شائعات وتضييق ولا أفق: ملاحظات بشأن اللجوء السوري في تركيا/ بكر صدقي
مساء الخامس من شهر تموز/ يوليو الحالي، اضطرت الشرطة التركية إلى إخلاء أسرة سورية من مسكنها في حي “هوشغور” في غازي عنتاب، لإنقاذها من تنكيل جمهرة من السكان الغاضبين الذين نفسوا عن احتقانهم بتحطيم محلات تجارية وسيارات يملكها سوريون في المنطقة.
أصل الحادثة إشاعة انتشرت بين الناس عن رجل سوري ستينيّ، تحرش بطفلة تركية من ذوي الاحتياجات الخاصة، في حديقة صغيرة أمام بيته. وساهمت مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت في سرعة انتشار الإشاعة، وفي التحريض ضد اللاجئين السوريين.
إنها مجرد حادثة أخرى من سلسلة أحداث مشابهة يتعرض لها اللاجئون السوريون في مختلف المدن التركية التي يعيشون فيها، على مدى السنوات السبع الماضية. الجديد في هذه الحادثة هو انتشار أخبارها بسرعة في وسائل الإعلام الوطنية، إضافة إلى تلك المحلية. وربما هذا ما دفع بولاية غازي عنتاب إلى إصدار بيان عن مكتبها الإعلامي بخصوص ما حصل، جاء فيه أن الضحية المفترضة لعملية التحرش اتضح أنها سورية وليست تركية، وأن فعل التحرش نفسه هو موضع شك، فلم يظهر ما يؤكد وقوعه. كما أعلن بيان الولاية (المحافظة) أنه تم إلقاء القبض على 12 شخصاً يشتبه بأنهم مسؤولون عن التحريض ضد اللاجئين السوريين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وبصورة عامة تقع الأحداث المشابهة وفقاً لسيناريو شبه موحد: السوري يقوم بعمل لا أخلاقي، فيأتي الرد من “السكان المحليين” بموجة غضب عارمة يهاجمون فيها السوريين ومحلاتهم وسياراتهم، فينكلون بهم ويحطمون ممتلكاتهم. ترتبط صورة السوري، إذاً، بالفساد الأخلاقي، فيستمد العنف الأهلي الموجه ضد اللاجئين السوريين مشروعيته من هذه الصورة. ثم تأتي الإضافات اللاحقة في تعداد سلبيات السوريين، بصورة عامة، والآثار السلبية لوجودهم في حياة السكان المحليين: من ارتفاع إيجارات البيوت، وانخفاض أجور العمال بحكم المنافسة، والعبء الذي يشكلونه على دافع الضرائب التركي، ومزاحمة السكان على الخدمات العامة أو على ارتياد أماكن الترفيه “في الوقت الذي يحترق فيه بلدهم”! أو معاكسة الشبان السوريين الفتيات التركيات على شواطئ البحر “في الوقت الذي يموت فيه الجنود الشبان في الجيش التركي دفاعاً عن سوريا”!…
قد يبدو، من السطور السابقة، أن المجتمع المحلي هو الذي لا يتقبل وجود ثلاثة ملايين ونصف المليون من اللاجئين السوريين في بلدهم، فيعاملهم بعدائية ويسعى إلى التخلص منهم، في حين تحميهم الدولة وتعاملهم بإنصاف كما في الحادثة المذكورة في مطلع المقالة. لكن الواقع أن المستوى السياسي ليس بريئاً من التعاطي السلبي مع وجود السوريين على الأراضي التركية، فضلاً عن تأثره بالرأي العام الذي يتغذى على تلك الاحتكاكات الأهلية غير المحمودة.
وإذا كان أداء أحزاب المعارضة في موضوع اللاجئين السوريين أسوأ من أداء الحكومة، فهذا لا يعفي الأخيرة من مسؤولياتها. وقد صدرت أسوأ المواقف السلبية من حزب المعارضة الرئيسي، “حزب الشعب الجمهوري”، بقيادة كمال كلجدار أوغلو الذي بلغ به الأمر، في أكثر من تصريح خلال السنوات السابقة، أن يحرض الأتراك ضد اللاجئين السوريين. وينطلق موقف هذا الحزب من خصومته لـ”حزب العدالة والتنمية”، فتشكل مواقف الحكومة البوصلة السلبية للحزب العلماني. ومن ذلك موقفه “المبدئي” المنحاز، في الصراع السوري، إلى جانب نظام الأسد، وما ينتج عن ذلك من مواقف سلبية تجاه اللاجئين الذين يعتبرهم الحزب بمثابة القاعدة الاجتماعية للمعارضة السورية، فضلاً عن الوجود المباشر لتلك المعارضة ومؤسساتها على الأراضي التركية. ويساهم أنصار الحزب العلماني في بث معطيات كاذبة بخصوص السوريين تؤجج الرفض الشعبي لـ”امتيازات” متخيلة يتمتع بها اللاجئون على حساب المواطنين الأتراك.
المستوى السياسي ليس بريئاً من التعاطي السلبي مع وجود السوريين على الأراضي التركية، فضلاً عن تأثره بالرأي العام الذي يتغذى على تلك الاحتكاكات الأهلية غير المحمودة.
أنشأ نشطاء أتراك متعاطفون مع اللاجئين السوريين منبراً إلكترونياً لرصد تلك الأخبار والمعطيات الكاذبة، أثبتوا فيها كذب كثير مما يشاع بخصوص اللاجئين، نكتفي منها بمثالين:
انتشر، على مواقع التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو يصور ما يزعم أنه اعتداء من أحد السوريين على طبيبة في أحد المستشفيات التركية.
في حين أن الحقيقة التي كشفها المنبر المذكور هي أن الفيديو يصور اعتداء رجل روسي، في حالة سكر، على طبيبة في أحد المستشفيات الروسية. وقد تم اعتقال المعتدي وتحويله إلى المحاكم.
انتشرت صورة، على وسائل التواصل الاجتماعي، عن تظاهرة مزعومة قام بها سوريون، في مدينة غازي عنتاب، رفعوا فيها شعارات تندد بابتعاد المجتمع التركي من أصول الدين، وتشكو من الفتيات التركيات اللواتي يرتدين ملابس فاضحة تؤدي إلى إثارتهم!
بنتيجة الاستقصاء الذي قام به نشطاء المنبر، اتضح أن الصورة هي لتظاهرة حدثت في اليمن قبل سنوات، وأن أي تظاهرة من هذا النوع لم تحدث في المدينة التركية المذكورة.
ولا تقتصر أصناف التحريض هذه على وسائل التواصل الاجتماعي، بل شاركت فيها وسائل إعلام وطنية أيضاً من صحف ومحطات تلفزيون زعمت، مثلاً، أن الحكومة التركية تدفع رواتب منتظمة للاجئين السوريين، في الوقت الذي توجد شرائح اجتماعية فقيرة وأخرى تحت خط الفقر، وتبلغ نسب البطالة أكثر من 10 في المئة من قوة العمل.
تتأسس على هذه المزاعم وحملات التحريض، والاحتكاكات الكثيرة التي حدثت في مدن عدة، مطالبات متصاعدة بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وبخاصة بعد التطورات المتسارعة التي شهدها الصراع السوري، حيث حقق فيها النظام، بمساندة حلفائه الروس والإيرانيين انتصارات ميدانية متلاحقة في السنتين الأخيرتين.
وإذا كانت هذه المطالبات قد اقتصرت، في السابق، على أحزاب المعارضة، وبخاصة التيار العلماني، فقد انضمت إليها أخيراً السلطة أيضاً. فقد تحدث الرئيس رجب طيب أردوغان، في اللقاء الجماهيري في غازي عنتاب، في إطار حملته الانتخابية، عن عودة 200 ألف سوري “طوعاً” إلى بلدهم، وأن البقية سيعودون أيضاً في الوقت المناسب، حين تتوقف الحرب في سوريا.
سيوضح أحد وزراء الحكومة، لاحقاً، أن الرقم المذكور يشمل جميع السوريين العائدين من مختلف البلدان، وإن كان القسم الأكبر منهم من تركيا. أما “طوعية” العودة المزعومة فهي تغطي على الأسباب الحقيقية التي دفعت ببعض اللاجئين إلى المفاضلة بين سيئ وأسوأ. فالتضييقات الإدارية على اللاجئين السوريين، وأهمها صعوبة التنقل بين المدن ومنع العمل بلا إذن عمل نظامي تحت طائلة الترحيل القسري إلى سوريا، وشح المساعدات المقدمة إلى من لا يملكون دخلاً منتظماً، وصعوبة لم شمل الأسر، وإغلاق الحدود، بشكل صارم، أمام موجات جديدة من الهاربين من الجحيم السوري، تحت تهديد إطلاق الرصاص من حرس الحدود على عابري الحدود بطريقة غير نظامية… كل ذلك من الأمور التي ساهمت في دفع قسم – صغير مع ذلك – من اللاجئين إلى العودة إلى مناطق تسيطر عليها القوات التركية، درع الفرات أو عفرين.
كذلك ضئيلة هي نسبة من استطاعوا العبور إلى البلدان الأوروبية طلباً للجوء، مقارنة مع الرقم المهول لعدد اللاجئين السوريين في تركيا، وبخاصة بعد الاتفاق المبرم مع الاتحاد الأوروبي بشأن تمويل الأخير “نظام الحماية الموقتة” الذي يختلف عن نظام اللجوء غير الموجود أصلاً في تركيا. ومن “ضيوف” يتمتعون بتعاطف التيار الإسلامي وقسم كبير من السكان، تحول السوريون في تركيا إلى “ضيوف غير مرغوب فيهم” ينتظرون مصيرهم المجهول، من غير أن يعني هذا الانتظار ألا يتحولوا إلى مادة في الصراعات السياسية الداخلية بين الأحزاب التركية، ومادة بيد الحكومة لابتزاز الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية.
قد تعطي السطور السابقة صورة إجمالية قاتمة بخصوص حالة اللجوء السوري في تركيا، فتحجب جوانب أخرى لا بد أن أخصص لها بضعة سطور. صحيح أن المجتمع التركي منغلق على ذاته، وفيه تيارات قوية معادية للأجانب والمختلفين– بمن فيهم المكونات الوطنية من كرد وعلويين ومسيحيين وغيرهم– لكن بؤر التحريض تبقى محدودة وذات صبغة أيديولوجية، في حين أن عامة الناس مسالمون ويتقبلون الوافدين السوريين بصدر رحب. يكفي التجول في بعض شوارع منطقة الفاتح أو آكسراي في إسطنبول، ليرى المرء أن شوارع كاملة قد تحولت إلى أسواق سورية، من غير أن تحدث احتكاكات عنيفة بين السكان والوافدين.
يبقى القلق على المصير هو السائد لدى سوريي تركيا، وبخاصة بعدما انتهت الانتخابات، وتتجمع في الأفق غيوم صعوبات اقتصادية قد لا يتمكن الحكم الفردي للرئيس أردوغان من مواجهة تبعاتها أو التحكم بحدودها. ومعروف أن “الآخر المختلف” يكون الضحية السهلة المستهدفة في الأزمات الاقتصادية. وفي التاريخ التركي الحديث سابقة خطيرة، بهذا الخصوص، في الخمسينات، حين هاجمت جموع الرعاع بيوت اليونانيين واليهود ومحلاتهم في إسطنبول. وسيتضح لاحقاً أن أجهزة المخابرات هي التي حرضت الرعاع المذكورين على جريمتهم التي كان من نتيجتها هروب معظم عائلات الجماعتين المستهدفتين خارج تركيا.
من نكد حظ السوريين أن النظام الذي تسبب بقتل مليون سوري وهروب نصف السكان، داخل سوريا وفي بلدان اللجوء، يحظى بحماية الغرب والروس والإسرائيليين الذين يريدون إبقاءه في الحكم، في حين يعامل اللجوء السوري، في معظم البلدان، كما لو كان وباءً خطيراً، وتصاعدت موجات العنصرية ومعاداة الأجانب في مناسبة فرارهم الجماعي من الجحيم.
درج