حكاية حلاق دمشق مع بائعات الهوى في القرن الـ18: ولادة تاريخ اجتماعي جديد/ محمد تركي الربيعو
وفقا للسرديات الشائعة عن تاريخ ظهور الحداثة في العالم العربي، فإن البواكير الأولى لهذه الحداثة قد أعلنت عن نفسها مع وصول حملة بونابرت إلى مصر، وبداية الانفتاح المتزايد على الثقافة الأوروبية.
وعلى خلفية هذه الرواية التقليدية يروم سامر عكاش أستاذ التاريخ في جامعة أدلايد في أستراليا في كتابه الصادر بالعربية «يوميات شامية: قراءة في التاريخ الثقافي لدمشق العثمانية في القرن الثامن عشر» إلى طرح رؤية مغايرة، تنطلق من فكرة أن الظهور اللافت للتغيرات الاجتماعية في المجال العام الدمشقي، بدأت في القرن الثامن عشر.
وانطلاقا من مفهوم «الحداثة المتشابكة» الذي طرحه ستيفان ويبر في كتابه حول التحولات المعمارية في دمشق العثمانية، يبين عكاش أن تطور الأحوال المعاشة في المدن الإسلامية في الولايات العثمانية الشرقية، وفي مقدمتها دمشق، لم تتوافق مع التطورات المساوقة في المدن الأوروبية وحسب، وإنما كانت في بعض الحالات سابقة وممهدة لها، كما في ظهور المقاهي مثلا والممارسات الاجتماعية والفكرية، التي غيرت التركيبة الحضرية للمدينة. وهذا لا يعني وفقا له، الحديث عن تنوير إسلامي مغاير ومواز للتنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، لأن التغيير الذي كانت تشهده المدن الأوروبية والعثمانية في الأحوال اليومية كان نتيجة تفاعل حضاري متشابك ومتداخل بين العالمين.
تُخرِج قراءة عكاش للحداثة المتشابكة الأحداثَ اليومية من عزلتها التاريخية ضمن سياقاتها المحلية، لتبرز أهميتها ضمن سياق عالمي أوسع، يعطي للمجتمعات العربية والعثمانية دورا محوريا في صناعة الحداثة بصفتها العالمية التي تبنتها مختلف الحضارات والمجتمعات الإنسانية اليوم.
الحداثة المبكرة:
ولرصد مظاهر الحداثة الدمشقية في القرن الثامن عشر، يقترح علينا عكاش قراءة تنطلق من القاعدة الشعبية ومن تفاصيل الحياة اليومية للإنسان العادي والمسجلة في صفحات مجموعة متنوعة من كتب اليوميات التي لاقت رواجا في تلك الفترة، وانتشرت بين أوساط العامة والخاصة. ولعل نص البديري، الذي نُشِر بعنوان «حوادث دمشق اليومية»، هو الأكثر إشكالية بين هذه النصوص، إذ سجل فيه تفاصيل الحياة الدمشقية على مدى واحد وعشرين عاما، بين عامي 1741 و1762.
وكانت دانا سجدي قد كشفت في دراستها حول البديري «حلاق دمشق: الثقافة الأدبية الجديدة في بلاد الشام العثمانية في القرن الثامن عشر» عن صورة شيقة من التحولات الاجتماعية في مدينة دمشق؛ إذ ركّزت بشكل خاص على دراسة الثقافة الأدبية الشعبية، التي برزت في تلك الفترة من خلال كتابات أفراد من العوام، من خارج الطبقة التقليدية للعلماء والأعيان، الذين احتكروا إنتاج الثقافة الأدبية في المجتمعات العربية، حتى ذلك الوقت. وقد كتب هؤلاء الكتاب الجدد بلغة شعبية عامية، وقدّموا روايات عن الحياة اليومية من منظور الشرائح الاجتماعية التي ينتمون إليها، معبرين بذلك عن رغبة في المشاركة الفعّالة بصناعة المعرفة في المجتمع العربي ـ العثماني.
وفي محاذاة هذا الظهور لتلك الشريحة على المستوى الأدبي، كان هناك ظهور لطبقة وسطى تنامت ثروتها ضمن التغيرات الاقتصادية، وبدأت بمضاهاة طبقة الأعيان من خلال عمارة القصور والمساجد، ووقف السبل في أرجاء المدينة. هذا بالاضافة إلى ترسيخ ثقافة التنزه واللهو في المجتمع الدمشقي، بين مختلف الطبقات، وتطور طقوسها وممارساتها الاجتماعية، من خلال عادات جديدة رافقت انتشار شرب القهوة والتدخين، وتنامي حضور النساء في فضاءات المدينة العامة.
لكن ما يشغل بال عكاش في يوميات البديري، هو أن الأخير لا يبني صورة إيجابية عن هذه التحولات الاجتماعية، بل على العكس من ذلك؛ يحاول أن يكِّون لدينا من خلال حكاياته انطباعا عاما عن هذه الأحوال الجديدة، بوصفها تعكس حالة من الانحطاط الأخلاقي والديني للمجتمع الدمشقي في تلك الفترة. ولعل من أكثر المشاهد إثارة للفضول في يومياته، هي الصورة التي يرسمها لنا حول حادثة جرت في عام 1749: «وفي تلك الأيام زاد الفساد، وظلمت العباد، وصارت بنات الهوى من النسا كتير، وفي الأسواق دايرين، وفي كل سوق نايمين بالنهار والليل. ومما اتفق في دولة أسعد باشا ابن العظم، أن واحدة من بنات الهوى، قد عشقت غلام من أبناء الترك، فمرض، فنذرت عليها إن تعافى تقرأ له مولد، ومشت في أسواق البلد، وداروا بالقناديل والغناء، والصفق بالكفوف والدق بالدفوف، والعالم وقوف وصفوف، وساروا وهم مكشوفات الوجه، مدلعات بالشعور، مدهونات الوجه، والناس تنظر لذلك، أنثى وذكر، وكان أمر يقشعر البدن مما جرى فيه من المنكر، ونحن نقول الله أكبر».
ما يثير اهتمام عكاش في هذا الوصف هو ما يتعلق بالخلفية الاجتماعية لهؤلاء النسوة المتحررات «شلكات البلد» اللواتي قدّمن هذا المشهد الاستعراضي اللافت؟ والظرف الاجتماعي الذي منحهن الجرأة على هذا الطقس الثقافي المنظم، الذي تقبله جمهور المشاهدين على ما يبدو باستمتاع.
وفي حين تقبل معظم الباحثين رواية البديري هذه بحرفها وتبنّوا موقفه، فإن عكاش يدعونا قبل تحليل هذا المشهد إلى الوقوف على شخصية وحياة البديري، للتعرف على خلفيته الثقافية وبيئته الاجتماعية والدينية. فالبديري كان ممارسا لمهنة الحلاقة، وفخورا بمهنته وبأستاذه في المهنة، الحاج أحمد الحلاق بن حشيش الذي كان يحلق في حياته لقطب زمانه صاحب المقام القدسي الشيخ عبد الغني النابلسي. من ناحية أخرى، هو ابن ثقافة شامية شعبية، كما يدل كتابه، وكما يشير هو نفسه عند ذكر وفاة مربيه الأمي، الحكواتي سليمان بن الحشيش الحكواتي رحمه الله. علاوة على ذلك، كان البديري قد نشأ في بيئة دينية محافظة ذات ميول صوفية.
بالتالي فإذا اعتبرنا ثقافته الشعبية وخلفيته الدينية الصوفية المحافظة، ومصادر رواياته بحكم مهنته، وطرق تركيبها وسردها، فعلينا من البداية ـ وفقا لعكاش ـ أن نكون حذرين في أخذ كلام البديري بكل تفاصيله وبحرفيته على محمل الجد، وفي اعتباره تصويرا امينا وحقيقيا للواقع الاجتماعي لمدينة دمشق. لأن هناك هامشا عريضا للوساطة الشخصية في صياغة الحدث، كما أن هناك هامشا أعرض لأساليب صناعة المعلومة التاريخية وتداولها في دكان الحلاقة، خصوصا أنه من الواضح أن معظم مروياته في يومياته منقولة عن آخرين في دوائره الاجتماعية المحددودة، وليس عن معاينة شخصية، وحتى لو كانت عن معاينة شخصية فإنها لا تمثل إلا منظوره الديني الشعبي المحافظ.
ومن الأسباب الأخرى التي تدفعنا إلى التحفظ في التعامل مع نص البديري، أولا، عدم تواتر أخبار انتشار الفسق وبنات الهوى في المدينة من المصادر المعاصرة له، أو التي سبقته، أو التي تلته، وهي كثيرة. فضمن نمط اليوميات، الذي ازدهر في تلك الحقبة مع تراجع الاهتمام بنمط التأريخ الإسلامي التقليدي، يلاحظ عكاش أن لدينا ستة نصوص لا تقل أهمية عن نص البديري، خمسة عن دمشق وواحد عن حلب. وكتاب اليوميات هؤلاء ينتمون إلى طوائف متعددة، ويمثلون شرائح اجتماعية مختلفة، مما يعطينا صورا وروايات متعددة للمقارنة والتحليل.
في كل تلك الروايات لا يوجد ما يؤكد رواية البديري حول انتشار بنات الهوى. فأهم نصين في المجموعة هما يوميات ابن كنان التي تنتهي في السنة التي تبدأ فيها يوميات البديري، ويوميات الأب ميخائيل بريك المعاصر للبديري، وكلاهما لا يشيران مطلقا إلى تفشي ظاهرة الفسق وبنات الهوى في المدينة. ولم يذكر ابن كنان في يومياته بنات الهوى إلا في حادثة يتيمة واحدة، اتُّهِمت فيها امرأة مجهولة بجريمة قتل وحُبِست، ولكن لم يثبت عليها الجرم، لذا فإنه من الواضح أن ابن كنان، الاستاذ الأديب المتعلم، لا يرى ما يراه البديري، الحلاق العادي العامي.
ممارسات لا أخلاقية
السبب الثاني للتحفظ هو سجلات المحاكم الشرعية التي تتضمن الدعاوى المقامة على أصحاب الممارسات اللاأخلاقية والمخلّة بالآداب العامة، ومنها العلاقات الجنسية المخالفة للشرع والأعراف، التي تشير إلى فعالية المحاكم في التعاطي مع الظواهر الشاذة والمنافية للأخلاق والشرع في المدينة، وإلى الحس الأخلاقي لدى الدمشقيين تجاه الظواهر الشاذة، وسعيهم للحفاظ على الآداب العامة في المدينة ضمن الطرق الشرعية المتاحة لهم. ومن الهوامش الغنية التي يأتي عكاش على ذكرها هنا، هو أن دراسات مهمة استندت إلى تلك السجلات وتبنت روايات البديري بظاهرها وحرفيتها بدون محاكمات نقدية لها، كدراسة عبد الكريم رافق عن الأخلاقيات العامة في دمشق القرن الثامن عشر؛ إذ يذكر رافق أن عدد الاشخاص قد بلغ (161 شخصا) نساء ورجالا، ذكِروا في 67 حالة تتعلق بالأخلاقيات العامة، على مدى 36 سنة. وإذا أخذنا متوسط الحالات في السنة، حسب الشريحة المدروسة، فإنها لا تتعدى الحالتين سنويا، كما لا يتعدى عدد المدّعى عليهم الخمسة أشخاص؟ وهذه أعداد محدودة جدا كي نبني عليها تصورات عامة، أو تعطينا انطباعا يقينيا عما يجري في المدينة.
وبناء على ذلك، يرى عكاش أن الصورة السابقة لا يمكن قراءتها بوصفها تعبّر عن انحلال أخلاقي داخل المدينة، بل عن ولادة تحولات عميقة وغير مسبوقة في المجتمع الدمشقي العثماني، أهمها الانفتاح الاجتماعي وتزايد الأجواء الاجتماعية المتغيرة وغير المستقرة؛ ومن الطبيعي أن نرى ممارسات جريئة ومواقف متنافرة، ممارسات لا تروق مشاهدها المثيرة لرجال الدين عامة، ولا لشريحة المحافظين كالبديري، لأن القيم الدينية والاجتماعية التقليدية هي الموضوعة على المحك هنا. وليس من المستبعد أن يكون هذا ما دفع البديري إلى وصفهن ببنات الهوى، لا لأنهن كن فعلا من بنات الهوى، بل لأنهن عبرن عن سلوكيات نسوية جديدة داخل المدينة.
٭ كاتب سوري
القدس العربي