلع أصحاب البيوت الفائضة عن تأجيرها بسبب قانون للآجار يمكّن المستأجرين القدامى من البقاء، بل توريث هذا الحق مع بدل إيجار قديم متدنٍّ.
صورة السوري القادر على الدفع أو المجبر عليه، السائح في بلده ومكان إقامته، كانت مثار سخرية حتى من إعلام الأسد لما في التسمية من احتيال باسم السياحة على تحول السلطة من اشتراكية مزعومة إلى خصخصة تحت مسمى “اقتصاد اجتماعي”، فلا تدخل كلمة السوق في منتصف التسمية الجديدة إلا للضرورة “العلمية” القصوى. قبل ذلك، طوال عقدين ونصف، كانت السيارة عزيزة المنال حتى للقادرين على شرائها، والغالبية الساحقة من الأطفال نشأت مع عقدة “الموز” الذي يسهل رسمه ويعزّ تذوقه. مع ذلك، حافظ الخبز “بسعره المدعوم” على وضعيته الاستثنائية كسلعة أساسية لم تتأثر كثيراً بتقلبات الأسدية.
مع اشتداد أزمة الخبز مؤخراً، صار يُشار على سبيل الشرح إلى أنه الغذاء الأساسي للسوريين الذين أصبح 90% منهم تحت خط الفقر. والحق أنه الغذاء الأساسي بسبب عقود متتالية من الإفقار، فهو أصبح بمثابة عادة غذائية، فوق ما يمليه اشتداد الحاجة أو العوز. والازدحامُ الذي لم ينقطع أمام أفرانه طوال نصف قرن من الأسدية دلالةٌ على هول تحكمها بأبسط مقوّمات العيش، وإصرارها على الإمساك المطلق بلقمة السوري كسبيل للإمساك برقبته.
تسيطر السلطة على كافة مراحل الوصول إلى الرغيف، المؤسسة العامة للبذار هي التي توزع البذار للمزارعين، والمؤسسة العامة للحبوب هي التي تحتكر شراء القمح منهم، والمؤسسة العامة للمطاحن هي التي تبيع الدقيق للأفران الخاصة والعامة. السعر “المدعوم” للخبز يمرّ قبل وصوله خط النهاية بعمليات احتكار لا تخلو من الأرباح، وأشهرها تصدير القمح السوري القاسي بأسعار جيدة وشراء القمح الطري بأسعار زهيدة ليكون على موائد السوريين، مع تذكيرهم المستمر بـ”مكرمة” السلطة التي تخسر لتقدمه لهم بسعر معقول وكأنها تخسر من جيبها لا من الأموال العامة، ومن دون احتساب كراماتهم المهدورة أمام الأفران.
للأسدية ثأر مع خبز السوريين. لم تغيّر أطوار الأسدية من هذه الوضعية، فلا فورة المساعدات الخليجية بعد حرب تشرين أثرت إيجاباً على توفير هذه السلعة الأساسية، ولا الخصخصة التي تلت مشاريع الاستثمار السياحي المزعومة أصابت احتكار السلطة مراحل إنتاج القمح وتسويقه. في أحسن الأحوال، كان تقلّص الازدحام أمام الأفران هو الاستثناء الذي لا يمكن الاطمئنان إليه كواقع مستدام.
وقولنا أن للأسدية ثأراً مع خبز السوريين ينطوي على مخاطرة، إذ سبق لغاضبين من انقلاب البعث قول ما يشبهه في وصف أولئك “الريفيين الجوعى” الذين قاموا بالانقلاب، يحركهم الانتقام من كل كفايةٍ ومدنية، وسبق أيضاً قولُ ما يشبهه من قبل الذين قرأوا الانقلاب بوصفه طائفياً ليكون مشروع انتقام أقلوي “وعلى نحو خاص علَوي” من شبع ومدنية السُنة. لقد صار دارجاً، بما يتنافى مع الواقع، فهم كلمة ريفي على محمل طائفي، وكذلك وصف “الفقر” الذي لم يكن بطبيعة الحال يميز بين ضحاياه. ما هو دارج أعاق دائماً الحديث والاتفاق على الأسدية وأساليبها، بما أن حساسيات الدارج تتسرب طوال الوقت من شقوق الكلام.
للمفارقة، قد يسعفنا منشور لرامي مخلوف قبل ثلاثة أيام أيضاً “يا للمصادفة!”، يشكر فيه من عزّاه بوفاة أبيه، ويشير إلى جده الذي كان من أكبر مُلّاك الساحل السوري، واشتُهر آنذاك “أيام السفربرلك” بفتح بيته للمحتاجين، منوّهاً بفتح دار آل مخلوف مجدداً للمحتاجين لتناول الطعام كل يوم جمعة على مدار السنة. غاية منشور رامي الأساسية نفي تهمة الفساد عن أبيه وعنه، إلا أن ما كتبه لا يخلو من تذكير خفي بالفقر الأصلي لعائلة الأسد، إذ يتوقف تحديداً عند ما يدعوه افتراءً على أبيه في مجال السيطرة على النفط الذي هو حصراً في حوزة “الدولة السورية”، وتعبير الدولة السورية سبق له استخدامه للإشارة إلى عائلة الأسد التي هي الدولة بقناعته وقناعة كثر سواه.
ما لا يُعزى إلى المصادفة بالتأكيد أن واحداً من أشهر الشعارات الأسدية ضد المناطق الثائرة على الأسد كان “الجوع أو الركوع”، فهذا الشعار الذي ليس طارئاً عليها يوضح ثأر الأسدية مع لقمة السوريين، ومقايضتها إمساكها تلك اللقمة بالولاء التام. من الخطأ التساهل وردّ هذا الشعار إلى سلطة متحللة تماماً من قوانين الحرب أو القليل جداً من فروسية المتحاربين، هو استمرار للازدحام أمام الأفران الذي لم ينقطع طوال أربعة عقود قبل الثورة، والازدحام الذي تضخم الآن مع تحديد ما ينبغي لكل عائلة استهلاكه من الخبز هو صياغة ملطّفة للشعار. نعم، للأسد ثأر مع خبز السوريين، ثأر يجد وجهاً للتفسير بأن سلطةً استثنائية بتحكمها لا توفر السيطرة على أبسط مقومات العيش، لكن أوجهاً أخرى للتفسير تبقى جائزة، الأوجه التي تتقصى حوافز الحقد والانتقام الخاصة بالحلقة العائلية الضيقة.
المدن
————————————–
للخبز السوري حكاية/ بكر صدقي
جاء قرار نظام بشار بتحديد حصة الفرد اليومية من الخبز ليشكل الضربة القاصمة لظهر السوريين العالقين في مناطق سيطرة ميليشياته. ففي الأصل يعيش ملايين السوريين تحت عتبة الجوع، وربما كان الخبز هو مادة الأمان بالنسبة لكثيرين ممن لا يملكون موارد كافية للحصول على الغذاء المتنوع. يعمل إعلام النظام، والإعلام الروسي الحليف، على تعليق فشل النظام في تأمين الحد الأدنى من السلع والخدمات للسكان على شماعة قانون قيصر الذي فرض حصاراً اقتصادياً قاسياً على النظام بهدف إرغامه على الانخراط في عملية سياسية يرفضها بالمطلق حتى لو كان الأمر يتعلق بإطار فارغ من أي مضمون كاللجنة الدستورية.
الواقع أن للخبز السوري حكايته مع النظام الأسدي ككل الأشياء الأخرى، ولم تبدأ أزمة الخبز الحالية بسبب قانون قيصر، بل تعود بجذورها إلى السنوات المبكرة من حكم حافظ الأسد الذي يقال إنه كان يعمل على مبدأ «جوّع كلبك يتبعك»! فكان حريصاً، مثلاً، على إبقاء أجور العمال والموظفين في مؤسسات القطاع العام تحت حد أدنى يكفي بالكاد لتأمين المستلزمات الأساسية، ثم تأتي زيادات تلك الأجور في فترات غير منتظمة وكـ «مكرمة» من الرئيس وكأنه سلطان من تاريخ غابر يمن على رعاياه بلمحة عطف «أبوية». الصفة الأبوية هذه لم تكن عارضة في نظام الأسد، بل كانت نمط سيطرة على السكان يستلهم صورة الأب الشرقي الذي يحمل صفات متناقضة كالقسوة والحنان، والعطف والشدة، والرعاية والمعاقبة. الأب يحب أبناءه لكنه يعاقبهم بقسوة إذا خرجوا عن طوعه.
أما الخبز بالذات فقد كان وسيلة إخضاع وإذلال ربما لم يسبق إلى استخدامها دكتاتور قبل الأسد. لقد نشأت أجيال من السوريين وهم يرون الطوابير الطويلة أمام أفران الخبز أو وقفوا فيها لعدة ساعات بانتظار دورهم للحصول على ما يحتاجونه من الخبز. وكانت معارك حقيقية بالأيدي تجري أمام المخابز بين الواقفين في الدور أو بين بعضهم وبائع الخبز «الوزّان» الذي أصبحت له مكانة اجتماعية لأن من له معرفة به قد يحصل على حصته من الخبز بدون انتظار الدور.
غير أن عناصر المخابرات وأولئك الذين يتنمرون على الناس بالجملة الشهيرة: «اعرف مع من تحكي ولاك!» لم يكونوا مضطرين لانتظار أي دور، وكانوا ينظرون إلى «ناس الطابور» باحتقار. وحدث ذات مرة أن توجه أحد هؤلاء من عناصر أجهزة المخابرات إلى الواقفين في الطابور أمام أحد المخابز وقال لهم: «هل أنتم رجال؟ كيف ترضون بهذا الذل؟» حكى لي هذه الحادثة شخص أعرفه كان قد شهدها بنفسه. وقد «تمأسس» موضوع الدور هذا فكان أمام كل مخبز ثلاثة أماكن مخصصة للطوابير، واحد لعامة الناس من الرجال، وآخر للنساء، والثالث لعناصر الجيش والمخابرات الذين لهم أولوية في الدور على طابوري الرجال والنساء من عامة الشعب.
ثم سمح النظام باستحداث مخابز خاصة لما أسماه بـ«الخبز السياحي» فكان القادرون على دفع كلفة أكبر يتوجهون لشراء هذا النوع «السياحي» بدلاً من الوقوف ساعات طويلة في الطابور أو الاستيقاظ قبل الفجر والذهاب لشراء الخبز من غير ضمانة ألا يكون هناك ازدحام ودور.
كان هذا يحدث في بلد مصدر للقمح يملك مساحات كبيرة من الأراضي المخصصة لزراعته. تفرض المقارنة نفسها مع تركيا التي أعيش فيها منذ سنوات، كي لا نبالغ فنقارن مع بلدان أبعد جغرافياً وفي مستوى أعلى من الكفاية الاقتصادية. على رغم أن تركيا بلد مستورد لكثير من احتياجاته الغذائية، بما في ذلك القمح لا يعرف السكان شيئاً اسمه الطابور أمام المخابز، بل يمكن لك أن تحصل على حاجتك منه من أقرب بقالية أو من المخابز المنتشرة في جميع أحياء المدن. في العام 2019 استوردت تركيا نحو 7 ملايين طن من القمح بثمن تجاوز المليار والنصف من الدولارات، وهذه الكمية تعادل ثلث احتياجات البلد من القمح، فتركيا تستهلك سنوياً نحو 20 مليون طن من القمح.
هل كان نظام الأسد عاجزاً عن تأمين الكميات الكافية من القمح لصناعة الخبز، أم أن الأمر يتعلق بوظيفة الخبز كوسيلة للإذلال؟ الافتراض الثاني هو ما كان كثير من السوريين يميلون إليه، ذلك لأن الأمر لا يتعلق بالخبز وحده، بل بكل أنواع احتكاك السكان بالدولة وغير الدولة مما تشكل معاً بنية النظام الأسدي. ومن جهة أخرى، كانت «أزمة الخبز» تنفرج فجأة، من حين لآخر، فلا تجد أي طابور أمام المخابز، من غير أن يعرف السوريون سبب انتهاء الأزمة كما لم يعرفوا سبب وجودها.
وكان أحد المخارج التي ابتكرها الناس لجحيم الخبز الأسدي هو شراء البقاليات لكميات من الخبز وإعادة بيعها للعموم مع زيادة طفيفة على السعر، فكان هذا يشكل حلاً معقولاً، لكن «الدولة» الأسدية كانت تتدخل في ذلك، فجأةً، فيصدر قرار بمعاقبة البقاليات التي تبيع الخبز بغرامات مالية رادعة! لماذا؟ الجواب موجود على كل سؤال: لأن رعاة الماشية يشترون الخبز بكميات كبيرة ويستخدمونه كعلف بسبب رخص سعره الذي تحدده «الدولة»! وأصل الحكاية أن النظام الأسدي كان «يدعم» الخبز بتمويل الفارق بين سعره الحقيقي وسعره الشعبي المنخفض. وهكذا يصبح من العقلانية الاقتصادية أن يشتري الرعاة الخبز علقاً لقطيعهم بدلاً من الحبوب بسعرها الحقيقي غير المدعوم!
إن فكرة دعم الدولة للخبز في النظام الأسدي تستبطن أصلاً النظر إلى عامة الشعب بوصفه قطيعاً يؤمر فيطاع، وهذا ينسجم مع الوقوف في الطابور كتجسيد ملموس للحالة القطيعية، كما ينسجم مع تعامل النظام الأسدي مع السكان في جميع الميادين. بعد اندلاع الثورة السورية في العام 2011، كانت هناك ظاهرة غريبة يصعب تفسيرها، وهي استهداف طيران النظام لأفران الخبز بصورة منهجية في المناطق الخارجة عن سيطرته، وبالذات في وقت وقوف الطوابير الصباحية أمامها. ليس فقط لأن حصد عدد كبير من أرواح المدنيين هو هدف منهجي للنظام بعد اندلاع الثورة، بل يحمل الأمر رسالة أيضاً: لقد أطعمتكم الخبز المدعوم طوال عقود، فجحدتموني، والجاحد عقابه الموت!
كاتب سوري
القدس العربي
———————————-
لا خبز في دمشق/ بشير البكر
طوابير السوريين على الأفران من أجل الحصول على ربطة خبز، باتت مشهدا من مشاهد الحياة اليومية في العاصمة السورية التي تعيش وسط دوامة لا تنتهي من الأزمات الطاحنة. وما تكاد أزمة تجد حلا مؤقتا حتى تطل أخرى أكثر قسوة. سلسلة متوالية لا تتوقف عند تأمين رغيف الخبز والماء الصالح للشراب وغاز الطهو وباقي المواد الأولية، بل تذهب نحو المشتقات البترولية والكهرباء التي تشهد تقنينا صارما، ولا تصل بعض الأحياء أكثر من ساعتين في اليوم، وفي ذات الوقت هناك تراجع لا يوصف في الخدمات الصحية، مما سهل استشراء وباء كورونا الذي يفتك بأصحاب الأوضاع الصحية الهشة. وحسب شهادات منظمات وهيئات دولية متخصصة فإن الوفيات بعشرات الآلاف من دون أن يصرح النظام أو حتى يعترف. وأعلن المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية في سوريا، عمران ريزا، في الأول من سبتمبر/ أيلول، أن عدد الإصابات في سوريا ارتفع نحو عشرة أضعاف خلال الشهرين الماضيين، منذ آخر إحاطة لموظفي الأمم المتحدة، ومنذ لك الحين تحدثت تقارير غير رسمية عن خروج الوباء عن السيطرة.
أعاد النظام الحاكم السوريين إلى عصر سحيق سابق للمدنية، وحوّل دمشق أقدم مدينة في التاريخ إلى خربة منكوبة تفتقر إلى أبسط شروط الحياة الإنسانية. وحين يرى العالم الخارجي طوابير الخبز في دمشق مدينة الغوطتين، فإنه يصاب بالذهول من هول الكارثة التي لا شبيه لها في مدن أخرى واجهت ظروف الحروب المديدة، وحتى في صنعاء التي تشهد حصارا وحروبا منذ عدة سنوات، فإن الأوضاع المعيشية أحسن حالا مقارنة بدمشق التي أخذ بعض سكانها يعودون نحو أنماط بدائية من المعيشة كي يستمروا على قيد الحياة، فهناك عائلات أخذت تزرع الخضار في حدائق البيوت وتربي الدواجن، ومن لا يتدافع على الأفران من أجل رغيف خبز مغمس بالإهانة فإنه استعاض عن ذلك بتنور حطب في بيته. وينضاف إلى ذلك تقنين الخبز رغيفين ونصف الرغيف لكل مواطن يتم شراؤه من خلال البطاقة التموينية. ومن استطاع سبيلا إلى الخبز السياحي فإنه من المحظوظين الذين لا يتجشمون عناء الانتظار ساعات في الطابور من أجل ربطة خبز قد لا يتم الحصول عليها. وتكون عادة من النوع الرديء، ونقل موقع تلفزيون سوريا من أحد أفران دمشق إن “الطحين المستخدم في صناعة الخبز رديء جداً وقاسٍ وعملية عجنه تستغرق وقتاً وتصيب الآلات بأعطال كثيرة، مؤكداً أن أغلب مكوناته نخالة”، مشيراً إلى أنه منذ أكثر من شهر لم يصل إلى المخابز دقيق القمح الطري، ما جعل عملية إنتاج الخبز تستغرق وقتاً أطول.
لا خبز في دمشق ولا حياة في سوريا. الشعب السوري يعيش نكبة لا مثيل لها. جوع وإرهاب النظام وأمراض وتشرد وبطالة وانعدام أمان، وانسداد الآفاق جميعها، بينما يواجه النظام كل هذا الانهيار الحياتي بسلوك كلّي من النكران وعدم الاكتراث، ولو كان القائمون على مقاليد الأمور يمتلكون قدرا زهيدا من الحس الإنساني لكانوا أخلوا المكان، وتركوا سوريا للمجتمع الدولي الذي لا بد أن يتكفل بإيجاد حلول لأزماتها بوصفها بلدا منكوبا. ورغم المأساة التي تتعاظم في كل يوم يصر النظام على تعزيز قبضته الأمنية من أجل البقاء، فهناك عشرات الآلاف من السوريين الذين تم سجنهم في ظروف تفتقر إلى أدنى الشروط الإنسانية، وما يزال يطور أدوات القتل كما كشفت منذ أيام منظمات غير حكومية (الأرشيف السوري، ومبادرة العدالة) عن تلاعب النظام بمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية من أجل تطوير ترسانته من غاز السارين التي استخدمها عدة مرات ضد المدنيين منذ أغسطس/آب 2013 في الغوطة الشرقية.
وما يزال هذا النظام يستمد كل أسباب بقائه من روسيا وإيران اللتين صارتا الحارس الفعلي للخراب السوري، بل إنهما تتحملان مسؤولية لا تقل عن النظام الحاكم في قتل وتجويع وتهجير السوريين من بلادهم، في حين تقتسمان ما بقي لسوريا من موارد. إيران تسيطر على جزء من الثروة الزراعية في شرق الفرات وروسيا الموانئ والثروات الأرضية مثل الفوسفات، والنفط والغاز للإدارة الكردية.
تلفزيون سوريا
———————————-
السوريون في يوم الفقر… أيها العالم نحن هنا!/ مالك ونوس
أشار تقرير “الجوع الخفي” إلى أن المشكلات الحالية التي يعاني منها الأطفال السوريون سواء داخل البلاد، أو في مخيمات النزوح في المدن السورية أو مخيمات اللجوء خارج البلاد، ستبقى لها آثار مدمرة لأجيال مقبلة…
أتَذَكَّرُ مع اقتراب مناسبة “اليوم الدولي للقضاء على الفقر” قصةَ أحد الأصدقاء الذي قال لي مرةً بحرقةٍ والدموع تكاد تنفر من عينيه: “وصَفَ الطبيب لابنتي أدويةً إضافةً إلى أوقية لحمٍ وبيضةً يومياً لكي تتغلب على مرض التقزَّم الذي أصابها، وعليها تناولها بدءاً من الآن حتى سن البلوغ”، وحين عرفتُ أن سبب الدموع هو عجزه عن تأمين اللحم والبيض قلت له: “أما البيض فيمكنك تأمينه”، أجاب: “إن جلبت لها بيضة يومياً سيطالب أخوها ببيضةٍ له أيضاً، ولا أستطيع أن أشتري بيضةً له أيضاً”.
هذه القصة المؤلمة أصبحت قصة كل سوريٍّ هذه الأيام، بعدما بات تأمين لقمة العيش هاجساً لـ90 في المئة من السوريين الذين أصبحوا تحت خط الفقر، بحسب المنظمات الدولية أواسط العام الحالي. ولكلٍّ قصته مع الفقر، غير أن القاسم المشترك بين فقراء سوريا هو أن فقرهم سيورثُهم أمراضاً ستدوم، ومعاناةً نفسيةً وجسديةً ستستمر في ظلِّ غياب أي حل للوضع في سوريا.
السوريون يجهلون أن هنالك يوماً مخصصاً لنسبةٍ كبيرةٍ منهم، يُحتفل به عالمياً ويُحظَّر عليهم الإشارة إليه؛ إذ بقي لفترة طويلة، وما زال، محظَّراً الاعتراف بوجود فقر في سوريا، مثلما كانت تمنع الإشارة إلى وجود فساد أو أزمات اقتصادية مزمنة ومتكررة تخنق البلاد وأهلها، أزمات لم يكن هنالك من يجرؤ على الحديث عنها. وكان السوريون متعايشين مع خط الفقر منذ الثمانينات، وحتى أواخر تسعينات القرن الماضي، لم يكن دخل المواطن يتعدى المئة دولار أميركي. أي دون خط الفقر المحدد عالمياً بثلاثة أضعاف، لشعب معروف عن أبنائه حبهم العمل وسعيهم الدائم إلى تغيير واقعهم عبر العمل لأوقات متأخرة وفي مهن مختلفة، حتى أنك كنت تجد المهندس يعمل سائق سيارة نقل عمومي بعد الظهر، والمدرِّس عاملاً في مطعم، وهكذا.
الآن، ومع مصادفة “اليوم الدولي للقضاء على الفقر”، بإمكان نظرة سريعة على واقع معاناة الأطفال السوريين أن تدلنا على حجم معاناة السوريين عموماً بسبب الفقر وأمراضه وتبعاته المستقبلية. ففي تقرير نشرته منظمة “أنقذوا الأطفال البريطانية”، في 29 أيلول/ سبتمبر الماضي، يَظهر جليّاً استمرار تأثير الحرب في حياة السوريين، إذ قال التقرير إنه خلال النصف الأول من هذه السنة، ارتفع عدد من يعانون من انعدام الأمن الغذائي من 7 ملايين و900 ألف شخص إلى 9 ملايين و300 ألفاً، بينهم 4 ملايين و600 ألف طفل بحاجة إلى مساعدات غذائية. في حين يعاني 700 ألف طفل من جوعٍ حقيقيٍّ بسبب تضرر الاقتصاد الذي عززه الإغلاق لمواجهة فايروس “كورونا”، وبسبب دمار الزراعة وزيادة التضخم في هذه الفترة. وقال التقرير الذي جاء تحت عنوان “الجوع الخفي في سوريا”، إن عدداً غير مسبوق من الأطفال يعاني ارتفاعاً في معدلات سوء التغذية التي تسبب لهؤلاء الأمراض وتهدد حياة 137 ألفاً بالموت، إضافة إلى أن سوء التغذية الذي تضاعف خمس مرات لدى النساء الحوامل في هذه الفترة، يهدد حياة الأجنة والمواليد على السواء، وهو يضاف إلى معاناتهن من فقر الدم ونقص المغذيات، وذلك بعد نحو 10 سنوات من الصراع والنزوح.
وفي هذا الإطار، أشار تقرير “الجوع الخفي” إلى أن المشكلات الحالية التي يعاني منها الأطفال السوريون سواء داخل البلاد، أو في مخيمات النزوح في المدن السورية أو مخيمات اللجوء خارج البلاد، ستبقى لها آثار مدمرة لأجيال مقبلة إذا لم تُتَّخذ إجراءات عاجلة. فعلى سبيل المثال يعاني واحد من 8 أطفال سوريين من مرض التقزُّم نتيجة سوء التغذية. وتدعيماً لهذا القول، أورد “التقرير العالمي حول الأزمات الغذائية” لسنة 2020، والذي يصدره برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، إحصاء يفيد بأن ما نسبته 27.5 في المئة من الأطفال السوريين تحت سن الخامسة يعانون من التقزُّم بسبب سوء التغذية. وهو أمر متوقع بعدما صنَّف هذا التقرير سوريا كواحدة من الدول العشر التي عانت من أسوأ أزمات غذائية خلال عام 2019. كذلك حذرت منظمة “أنقذوا الأطفال” من خطر تردي الصحة العقلية على أطفال سوريا جراء أمراض الفقر.
مع حلول المناسبة تستمر معاناة السوريين بسبب التقنين في مادة البنزين التي تجبر أصحاب السيارات على ركن سياراتهم في طوابير طويلة ليومين أو ثلاثة أمام محطات الوقود، لملء خزانات سياراتهم أو تدبُّر الكميات المطلوبة من السوق السوداء بأسعار مضاعفة، ما أدى إلى رفع أجور السيارات العمومية أضعافاً. وأضيفت هذه المعاناة إلى المعاناة الدائمة في نقص غاز الطبخ ومازوت التدفئة وتقنين الكهرباء. وتتزامن، كذلك، مع معاناة السوريين من صعوبات في تأمين الخبز بعد قرار بيعه عبر البطاقة الذكية، وهم الذين يعانون من انخفاض جودته وانبعاث روائح كريهة منه، مع العلم أنه أصبح الوجبة الرئيسية على موائدهم. وتضاف هذه الأعباء إلى ارتفاع أسعار الأدوية، كأحد تداعيات قرار زيادة سعر الدولار الجمركي الخاص بتمويل المستوردات للمرة الثانية، في حزيران/ يونيو الماضي، بعد زيادته، في شباط/ فبراير الماضي، ما انعكس ارتفاعاً في أسعار الأدوية وفقدان بعضها، خصوصاً أدوية الأمراض المزمنة، من الأسواق بغية احتكارها، علاوة على إغلاق بعض الصيدليات.
لا يقتصر فقر السوريين على ضيق الحال، ففقرهم مستمر حتى أجيال مقبلة، ستشهد رهنَ حياتهم من جديد للمصارف الدولية من أجل تأمين تمويل إعادة إعمار بيوتهم التي ستكلفهم الوقوع تحت رحمة هذه المصارف، إلى آجال غير محدودة. علاوة على أن إعادة إعمار البلاد وبناها التحتية التي ستكون لها أكلاف تمنع الحكومات المقبلة من الاضطلاع بدور اجتماعي تتطلبه مرحلة محو أثار الحرب من المشهد ومن النفوس، وهي المهمة الأصعب.
درج
——————————————-
النظام يرفع أسعار الوقود… ويطيّب خاطر السوريين بمنحة لمرة واحدة/ ريان محمد
رفع النظام من جديد أسعار المحروقات، بذرائع الحصار الاقتصادي وارتفاع تكاليف تأمين المحروقات وتوزيعها وإيصال الدعم إلى مستحقيه بحسب ادعاءاته، وسط مخاوف من أن تتسبب تلك القرارات برفع تكاليف الإنتاج وإغلاق مصانع في ظل الركود الاقتصادي، الأمر الذي سينعكس عبر موجة ارتفاع أسعار كبيرة، في وقت يتدهور به الوضع المعيشي من سيئ لأسوأ يوما بعد آخر.
وأصدرت “وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك” التابعة للنظام، مساء الثلاثاء، قراراً يقضي برفع سعر مبيع ليتر البنزين الممتاز المدعوم للمستهلك من 250 ليرة إلى 450 ليرة سورية. ورفع سعر مبيع ليتر البنزين الممتاز غير المدعوم للمستهلك من 450 ليرة إلى 650 ليرة سورية. بحسب وكالة سانا الرسمية، مبينة أن القرار جاء بناء على توصية اللجنة الاقتصادية وكتاب وزارة النفط والثروة المعدنية.
وطلب القرار الذي دخل حيز التنفيذ عند منتصف ليل الثلاثاء الأربعاء، من أصحاب المحطات الإعلان عن أسعار ونوعية مادة البنزين بشكل واضح ومقروء ضمن المحطات مع فرض عقوبات في حال المخالفة، ولفتت الوكالة إلى أنه بحسب الوزارة أتى هذا القرار، بسبب التكاليف الكبيرة التي تتحملها الحكومة لتأمين المشتقات النفطية وارتفاع أجور الشحن والنقل، في ظل الحصار الجائر الذي تفرضه الإدارة الأميركية على سورية وشعبها.
وكانت الوزارة ذاتها أعلنت قبل أيام، قرار رفع أسعار سعر ليتر المازوت الصناعي والتجاري، بذريعة التكاليف الكبيرة التي تتكبدها الحكومة لتأمين المشتقات النفطية، في ظل الحصار الجائر الذي تفرضه الإدارة الأميركية على الشعب السوري، وبهدف تأمين حاجة الصناعيين الفعلية من المازوت والحد من عمليات تهريب المادة إلى دول الجوار.
حيث نص القرار على رفع سعر ليتر المازوت الصناعي والتجاري الحر إلى 650 ليرة سورية وليتر البنزين أوكتان 95 إلى 1050 ليرة.
وذكرت الوزارة في بيان لها أن سعر ليتر مازوت التدفئة بقي دون أي تغيير أو تعديل بـ180 ليرة سورية، وكذلك بالنسبة لباقي القطاعات كالنقل والزراعة والقطاع العام، كما لم يطرأ أي تعديل على سعر ليتر المازوت المخصص للأفران التموينية وبقي على سعره بـ135 ليرة سورية.
ودافع النظام عن قراراته، حيث خرج معاون وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، جمال الدين شعيب، يوم الثلاثاء، في مقابلة مع قناة “الفضائية السورية” التابعة للنظام، تذرع في حديثه بأن سبب رفع سعر البنزين هو العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، والصعوبات التي تواجهها الحكومة السورية في تأمين البنزين، متحدثا عن أن هناك تكاليف مادية كبيرة تتكبدها الحكومة وحدها عند نقل المادة وإحضارها إلى سورية وتوزيعها، مبينًا أن الاستمرار بتأمينها تطلب رفع سعرها.
كما ذكر أن الحد من عمليات التهريب كان سببًا أساسيًا لرفع السعر نتيجة وجود فارق سعري بين البنزين في سورية والدول المجاورة، ما نشط عمليات التهريب إلى خارج سورية، وضرب مثالًا أن سعر ليتر البنزين في لبنان أعلى منه في سورية، وهو ما شجع التهريب نتيجة أن سعره في سورية كان منخفضًا مقارنة بلبنان.
أما صحيفة “الوطن” المحلية نقلت تصريحا عمن وصفته بمدير في “النفط”، بأن تكلفة ليتر المازوت تصل إلى 800 ليرة على الحكومة، وبالتالي فإن المازوت الصناعي لا يزال مدعوماً حتى بعد رفع سعره إلى 650 ليرة لليتر، وتتحمل الحكومة الفرق.
وبيّن أن الكتلة التي توزع يومياً من المازوت على كل المحافظات تصل إلى حدود 5.5 ملايين ليتر، وليس هناك كمية محددة من المازوت الصناعي يتم توزيعها يومياً، لافتاً إلى أن شركة “محروقات” كانت تحدد سابقاً مخصصات كل القطاعات من صناعي وزراعي وتدفئة وغيرها، أما اليوم فتحديد كمية المازوت الصناعي لكل محافظة يقع على عاتق لجنة المحروقات التي يرأسها المحافظ في كل محافظة.
في حين نقلت أمس عن مدير الأسعار في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك علي ونوس، قوله إن رفع سعر المازوت الصناعي إلى 650 ليرة جاء بعد دراسة بيانات التكلفة المقدمة من الصناعيين خلال الفترة الماضية، حيث تبين أنهم يعتمدون على المازوت من السوق السوداء بأسعار تتراوح بين 1000 ليرة و1500 ليرة لليتر الواحد، مع وجود معاناة بتأمين المادة.
وبيّن أنه تم رفع السعر إلى أقل من السوق الحرّ، مع مراعاة توفير المادة للصناعيين، وعليه فإن بيانات التكلفة الجديدة سوف تتضمن سعر 650 ليرة لليتر المازوت، وعليه من المفترض ألا ترتفع الأسعار في الأسواق، رغم أن مصادر الطاقة عموماً تشكل نسبة كبيرة من إجمالي تكاليف الإنتاج، إلا أنها تؤمن حالياً بأسعار عالية.
ونوّه بأن الأمر مرتبط بتوافر المادة وتأمين انسيابها لتلبية الحاجة الصناعية، وعندها تنخفض التكلفة الفعلية للمازوت، وهذا يفترض ألا يؤثر في الأسعار.
أما رئيس اتحاد غرف الصناعة فارس الشهابي قال في تصريح صحافي لـ”الوطن”، إن قرار رفع سعر المازوت الصناعي من قرابة 300 ليرة إلى 650 ليرة له تأثير سلبي كبير، إذ سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج والشحن وإلى ارتفاع الأسعار في الأسواق، وإلى توقف عدد من المصانع التي تعاني أصلاً ركوداً وضعفاً في التصدير، وخاصة أن العديد من المناطق الصناعية والحرفية لديها انقطاعات كبيرة في التغذية الكهربائية.
ويبدو في محاولة للتخفيف من الأجواء السلبية الناتجة عن قرارات النظام الاقتصادية أصدر رئيس النظام بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 25 للعام 2020 القاضي بصرف منحة لمرة واحدة بمبلغ مقطوع قدره 50 ألف ليرة سورية للعاملين المدنيين والعسكريين، ومبلغ 40 ألف ليرة سورية لأصحاب المعاشات التقاعدية من العسكريين والمدنيين معفاة من ضريبة دخل الرواتب والأجور وأي اقتطاعات أخرى.
أصدر بشار الأسد اليوم المرسوم التشريعي رقم 24 للعام 2020 القاضي بتعديل المادتين 68 و69 من قانون ضريبة الدخل (القانون رقم 24 لعام 2003)، بحيث يعدل الحد الأدنى المعفى من الضريبة على دخل الرواتب والأجور ليصبح 50 ألف ليرة سورية بدلا من 15 ألفا، وتعديل الشرائح الضريبية التصاعدية لتكون 30 ألف ليرة سورية لكل شريحة ضريبية.
وكان أصحاب الدخل المحدود، وخاصة الموظفين في الدولة، تراجعت القيمة الشرائية لرواتبهم بشكل متسارع منذ عام 2011، فقبل ذلك كان متوسط الدخل الشهري 20 ألف ليرة (وسعر صرف الدولار الأميركي الواحد 50 ليرة) أي نحو 400 دولار، أما الآن فمتوسط الدخل نحو 50 ألف ليرة، في حين سعر صرف الدولار الواحد 2400 ليرة، في وقت ترتبط الأسعار في الأسواق بسعر صرف الدولار.
يشار إلى أن السوريين يعانون من تدهور أوضاعهم الاقتصادية في ظل انهيار القيمة الشرائية لليرة السورية، وانتشار البطالة مع غياب فرص العمل، في حين يعانون منذ أسابيع من أزمة وقود خانقة، تجعلهم يصطفون لأيام أمام محطات الوقود، إضافة إلى أزمة الطوابير أمام أفران الخبز وأزمة غاز منزلي، والخروج والدخول إلى البلاد وغيرها الكثير من الأزمات.
———————————
السوريون بلا خبز: طوابير الجوع تتمدّد بمناطق النظام/ عدنان عبد الرزاق
يؤثر مسؤولو نظام بشار الأسد الصمت، بعد عودة طوابير الازدحام وأزمة خبز غير مسبوقة في العاصمة السورية دمشق ومناطق النظام، ما خلق سوقاً سوداء لهذه السلعة المهمة بعد إغلاق أفران خبز وتقليل ساعات العمل لأخرى بسبب نقص مخصصات الطحين للأفران بنحو 40%، وتوقُّف المعتمدين عن التوزيع، حسب مصادر من دمشق لـ”العربي الجديد”.
وأكدت المصادر، التي رفضت كشف هويتها، ارتفاع أسعار الخبز خارج الأفران للربطة “أقل من 2 كلغ” بدمشق، أمس الأربعاء، من 50 إلى نحو 800 ليرة، وسعر ربطة الخبز السياحي 1100 ليرة، كاشفة أن أفرانا حكومية مغلقة اليوم ولأول مرة في حي الزاهرة كبرى أحياء العاصمة دمشق. ويبلغ سعر الدولار في السوق السوداء نحو 2310 ليرات للشراء، وفي السوق الرسمية 1250 ليرة.
وأوقفت حكومة الأسد أخيراً، نظام توزيع الخبز عبر معتمدين إلى المحال التجارية، بعد أن اعتمدتهم في إبريل/ نيسان الماضي، ليوزعوا الخبز حسب البطاقة الذكية، بواقع ربطة خبز للأسرة وبهامش ربح 20%، ليصبح السعر النهائي 60 ليرة سورية.
وذلك بعد أن أعلنت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك التابعة لنظام بشار الأسد، عن بيع الخبز عبر البطاقة الإلكترونية وفق نظام الشرائح، وحددت نصيب الفرد والأسرة من الأرغفة، حيث بات الخبز يوزع على أساس ربطة من 7 أرغفة لكل ثلاثة أفراد في العائلة وربطتين (14 رغيفا) لكل 5 أشخاص، وثلاث ربطات (21 رغيفا) للعائلة من ثمانية أشخاص.
وخلال اتصال هاتفي مع “العربي الجديد”، يقول المواطن رامز شباط، من منطقة دمر بدمشق: “نعاني الذل بأسوأ أشكاله، نذهب منذ الثانية ليلاً إلى الأفران، وبعد انتظار لأكثر من عشر ساعات، نعود بربطة خبز أو قد لا نحصّلها، ما يدفعنا لشراء الخبز من السوق السوداء بأكثر من 15 ضعفاً من سعره”، مضيفا أن “معظم سكان ريف دمشق يأتون للعاصمة لشراء الخبز فأفرانهم مغلقة”.
وتابع شباط: “إن لم نستطع تأمين خبزنا، فكيف يمكننا الاستمرار، نحن لا نطالب باللحم والفواكه”.
ويقول مصدر مطّلع من دمشق إن “سبب الأزمة وباختصار يتمثل في توقف روسيا عن بيع القمح للنظام ولأسباب سياسية”، كاشفاً لـ”العربي الجديد” أن آخر صفقة أبرمت بين النظام، عبر مؤسسة الحبوب السورية، وروسيا كانت بنحو 200 ألف طن في شهر يونيو/ حزيران، وآخر موعد للتسليم في شهر سبتمبر/ أيلول، لكن موسكو اعتذرت.
وعزا المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه، أسباب أزمة الخبز الحالية إلى “خلافات روسية مع النظام السوري تتعلق بقضايا سياسية مرتبطة باللجنة الدستورية وانتخابات العام المقبل وبعض الاتفاقات الاقتصادية وتوغل الوجود الإيراني بسورية”.
ووفق المصدر، فإن إفلاس نظام الأسد، وعدم القدرة على استيراد القمح ومشتقات النفط، هو ما يدفعه للجوء إلى روسيا بهدف تأمين القمح وإيران لتمده بالنفط”.
لذا نرى أزمات هنا وهناك كلما تصاعدت الخلافات والاستقطابات بين الأطراف الثلاثة (روسيا وإيران وسورية)، مذكراً بأزمة المازوت والبنزين التي تعانيها سورية ورفع الأسعار لمرتين خلال اليومين الماضيين، حسب المصدر.
في حين، نسب مسؤولون بنظام الأسد، الأسبوع الماضي، أسباب أزمة الخبز لأعطال سببها نفاد الكميات المستوردة من القمح والاعتماد على القمح السوري القاسي.
وقال وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك بحكومة النظام السوري، طلال البرازي، إن البلاد “تحتاج سنوياً نحو مليوني طن من القمح الطري، تم تأمين 700 ألف طن منها من السوق المحلية، وسيتم تعويض النقص عن طريق عقود التوريد”.
وأضاف البرازي، خلال جلسة مجلس الشعب قبل أيام: “في ما يتعلق بالإجراءات المتخذة لتأمين مادة القمح، فإن وزارة الزراعة ضمن خطتها للعام الماضي، بينت أن هناك إمكانية لتسوق 2.9 مليون طن من القمح محليا، ولكن عملياً لم يتم حتى نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الحالي سوى شراء حوالي 700 ألف طن فقط، منها 221 ألفا في الحسكة و470 ألفا في باقي المحافظات”.
وأشار إلى أنه من منذ بداية العام، تم استيراد 350 ألف طن من القمح الطري بقيمة 79 مليون دولار، مرجعا سبب انخفاض الكمية إلى واقع الحصار الاقتصادي.
وتعاني سورية من نقص حاد بمادة القمح، بعد تراجع إنتاج القمح من نحو 4 ملايين طن قبل عام 2011 إلى نحو 1.5 مليون طن الموسم السابق، تستلم حكومة الأسد أقل من نصفها والباقي يذهب لمناطق المعارضة، والإدارة الذاتية التي يسيطر عليها الأكراد، شمال غربي سورية.
وتستورد دمشق أكثر من مليون طن قمح سنوياً لسد حاجة الاستهلاك المحلي، حيث تأتي روسيا في مقدمة الدول المصدرة لسورية.
ويقول مدير مؤسسة الحبوب بالحكومة السورية المعارضة، حسان محمد، إن الأزمة الخانقة بمادة الخبز بمناطق سيطرة النظام، تعود إلى أسباب عدة، أهمها عدم قدرته على استيراد القمح، وذلك لا يعود للعقوبات والحصار كما يدّعي مسؤولوه، بل لعدم وجود عملة صعبة لدى النظام، كما أن روسيا بدأت تساوم الأسد على قوت الشعب ليرضخ لشروطها.
ويضيف محمد لـ”العربي الجديد” أن هناك أسباباً أخرى تتعلق بقدم الأفران التي لم تلب الطلب بعد توزيع طحين قاس من الإنتاج السوري.
ويشير مدير مؤسسة الحبوب المعارضة إلى أن الفرد يحتاج إلى 133 كيلوغرام قمح سنويا أو 285 غرام طحين يومياً، وحسب عدد السكان الموجودين بمناطق النظام والذين لا يزيدون عن 13 مليون نسمة، فإن النظام يحتاج إلى نحو 2.5 مليون طن قمح سنوياً.
ويؤكد أن المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد “المحررة” لا تعاني من أزمة الخبز، وأسعار الربطة فيها تبلغ نحو 300 ليرة سورية أو ليرة تركية واحدة.
————————————-
إيكونوميست: انتصار بشار الأسد فاقم معاناة السوريين ونظامه يزداد ضراوة/ إبراهيم درويش
نشرت مجلة “إيكونوميست” تقريرا بعنوان “طاغية الحرمان: كيف عنى انتصار بشار الأسد مزيدا من المعاناة لشعبه؟” وقالت فيه: “ارتفعت أسعار الطعام إلى مستويات عالية بدرجة باتت النساء تغلي الحشائش لأكلها. وفي مخابز العاصمة دمشق، يقفز الرجال فوق بعضهم البعض للإمساك بما يمكن أن تتناوله أيديهم مما تبقى من الخبز المدعم. وفي كل أنحاء البلاد تمتد الطوابير أمام محطات الوقود إلى أميال. فيما تحولت أجزاء كبيرة من المدن إلى أنقاض. ولم يعد للعملة المحلية أي قيمة، لدرجة بات فيها السكان يستخدمونها للف سجائرهم”.
وتعلق المجلة: “كان من المفترض أن يكون العام هذا هو عام التعافي لبشار الأسد. فبعد حوالي عقد من الحرب الأهلية، استطاع ديكتاتور سوريا هزيمة معظم المتمردين الذين حاولوا إزاحته من المنصب. وكان يأمل بدفعة أخيرة تؤكد انتصاره. وبعدها تعيد القوى الغربية التي لن تجد بديلا عنه العلاقات الدبلوماسية وتشارك في تمويل عمليات إعادة الإعمار. وحتى الآن لم ينجح هذا الرهان. فالمعارضة التي تدعمها تركيا قاومت هجوما عسكريا على معقلها الأخير في محافظة إدلب. ورغم تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا، إلا أنها لا تزال في منطقة شمال- شرق البلاد الغنية بالنفط، وتساعد الأكراد على تأمين سيطرتهم عليها. كما أثرت العقوبات الأمريكية على الاقتصاد السوري، وزادت الأزمة المالية في لبنان من المعاناة. ثم جاء كوفيد-19 الذي ضرب سوريا بقوة”.
وأضافت المجلة أن الأوضاع الإنسانية في مناطق النظام أصبحت أسوأ مما كانت عليه في ذروة الحرب الأهلية كما تقول الأمم المتحدة. وأدت الحرب إلى إضعاف الاقتصاد. وتنتج سوريا اليوم 60 ألف برميل نفط وهو سدس ما كانت تنتجه قبل الحرب. ولم تنتج سوريا من محاصيل القمح العام الماضي إلا نصف ما كانت تنتجه قبل الحرب.
وطالما أودع السوريون أموالهم في المصارف اللبنانية، إلا أن السلطات اللبنانية حدّت في العام الماضي من المبالغ المسحوبة من البنوك، مما ترك السوريين بدون عملة صعبة. ونظرا لتراجع قيمة الليرة السورية أمام الدولار، حيث خسرت 70% من قيمتها، زادت أسعار المواد الأساسية. وفي الوقت نفسه، خفّض النظام من المساعدات والدعم للمواد الأساسية.
ولحماية مصارفها، قامت الحكومة السورية بخفض القروض ومنعت التعاملات بالدولار، وحددت المبلغ المسموح بسحبه. وفاقم فيروس كورونا من الأزمة، حيث تقول الأمم المتحدة إن نسبة 60% من المتاجر السورية اضطرت لإغلاق أبوابها بشكل كامل أو مؤقت. وأعلن النظام عن إغلاق البلاد في آذار/ مارس، إلا أن المواطنين المحتاجين تجاهلوا القيود. وأصبح الثمن من ناحية العناية الصحية واضحا الآن.
وتضيف المجلة أن النظام السوري حاول التستر على حجم انتشار الوباء، وأمر الأطباء لردّ الوفيات إلى الالتهابات الرئوية وليس كوفيد-19. ولم تعلن الحكومة إلا عن وفاة 200 شخص بسبب فيروس كورونا، مع أن الأرقام أعلى بالتأكيد.
وقال منسق شؤون الإغاثة العاجلة في الأمم المتحدة مارك لوكوك: “نعرف أن العدوى منتشرة داخل المجتمع بشكل واسع”. وبحسب دراسة أجراها فريق في كلية إمبيريال بلندن، فعدد الوفيات في دمشق قد يكون أعلى بـ80 مرة من العدد الرسمي، وربما أصيبت نسبة 40% من سكان العاصمة بالفيروس، إلا من لديهم صلات يحصلون على أسرّة في المستشفيات، كما يحمل الأطباء معهم عبوات الأوكسجين لإراحة المرضى.
وفي الماضي كانت هناك دول تسارع لإغاثة سوريا لكنها لم تعد قادرة أو لا تريد المساعدة. فإيران التي دعمت بقاء الأسد، تعاني من عقوبات ولا تستطيع تقديم العون الاقتصادي له. كما أن روسيا، الشريك الثاني للديكتاتور تعاني من عقوبات اقتصادية، ويمكنها المساعدة، لكن السوريين يقولون إن الرئيس فلاديمير بوتين يستمتع بالنفوذ الذي يعطيه اليأس السوري له.
وفي بداية الشهر الحالي، زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف دمشق على رأس وفد كبير للحصول على عقود في الطاقة والإنشاءات. وقال رجل أعمال سوري موال للنظام: “أصبح منقذونا نسورا جارحة”.
وترسل الدول الأوروبية وأمريكا مساعدات مثل الطعام والدواء لكن ليس من أجل الإعمار، على الأقل لحين التوصل لتسوية سلمية. وراكم ترامب الضغوط على سوريا لدفع الأسد نحو تسوية سياسية تنهي حكمه في النهاية.
وفي حزيران/ يونيو، فرض ترامب عقوبات استهدفت العقود بالعملة الأجنبية بما فيها التحويلات من الخارج التي يعتمد عليها الكثير من السوريين. وأنهت هذه العقوبات آمال النظام بنقل عملياته المصرفية من بيروت إلى دبي. وفرضت الدول الأوروبية عقوباتها الخاصة على الأسد وعائلته والزمرة الموالية له.
وتحاول بعض الدول محاسبة الأسد على جرائمه، حيث يستمع القضاة في ألمانيا إلى أدلة حول تورط مسؤولين سوريين بالتعذيب. وهددت هولندا بفتح قضية ضد النظام بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في محكمة الجنايات الدولية.
لكن النظام يزداد ضراوة، فبعد أن قام بالقضاء على المعارضة، يعمل الآن على افتراس رجال الأعمال والمزارعين الذين دعموه. ويعمل مسؤولو الجمارك وقادة الميليشيات على حجز الشاحنات ومصادرة البضائع ثم يطالبون برشاوى ضخمة لإعادتها.
ولكي تجمع الضرائب، تستخدم الدولة الجنرالات وأمراء الحرب الذين يقتطعون حصة. وتقوم واجهات وأشخاص يعملون نيابة عن النظام بشراء البيوت والمتاجر بأسعار مخفضة من أبناء الطبقة المتوسطة التي أفقرها النظام.
وقال محلل يزور دمشق بشكل متكرر: “يقوم الأسد بالسيطرة على الاقتصاد لنفسه”. ويتساءل الموالون عن المستقبل، حيث يقول رجل أعمال عن الأسد: “لم أعد أؤمن أنه سينجو”.
وهناك من يحلم بمشاريع بعيدة المنال يمكن أن تخرج سوريا من مأزقها. فلو دفن الأسد خلافاته مع رجب طيب أردوغان، فعندها ستأتي الشركات التركية وتعيد بناء سوريا، حسبما يقول شخص يعرف النظام.
وهناك من يحلمون بإغراء أمريكا عبر التعامل مع إسرائيل التي لم تتوقف غاراتها على أهداف إيرانية داخل البلاد. وفي الوقت نفسه لا يعبر الأسد عن اهتمام بالدبلوماسية، حيث يقول صديق لعائلته: “لم يتغير موقفه منذ اليوم الأول”.
وبعد عقدين في السلطة، أثبت نظام الأسد تصميما على البقاء، ولا يعرف الموالون وعمال الخدمة جهة أخرى تدفع لهم الشيكات. وتقوم الشرطة السرية بقمع التظاهرات الشاذة، أما الجيش فيواصل ضغطه على إدلب.
وانتهت فترة ولاية الأسد الثانية، حيث قيل إنه يخطط لانتخابات مهزلة جديدة. ويقال إنه وزوجته أسماء يحضران ابنهما حافظ البالغ من العمر 18 عاما لتسلم السلطة.
وتختم المجلة بالقول: “بالنسبة لعائلة الأسد، فمجرد البقاء في السلطة هو انتصار”.
القدس العربي
——————————————-
حافة الهاوية في الاقتصاد السوري وثمن بقاء الأسد على الكرسي/ د. محمد حاج بكري
الدور الأساسي في حياة المجتمع يلعبه الاقتصاد وهو علم متكامل يرصد الظواهر بكافة أنواعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية العسكرية ويظهر أسباب الفشل والنجاح.
خلال نصف قرن مضى لم يملك الاقتصاد السوري فلسفة ورؤية اقتصادية ولم يعتمد على خطط وأساليب علمية وكان اهتمام السلطة ممثلا بآل الأسد محددا بأسئلة تتعلق حول كيف نسرق، ومتى وكيف نستثمر، وأين وعن طريق من؟
المصاعب الهيكلية
وما يحدث اليوم من دمار اقتصادي هو نتيجة حتمية للتعبير عن المصاعب الهيكلية والفساد الذي رافق الاقتصاد منذ عقود من الزمن من ضعف للإنتاجية ونمو هش وقيمة مضافة غير مؤثرة.
العبارات الرنانة التي يطلقها رئيس النظام ومساعدوه لا تخفي الواقع المر الذي يعيشه الشعب السوري فقد صنفت سوريا البلد الأفقر في العالم، ويعود ذلك كله إلى استراتيجية الدمار والخراب التي اتبعها بشار الأسد في حربه على شعبه ورفضه التنازل لمطالبه، ليخلف بسياسته أزمة اقتصادية خانقة، تتفاقم يوما بعد يوم ليصل الاقتصاد إلى مرحة الهاوية أو حافة الهاوية في أحسن تقدير.
وهذا بإجماع معظم التقارير الدولية والخبراء وملامح هذا الانهيار والمأساة الإنسانية التي يعيشها الشعب السوري تزداد حدة كل يوم حتى انهارت الخدمات وغابت تماما الحاجيات الضرورية من ماء وكهرباء وغاز ونفط وطعام وأمان، وأصبح عنوان العنف والإرهاب شعار الحياة.
إدارة خطر الإفلاس
ينتقل النظام في سوريا اليوم من الانكشاف إلى الانكماش، ومن إدارة الأزمة إلى إدارة خطر الإفلاس، ومن نتائجه المحققة المديونية وبيع أصول البلد، ورهن ثرواتها إلى روسيا وإيران، وفقدان القدرة على خلق الثروة وفرص العمل والانكماش وتعاظم الفجوة المالية والعجز في الميزانية وانعدام الاستثمار والأعمال، وغياب العدالة الاجتماعية وإفلاس الخزينة، وتبخر الاحتياطي النقدي وتعطل عملية الإنتاج وعدم وجود قدرة تشغيلية، والواردات أكثر من الصادرات التي أصبحت معدومة، وعجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري والتضخم وتدهور سعر الصرف، وطباعة عملة دون رصيد، مما انعكس على زيادة الأسعار بشكل جنوني، والبطالة وعسكرة المجتمع السوري، وتدني مستوى دخل الفرد واختلالات هيكلية وبنيوية في الاقتصاد ناجمة عن التخبط في القرارات الاقتصادية واعتماد مبدأ الجباية كحجر أساسي لإيرادات الحكومة وتحول المواطنين إلى شراء الدولار والذهب، وقانون سيزر، وكورونا بالإضافة إلى أن السلة الغذائية والحيوانية والمائية والنفطية في سوريا معظمها خارج السيطرة، والفساد وظهور المافيات التجارية، وتفشي ظاهرة المخدرات والدعارة، وتهريب الأموال، وهجرة معظم الكفاءات وظهور برجوازية طفيلية مرتبطة بآل الأسد ومصادرة أملاك البرجوازية الوطنية التي بنت نفسها ببراعتها الاقتصادية، والفقر، فنحن اليوم نتربع على عرشه على مستوى العالم، وفقدان الليرة السورية وظائفها الأساسية كالإدخار والتسعير والتداول، واستشراء الفساد في مؤسسات الدولة والفوضى والتوظيف العشوائي وزيادة الرواتب دون تمويل…الخ
مصدر طباعة العملة لتمويل حرب النظام على شعبه هو مصدر سرقة، فالدخل يتآكل والمدخرات تختفي أمام التضخم، وخاصة في أسعار السلع الرئيسية، ولا يملك الأسد أي مشاريع أو خطط قريبة أو بعيدة سوى الحرب وآثارها على كل الشعب.
لم يعد الوضع السوري قابلا للمزاودة والإنكار وحقن التخدير والتصريحات الجوفاء لا تهدئ من روع المواطن الجائع الذي يفقد قيمة مرتبه خلال ثلاثة أيام.
اليوم سوريا دولة فاشلة وضعيفة ولا تملك السيطرة الفعلية على أراضيها ومنافذها الحدودية، وهي مستباحة، وفقدت قدرة التحكم على جيشها، ولا تستطيع توفير الخدمات لشعبها، ولا تملك حق اتخاذ القرارات وتطبيقها، وغير قادرة على التفاعل الدولي والإقليمي. الحل الوحيد الذي يملكه الأسد وشبيحته هو إقناع الشعب على التفاوض من أجل فتح باب الهجرة، ليغادر الشعب كاملا بكل أطيافه، وهكذا يبقى الأسد على كرسيه حاكما، ويتنقل بين تعلم المهن ليصبح المزارع والطبيب والمهندس والنجار والخباز…الخ
التدخل الأجنبي
اليوم النظام عاجز عن إدارة الإنهيار الاقتصادي، ولا يستطيع الحصول على قروض خارجية من حليفيه إيران وروسيا بسبب وضعهما الاقتصادي، ولم يعد إفلاس الدولة سوى حالة واقعية مريرة والاقتصاد فقد مناعته، والبلاد فقدت سيادتها الوطنية، وهذا ما يساهم بزيادة التدخل الأجنبي وتمكنه من لقمة عيش المواطن.
لا يجد الأسد امامه سوى ممارسة المزيد من القتل والقمع والتنكيل في الشعب والرقص على الحبال الإقليمية والدولية، ليشتري لنفسه زمنا إضافيا محدودا، لكن النهاية مقبلة، وسيسقط تحت وطـأة ثقله الذاتي الذي تراكم على مدار عقود من الزمن. حرب الأسد على شعبه لها آثارها الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والإنسانية، وستبقى جروحها غائرة في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وهي كحريق ضخم داخل منزل مغلق لا يستطيع سكانه الخروج منه ولا إنقاذ محتوياته ليحترق المنزل بمن فيه، ومن خرج كان عاريا حافيا تطبيقا لشعار الأسد أو نحرق البلد.
كاتب سوري
القدس العربي
————————————-
المساعدات الإنسانية في سوريا أداة ضغط جديدة بيد النظام/ آيلا جمال
فقدَ السوريون عندما خرجوا من منازلهم ومدنهم هرباً من الاقتتال والقصف كلّ ما يملكون، وكان عليهم إعادة بناءٍ شبه مستحيلة لحياتهم. ومن شقة لائقة انتقلوا إلى خيام ومخيمات تفتقد أي شكل للحياة، وخسروا كلّ ما عملوا عليه طوال حياتهم، منازلهم والأثاث الذي اختاروه بعناية، ورتبوه بالطريقة التي تناسبهم، منتقلين إلى مدن جديدة في الداخل والخارج لا يملكون فيها عملاً، ولا منزلاً ولا رصيداً. عندها عرف السوريون ما يُدعى بالمساعدات الإنسانية أو المعونات، احتياجات يومية تبدأ بالطعام، ولوازم الخيام، والقروض الصغيرة، والدورات المهنية والدعم النفسي. انقذت هذه المعونات الكثير من العائلات من الجوع حرفياً، واستثمرها آخرون في مشاريع شخصية. للسوريين حكاية عمرها عشر سنوات مع المساعدات الإنسانية.
عن المنظمات الإنسانية وعملها
توفر هيئات من الأمم المتحدة المساعدات الإنسانية بكافة أشكالها في سوريا، إلى جانب الصليب الأحمر الدولي، والاتحاد الأوروبي. كما قدمت دولٌ مثل الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، النرويج، إيران، تركيا وروسيا.. هي الأخرى مساعدات ذات طابع انساني.
بطبيعة الحال انصبَّ الاهتمام في بداية الأزمة على تأمين أماكن آمنة للنازحين، ورفدهم بالاحتياجات الأساسية والغذاء والدعم النفسي، ليتحول شيئاً فشيئاً، ومع توقف أغلب المعارك، إلى التركيز على تنمية سبل العيش، ودعم العائلات المتضررة بمشاريع صغيرة، كما العمل على الدعم النفسي للعائلات والأطفال.
في كل مكان في سوريا هناك أثر للمساعدات. تستطيع معرفة ما عاناه هذا البلد من طريقة انتشار المعونات على البسطات للبيع، ومن الشوادر الموضوعة على سيارات مفتوحة من الخلف (“السوزوكي”)، من حقائب التلاميذ بألوانها المميزة الأزرق والأحمر على ظهور أطفالها. في سوريا تستطيع إدراك شكل المساعدات سريعاً، على الأسطح حيث ترفرف بقايا الشوادر التي كان يجب أن تكون خياماً في مكان ما من هذا العالم.
خريطة المساعدات
عرف السوريون أن من حقهم الحصول على مساعدات مجانية لكونهم سوريين وحسب، أو لأن لديهم قصص نزوح تؤكدها بعض الأوراق الثبوتية التي تدل على المكان الذي غادروه، أو حتى بسبب إعاقة في العائلة، أو عطب جسدي سببته الحرب. أكثر المساعدات انتشاراً هي الطعام بطبيعة الحال، علب كرتونية مختومة بإشارة الهلال الأحمر السوري، الصليب الأحمر الدولي أو الأمم المتحدة، تحوي داخلها طعاماً كالبقوليات والأرز والبرغل وأساسيات أخرى كالزيت والسمنة ومعجون البندورة، يكاد كلّ منزل سوري أن يحصلَ ولو مرة واحدة على هذه “الكرتونة”. هكذا باتت الكثير من طبخات السوريين تتشابه لأن الكراتين متشابهة. في مرحلة ما، باعت الكثير من العائلات مستحقاتها، أو جزءاً منها بسعر أقل من السوق، فقد بات لديها الكثير من العدس أو الحمص، وبعد استلام المعونات مباشرة من أمام المراكز المختصة، كان تجار أو باعة ينتظرون. هكذا تحولت هذه المعونات إلى مصدر رزق ماديّ كذلك.
كما انتشر نوع خاص من البسطات يبيع المعونات تحديداً. وحين توجهنا إلى إحداها، على الرغم من أن التمويل راح يصبح أقل شيئاً فشيئاً للعديد من المنظمات، إلّا أن صاحب هذه البسطة لديه كلّ أنواع المعونات الجاهزة للبيع، بدءاً من الأرز وصولاً إلى زبدة الفستق المدعمة غذائياً. وحين سألناه هل الزبدة طازجة أم باتت قديمة جداً؟ رد بثقة: “البارحة فقط وصلتنا البضاعة”، من الغريب أن يحصل هذا البائع على بضاعة جديدة، بينما لا تحصل الكثير من العائلات المحتاجة على أية معونات، حيث تتكدس أكوام المعلبات والزيت ومعجون البندورة التي كُتِبَ على أغلبها “غير مخصصة للبيع”.
لم تكن المساعدات للبشر وحسب، فقد واظبت الجارات على منح السيدة منال ما يزيد لديهن من بقوليات، أو تلك التي يكتشفن أنها فسدت وعاث الدود فيها. تقدم السيدة منال هذه البقوليات لدجاجاتها بعد نقعها ليوم كامل في الماء، هكذا استطاعت على مدى سنوات الحفاظ على الأمن الغذائي لدجاجاتها في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار الأعلاف. تسخر السيدة منال مما يحدث قائلة: “حتى دجاجاتي يحصلن على مساعدات إنسانية”.
كما قامت المنظمات الدولية والمحلية بدعم الناس لتأسيس مشاريعهم الصغيرة. تقوم هذه المشاريع الصغيرة على تأهيل أصحابها، وتزويدهم بالخبرة المطلوبة والمتابعة الدائمة، كما دعمت النساء بشكل أساسي، خاصة اللواتي فقدن أزواجهن في الحرب ونزحن إلى مدن أخرى، فاتبعن دورات مجانية في مجالات مهنية متعددة كالخياطة والتجميل وصناعة مواد التنظيف، واتجهن لاحقاً لفتح أعمالهن الصغيرة الخاصة. وعلى الرغم من قسوة الواقع إلا أن هذه الأعمال باتت تشكل جزءاً من هوية السوريين، كما فرضت حضوراً أكبر للنساء في سوق العمل، لتغدو هذه الدورات والمساعدات شكلاً من أشكال تبدّل ملامح المجتمع السوري، ودعم تغيير الأدوار بشكل طبيعي دون الشعور بغرابة ذلك، فلم يعد مستهجناً أن تجد نساءً يقمن بأعمال كانت حكراً على الرجال فقط.
السوريون يساعدون بعضهم
لم تكن المنظمات الإنسانية هي الخيار الوحيد. ففي ظل الانهيار الاقتصادي المرعب باتت تظهر هنا وهناك أصوات لأشخاص يقدمون مساعدات مادية أو عينية، وتقوم بعض هذه المبادرات على نشر الاحتياج على الفيسبوك مرفقاً بصور تثبته (تقارير طبية، صور للجسد المنهك، آجار البيت، صور للمنزل المتهالك). وحسب ثقة الناس بصاحب الصفحة الشخصية، تنهال المساعدات أو العكس. تشكل هذه المساعدات جزءاً مهماً من تأمين حاجة الناس الأكثر فقراً، لكنها تعكس في الوقت نفسه واقعاً هشّاً، حيث يعتمد الشعب السوري على بعضه البعض، ويتكل على مساعدات قد لا تتجاوز عشرة آلاف ليرة سورية يقدمها أشخاص ربما لا يكون وضعهم أفضل حالاً ممن يساعدونهم. هكذا تتم مساعدة الأهالي في تأمين احتياجات أبنائهم لدخول المدرسة، مساعدة مشردين، تسليط الضوء عليهم لتتدخل وزارة الشؤون الاجتماعية، تأمين عمليات ذات تكلفة عالية، وقد وصلت المساعدات في بعض العمليات إلى 20 مليون ليرة سورية.
من جهة أخرى، تظهر من وقت لآخر مبادرات فردية أو جماعية من اللاجئين السوريين في الدول الأوروبية، كان آخرها مبادرة تقوم على تأسيس مجموعات من 10 أشخاص يقدم كلّ شخص 10 يورو، وتتكفل كل مجموعة بعائلة سورية في الداخل. قد تكون فعالية هكذا مبادرات ضعيفة، إلا أنها تؤثر على حياة عائلات بشكل كامل. فمئة يورو تساوي حسب المصرف المركزي حوالي 130 ألف ليرة سورية، وهو رقم جيد مقارنة برواتب الموظفين التي لا تتعدى في أحسن الأحوال 50 ألف ليرة سورية.
تحكّم النظام السوري بالمساعدات
لا ينفصل هذا الجانب الإنسانيّ، ومحاولة إيصال المساعدات لمستحقيها عن التوجهات السياسية للنظام السوري. فمنذ بداية تشكل هذه المبادرات، فرضت السلطة قيوداً عليها ولعل أهمها هو إجبار المنظمات الإنسانية على الشراكة مع جهات محلية، هكذا تضمن السلطة وصولها إلى بيانات هذه المنظمات، والضغط بطرق غير مباشرة لإيصال المستحقات إلى مستفيدين دون غيرهم، وتشكيل أداة ضغط إضافية على المعارضين في الداخل. كما يتوجب على هذه المنظمات تقديم مشاريعها إلى الحكومة السورية التي توافق عليها أو لا توافق. وبطبيعة الحال تصل هذه المشاريع إلى أفرع الأمن والمخابرات، ولا يبدو من المتوقع أن توافق الجهات التي عذبت وشردت الشعب السوري على مشاريع إنسانية، وهذا مثال يوضح مدى قدرة السلطة في سوريا على التحكم بأدق تفاصيل حياة المجتمع والتضييق عليه.
من جهة أخرى، لم تملك معظم الجهات الإنسانية حق الوصول إلى المعتقلات ومراكز الاحتجاز الرسمية كما حدث مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر. بالإضافة إلى هذا، فإن القيود على حركة العاملين الأجانب فيها، أو منع حصولهم على تأشيرات، وضرورة موافقة الجهات الرسمية السورية على جميع تحركاتهم، يعرقل الوصول إلى العديد من الأشخاص الذين يُعتبرون في وضع إنساني حرج، كما حصل في الغوطة الشرقية حين تمّ حصارها من قبل السلطة القائمة بداية عام 2013، وهو حصار استمر نحو خمس سنوات.
وتغدو السلطة أكثر صرامة حين يتعلق الأمر بمتابعة الانتهاكات التي حصلت خلال النزاعات المسلحة، ومحاولة الوصول إلى السجون السورية من قبل منظمات ومؤسسات دولية.
من جهة أخرى فالمساعدات الإنسانية مهددة دوماً بالوقوع بين أيدي فاعلين لمصلحة النظام السوري، يستطيعون التصرف بها على نحو مخالف للاحتياجات الإنسانية، بالإضافة إلى قيام عدد من كبار الضباط والمسؤولين الأمنيين بوضع أيديهم عليها. وبسبب استشراء الفساد في جميع الطبقات، تُباع هذه المواد في حلقات إلى أن تعود إلى المستفيد الذي يشتريها، بعدما كان من حقه الحصول عليها مجاناً، ناهيك عن وضع العديد من نقاط التفتيش يدها على جزء من هذه المساعدات.
يشتكي العديد من المستفيدين من عدم حصولهم مثلاً على مخصصاتهم من منظمة الهلال الأحمر العربي السوري، والذي تدور حوله تساؤلات لجهة نزاهة عمله. وعلى الرغم من إنكار موظفي الهلال لكلّ ما يشاع عنهم، إلا أن هناك مشكلة تحدث في حلقات الوصل، فمثلاً تعتمد منظمة الهلال الأحمر السوري على الموزعين الذين يختارهم النظام، وهم في الغالب من أفراد حزب البعث، أو من أعضاء الفرق الحزبية المنتشرة في جميع القرى والنواحي. هؤلاء على إطلاع دقيق على هوية المعارضين في الحلقات الضيقة كالقرى والنواحي، وهم من يقدمون قوائم الناس الأشد عوزاً، ويتمكنون من منع وصول المساعدات لمستحقيها بحجة عدم استحقاقهم لها.
هكذا تكتمل حلقات الاضطهاد والقسوة، مترافقة بالضرورة مع فساد يجعل حتى العناوين الجميلة، كـ”المساعدات الإنسانية”، ملوثةً ومنتهَكة.
السفير العربي
———————————————–
ارتفاع الأسعار بسورية أكثر من 20% خلال أسبوعين/ عدنان عبد الرزاق
ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية والصناعية، بأكثر من 20% خلال أسبوعين في سورية، لكن الوتيرة وفقا لمصادر خاصة من دمشق، كانت بشكل أكبر خلال الأسبوع الماضي، بعد رفع أجور النقل ورفع أسعار المنتجات الصناعية.
وبحسب رصد “العربي الجديد” للأسعار بالعاصمة السورية من خلال مصادر خاصة، تبيّن ارتفاع الأسعار بنحو 10% خلال الأسبوع الماضي ومثلها الأسبوع الذي سبقه، ليصل سعر كيلو الأرز المصري إلى 2250 ليرة وكيلو السكر إلى 1350 ليرة وكيلو الطحين إلى 1500 ليرة والشاي إلى 15 ألف ليرة والقهوة إلى 2500 ليرة.
وتؤكد المصادر أن ارتفاع أسعار المنتجات الحيوانية كان الأعلى خلال الأسبوع الماضي، فحسب المصادر، سجل كيلو غرام الفروج 3500 ليرة ولحم الخروف 23 ألف ليرة .
وبواقع تراجع سعر صرف العملة المحلية من 2300 ليرة مقابل الدولار الأسبوع الماضي إلى نحو 2450 ليرة اليوم الأحد، فقد ارتفع سعر الذهب بالأسواق السورية بنحو 4 آلاف ليرة خلال أسبوع، ليسجل اليوم 123.2 ألف ليرة للغرام من عيار 21 قيراطاً.
الحرائق التهمت الشجر المثمر (Getty)
ورفعت حكومة الأسد الأسبوع الماضي سعر لتر البنزين المدعوم وغير المدعوم، ليصبح سعر اللتر المدعوم أوكتان 90 بـ 450 ليرة، وغير المدعوم أوكتان 90 بـ 650 ليرة، وغير المدعوم أوكتان 95 بـ 1050 ليرة، وذلك بعد رفع سعر المازوت الصناعي من 296 ليرة للتر إلى 650 ليرة بنسبة 120%.
انهيار متوقع
يقول الاقتصادي السوري حسين جميل إن “انهيار السوق السورية قادم لا محالة، بعد رفع أسعار الطاقة”، مشيرا إلى أن ” المشتقات النفطية سلع تحريضية بدأت آثارها تنعكس على أجور النقل وتكاليف الإنتاج، وبالتالي على جميع أسعار السلع والمنتجات وإن على مراحل، ستنفجر مع نهاية العام لا محالة”.
ويرى الاقتصادي السوري خلال حديثه لـ”العربي الجديد” أن الحلول معدومة اليوم، فرفع الأجور والرواتب، سينعكس سلباً على التضخم” مضيفا، أن “رفع أسعار المحروقات سيضع المعامل والشركات الإنتاجية أمام حلين، رفع الأسعار أو الإغلاق، والإغلاق هو الأرجح أمام عدم قدرة السوريين الشرائية”.
ويقول رئيس القطاع النسيجي في غرفة صناعة دمشق وريفها، مهند دعدوش، إن النتائج السلبية لارتفاع أسعار المحروقات والصرف ستنعكس على أسعار الملابس هذا الشتاء عبر ارتفاعها 3 أضعاف.
وأضاف خلال تصريحات إعلامية اليوم الأحد، أن قطاع النسيج الأكثر تضرراً من رفع سعر المازوت الصناعي، لأن 70% من كلف إنتاج المصابغ النسيجية تعتمد على المازوت والفيول، ما سيؤدي لرفع تكلفته.
من جهته، يقول الاقتصادي السوري صلاح يوسف لـ”العربي الجديد” إن المشكلة ليست برفع سعر المازوت الذي سينعكس على جميع السلع، بل وأيضاً بعدم قدرة النظام على تأمين المادة.
وأضاف أن “الصناعيين يقبلون بالسعر الجديد لأنهم كانوا يشترون لتر المازوت من السوق السوداء، بنحو ألف ليرة عندما كان سعره الرسمي 296 ليرة” متسائلا عن “السعر الجديد بالسوق السوداء اليوم بعد رفع السعر وعجز النظام عن الاستيراد”.
ويضيف الاقتصادي السوري، أن” الكارثة الكبرى هي ارتفاع أسعار المواد الغذائية، فالسوريون اليوم، يعيشون الجوع بمعنى الكلمة، لتكتمل السخرية بمنحة الـ 50 ألف ليرة التي قدمها النظام لمرة واحدة، وهي لم تعد تشتري 2 كليو غرام من اللحم أو لباسا شتويا لطفل”.
ووعدت حكومة بشار الأسد السوريين بزيادة الرواتب والأجور قبل شهرين، ليفاجأ السوريون قبل أيام، بمنحة بمقدار 20 دولاراً ولمرة واحدة، ليبقى متوسط الأجور عند عتبة 60 ألف ليرة، في حين تزيد تكاليف معيشة الأسرة، وبحسب مركز قاسيون للدراسات بدمشق، عن 600 ألف ليرة سورية شهرياً.
العربي الجديد
——————————
فلاحو سورية ينتقدون تقسيط تعويضات الحرائق/ ريان محمد
تتزايد أزمات الفلاحين المتضررين من الحرائق الكبيرة التي وقعت في ثلاث محافظات سورية هي اللاذقية وطرطوس وحمص، حيث سينتظرون ثلاث سنوات للحصول على التعويضات التي أقرها النظام.
وتم تقدير المحصول الذي التهمته النيران بـ22 ألف طن ضمنه 2.1 مليون شجرة مثمرة احترقت، في وقت يعاني الفلاحون من الفقر وفقدان مصدر رزقهم. وأعلنت الحكومة السورية أنها ستسلم نسبة 50 في المائة من قيمة التعويضات هذا العام، و25 في المائة العام المقبل والنسبة ذاتها في العام الذي يليه، بحسب تصريحات وزير الزراعة محمد حسان قطنا، لإحدى الصحف المحلية.
وقال الوزير إنه تم تحديد سعر كيلوغرام الحمضيات بـ500 ليرة سورية، وكيلوغرام الزيتون بـ600 ليرة، وأن تلك الأسعار جاءت على أساس معايير تراعي التكاليف إضافة إلى هامش ربح، كما لفت إلى أنه سيدرج الفلاحين المدينين إلى المصرف الزراعي ضمن قانون خاص لجدولة ديونهم، ما يسمح لهم بالحصول على قروض خاصة بالمتضررين من دون فوائد، ما يغطي تكلفة الأعمال الزراعية. لكن، لم تنل تلك الإجراءات رضا الكثير من الفلاحين.
المزارع أبو علي العلي (65 عاما)، قال في حديث مع “العربي الجديد”، إن “الأسعار التي تم وضعها لا تغطي التكاليف التي دفعناها على المحصول، وفوق ذلك يريدون تقسيط المبلغ على 3 سنوات، ماذا سنستفيد من المبلغ والليرة كل يوم في تراجع، والأسعار في ارتفاع دائم”. وأضاف “نحن لم نخسر محصولنا نحن خسرنا الشجر المنتج، ومنه ما كان عمره عشرات السنوات، واليوم نحتاج على الأقل 5 سنوات حتى يبدأ الشجر الجديد بالإنتاج، أي خسرنا خمسة مواسم زراعية ولو كانوا صادقين بالتعويض كانوا احتسبوا المواسم الخمسة إلى أن يصبح الشجر الذي سنزرعه منتجاً”.
من جانبه، حذر أبو غدير سليمان (44 عاما)، من أن يهجر الفلاحين أراضيهم بحثا عن باب رزق جديد، قائلا في حديث مع “العربي الجديد”، إن “الحكومة مسؤولة عن حماية المواطن وحفظ أرزاقه، ولو أنها جهزت المنطقة بفرق وحوامات إطفاء، لما حدثت هذه الكارثة، هي مسؤولة عما حدث بشكل كامل جراء تقصيرها”.
وأضاف “اليوم تتحدث الحكومة عن جدولة القروض القديمة، وتقديم قروض جديدة، أي إغراقنا بمزيد من الديون، وغالبيتنا بالأصل فقراء وغارقون في الديون، وكل عام نعاني من صعوبة تصريف المحصول والأسعار البخسة التي نجبر على بيع محصولنا بها، وكل ذلك تحت أنظار المسؤولين، وحتى تقييم الأضرار يعادل نصف السعر الرائج في السوق اليوم”.
كما اعتبر أبو حبيب غانم، أن التعويضات المقدمة من الحكومة بخسة جدا، وأضاف في حديث مع “العربي الجديد”، أن “الوزارة من الآن تقول إنها لا تملك الآليات اللازمة لإعادة تأهيل الأراضي وزراعتها، والمشكلة أن القروض الممنوحة لن تراعي ارتفاع الأسعار الدائم بين يوم وآخر، إن كان من جهة الأسمدة أو الوقود”.
—————————-
أقفاص الخبز تتمدد في دمشق..”ابن العميد” ليس وحده/ نور عويتي
يعاني النظام السوري في مناطق سيطرته من أزمة تأمين الخبز اليومي لمواطنيه، وقد بدأت هذه الأزمة قبل أشهر بسبب عجزه عن توفير الطحين.
إلا أن النظام السوري لا يزال يأبى أن يعترف بتلك الأزمة، ورغم الطوابير الطويلة الشاهدة عليها، والتي يصطف فيها الناس أمام الأفران الحكومية بالساعات لتأمين الخبز، فإن النظام لايزال مصراً على اتهام المواطن على أنه هو السبب الرئيسي في أزمة الخبز، إذ يعزو الإعلام السوري الأزمة إلى عدم وعي المواطن وثقافته المعدومة واندفاعه المفرط لتموين الغذائيات في أوقات الرخاء.
وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صورة صادمة لأقفاص حديدية وضعها النظام لتنظيم الدور بطوابير الخبز أمام أفران “ابن العميد” في منطقة ركن الدين في دمشق، يظهر داخلها المواطنون كالمسجاين.
أثارت الصورة موجة من الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، ليخرج مدير مخابز دمشق نادر اسمندر بتصريح يتهم فيه المواطنين بأنهم السبب الرئيسي الذي دفعه لوضع تلك الأقفاص لتنظيم الدور، وأكتفى بالقول: “إن ثقافة الدور غير موجودة في بلادنا، وهذه الطريقة هي لتنظيم الدور والفصل بين الرجال والنساء وجنود الجيش”.
ورغم أن الصورة التي تداولها السوريون عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لا توثّق سوى الأقفاص أمام أفران ابن العميد، إلا أن مصدراً من دمشق أبلغ “المدن” بأن عدداً من أفران في العاصمة السورية وريفها وُضعت أمامها أقفاص مشابهة، وأن أفران ابن العميد لا تنفرد بهذا المشهد، فأمام فرن الأمين في منطقة الأمين في دمشق القديمة يتم استخدام الآلية ذاتها.
هذه الصورة الصادمة لا تبدو سوى نتيجة حتمية لكل ما اقترن بأزمة الخبز منذ بدايتها؛ فالنظام السوري الذي يبدو أنه اعتاد لوم المواطن وجلده في أي مشكلة، روّج عبر إعلامه منذ بداية ظهور أزمة الخبز قبل أشهر، بأن المواطن هو من تسبب بأزمة الخبز، وأن المواطنين يشترون أكثر من حاجياتهم.
طرح النظام حينذاك أول حل لعلاج ظاهرة الطوابير اللامتناهية أمام أفران الخبز الآلي، وكانت من خلال توزيع الخبز عبر البطاقة الذكية لتنظيم الدور واحتياجات المواطنين، إلا أن هذه الوسيلة طوّعها النظام السوري سريعاً لتصبح أداة يستغل بها حاجة المواطنين بشكل أكثر فجاجة، ومن خلالها قام بتقليل عدد الأرغفة والحصص اليومية للعائلات، ليحاول كسب بعض الوقت في أزمة الطحين التي يواجهها مما خلف طوابير أكبر وزاد من معاناة الناس.
البطاقة لم تكن ذكية وفيها عيوب تقنية كثيرة تحول دون سير العملية بشكل سريع. وتشرح شاهدة تعمل في أحد تلك الأفران عن آلية عمل نظام البطاقة الذكية، فتقول: “لإتمام العملية تحتاج الأفران إلى وجود انترنت، وفي معظم الأفران تكون الشبكة سيئة بسبب وجود آليات ضخمة تعطل تواجد الشبكة، إضافة إلى بطء التطبيق ووجود عيوب كبيرة فيه، تؤدي إلى تكرار عملية السحب أو فشلها. فعلياً نحتاج ما يقارب دقيقة لإتمام العملية، وهو الأمر الذي يساهم بازدياد وقت الانتظار بالنسبة للمواطنين”.
وتعتمد كافة الأفران في تنظيم الدور على طريقة واحدة، متبعة في سوريا منذ الثمانينيات، وهي تقسيم الدور لثلاث نوافذ؛ نافذة للرجال، ونافذة للنساء، ونافذة للعسكر، علماً أن النافذة العسكرية يمنع الوقوف أمامها سوى للأشخاص الذين يمتلكون هوية عسكرية، والتي يمكن شراءها في مناطق سيطرة النظام بمبالغ مالية تصل إلى 200 دولار ويحصل من خلالها الشخص على امتيازات عسكرية أخرى كالمرور على الحواجز العسكرية من الخط العسكري السريع.
وإضافةً إلى أولوية العسكريين تأتي أولوية المعتمدين من قبل الدولة، والذين يسمح لهم بأخذ كميات كبيرة من الخبز وبيعه في مناطق آخر لا تحتوي على أفران. ولم تنظم الدولة أو الأفران منافذ خاصة لهؤلاء المعتمدين أو أوقات عمل خاصة بهم، الأمر الذي يجعلهم يقتحمون طوابير الانتظار ليأخذوا دور المدنيين ويحصلوا على كميات كبيرة من الخبز.
ويروي موظف في أحد الأفران ل”المدن” أن المعتمد “يقتحم طابور الانتظار ويأخذ ما يقارب مئة ربطة خبز دفعة واحدة، يستغرق إنتاجها ما يقارب الساعة؛ وهو الأمر الذي يخلف بعده وقت انتظار طويل لإنتاج ربطات أخرى لتلبي احتباجات المنتظرين. ولا يمكننا تركه أو تأجيل دوره، لأنه مكلف من قبل الدولة ومعه أوراق رسمية وله الأولوية”.
وفي ظل الفقر الذي ينهش معظم أفراد المجتمع السوري في الداخل، يبقى من يمتلك المال هو الأكثر حظاً، ولا يعاني من عبء تلك الطوابير، فمنذ الساعة الرابعة فجراً يبدأ المدنيون بالانتظار أمام الأفران، قبل أن تفتح وتباشر عملها ليؤمنوا خبزهم بأقصى سرعة ممكنة.
ويقول مصدر ل”المدن” من الذين يعتمدون طرقاً آخرى: “أنا مرتبط بعمل وليس لدي القدرة على الانتظار لمدة ست ساعات يومياً لتامين الخبز، لذلك ألجأ إلى المساكين الذين يعملون على انتظار الدور أمام الأفران، فأعطيهم المال والبطاقة الذكية مقابل مبلع من المال وهو 1000 ليرة سورية، وهم يقومون بإيصال الخبز إلى البيت بعد ساعات. وهناك أيضاً عدد كبير من الأطفال يعملون بانتظار دور الخبز، ويقومون بذلك مقابل مبالغ مالية متدنية جداً تصل إلى 500 ليرة فقط”
المدن
———————————
السوريون غاضبون من “أقفاص الخبز”: النظام ينقل السجون إلى شوارع دمشق/ عبد الله البشير
أظهرت صورة انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي مواطنين سوريين داخل أقفاص يترقبون فرصة للحصول على الخبز أمام أفران “ابن العميد” في دمشق، ما أثار السخط والغضب حيث اعتبرها المغردون طريقة لإهانة المواطنين وإذلالهم، عدا عن كونها نقلاً للزنازين والمعتقلات إلى شوارع العاصمة.
وصرح مدير مخابز دمشق نائل اسمندر لإذاعة “المدينة إف إم” الموالية للنظام أن “ثقافة الدور غير موجودة في سورية”، وأن “طريقة الأقفاص هي لتنظيم الدور، والفصل بين الرجال والنساء وجنود الجيش”.
واعتبر السوريون أنّ الغاية هي إهانة المواطنين في ظل أزمة الخبز التي تشهدها العاصمة دمشق، وباقي الأزمات.
ومع الانتقادات الواسعة، أزالت محافظة دمشق أمس الأربعاء هذه الأقفاص، مستبدلةً إياها بعلامات على الأرض للفصل بين المواطنين.
ومن بين المعلقين على الصورة الصحافية عالية منصور التي قالت “هذه صورة لتنظيم الدور على الخبز في دمشق، بالواقع هذه صورة سوريا الأسد الحقيقية، الوطن سجن والمواطن بالنسبة للنظام ليس إلا “حيوان” يعيش بالقفص”.
هذه صورة لتنظيم الدور على الخبز في دمشق، بالواقع هذه صورة سوريا الاسد الحقيقية، الوطن سجن والمواطن بالنسبة للنظام ليس الا “حيوان” يعيش بالقفص.. pic.twitter.com/RD5eNCur5E
— alia (@aliamansour) October 28, 2020
وغرد بسام داود على تويتر حيث كتب “لم يرتكبوا أي خطأ، سوى رغبتهم بالعيش.. هكذا يرصُّ السوريين في الأقفاص ليحصلوا على رغيف الخبز!!! *الصورة من أمام مخابز ابن العميد في دمشق”.
لم يرتكبوا أي خطأ، سوى رغبتهم بالعيش..
هكذا يرصُّ السوريين في الأقفاص ليحصلوا على رغيف الخبز!!!
*الصورة من أمام مخابز ابن العميد في #دمشق pic.twitter.com/RRcnsCcTng
— Bassam Dawood (@Bassam__Dawood) October 28, 2020
حسين فضل علق على الصورة موضحاً أن النظام السوري يعالج أزمة الخبز بعقلية أمنية، وقال في تغريدة له على تويتر “صورة أمام أفران ابن العميد في منطقة ركن الدين في دمشق لترتيب الدور والطابور لاستلام حقهم من الخبز. النظام يعالج أزمة رغيف الخبز في مناطق سيطرته بـ”عقلية أمنية” تتمثل بوضع السوريين داخل أقفاص أمام الأفران لـ”تنظيم الدور”، وذلك بعد امتداد الطوابير إلى مئات الأمتار”.
صورة أمام أفران ابن العميد في منطقة ركن الدين في دمشق
لترتيب الدور والطابور لاستلام حقهم من الخبز.
النظام يعالج أزمة رغيف الخبز في مناطق سيطرته بـ”عقلية أمنية” تتمثل بوضع السوريين داخل أقفاص أمام الأفران لـ”تنظيم الدور”، وذلك بعد امتداد الطوابير إلى مئات الأمتار. pic.twitter.com/5FtouelNlJ
— Hosen.Fadl (@HosenFadl) October 28, 2020
وأشار فراس ديبة إلى أن النظام لم يكتف من ثقافة الطوابير لإهانة السوريين، واتجه لسياسة الأقفاص، وكتب على فيسبوك موكدا أن هناك انفجارا قادما سيكون انفجار ثورة جياع “الانفجار الكبير في الداخل السوري قادم لا محالة، أسموها ثورة جياع أو ثورة ذل أو ما شئتم من تسميات، لكنها حين تنفجر لن تكون رومانسية كثورة 2011 ولن تكون مرتهنة لمصالح الآخرين كثورة 2014، ولن يكون أمام عصابة الأسد سوى شعب جائع مُهان يأكل العصابة بأسنانه وأظافره”.
أيضا كتب تامر تركماني “صورة أمام أفران ابن العميد في منطقة ركن الدين في دمشق قاموا بوضع المدنيين داخل أقفاص لترتيب الدور والطابور لاستلام حقهم من الخبز… لا أريد التصديق بأن هذا المشهد في سوريا التي دفعنا ثمن الحرية مليون شهيد وربع مليون معتقل!”.
———————–
=====================
====================
تحديث 01 تشرين الثاني 2020
———————-
هذه البلاد القاسية/ رشا عمران
“في هذه البلاد القاسية، من الأفضل لك أن تموت على أن ترقد على أسرّة مشافيها للعلاج”… هذه الجملة المؤلمة كتبها صديق يعيش في سورية، وهو يرى ما يحدث في المشافي إثر انتشار فيروس كورونا اللعين. يقول لي الأصدقاء هناك: “لو حصل وأصبنا بالفيروس، سنبقى في بيوتنا بين يدي الله. إما نشفى أو نموت بكرامتنا بعيداً عن ذلّ المشافي”. قرأت جملة الصديق هذه على صفحته على “فيسبوك”. وبالمصادفة، كان المنشور الذي يليها مباشرة صورة أمام أحد أفران دمشق، حيث تم وضع قفص حديدي ليقف فيه المواطنون في انتظار حصولهم على بعض أرغفة الخبز. من الصعب وصف المشهد في الصورة. يخيّل للناظر إليه أن من وضع القفص أراد معاقبة السوريين على حاجتهم إلى الخبز. اعتقدت لوهلة أنني سوف أقرأ في منشور لاحق لصديق يعيش في سورية “في هذه البلاد القاسية، من الأفضل لك أن تموت جوعاً على أن تقف في قفص لانتظار حصولك على رغيف خبز”. ثمّة صور أخرى للسوريين وهم يتدافعون، في ذروة كورونا، للحصول على الخبز، إذ يصبح كورونا شيئاً تافها أمام هول جوع أبنائهم، وأمام عجزهم عن تأمين أبسط حاجيات العيش. هل سيهتم من لا يجد الكهرباء والماء والخبز والمحروقات والدواء إن أصيب بفقدان حاسة الشم والذوق بسبب كورونا؟ تقول لي صديقتي التي تعيش هناك: ليت كورونا يجعلنا نفقد حواسّنا كلها بحيث لا نرى ولا نسمع ولا نشعر!
لطالما كان النظام السوري يحكم السوريين بذهنية السيد صاحب المزرعة، الإقطاعي الذي يشتري العبيد للعمل في مزرعته. لم نكن يوماً بالنسبة للنظام أكثر من عبيد. لهذا استحق “العبيد” القتل، حينما تمرّدوا على السيد مالك المزرعة، ومن لم يُقتل عوقب بأنواع عقابٍ تجعل من الموت رحمة إلهية، ومن لم يتمرّد تتم معاملته بكل طرق الإذلال. كانوا في زمن العبودية يضعون العبيد في أقفاص، ويربطونهم بسلاسل معدنية، عقاباً جماعياً على خطأ ارتكبه فرد منهم. في سورية، يفعل النظام الشيء ذاته مع من تبقّى من السوريين، إذ يربط السوريين بسلاسل الحاجة والفقر، ويضعهم جميعاً في قفص الإذلال، من قال إن القفص فقط أمام الأفران؟
“دمشق بلا خبز”.. أقرأ أيضاً هذه الجملة منتشرة على وسائل التواصل، ويا للمفارقة: أنا بكل ترف أمتنع عن شراء الخبز وعن أكله، خشية أن يزداد وزني. حتى أنا، خارج البلاد القاسية، أعيش في قفص الإحساس بالذنب وتأنيب الضمير.
” دمشق بلا خبز”.. في مصر يسمّون الخبز “عيش”. وأظن أن التسمية هذه هي من “العَيش”، أي الحياة، وإذ لطالما كان الخبز، وفي جميع حضارات البشرية، طريقة لتجنب الموت من الجوع. “أعطنا خبزنا كفاف يومنا” يقول المسيحيون في صلاتهم الصباحية. و”ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان…”. ونقول إن بيننا وبين شخص ما “خبز وملح”، أي بيننا تفاصيل حياة التنكر لها نوع من النذالة. يرتبط الخبز بالحياة وبالنبل أيضاً. علّمنا أهالينا حين كنا صغاراً إن وجدنا قطعة خبز مرميةً على الأرض أن نرفعها ونقبلها على وجهيها، ثم نلصقها قليلاً على جبيننا، نوعاً من الاحترام، ونضعها في مكان مرتفع، كي لا تطأها الأقدام، فالخبز نعمة ولا يجوز إهانة النعمة.
“في هذه البلاد القاسية لا يوجد خبز”.. لا أعرف إن كان سيقرأ أحدهم في زمن بعيد قادم جملة كهذه، كتبها سوريٌّ ما يعيش في سورية في عام كورونا، ويكمل جملته، وهو يهزأ من كورونا، الذي تعيش البشرية كلها في قفص الخوف منه. تُرى ماذا سيقول من سيقرأ جملة كهذه بعد خمسين عاماً مثلاً؟ هل سيصدّق أن بلداً لا يوجد فيه خبز، لا يهتم سكانه بفيروس قاتل مثل كورونا؟ هذه البلاد القاسية أنجبت بشراً يشمتون بإخوتهم الذين لا يجدون لقمة عيشهم. هذه البلاد القاسية أنجبت بشراً يشمتون بموت إخوتهم. هذه البلاد القاسية أنجبت قتلة وفجرة، مثلما أنجبت طيبين ونبلاء. هذه البلاد القاسية لا تترك أحداً خارج القفص، حتى لو صار في آخر الأرض.
“هذه البلاد القاسية بلا خبز”.. سيقرأها أحدهم: “هذه البلاد القاسية بلا حياة”.
العربي الجديد
————————————-
سوريا في صورتين: أقفاصٌ لخبزِ الفقراء وطابورٌ لشراء “الآيفون”/ كارمن كريم
كيف تحصل شركةٌ حديثةٌ على الهاتف قبل أيّ بلد آخر، كدول الخليج؟ وهي شركة عائدة لزوجة رئيس النظام السوريّ تحت غطاء رجل الأعمال خضر طاهر والذي برز بشكل مفاجئ على ساحة الاقتصاد السوريّ.
الحدث: بيعُ أوّل دفعة من إصدارات هاتف شركة “آبل” الجديد بعد 10 أيام من الإعلان عنه. الشركة المستوردة: “إيماتيل” للأجهزة الذكية، المكان: دمشق وقريباً في المحافظات السورية الأخرى، الجهة التي تعود لها الشركة المستوردة: أسماء الأسد، زوجة رئيس النظام السوريّ.
لو مرَّ هذا الخبر في مكان آخر غير سوريا لبدا خبراً عادياً، لكنه في الحالة السورية يثير كماً من الأسئلة، أبرزها، فكيف تمكنت شركة “إيماتيل” من استيراد شحنة من هواتف “آيفون” الجديدة، iphone 12 وiphone 12 pro وسط حصار اقتصاديّ خانق جراء عقوبات قانون قيصر؟ كيف تحصل شركةٌ حديثةٌ على الهاتف قبل أيّ بلد آخر، كدول الخليج؟ وهي شركة عائدة لزوجة رئيس النظام السوريّ تحت غطاء رجل الأعمال خضر طاهر والذي برز بشكل مفاجئ على ساحة الاقتصاد السوريّ.
وصول هاتف أميركي الصنع إلى سوريا
وحال طرح الشركة الجهاز في صالة المزّة وسط العاصمة دمشق، معلنة عن حفل ضخم أقامتهُ لهذه المناسبة، راحت أسئلة كثيرة تطرح وكلّها تقود إلى مكان واحد، فمن جهة كيف يمكن استيراد جهاز هاتف أميركي الصنع بينما لا يمكن استيراد المشتقات النفطية ومواد أولية كثيرة يفاقم غيابها أزمات السوريين؟ ومن جهة أخرى، هل كان هذا الإعلان الصريح عن قدرة كثيرين الشرائية في الحصول على هاتف بهذا السعر، دليلاً على أن سوريا باتت مقسومة إلى طبقتين، غالبيةٌ من الفقراء المنتظرين في طوابير الخبز وأقلية من الأغنياء المنتظرين على طابور بيع “آيفون”؟ يباع iphone 12 بحسب شركة “آبل” ابتداء من 699 دولاراً أميركياً أي نحو 170 ألف ليرة سورية، لكن أقل سعر لدى شركة “إيماتيل” يعود إلى هاتف iphone 12 64G black الذي بيع بـ3 ملايين و660 ألف ليرة سورية، أي بزيادة مليوني ليرة سورية عن سعره الحقيقيّ. لا يخفى أن هذا السعر يدل على تصريف سعر الجهاز بحسب السوق السوداء لا بحسب السعر الذي أقره المصرف المركزيّ، إذاً إضافة إلى الطريقة المشبوهة التي أدخل بها الجهاز إلى سوريا، تقوم الشركة بالبيع بحسب دولار السوق السوداء وهو أمر مخالف للقرار الذي أصدره رئيس النظام السوري بشار الأسد القاضي بمنع التداول بسعر السوق السوداء!
أما جهاز iphone 12 pro فقد أعلنت الشركة عن سعره ابتداءً من 999 دولاراً أميركياً أي نحو مليونين و430 ألف ليرة سورية، أما بحسب شركة “إيماتيل” فقد بيع بسعر أقله 4 ملايين و797 ألفاً و500 ليرة سورية ووصل إلى 5 ملايين و550 ألف ليرة سورية، هذه الأرقام المرعبة دفعت الكثير من السوريين إلى طرح أسئلة السخرية على صفحة الشركة على “فايسبوك” عن كيفية عن وصول الهاتف إلى سوريا قبل دول الخليج، على رغم عقوبات قانون قيصر، وسخر آخرون من نفاد الكمية سائلين، إن كانت الشركة متأكدة من نفاد جهاز يبلغ سعره 5 ملايين ليرة في بلد كسوريا!
حتى الآن لا يعلم أحد كيف وصلت هذه الأجهزة إلى أحد أكثر البلدان التي تعاني من الحصار والأزمات، وكأنَّ سوريا باتت فجأة سوقاً سوداء كبيرة تجد فيها ما تشاء في حال كنتَ تملك مالاً كافياً. أمّا فرضية كون الأجهزة مزورة من شركة صينية وأن العملية برمتها قائمة على النصب على الأغنياء وتجار الحرب، فهي فرضية تبرّد قلوب الفقراء الغاضبين الذين يشاهدون من خلف شاشات هواتفهم القديمة أناساً يدفعون لشراء هاتف يبلغ سعره 5 ملايين ليرة سورية، لكن الواقع يقول إن الهوة تتعاظم بين الفقراء والأغنياء في سوريا، وتصنع فوارق طبقية واضحة تبدأ بالانتظار في طابور الخبز ولا تنتهي بالانتظار في طابور الهواتف الذكية.
أقفاصٌ للخبز
ربما بدت هذه الفوارق قابلة للنسيان أو التجاهل، لولا انتشار صورة لقفصٍ حديديّ أمام فرن “ابن العميد” في منطقة “ركن الدين” في دمشق، حشر داخله مواطنون سوريون ينتظرون للحصول على ربط خبز. انتشرت الصورة بعد أيام من خبر نفاد كمية الهاتف الجديد. لم يصدق كثيرون الصورة، كيف يمكن أن يُحشر الناس بطريقة غير إنسانية تهين كرامتهم في قفص حديديّ للوصول إلى ربطة خبز في آخر النفق. بدت الصورة وكأنها من كوكب آخر، من فيلم عن حبس العبيد، لكن الأمر كان قريباً جداً، ومَن في القفص ليسوا عبيداً إنما سوريون لهم أبناء، سوريون لهم آباء وعائلات تنتظر ربطة الخبز التي لن يحصلوا عليها إلّا داخل القفص. ويبدو أن الحادثة ليست جديدة لكن للمرة الأولى يتم تصوير القفص، فقد أعلن كثيرون أن هذه الأقفاص موجودة في عدد من الأفران في دمشق.
مظاهر البؤس والتي تقابلها مظاهر البذخ التي باتت تطفو على السطح تظهر الهوة القاسية التي يعانيها الفقراء أمام الأغنياء، ففي أماكن ليست ببعيدة يسهر البعض في البارات ويدفعون ثمن مشروب أو اثنين مبلغاً يكفي عائلة فقيرة لشهرٍ، وبينما تمرُّ سيارة يصل سعرها إلى مئة مليون، تمر خلفها سيارة مفتوحة (سوزوكي) تحوي عشرات الأجساد ونساء ينظرن إلى سيارة تمر مسرعة. كانت هذه الفوارق أقل اتساعاً وتأثيراً ولا يمكن بطبيعة الحال اعتبار الثراء تهمة، لكن تعاظم هذه الهوة بات يشكل ضغطاً إضافياً على الفقراء الذين يدركون أن معظم الأغنياء هم من تجار الحرب والمسؤولين، يعلم السوريون أن هذا التفاوت يمكن أن يوجد في أيّ مكان آخر لكن إن تحدثنا عن 82 في المئة من السوريين الذين يرزحون تحت خط الفقر فسيشكل 18 في المئة حالة استثنائية، حيث مظاهر غريبة ورفاهية لا يستطيع الفقير والجائع فهمها.
القفص ليس حادثة حصلت وحسب، إنه مشهد صغير من مشاهد مظالم النظام الكثيرة،
قدّر لذاك المشهد أن تلتقطه صورة ويراها العالم ويصيبه الذهول.
أحياء دمشق مقسمة بمعظمها تبعاً للطبقة الاجتماعية وهذا التحول الديموغرافي في تشكيل هوية السكان الاقتصادية ليس بجديد، ساعدت على تعميقه الحواجز العسكرية التي منعت دخول أشخاص ليسوا من الحيّ إليه كما حصل في حيّ “المالكي” الذي يقطنه عدد من المسؤولين وتزنره حراسة أمنية مشددة، فيمنع الدخول لأي كان.
تستطيع اليوم أن ترى أحياء فارهة يجاورها تماماً حيّ بائس، فقراء لا يجرأون على تخطي حدود حيهم، لكن مجرد المرور قرب شركة “إيماتيل” مصادفة ورؤية طابور انتظار الهاتف الذكي، يدفع الفقراء إلى التساؤل، من أين يجلب الأغنياء أموالهم؟ وكأنهم يدركون فجأة الهوة التي تفصلهم عن أثرياء البلد.
كلّ سوريّ داخل قفص
لمداراة الفضيحة بعد انتشار صورة القفص، صرح مدير مجلس محافظة دمشق خالد الحرح لإذاعة “شام أف أم” قائلاً: “كرامة المواطنين من كرامتنا، وصورة “الأقفاص” المتداولة هي عبارة عن مقاطع معدنية وضعت لتنظيم الدور خلال فترة كورونا للحد من المسافة بين الأشخاص على الدور، وليس بغرض الإهانة أو الإساءة للمواطنين، أو المس بكرامة أي شخص، ونحن مستعدون لإزالتها فوراً، وتحسين المظهر الخاص بها، فالغرض منها بالأساس هو تنظيم الدور على الأفران”، لتسارع محافظة دمشق بعد موجة الغضب إلى إزالة الأقفاص واستبدالها برسم دوائر لتنظيم وقوف الطابور.
قد يبدو الحادث عرضياً وخطأ قد يقع، في زحمة السعي إلى ما هو أسمى أي تنظيم الدور وخوف النظام على مواطنيه من “كوفيد 19″، لكن الحقيقة المؤلمة هي أن كلّ سوريّ رأى نفسه داخل القفص، وانتابه الغضب من الاحتجاز الذي يعيشه خلال الانتظار في الطوابير وداخل المعتقلات، وعلى الحواجز. إنه الاحتجاز الذي يتعايش معه في كلّ يوم، لكن أن يوضع في الهواء الطلق أمر يشي بخبث النظام ومؤسساته التي بررت الأمر بعدم المواطنين امتلاك ثقافة الطوابير. نعم الشيء الوحيد الذي يحتاجه السوريون اليوم هو ثقافة الطوابير، ليدركوا حدود يومهم الضائع بانتظار الخبز والوقود والأحلام. وسط النعيم السوريّ لا ينقص الفقراء سوى ثقافة الطابور، التي صنع لها المسؤولون أقفاصاً ليتعلمها السوريون جيداً، متناسين أن ما ينتظرونه في طابور طويل ليس هاتفاً ذكياً يبلغ سعره 5 ملايين ليرة سورية إنما ربطة خبز بمئة ليرة وحسب.
وما بين الفقر المدقع الذي يعانيه معظم السوريين والثراء الفاحش الذي ينعم به أشخاص بعينهم، يظهر قفصٌ حديدي يختصر الأزمة السورية منذ سنين، الخوف الذي كبُر معه السوريون، الخوف من الاعتقال ومن الجوع ومن عدم الحصول على ربطة خبز، القفص ليس حادثة حصلت وحسب، إنه مشهد صغير من مشاهد مظالم النظام الكثيرة، قدّر لذاك المشهد أن تلتقطه صورة ويراها العالم ويصيبه الذهول.
درج
————————–
بعد قرار النظام برفع سعر الخبز.. السوريون يتلقون ضربة جديدة في قوت يومهم/ منتصر أبو نبوت
وصل إلى مخبز المَزّة في العاصمة السورية دمشق منذ الساعة السادسة صباحا، فقد اعتاد المواطن السوري ياسر السرحان أن ينطلق باكرا حتى يحصل على مخصصاته من الخبز بأسرع وقت منذ بداية الأزمة المتعلقة بالقمح في مناطق النظام السوري، فالطوابير الجديدة التي تأخذ أوقاتا طويلة يوميا من السوريين انتقلت من الوقود إلى الخبز الذي لم يعد متوفرا بسهولة في جميع المحافظات السورية التي تعيش تحت سلطة النظام السوري.
رفع السعر
لم يتمكن من الحصول على ما يريده من الخبز قبل 3 ساعات ونصف الساعة قضاها في الطابور، إذ يقول ياسر السرحان خلال حديثه للجزيرة نت إن تلك المدة التي تعتبر طويلة جدا في دول أخرى، تكون متوسطة أو عادية في دمشق أثناء الأزمة الجديدة للخبز، وأكد السرحان أن كميات الخبز التي يمكنه الحصول عليها محددة باثنتين أو ثلاث، وباستخدام ما تعرف بـ “البطاقة الذكية” حصرا.
أما عن السعر فقد اعتبر السرحان أن قرار رفع السعر الذي صدر مؤخرا من وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بنسبة 100% سيزيد العبء على مصاريف عائلته فهو يحتاج للحصول على مادة الخبز فقط نحو 6 آلاف ليرة سورية من راتبه الشهري الذي يبلغ نحو 45 ألف ليرة سورية أي أقل من 30 دولارا.
وقد تحدث المواطن السوري ياسر السرحان للجزيرة نت عما وصفه بالفساد حتى في أبسط حقوق المواطن، وهو الخبز فالسعر والكمية مدعومان من “الحكومة” إذا حصل على الخبز من الفرن بشكل مباشر، لكنه أشار إلى أن معظم المسؤولين المحليين في المخابز يُخرجون كميات من الخبز إلى وسطاء يبيعونها بجانب الفرن للمدنيين بسعر مضاعف أكثر من مرتين، وقد يضطر إليها عندما يكون متعجلا ولا إمكانية للوقوف ساعات طويلة أمام المخبز.
أسباب الأزمة
رفع سعر الخبز جاء بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها سوريا، والعقوبات الاقتصادية على البلاد، بهذه الصيغة برر المدير العام للمؤسسة السورية للمخابز زياد هزاع، وقال خلال تصريحات لوسائل إعلام سورية إن هناك صعوبة في تأمين مادة القمح وتكاليف عالية حتى يتم إنتاج رغيف الخبز، بينما اعتبر يونس الكريم الباحث في الشؤون الاقتصادية السورية، أن إفلاس البنك المركزي أبرز الأسباب لأزمة الخبز فروسيا ليست لديها مشكلة في تصدير القمح للنظام بشرط أن يدفع نقدا وليس عن طريق الائتمان لعلمها أنه من بنوك محلية.
كما قال الكريم في حديث مع الجزيرة نت إن “الإدارة الذاتية” شمالي شرق سوريا لا تبيع القمح للنظام السوري بحجة قانون قيصر لكنها تريد كذلك لي ذراع النظام السوري للحصول على مكاسب سياسية.
وأضاف يونس الكريم أن المشكلة المالية في لبنان وأزمة البنوك زادت الصعوبة على النظام السوري الذي يستخدمها عادة للحصول على السلع الأساسية ومنها القمح، بالإضافة إلى تعطل ميناء بيروت الذي يعتبر طريق واردات النظام السوري.
وأشار أيضا إلى الفساد الذي يضرب جميع المؤسسات، والكميات الكبيرة التي تذهب إلى قواته والقوات الموالية له دون رقابة للكميات التي تقدر بما بين 15 و20 مليون رغيف شهريا، يتم بيع بعضها لاحقا من قبل كتائب عسكرية في جيش النظام للتجار بأسعار قليلة على أنها أعلاف للحيوانات.
السوريون يستهلكون نحو 5500 طن من الخبز يوميا حسب تصريحات مديرية المخابز السورية (الجزيرة)
الخبز السوري
يستهلك السوريون نحو 5500 طن من الخبز يوميا حسب تصريحات مديرية المخابز السورية، وقد مرّ الخبز السوري بتدرج في الأسعار منذ عام 2011 حيث كانت تبلغ سعر “ربطة الخبز” حوالي 15 ليرة سورية، في حين وصلت هذه الأيام إلى 100 ليرة، أي أن السعر تضاعف خلال أقل من 10 سنوات أكثر من خمسة أضعاف ونصف الضعف، بنسبة تزيد على 550%.
وهنا يشير يونس الكريم للجزيرة نت إلى أن هناك ترديا واضحا للزراعة السورية وصعوبات كبيرة تمر بها المحافظات الرئيسية المنتجة للقمح مثل محافظتي درعا والسويداء اللتين تنتجان 20% من احتياجات سوريا، كما يتم منع قمح محافظات شمالي شرق البلاد عن النظام التي تنتج 60% من الاحتياج العام.
وأكد أن الكمية الباقية لا تكفي احتياجات النظام، كما أن منها ما يخضع لسيطرة المعارضة، إذ تعتبر أزمة الخبز ضمن سلسلة من المشاكل الاقتصادية التي يعيشها السوريون الذين يقضون أوقاتهم طيلة الشهر بين طوابير الخبز والغاز والوقود والمواد الغذائية بمعدل دخل شهري لا يرتقي إلى أجر ساعات قليلة لموظف في دول أخرى.
المصدر : الجزيرة
————————
“صور من كلفة الحياة” في سورية: أين العجب؟/ سوسن جميل حسن
عنوان خبر مصوّر على موقع روسيا اليوم (RT) يعرض بالفيديو شجاراً بسبب خلاف على مقعد في إحدى سيارات النقل ضمن المدن، وتدعى “سرفيس” في سورية، حيث يعتدي شخص بلباس مموَّه، كلباس عناصر الجيوش في بلدان كثيرة، على رجل، ويوسعه ضرباً، لأنه صعد قبله واحتلّ مقعداً في الحافلة، بينما زوجته ترجو المعتدي أن يرأف به، لأنه مريض، تصرخ وتكرر: زوجي مريض.
صورة أخرى لرجل مسنٍّ، في رأسه جرح عميق، والدم يغطي جانب رأسه ووجهه. الصورة جرى تداولها كثيراً على مواقع التواصل وفي بعض الصحف. الرجل تعرض للعنف من شخص أمام أحد الأفران، إذ دفعه هذا الأخير وأوقعه أرضاً، وتابع ليتجاوز الدور في الطابور، ويأخذ خبزه، ثم يعود ويركب سيارته المركونة جانباً، من دون أن يحرّك فيه ساكناً أن رجلاً ربما أكبر من أبيه قد أوقعه ارضاً، وتشكل دماؤه بركة تحته، ومن بين الواقفين في طابور الرغيف مسنون.
صارت هذه المشاهد عنوان اليوميات السورية في ظل تردّي الأوضاع المعيشية إلى حدّ التهديد بلقمة الخبز، ولا يخلو الأمر من مشاهد السخرية المرّة، إذ تعرضُ بعض المقاطع المصوّرة كيف يقوم الواقفون في الطابور، أو المزدحمون، في انتظار الحصول على أرغفتهم، وهم يصفقون ويصفرون، ويعلو الهرج كلما غادر شخص حاملاً حصته بين يديه، مثلما لو أنه حصل على أكسير الحياة. من الصعب تفسير هذه الظاهرة، فهل هي ابتهاج يدلّ على التعاطف والتراحم، وأنه ما زال لدى منظومة القيم رمق لم تخنقه الحرب؟ أم يمكن فهمها بأن مغادرة أحدهم تعني اقترابهم خطوة من الظفر، والفوز بحصتهم من رغيفٍ معجون بالذل وانتهاك الكرامة، ومعه فوز بما يشبه الحياة؟ أم يصحّ بها القول: كالطير يرقص مذبوحاً من الألم؟ فتراهم يقابلون الحياة بعبثيةٍ فائقة، كأنهم يعيشون في برزخ يعتصر أرواحهم، ويسلبهم القدرة على التفكير في كارثتهم، فيضحكون ذاهلين؟
في كل الأحوال، هذه اليوميات التي صارت العنوان الأساس لحياة السوريين برهان دامغ على مدى الخراب وعمق الصدوع وحجم التشظي الذي تمادى على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية أيضاً. فمقابل هذه المشاهد يزداد إشهار الأنشطة الاقتصادية الجديدة والمشاريع التي تقام، والمنشآت التي تفتح، مثلما لو أن هناك جزيرة أخرى في الأرض السورية، معزولة عمّا حولها من خراب وفقر وجوع وحرمان وأمراض. ولهذه المتاجر والمطاعم والأندية وغيرها زبوناتها في جزء منها. وفي جزء آخر، لا يمكن تبرئتها من محاولات فجّة لغسل أموال حرام، جمعها أصحابها من دم الناس وأرواحهم وأمنهم وطعامهم وصحتهم وعيشهم، فمن البديهي التساؤل والبحث عن الشريحة المستهدفة من هذه المشاريع، في وقتٍ صار فيه الحصول على أساسيات الحياة التي تقلصت إلى الرغيف وكوب الشاي وصحن الفول (أو المسبّحة)، من أصعب المهمات التي يشقى السوري في سبيلها. لكن العبثية التي يتعامل معها السوريون في أزمتهم المتطاولة المتفاقمة التي لا يلوح في الأفق حل لها وصلت إلى حدّ اللامبالاة بالموت، بعد أن خبروه بأشكالٍ لا تُحصى، والموت الحالي قد يشتركون فيه مع باقي البشر، بعدما خصّهم قدرُهم بأنواعٍ لم يشهدها التاريخ الحديث. الموت بسبب الأزمة العالمية التي فرضها مرض كوفيد – 19، وجعل العالم يتخبط في مشكلاته، وكلما حاول فتح باب للحل أغلقت في وجهه أبواب أخرى. ولن يكون السوريون في منجاةٍ، حتى لو قابلوا هذه الجائحة ومخلفاتها التي تزلزل العالم وتصيبهم هزّاتها الارتدادية، بعبثيةٍ حارقة، بل ستُضاف عوامل أخرى فوق أسباب ضنك عيشهم، وسيزداد الانهيار في ما بقي من أركان حياتهم ولم ينهر بعد، وأهمها انهيار العمران الاجتماعي والإنساني.
هل من جديد في ما يمرّ على السوريين بعد سنوات حربٍ لم ينطفئ فتيلها بعد؟ قبل ستة قرون، قال المفكر الاجتماعي ابن خلدون: من أهم شروط العمران سدّ حاجة العيش والأمن (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). وهذا ما يفسّر البون بينهم وبين العمران، عمران حياتهم ومجتمعهم. وقال أيضاً: الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها. لا، ليس من جديد، فطبائع المجتمعات تتشابه، والتاريخ الذي يراكمه البشر يكرّر نفسه من دون موعظةٍ، يستفيدون منها إلّا في ما ندر. وما هذا الواقع الذي انحدرت إليه حياة الناس في سورية إلّا نموذج لصورة نمطية، حكى عنها ابن خلدون في مقدمته، وأحاطها من كل الجوانب، منها ما يمكن اعتبارها حكمة تُروّس بها الصفحات، كي لا ينسى الناس تجارب أجدادهم “الناس في السكينة سواء، فإن جاءت المحن تباينوا”. أمّا تباين السوريين، فقد صفعنا منذ بواكير انتفاضة الشعب، وما زال التباين يزداد اتساعاً، حتى لم تسلم منه منظومة القيم والأخلاق، وازدادت العصبيات والشروخ البينية، فصدمتنا الهوة الواسعة بيننا وبين مفهوم المواطنة، وهي تتعمق اطراداً مع تراجع جودة الحياة “إن الرخاء والازدهار والأمن تساهم في الحد من العصبية، بينما الحروب والخوف والفقر والبطالة عزّزت من العصبية”، وزاد عليها أيضاً قوله بتسخير هذه النزعة العصبية “الصراعات السياسية لا بد لها من نزعة قبلية أو دينية، لكي يحفز قادتها أتباعهم على القتال والموت، فيتخيلون أنهم يموتون من أجلها”. ولو أحصينا عدد من ماتوا في هذه الصراعات بدوافع إيديولوجية وعصبية، لعرفنا حجم ماضويتنا، وبعدنا عن العصر ومفاهيمه عن الدولة والمواطنة، وأن ما سمي مشروع نهضة يُقال عنه إنه أجهض، لم يكن أكثر من محاولاتٍ غريرةٍ تحبو فوق أشواك الماضي، فنزفت وماتت، وأن معظم نضالنا كان في محاربة طواحين هواء، لم نكسب من نزالها غير فقدان اليقين ونزف العمر، بينما كان النكوص يمشي بنا باتجاه قبيلياتنا المعوّقة وهويات تجيد العنف والقتل والفتنة والتفرقة.
حياة السوريين صارت، ليس فقط في الدرك الأخير من كل شيء، بل صارت مخجلةً مخزيةً بقدر ما هي قاصرة وعاجزة وبارعة في توليد العنف والثأرية، وانتشار الفساد يدفع عامة الشعب إلى مهاوي الفقر والعجز عن تأمين مقتضيات العيش، وبداية لشرخ يؤدي إلى انهيار الدولة، كما قال، والفساد كان مقدّمة كبيرة وواسعة لما آلت إليه الأمور، لكنه استشرى أكثر في ظل الحرب، ففقد الناس البصر والبصيرة، وزاد في هذا الفقدان التضليل الذي مورس بحرفيةٍ عاليةٍ، وكان منذ البداية أحد أهم مرتكزات الحرب وأدواتها. و”عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والأفاكون والمتفيقهون والانتهازيون، وتعمّ الإشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوّش الفكر”.
هل يمكن الحديث عن دولة في سورية اليوم؟ يبدو الأمر فائق الصعوبة، وهو إشكالية ليس من السهل الخوض فيها، فكل المفاهيم تبدو أنها محققة بطريقةٍ لا نمطية أو موصوفة. ما زالت هناك مؤسسات دولة في مناطق النظام، ولو أنها لا تعمل بالطريقة المرجوّة، أو لا تؤدي الغرض المرجو منها بأبسط شكل له.
يمكن القول إن هناك ضعف سلطة الحكومة وعجزها عن بسط سيطرتها على جميع أقاليمها، ولم يعد خافياً نزوع بعض الجماعات في أماكن سيطرتها إلى المطالبة بالانفصال عن الدولة، وعزمها على إقامة كيان سياسي مستقل. وبعد عشر سنوات من الحرب في سورية، لا بد من انهيارات اقتصادية، فطبيعة الحروب من هذا النوع أنها مكلفة ومعظم الموارد تصرف على العمليات القتالية، وهي حروبٌ استنزافيةٌ لا يمكن معها إعادة إعمار المدن المهدمة، ولا البنية التحتية المتهاوية والمدمرة، كذلك لا يمكن إعادة عمران المجتمع.
لا عجب في ما سلف، فجميعه صور من واقع وصفها ابن خلدون قبل ستة قرون، لكن العجب أن يأتي الخبر “صور من كلفة الحياة في سوريا” في موقع “روسيا اليوم”، وكأن روسيا تكتشف لغزاً لم تعرفه البشرية في سورية، وكأنها لا تتحمّل ذرة من المسؤولية تجاه الشعب السوري ومآلات وطنه وحياته، بل وكأنه إنجاز حقوقي بتسليطها الضوء على هذه الحياة “المكلفة” التي يبدو أنها كلّفتها كثيراً كمشروع استثماري طويل الأمد. أنا السورية أشعر بالإهانة من هذا الخبر.
العربي الجديد
====================