صوت بشرى متفرد/ سفتيلانا ألكسيفيتش
“نحن هواء، نحن لسنا الأرض”
م. مامارداشفلى(*)
لا أعرف ما الذى ينبغى أن أتكلم عنه – عن الموت أم عن الحب؟ أم هما الشى نفسه؟ عن أى منهما ينبغى أن أتحدث.
كنا حديثى الزواج. مازلنا نسير متشابكى الأيدى حتى لو كنا فى طريقنا إلى المتجر. أحب أن أقول له أحبك. لكن لم أكن أعرف حقيقة قدر هذا الحب. ليس لدى فكرة.. كنا نعيش فى نزل محطة الإطفاء. حيث يعمل. فى الطابق الثانى، كان هناك ثلاث أزواج شباب أخر، نشترك جميعًا فى المطبخ. فى الطابق الأرضى يحتفظون بالشاحنات. شاحنات الإطفاء الحمراء. كانت تلك وظيفتة. كنت دائمًا أعرف ما كان يحدث – أين كان وكيف كان.
ذات ليلة سمعت ضجة , نظرت من النافذة فرآنى: “أغلقى النافذة وعودى إلى النوم. هناك حريق فى المفاعل. سأعود حالاً” لم أر الانفجار ذاته. فقط النيران. كل شىء كان متوهجًا، السماء كلها. نار عالية، ودخان. كانت الحرارة فظيعة ومع ذلك لم يعد.
كان الدخان المتصاعد من البوتمين المحترق يغطى السقف. فى وقت لاحق قال إن الأمر بدا مثل السير على القار. لقد حاولوا أن يطفئوا النيران. ركلوا الجرافيت المحترق بأقدامهم.. لم يكونوا يرتدون ملابسهم الثقيلة. لقد وصلوا إلى هناك فى قمصانهم ذات الأكمام. لم يقل لهم أحد. لقد تم استدعائهم للإطفاء، ذك كل ما تم.
الساعة الرابعة، الخامسة، السادسة. وفى السادسة كان يفترض أن نذهب إلى منزل والديه. لزراعة البطاطس. إنه على بعد أربعين كيلومتر من بردييات إلى سبيرزى، حيث يعيش والداه. البذر والحرث– يجب أن يعمل ذلك. تقول لى أمه دائمًا كيف أنهم لم يحبوا أن ينتقل إلى المدينة، حتى أنهم بنوا بيتًا جديدًا له هنا. لقد جند فى الجيش. خدم فى لواء الإطفاء فى موسكو. وعندما خرج، أراد أن يكون رجل إطفاء ولا شىء آخر (صمت)
فى بعض الأحيان كأننى أسمع صوته. حيًّا. حتى الصور لم يكن لها نفس التأثير علىَّ كالصوت. لم يتصل بى أبدًا.. ولا حتى فى أحلامى. أنا التى أتصل به.
الساعة السابعة. عند الساعة السابعة قيل لى إنه فى المستشفى. لكن الشرطة كانت طوقت بالفعل المستشفى. ولم يسمحوا لأحد بالمرور. فقط عربات الإسعاف. صرخ الشرطى: سيارات الإسعاف مشعة، ابتعدوا، لم أكن أنا الوحيدة هناك. كل الزوجات اللاتى كان أزواجهم فى المفاعل أمس قد حضرن. بدأت أبحث عن صديقة، كانت طبيبة فى ذلك المستشفى. أمسكت بمعطفها الأبيض عندما خرجت من سيارة الإسعاف. “خدينى إلى الداخل” فقالت “لا أستطيع. إنه فى حالة سيئة، كلهم كذلك” تشبثت بها “فقط اجعلينى أراه” فقالت “لا بأس، تعالى معى. فقط لمدة خمسة عشر أو عشرين دقيقة” رأيته. كان متورمًا تمامًا ومنتفخًا. يمكنك بالكاد رؤية عينيه “يحتاج إلى الحليب، الكثير من الحليب” قالت صديقتى “ينبغى أن يشربوا على الأقل ثلاثة ليترات لكل شخص” “لكنه لا يحب اللبن” “يجب أن يشربه الآن” الكثير من الأطباء والممرضات فى ذلك المستشفى وخاصة كبار السن، سيصابون هم أنفسهم بالمرض ويموتون. لكننا لم نكن نعلم فى ذلك الوقت.
فى العاشرة صباحًا. مات المصور شيشنوك. كان أول شخص. فى اليوم الأول. علمنا أن شخصًا آخر ترك تحت الأنقاض – فاليرا خودمشوك. لم يصلوا أبدًا إليه، فدفنوه تحت الخرسانة ولم نكن نعرف حتى أن هؤلاء لم يكونوا أول الأشخاص.
قلت: “فاسيا، ماذا ينبغى أن أعمل؟” “اخرجى من هنا! اذهبى! لديك طفلنا” لكن كيف يمكن أن أتركه؟ يقول لى “اذهبى! غادرى! أنقذى الطفل” “فى البداية أحتاج أن أحضر لك بعض الحليب وبعد ذلك سنقرر ماذا نعمل” أسرعت صديقنى تانيا كيبنوك داخلة– زوجها فى نفس الغرفة. كان أبوها معها، وهو يمتلك سيارة. ركبنا وقدنا السيارة إلى أقرب قرية من أجل الحليب. كانت على بعد 3 كيلومتر من المدينة. اشترينا ربطة من الزجاجات سعة ثلاثة ليتر. ستة، لذلك فهى تكفى الجميع. لكنهم بدءوا فى التقيؤ من الحليب. ومضوا يفقدون الوعى وعلقت لهم المحاليل. ظل الأطباء يقولون إنه قد تسمموا بالغاز. لم يقل أحد شيئًا عن الإشعاع. أغرقت المدينة بالآلات العسكرية، فأغلقت الطرق كلها، توقفت عربات الترام والقطارات عن السير. كانوا يغسلون الشوارع بالبودرة البيضاء. كنت متوجسة من الوصول إلى القرية فى اليوم التالى لشراء المزيد من الحليب الطازج. لا أحد تحدث عن الإشعاع. فقط العسكريون ارتدوا كمامات الجراحة. كانت الناس فى المدينة يحملون الخبز من المحلات. فقط أكياس مفتوحة تتدلى منها الأرغفة. كان الناس يأكلون الكيك فى الأطباق.
لم أستطع الدخول إلى المستشفى ذلك المساء كان هناك بحر من البشر. وقفت تحت نافذته، اقترب وصرخ بشىء ما نحوى. كانت لحظة يئس مطبق. شخص ما فى الحشد سمعه– سيتم أخذهم إلى موسكو الليلة. كل الزوجات جئن معًا فى مجموعة واحدة. قررنا أن نذهب معهم. دعونا نذهب مع أزواجنا! ليس لديكم الحق! لكمنا وخربشنا الجنود– كانوا بالفعل جنودًا- دفعونا إلى الخلف. عندئذ خرج الطبيب وقال نعم، لقد طاروا إلى موسكو، لكن نحتاج أن نحضر ملابسهم. الملابس التى كان يلبسونها فى المحطة احترقت. لقد توقفت الحافلات عن السير بالفعل وجرينا عبر المدينة، دنا جريا بحقائبهم لكن الطائرة كانت أغلقت بالفعل. لقد خدعونا لذلك لن نكون هناك لكى نصرخ ونبكى.
إنه الليل. على جانب الطريق. كانت هناك الحافلات، المئات من الحافلات. كانوا بالفعل يجهزون المدينة للإخلاء. وفى الجانب الآخر مئات من سيارات الإطفاء. جاءت من مختلف الأنحاء والشارع كله مغطى برغوة بيضاء. مشينا عليه ونحن نلعن ونبكى. عبر الراديو قالو إنهم يمكن أن يخلوا المدينة من ثلاثة إلى خمسة أيام. خذوا ملابسكم معكم. سيكون عليكم أن تعيشوا فى الغابة فى خيام. كان الناس مع ذلك سعداء. رحلة تخييم. نحن نحتفل بيوم مايو بنفس الطريقة، كسرا للروتين. استعد الناس لموائد الشواء.، فأخذوا معهم الشوايات. فقط النساء اللاتى أزواجهن فى المفاعل يبكين.
لا أستطيع أن أتذكر الرحلة إلى قرية والدى. كانت هكذا.. أستيقظ عندما أرى أمى “ماما. فاسيا فى موسكو. طاروا به على طائرة خاصة” لكننا انتهينا من زراعة الحديقة.
(فى الأسبوع التالى أخليت القرية) من يعلم؟ من يعلم ذلك إذن؟ فى آخر النهار بدأت أقىء– كنت حاملاً فى الشهر السادس. شعرت بالرعب. تلك الليلة حلمت أنه كان ينادينى وهو فى نومه. ليوسا ليوسنكا “لكن بعد أن مات لم يكن ينادى علىَّ فى أحلامى بعد ذلك. ولا مرة (تبدأ فى البكاء) نهضت فى الصباح وأنا أفكر فى ضرورة الذهاب إلى موسكو بنفسى. بكت أمى “إلى أين تذهبين. أنت وشأنك” لذلك أخذت معى أبى. ذهب إلى البنك وأخرج كل ما يملك من أموال.
لا أستطيع تذكر الرحلة. لم تكن الرحلة إذن فى ذاكرتى. فى موسكو سألنا أول ضابط شرطى رأيناه، أين وضعوا رجال إطفاء تشيرنوبيل، وأخبرنا. كنا مندهشين أيضًا، كان الجميع يخوفنا بأن ذلك موضوع سرى للغاية “المستشفى رقم 6 فى محطة ششكنسكيا” كان مستشفى خاصًا للأشعة. ولا يمكنك الدخول إليه بدون تصريح. أعطيت بعض النقود للمرأة عند الباب. فقالت “واصلى السير” كان على إذن أن أسأل شخصًا آخر، توسلت، أخيرًا أجلس فى مكتب رئيسة أطباء الأشعة. أنجلينا فاستيفينا بوسكوف، لكننى لم أكن أعرفها بعد. ماذا كان اسمها. لم أتذكر أى شىء، فقط أعرف أننى ينبغى أن أراه. سألتنى بشكل مباشر: “هل لديك أطفال”
ماذا ينبغى أن أقول لها؟ استطعت أن أرى بالفعل أننى فى حاجة لإخفاء حملى. لن يسمحوا لى برؤيته! من حسن الحظ أننى نحيفة، لا يمكنك حقًّا أن تقولى أى شىء.
قلت: نعم.
– كم؟
فكرت “أنا فى مسيس الحاجة لأن أقول اثنين. لو كان لدى واحد فقط، فلن تسمح لى بالدخول”
– ولد وبنت.
– إذن لست فى حاجة إلى المزيد. لا بأس. أنصتى! لقد دمر جهازه العصبى تمامًا وكذلك جمجمته دمرت تمامًا.
– “أوكيه، فكرت، لذلك سيكون مهزوزًا قليلاً”
– “أنصتى، لو بدأتِ فى البكاء، فسوف أركلك إلى الخارج فورًا. لا عناق أو تقبيل. لا تقتربى منه حتى. لك نصف ساعة”
لكننى أعلم مسبقًا أننى لن أتركه. لو خرجت، فلن يكون ذلك إلا معه. أقسمت لنفسى. دخلت، كانوا يجلسون فوق السرير يلعبون الورق ويضحكون.
تادوا: فاسيا.
استدار:
– أوه، حسنًا، الآن انتهى الأمر! حتى هنا عثرت علىّ!
بدا مضحكًا وهو يرتدى بيجاما مقاس 48 بينما مقاسية 52، الأكمام قصيرة جدًا والبنطلون قصير جدًا. لكن وجهه لم يكن وارمًا على أى نحو، لقدأعطوه نوعًا من السوائل.
قلت: أين تهرب من هذا؟
أراد أن يعانقنى.
لم تسمح لى الطبيبة فقالت: “اجلس. اجلس. لا عناق هنا”
حولنا ذلك إلى نكتة على نحو ما. وعندئذ حضر الجميع، من الغرف الأخرى أيضًا، الجميع من بريبيات. كان هناك 28 فردًا منهم جاءوا فى الطائرة. ما الذى يحدث هنا؟ كيف تسير الأمور فى المدينة؟ قلت لهم إنهم كانوا قد بدءوا فى إخلاء المدينة من الجميع، أخليت المدينة كلها لفترة ثلاثة أو خمسة أيام. لم يقل أحد من الرجال شيئًا. وعندئذ واحدة من النساء، حيث كانت هناك امرأتان، وكانت فى وردية عمل بالمصنع فى يوم الحادث، بدأت فى البكاء.
“أوه يا إلهى. أولادى هناك. مذاا حدث لهم؟”
وودت أن أكون معه وحدى ولو لدقيقة واحدة، شعر الرجال بذلك؛ اختلق كل منهم عذرًا، وخرج الجميع إلى الصالة. عندئذ عانقته وقبلته، فابتعد عنى.
– لا تجلسى بالقرب منى. هاتى مقعدًا.
فقلت وأنا أبتعد “ذلك غباء محض. هل رأيت الانفجار؟ هل رأيت ما حدث؟ لقد كنت من أول الموجودين هناك؟
– من االمحتمل أنه كان عملاً تخريبيًا. قام به شخص ما. كل الرجال يعتقد ذلك.
ذلك ما كان يقوله الناس إذن. هكذا هم يتصورون. فى اليوم التالى كانوا ينامون فرداى. كل واحد فى غرفته الخاصة، كان محظورًا عليهم الذهاب إلى القاعة، والحديث مع بعضهم البعض. فكانوا يطرقون على الحوائط بأصابعهم داش دوت داش دوت. وضح الأطباء أن لكل جسد رد فعل مختلف على الأشعة، ويختلف الأمر من فرد لآخر. حتى أنهم قاسوا الأشعة على الجدران التى تضمهم، من اليمين إلى اليسار والأرضيات تحتهم، نقلوا كل المرضى من الطابقين السفلى والعلوى. فلم يتبقَ فرد واحد فى المكان.
عشت مع صديقاتى فى موسكو ثلاثة أيام، ظللن يقلن لى: خذى البراد، خذى الطبق. خذى كل ما تحتاجين إليه. أعددت حساء الديك التركى لستة أفراد. لستة من أولادنا، رجاء الإطفاء. فى نفس الوردية. حيث كانوا جميعًا فى الخدمة تلك الليلة: باشوك، كيبنوك، تيتنوك، برافيك. نيسكورا. ذهبت إلى المتجر واشتريت معجون أسنان وفرش أسنان وصابون. لم يكن لديهم شىء من ذلك فى المستشفى. أحضرت إليهم مناشف صغيرة، نظرت إلى الخلف. نحو صديقاتى. كن خائفات، بالطبع وكيف يمكن ألا يكن، كانت هناك شائعات بالفعل، لكن مازلن يقلن: خذى كل ما تحتاجين. خذى ذلك! كيف حاله؟ كيف حالهم جميعًا؟ هل سيعيشون؟
يعيشون! (تصمت) قابلت الكثير من الناس فى ذلك الوقت. لا أتذكرهم جميعًا. أتذكر امرأة البواب العجوز، التى علمتنى. هناك أمراض لا يمكن علاجها. عليكِ أن تجلسى وتشاهدينها.
فى الصباح الباكر ذهبت إلى السوق، ثم إلى صديقاتى فى الشقة، حيث أعمل الحساء. يجب أن أباشر كل شىء ثم أطحنه. قالت واحدة: أحضرى لى عصير تفاح “لذلك جئت بست علب سعة نصف اللتر. دائمًا من أجل الستة. أسرعت إلى المستشفى ثم مكثت هناك حتى المساء. فى المساء عدت إلى المدينة. إلى متى أستطيع أن أواظب على ذلك؟ بعد ثلاثة أيام قالوا لى يمكن أن أقيم فى مسكن العاملات فى المجال الطبى على أرض المستشفى. يا إلهى!، كم هو رائع!
– لكن لا يوجد مطبخ. كيف يمكن أن أطبخ.
– لن تحتاجى إلى الطبخ بعد الآن – فهم لا يستطيعون هضم الطعام.
بدأ فى التغير. فى كل يوم كنت أقابل شخصًا جديدًا تمامًا. بدأت الحروق تظهر على السطح، فى فمه وعلى لسانه، وخديه. فى البداية كانت هناك لسعات صغيرة، ثم بدأت تكبر. خرجت فى طبقات مثل نسيج أبيض.. لون وجهه.. جسده أزرق.. أحمر.. رمادى فى بنى، ومع كل ذلك هو كل مالى! مستحيل أن أصف، مستحيل أن أكتب! أو حتى تجاوز ذلك. الشىء الوحيد الذى أنقذنى أن كل ذلك قد حدث فى سرعة خاطفة. فلم يكن هناك أى وقت للتفكير، ولم يكن هناك وقت للبكاء.
أحبه! ليس لدى فكرة عن قدر هذا الحب! كنا متزوجين حديثًا. نسير فى الشارع– يمسك بيدى، ويدور حولى ويقبلنى. يسير والناس وراءنا يبتسمون. كان المستشفى مخصصًا للذين يعانون من التسمم الإشعاعى الخطير.
أربعة عشر يومًا فى أربعة عشر ويموت الشخص.
فى اليوم الأول لى بالسكن فحصونى بجهاز الأشعة، الدوسميتر. ملابسى، الحقيبة، المحفظة، الحذاء– كانت جميعًا ساخنة، وأخذوا جميع ذلك منى. حتى ملابسى الداخلية. الشىء الوحيد الذى تركوه لى هو نقودى. فى مقابل ذلك أعطونى رداءالمستشفى مقاس 56 وحذاء مقساس 53. قالوا إنهم سيعيدون لى ملابسى– وربما لا. لأنه يمكن أن الفشل فى هذه الحالة. ذلك ما ظهرت عليه ثم جئت لزيارته. خفت منه “امرأة ما المشكلة معك” لكن كنت مازلت قادرة على إعداد الحساء له. أعددت الماء المغلى فى وعاء زجاجى وبعد ذلك وضعت فيه قطع الدجاج، قطعًا صغيرة جدًا جدًا. بعد ذلك أعطانى شخص ما وعائه. أعتقد أنها كانت عاملة النظافة أو الحارسة. شخص آخر أعطانى لوحة تقطيع، لتقطيع البقدونس. لم أستطيع الذهاب إلى السوق فى رداء المستشفى. يمكن للناس أن يجلبوا لى الخضروات. لكن كل ذلك كان بلا جدوى! إنه لا يستطيع حتى شرب أى شىء، إنه لا يستطيع حتى ابتلاع بيضة مسلوقة، لكننى أردت أن أحضر شيئًا لذيذًا!
جريت نحو مكتب البريد “فتيات” قلت لهن: “أحتاج إلى أن أتصل بوالدى فى إيفانو– فرانكوتسك حالاً! زوجى يحتضر” فهموا على الفور من أين أتيت، ومن كان زوجى، وتواصلوا معى، أبى والأخوات والأخ استقلوا الطائرة فى ذلك اليوم إلى موسكو، أحضروا لى متعلقاتى ونقودًا. كان اليوم التاسع. وكان يقول لى دائمًا: “أنت لا تعرفين كم هى جميلة موسكو هذه! بالذات فى عيد الفلانتين، عندما يطلقون الألعاب النارية. أريدك أن ترى هذا”.
كنت أجلس معه فى الغرفة. فتح عينيه وقال: “أهو النهار أم الليل”
– إنها التاسعة ليلاً
– افتحى النافذة! إنهم ينوون تشغيل أجهزة الإطفاء.
فتحت النافذة. نحن فى الدور الثامن والمدينة كلها تحتنا، كانت هناك باقة من لألعاب النارية فى الهواء.
قلت: انظر إلى ذلك؟
– قلت لك أريد أن أريك موسكو. وقلت لك إننى كنت دائمًا ما أقدم لك الزهور فى الإجازات.
نظرت بعيدًا وأتى هو بثلاث قرنفلات من تحت وسادته. لقد أعطى الممرضة نقودًا فأحضرتها له. أسرعت نحوه وقبلته
– حبيبى. ياحبى الوحيد.
بدأ يغمغم: “ماذا قال لك الأطباء؟ لا تحضنينى ولا تقبلينى”
لم يسمحوا لى بعناقه لكننى أنا.. رفعته وأجلسته. رتبت سريره. وضعت مقياس الحرارة فى فمه وأخذته وأحضرت طبقًا.. بقيت معه طوال الليل.
الشىء الطريف كان قد حدث فى الطرقة؟ وليس فى الغرفة. ذلك أن رأسى بدأت فى الدوران، استندت إلى إطار النافذة. كان الدكتور يمر فى ذلك الوقت. أمسكنى من ذراعى فجأة — أنت حامل؟
– لا لا.
كنت أخشى جدًا أن يسمعنا أحد
تنهد وقال:
– لا تكذبى.
فى اليوم جاءنى اتصال من مكتب رئيسة الأطباء، قالت:
– لماذا كذبت علىّ؟
– لم يكن هنك حل آخر. لو كنت قلت لك، لأرسلتينى إلى البيت. كانت كذبة آثمة.
– ماذا فعلت؟
– لكنى كنت معه.
سأظل أشعر بالامتنان طوال حياتى لأنجلينا فاسيليفنا جوسكوفا. طوال حياتى كلها. حضرت الزوجات الأخريات أيضًا، لكن لم يسمح لهن بالدخول. كانت معهن أمهاتهن. والدة فولويا برافيك التى ظلت تتوسل إلى الله “خدنى بدلاً منه” الأستاذ الأمريكى، الدكتور جيل– هو الذى أجرى عملية النخاع العظمى– حاول أن يخفف عنى. قال: هناك بصيص ضئيل من الأمل. ليس أكثر، لكنه قليل. هذا المخلوق قوى، هذا فتى قوى! اتصلوا بكل أقاربه. حضرت أختان له من بيلاروسيا، وأخوه من ليننجراد، وكان هناك فى الجيش. الصغرى ناتاشا، كانت فى الرابعة عشرة. كانت خائفة جدًا وبكت فى صوت عال. لكن نخاعها العظمى كان مناسبًا جدًا (صمت) الآن يمكن لى أن أتحدث عن هذا. من قبل لم أكن أستطيع. لم أتحدث عن ذلك لعشر سنوات.
(صمت)
عندما عرف أنهم سيأخذون النخاع العظمى من أخته الصغيرة “رفض بشدة” أفضل أن أموت. إنها صغيرة جدًا. لا تلمسوها” كانت أخته الكبرى لايودا فى الثامنة والعشرين من عمرها، كانت هى نفسها ممرضة. عرفت ماذا يجرى، قالت “طالما سيعيش” شاهدت العملية. كانا يرقدان كل منهما بجوار الآخر على طاولتين. وكانت هناك نافذة كبيرة فى غرفة العمليات. استغرقت العملية ساعتين من الوقت. عندما انتهوا. كانت لايودا أسوأ مما كانت عليه. كان هناك ثمانية عشر ثقبًا فى صدرها. وكان من الصعب عليها جدًا الخروج من تحت التخدير. الآن هى مريضة، ولا تصلح. كانت قوية، فتاة جميلة. لم تتزوج أبدًا. فى ذلك الحين كنت أجرى من غرفة إلى غرفة. من غرفته إلى غرفتها. لم يوضع فى غرفة عادية بعد ذلك. كان فى غرفة العلاج الحيوى، خلف ستارة شفافة. لم يكن يسمح لأحد بالدخول.
لديهم تجهيزات هناك. ليس بدون فتح الستارة يمكن لهم أن يعطوه الحقن ووضع القسطرة. كانت الستارة مربوطة بمشبك (فيلكرو). لقد تعلمت أن أستخدمها. لكن دفعتها جانبًا وذهبت إليه بالداخل. كان هناك مقعد صغير بجواره سريره. كان حالته سيئة جدًا لدرجة أننى لم أستطيع تركه ولو لثانية واحدة– كان ينادينى فى إلحاح: لويزيا. أين أنت لويزيا؟ نادى ونادى. فى الغرف الأخرى التى كان فيها أولادنا كان الجنود هم الذين يقومون بالرعاية بعد أن رفض كبار السن من التمرجية العمل مطالبين بثياب واقية من الأشعة. الجنود هم الذين كانوا يحملون الأوانى الصحية. ويمسحون الأرضيات ويغيرون الملاءات. هم الذين كانوا يفعلون كل شىء من أين جاءوا بأولئك الجنود؟ لم نكن نسأل. لكن هو- هو، كل يوم. كنت أسمع: مات. مات. تيشورا مات. تيسكورا مات. تيتنوك مات. كان الأمر أشبه بمطرقة كبيرة فوق رأسى.
كان يتبرز ما بين 25 و35 مرة فى اليوم، بدم ومخاط. ثم بدأت بشرتة فى تشقق فى ذراعيه وساقيه. صار مغطى بالدمامل. عندما أدار رأسه. كان هناك خصلة من الشعر ساقطة على الوسادة.
حاولت أن أمزح: مناسب جدًا. لم تعد فى حاجة إلى مشط. وسريعًا ما حلقوا شعره كله، فعلت ذلك له بنفسى له. أردت أن أفعل كل شىء له بنفسى, لو أمكن ذلك عمليًا لوددت أن أبقى معه طوال الأربعة والعشرين ساعة. لم أكن لأضيع دقيقة. (وقفة صمت طويلة) حضر أخى وكان مفزوعًا “لن أسمح لك بالبقاء هنا” لكن أبى قال له: “هل تعتقد أنك تستطيع أن توقفها؟ ستلقى بنفسها من النافذة! ستنفذ هابة وسط النار.”
عدت إلى المستشفى وكانت هناك برتقالة على الطاولة المجاورة للسرير. برتقالة كبيرة، وردية. ابتسم: “حصلت على هدية. خذيها” فى ذات الوقت أشارت الممرضة إلى الطبقة التى لا يمكن أن آكلها. لقد كانت بجواره لفترة من الوقت، لذلك لا يمكنك فقط أن تأكلينها، بل لا ينبغى حتى لمسها. قال: “هيا كليها، أنت تحبين البرتقال” أخذت البرتقالة فى يدى، وفى ذات الوقت أغلق هو عينيه وراح فى النوم. كانوا يعطونه دائمًا الحقن لكى ينام. نظرت الممرضة نحوى فى رعب، وأنا على استعداد لعمل كل ما يجعله لا يفكر فى الموت وحقيقة أن موته مرعب، وأننى أخاف عليه. هناك شذرات من حديث، أتذكرها. شخص ما يقول: “عليك أن تفهمى، أن هذا لم يعد زوجك بعد، ولا الشخص المحبوب، بل مادة مشعة مع كثافة عالية من السموم. ليس عليكِ أن تنتحرى. تحكمى فى نفسك” وكنت مثل شخص فقد عقله “لكننى أحبه أحبه!” هو نائم وأنا أهمس “أحبك” وأمشى فى ساحة المستشفى “أحبك” تذكرت كيف اعتدنا العيش فى المنزل. لا ينام فى الليل إلا بعد أن يمسك بيدى. تلك كانت عادته أن يمسك بيدى وهو ينام طوال الليل. لذلك فى المستشفى أمسكت بيده ولم أتركها.
ذات ليلة، وكل شىء هادئ تمامًا. ونحن وحدنا. نظر إلىَّ باهتمام شديد جدًّا وقال فجأة:
– “أريد أن أرى طفلنا بشدة. كيف حاله؟
– ماذا يمكن أن نسميه؟
-عليكَ أن تقرر أنت ذلك بنفسك.
– لماذا أنا بنفسى عندما نكون نحن الاثنان معًا.
– فى هذه الحالة، لو كان صبيًا، يجب أن يكون قاسيًا، ولو كان فتاه تكون ناتاشا”
لم أكن عندى فكرة عن مدى حبى له.. له هو. فقط هو. كنت مثل شخص أعمى لم أستطع حتى أن أشعر بالخفقان تحت قلبى. ومع ذلك كنت فى الشهر الثامن. فكرت فى هذا المخلوق الصغير الذى بداخلى، إذا ما كان محميًّا.
لا أحد من الأطباء عرف أننى كنت أقيم معه فى غرفة الإنعاش ليلاً. سمحت لى الممرضات بالدخول، فى البداية توسلن لى جدًّا: “أنت شابة. لماذا تفعلين هذا؟ ليس هذا شخصًا على أى نحو، إنه مادة مشعة. ينبغى أن تحرقا معًا” كنت مثل كلبة تجرى وراءهن. وقفت لساعات عند أبوابهن، أتضرع وأتوسل. وبعد ذلك قلن: لا بأس. أنت والجحيم. أنت غير طبيعية” فى أوقات الصباح، بالضبط قبل الساعة الثامنة حيث يقوم الأطباء بالمرور، يكن هناك فى الجانب الآخر من الستار “اجرى” لذلك أعود إلى السكن خلال ساعة. بعد ذلك من التاسعة صباحًا إلى التاسعة مساء.
لدى تصريح بالدخول. ساقاى ازرقتا من تحت الركبة” ازرقتا وورمتا، لكم تعبت.
عندما أكون هناك معه ـ لا يأتين، لكن عندما أرحل، يقمن بتصويره. بدون أية ملابس. عاريًا. مجرد ملاءة صغيرة ورقيقة فوقه. أغير هذه الملائة الصغيرة كل يوم. وكل يوم مع المساء تكون قد غطيت بالدم. أحمله وقطعًا من جلده على يدى، تلتصق بيدى، أسأله: “حبيبى، ساعدنى. اعدل نفسك على ذراعك، وكوعك، بقدر ما تسطيع. سأقوم بتسوية فراشك، أفك العقدة وأربطها.” أى عقدة صغيرة كانت قد صارت جرحًا عليه. قصصت أطفارى تمامًا حتى دميت لكيلا أجرحه عن طريق الخطأ. لا يمكن لأحد من الممرضات أن تقترب منه، وإذا احتجن إلى شىء يدعوننى.
وقد صوروه، من أجل العلم، كما قالوا، كان لابد أن أطردهم بعيدًا من هناك! كنت أصرخ! وأضربهم! كيف يجرءون؟ إنه كل ما بقى لى – إنه حبى- لو كنت فقط قادرة على إبعادهم.
أتمشى خارجة من الغرفة وداخله إلى القاعة، وأمشى نحو الأريكة، لأننى لا أراهن. أقول للمرضة التى فى الخدمة. “إنه يحتضر” وتقول لى: “ماذا كنت تتوقعين”؟ لقد تناول 1600 روتنجن، أربعمائة جرعة مميتة، أنت تجلسين بجوار مفاعل نووى” إنه كل ما بقى لى.. إنه حبى. عندما يموتون جميعًا، سيقومون بإجراء إصلاحات لهذا المستشفى. سيقشطون الجدران ويحفرون أسفل الباركية.
وبعد ذلك– الشىء الأخير. أتذكر ذلك فى ومضات خاطفة، كل شىء انكسر.
كنت أجلس فى مقعدى الصغير بجواره فى الليل عند الساعة الثامنة. قلت: فاسنكا، أنا ذاهبة لأتمشى قليلاً، فتح عينيه ثم أغلقهما. سامحًا لى بالخروج. فقط مشيت إلى السكن، صعدت إلى غرفتى، نمت على الأرض. لم أستطع أن أنام فوق السرير. كل شىء يؤلمنى بشدة، عند ذلك كانت عاملة النظافة تطرق الباب “اخرجى. أسرعى إليه. إنه ينادى عليك كالمجنون”
ذلك الصباج ناشدتنى تانيا كيبنوك “تعالى إلى المقبرة، لا أستطيع أن أذهب إلى هناك وحدى” لقد دفنوا فيتيا كيبنوك. وفولوديا برافيك. وكانا صديقين لفاسيا. وكانت عائلاتنا على علاقة صداقة. هناك صور لنا جميعًا على المبنى قبل الانفجار بيوم واحد. كان أزواجنا وسيمين جدًّا! وسعداء! كان اليوم الأخير فى هذه الحياة، كنا جميعًا سعداء. رجعت من المقبرة واتصلت بمركز الممرضات على الفور “كيف حاله” “مات منذ خمس عشرة دقيقة” “ماذا؟” “لقد كنت هنا طوال الليل. لم أغب سوى ثلاث ساعات” أسرعت نحو النافذة وبدأت فى البكاء “لماذا؟ لماذا؟” تطلعت إلى السماء وصرخت. أمكن للمبنى كله سماعه. كانوا يخشون أن يقتربوا منى ثم جئت “سأراه أكثر من مرة. أكثر من مرة. نزلت مسرعة على السلالم. كان مازال فى غرفة الإنعاش، ولم يكن قد نقلوه بعد, كانت آخر كلماته “لويزيا. لويزيكا” فقالت له الممرضة “خرجت من وقت قصير جدًّا، ستعود حالاً؟” تنهد ثم صمت. لم أكن لأتركه بعد ذلك. رافقته طوال الطريق إلى موقع المقبرة. على الرغم من ذلك فإن الشىء الذى أتذكره لم يكن مقبرة. إنه كيس من البلاستيكك. ذلك الكيس.
فى المشرحة قالوا لى: “هل تريدين أن ترى ما سنلبسه” قلت نعم. ألبسوه رداءه الرسمى مع قبعة الخدمة. لم يستطيعوا إلباسه الحذاء لأن قدميه كانتا متورمتين. وقد اضطروا لتمزيق زيه الرسمى أيضًا، لأنهم لم يستطيعوا إدخال جسده فيه، لم يكن هناك جسد كامل لإدخاله، كان كله- جراح, فى آخر يومين بالمستشفى– كنت قد رفعت ذراعه، وفى ذات الوقت كانت عظامه تهتز. كانت تتأرجح على نحو ما، حيث ابتعد الجسد عنها.. أجزاء من رئتيه، ومن كبده كانت تخرج من فمه. كان يختنق بأعضائه الداخلية. لففت يدى فى الضمادة ووضعتها فى فمه، لأخرج كل تلك الأشياء. من المستحيل أن أتحدث عن ذلك، من المسحيل الكتابة عنه. أو حتى العيش معها.. كانت تنتمى إلى. حبى. لم يتمكنوا من الحصول على الحذاء المناسب له، فدفنوه وهو حافى القدمين.
أمام عينى مباشرة- فى زية الرسمى- أخذوه ووضعوه فى كيس من السيلوفان من أكياسهم وربطوه، وبعد ذلك وضعوا هذا الكيس فى تابوت خشبى وربطوا التابوت بكيس آخر من البلاستيك، شفاف ولكنه سميك مثل مفرش المائدة. وبعد ذلك وضعوا كل هذا فى تابوت من الزنك، ضغطوه، إلا أن الغطاء لم يكن محكمًا.
حضر الجميع- والداه ووالداى. اشتروا مناديل سوداء من موسكو. اجتمعت بنا لجنة استثنائية، قالوا للجميع الشىء نفسه: من المستحيل أن نعطيكم جثث أزواجكم، أو أبنائكم لأنها مشبعة بالأشعة وسوف تدفن فى مقبرة موسكو بطريقة خاصة. فى توابيت من الزنك المختوم تحت البلاط الإسمنتى ونحتاج منكن التوقيع على هذه الوثيقة هنا.
وإذا أبدى أحد السخط وأراد أن يعود بالتابوت إلى وطنه، قالوا له إن الموتى هم الآن- كما تعرفون- أبطال، ولم يعودوا يخصون أسرهم، لقد صاروا أبطال الدولة، إنهم ينتمون إلى الدولة.
جلسنا فى عربة الموتى. الأقارب وبعض من رجال الجيش، عقيد وفرقته. قال للفرقة: انتظروا الأوامر.. سرنا فى موسكو لساعتين أو ثلاثة، حول الطريق الدائرى. عدنا إلى موسكو من جديد. أخبروا الجنود: لن نسمح لأى أحد بالدخول إلى المقبرة. يمكن أن تُهاجم المقبرة من قبل المراسلين الأجانب. انتظروا قليلاً ” لم يقل الوالدان شيئًا، مع أمى منديل أسود. أشعر أننى على وشك الإصابة بالعمى. ” لماذا يخفون زوجى ” إنه _ ماذا؟ قاتل؟ مجرم؟ من الذى ندفنه؟ قالت ماما: “اهدئى. اهدئى يا بنية ” ربتت على رأسى، نادى العقيد: “هيا ندخل المقبرة”. الزوجة أصيبت بهستريا. عند المقبرة، أحاط الجنود بنا، كنا قافلة وكانوا يحملون التابوت، لم يُسمح لأحد بالدخول. نحن فقط. فى دقيقة غطوه بالتراب “أسرع. أسرع” هكذا صرخ الضابط. لم يسمحوا لى حتى بعناق التابوت، و- فى الحافلة. كل شىء تم فى خداع.
على الفور اشتروا لنا تذاكر طيران للعودة إلى بلادنا، فى اليوم التالى. طوال الوقت كان هناك شخص معنا فى ثياب مدنية بتصرفات عسكرية. لم يسمح لنا حتى بالخروج من الفندق لشراء بعض الغذاء للرحلة. محرم علينا التحدث مع أى أحد _ خاصة أنا. كما لو كنت أستطيع الكلام حينئذ. لم أستطع حتى البكاء. عندما غادرنا، أحصت المرأة القائمة بالخدمة جميع المناشف والملاءات، طوتها على الفور، ووضعتها فى كيس بولستين، من المحتمل أن يحرقوها. دفعنا للفندق مقابل أربع عشرة ليلة. وهذا هو الزمن الذى يستغرقه موت شخص.
فى المنزل ذهبت فى النوم. مشيت فى الشقة وفقط دخلت إلى السرير. نمت لثلاثة أيام, جاءت سيارة الإسعاف. قال الطبيب “لا. سوف تصحو. إنه مجرد اضطراب فى النوم” كنت فى الثالثة والعشرين.
أتذكر الحلم الذى حلمته. جائتنى جدتى لأمى وهى ترتدى الملابس التى دفنت بها. إنها ترتدى شجرة السنة الجديدة “جدة، لماذا لدينا شجرة السنة الجديدة؟ إننا فى وقت الصيف” “لأن فاسنكا سوف يلحق بى حالاً” وترعرع فى الغابة. أتذكر الحلم. جاء فاسيا فى ثوب أبيض ونادى على ناتاشا. تلك ابنتنا، التى لم تولد بعد، لقد كبرت بالفعل. قذف بها إلى السقف وضحكا معًا. وأنا أراقبهما وأعتقد أن تلك هى السعادة– الأمر بسيط جدًّا. أنا نائمة، ونحن نسير بجوار الماء. نسير ونسير، ربما طلب منى ألا أبكى. أعطانى إشارة من هناك. (صمت لفترة طويلة)
بعد شهرين عدت إلى موسكو. ومن محطة القطار اتجهت مباشرة إلى المقبرة. وعند المقبرة بدأ يأتينى المخاض. بمجرد أن بدأت الكلام معه “استدعوا سيارة الإسعاف” كان فى الموعد نفسه الذى حددته أنجيلينا فاسيليفنا جوسكوفا لولادتى. قالت حينئذ: “تحتاجين أن تعودى إلى هنا لكى تنجبى” كان ذلك قبل الموعد المقرر بأسبوعين.
أروها لى- فجأة. “ناتشنكا” صرخت عاليًا “سماك والدك ناتشنكا” بدت بصحة جيدة. ذراعاها. ساقاها. لكنها مصابة بتليف الكبد. أظهر كبدها الإصابة بعدد 28 من وحدة قياس الأشعة وعيب خلفى فى القلب. بعد أربع ساعات قالوا لى إنها ماتت. ومرة أخرى “لن نعطيها لك. ماذا تقصدون بأنكم لن تعطوها لى؟ إنها لى. أنا التى لن أعطيها لكم! تريدون أن تأخذونها من أجل الدراسة العلمية. أكره علمكم. أكره ذلك” (صمت)
أقول دائمًا الشىء الخطأ لك. الشىء الخطأ. لا يفترض أن أحكى لك بعد الجلطة. ولا يفترض بى أن أبكى. ذلك هو السبب فى أن كل الكلام كله خطأ. لكن سأقول هذا. لا أحد يعرف هذا. عندما اشتروا لى الصندوق الخشبى الصغير وقالوا “هى هنا” نظرت. كانت قد حرقت. كانت ترابًا، وبدأت فى البكاء “ضعوها عند قدمه” طلبت.
هناك فى المقبرة لا يقال ناتاشا إجناتينكو. هناك فقط اسمه، لم يكن لها اسم بعد. لم يكن لديها أى شىء، فقط روح. ذلك ما دفنته هناك. أذهب دائمًا إلى هناك بباقتين من الورد. واحدة له والأخرى أضعها فى الركن من أجلها. زحفت حول القبر على ركبتى. دائمًا على ركبتى
(أصبحت غير مفهومة) قتلتها. أنا. هى. أنقذت. فتاتى الصغيرة أنقذتنى. تلقت الصدمة الإشعاية كلها فى داخلها. كانت بمثابة مانع الصواعق فى هذا الأمر. كانت صغيرة جدا، كانت مخلوقًا صغيرًا للغاية. (تبدأ أنفاسها فى الاضطراب) هى أنقذت.. لكننى أحبهما معًا. لأن– لأنك لا تستطعين قتل شىء ما بالحب، أليس كذلك؟ بمثل هذا الحب! لماذا هذان الشيئان معًا- الحب والموت. معًا من يعتزم أن يشرح هذا لى؟ أزحف حول القبر على ركبتى. (تصمت لوقت طويل)
فى كييف أعطونى شقة. كانت فى مبنى واسع حيث وضعوا كل الذين قدموا من المحطة الذرية، كانت شقة كبيرة بغرفتين. من ذلك النوع الذى كنا نحلم به أنا وفايسا، وكنت سأجن عليها.
مؤخرًا وجدت زوجًا، قلت له كل شىء- الحقيقة كاملة- ذلك أن لى حب وحيد طوال حياتى كلها. كل شىء، التقينا، لكننى لم أدعُه أبدًا إلى بيتى، ذلك حيث كان فايسا.
أعمل فى محل للحلويات. أصنع الكيك والدموع تسيل على وجنتى. أنا لا أبكى، لكن هناك دموعًا تتساقط.
أنجبت صبيًا، أندريكا. حاولت بعض صديقاتى أن يمنعننى: “لا يمكن أن تنجبى طفلاً” وحاول الأطباء إخافتى: “ليس لجسدك القدرة على التعامل مع هذا” ثم مؤخرًا- مؤخرًا قالوا لى إنه سيكون فاقدًا إحدى ذراعيه، ذراعه الأيمن، الأشعة أظهرته. “حسنًا وماذا فى ذلك؟” فكرت، “سأعلمه أن يكتب بيده اليسرى” لكنه أتى مكتملاً دون أى عيب.
طفل جميل. وهو فى المدرسة الآن ويحصل على درجات جيدة. الآن لدى شخص أستطيع أن أعيش معه وأتنفس عبيره. إنه ضوء فى حياتى، يفهم كل شىء تمامًا “ماما. لو ذهبت لزيارة جدتى ليومين، هل ستكونين قادرة على التنفس؟” لم أجب.أخشى اليوم الذى أتركه فيه. ذات يوم كنا نمشى فى الشارع وشعرت أننى أسقط. ذلك عندما أصبت بالجلطة الأولى. مباشرة فى الشارع “ماما. هل تحتاجين إلى ماء؟”. “لا. فقط قف بجوارى. لا تذهب إلى أى مكان” وأمسكت ذراعه. لا أتذكر ماذا حدث بعد ذلك. وصلت إلى المستشفى. لكننى أمسكته بقوة، ولذلك بالكاد استطاع الأطباء أن يفتحوا أصابعى. ظلت ذراعه زرقاء لوقت طويل. الآن نمشى خارج المنزل، يقول: “مامى فقط لا تمسكى بذراعى. أستطيع أن أذهب إلى أى مكان” إنه أيضًا مريض، أسبوعان فى المدرسة وأسبوعان فى المنزل مع الطبيب. هكذا نعيش.
(تقف، وتذهب نحو النافذة)
يوجد الكثير من هنا. شارع بأكمله، ذلك ما يسمونه- تشيرنوبيلسكايا. هؤلاء الناس عملوا فى المحطة طوال حياتهم. ومازال الكثيرون منهم يذهبون إلى هناك بين الحين والآخر، وهكذا يعملون هناك الآن. لم يعد يعيش أحد هناك. فهم مصابون بأمراض سيئة، ولا يصلحون. لكنهم لم يتركوا وظائفهم. ويخافون حتى من فكرة إغلاق المفاعل. ومن يحتاجهم الآن فى أى مكان آخر؟ غالبًا ما يموتون، فى لحظة. فجأة يقعون، يكون الواحد منهم ماشيًا، فيقع، ويروح فى النوم، ولا يستيقظ أبدًا. كان يحمل الزهور لممرضته وتوقف قلبه. هم يموتون، لكن لا أحد فى الواقع يسألنا، لا أحد يسألنا كيف نعيش. ماذا رأينا. لا أحد يريد أن يسمع عن الموت. عما يفزعهم.
لكننى كنت أحكى لك عن الحب. عن حبى.
لايودميلا إجناتينكو زوجة الإطفائى الفقيد فاسيلى إجناتينكو
* ميراب مامارداشفلى (1930– 1990) مفكر وفيلسوف روسى من جورجيا، من مؤلفاته: عمليات التحليل والتوليف 1958 وأشكال ومحتويات التفكير 1968 والرمز والوعى 1974 وسهم الإدراك وكيف يمكنى فهم الفلسفة؟ وغيرها.
ترجمة د. محمد عبدالحليم غنيم
سفيتلانا ألكسيفيتش، مثل أبطالها لا يعرفها أحد فى العالم العربى، ولم يسبق أن تمت الإشارة إليها فى الصحافة أو الأدب العربى قبل حصولها على جائزة نوبل هذا العام. وعلى العكس من ذلك فى الغرب الذى اهتم بما تكتب مع بداية القرن العشرين عندما تركت بيلاروسيا وعاشت منفية باختيارها فى أوربا (باريس وألمانيا وإيطاليا وغيرها من دول أوربا) فى الفترة من 2001 إلى 2011 م وهناك تمت ترجمة أعمالها القليلة إلى اثنتين وعشرين لغة وخاصة كتابيها: وجه غير أنثوى للحرب وأصوات من تشيرنوبيل.
ولم يتوقف الاهتمام عند الترجمة فقط، بل تم إنتاج أفلام وإعداد مسرحيات عن أعمالها، حيث عرضت فى ألمانيا وبلفاريا وفرنسا. وقد طرح اسمها للحصول على نوبل عام 2013.
وسفيتلانا ألكسيفيتش هى المرأة رقم 14 التى تفوز بجائزة نوبل فى الأدب منذ إنشاء هذه الجائزة، ولعل ما قيل فى أسباب منحها الجائزة على لسان سكرتيرة مجلس الجائزة أن كتابتها البولوفينية تعد بمثابة نصب تذكارى للمعاناة والشجاعة فى عصرنا. وهذه العبارة صحيحة إلى حدٍ كبير، فهى وإن تكتب ما يسمى بالأدب التسجيلى أو الوثائقى أو غير التخييلى (nonfiction)، مع الاهتمام بالأدب الشفاهى، حيث تجمع كل ذلك فى نصوصها، وفى ذات الوقت تبرز عبر شخوصها الحقيقيين من النساء خاصة آثار الحروب والقهر الذى تعرض له البشر فى دول الاتحاد السوفيتى سابقًا.
ففى وجه غير أنثوى الحرب تتحدث عن معاناة النساء من الحرب العالمية. وفى أطفال الزنك، معاناة النساء تتجه وفاة أولادهم وأزواجهم فى الحرب السوفية الأفغانية. أما فى أصوات من تشيرنوبيل، فلا تتحدث عما حدث فى المفاعل، ولكنها تتحدث عما حدث بى ذلك وذلك تضع عنوانًا جانبيًا هو دفاع من المستقبل، وسأترك القارئ أمام النص. الذى يعد نموذجًا مثاليًا لأسلوبها فى الكتابة.
ولدت سفيتلانا ألكسيفيتش فى 31 مايو عام 1948 فى بلدة Stanislav (الآن Ivano-Frankivsk) فى غرب أوكرانيا لأب من بيلاروسيا وأم أوكرانية، وتربت فى روسيا البيضاء. وبعد انتهاء الدراسة عملت صحفية فى عدد من الصحف المحلية قبل أن تتخرج فى جامعة ولاية بيلاروسيا عام 1972، ثم صارت مراسلة لمجلة نيمان الأدبية فى مينسك عام 1976. واصلت سفيتلانا ألكسيفيتش مهنة الصحافة والكتابة السردية من خلال المقابلات مع شهود العيان عن الأحداث الأكثر إثارة فى البلاد مثل الحرب العالمية الثانية والحرب الروسية الأفغانية وسقوط الاتحاد السوفيتى وكارثة مفاعل تشيرنوبيل. وبعد الاضطهاد من قبل نظام لوكاشينكو، رحلت عن بيلاروسيا عام 2000.
وخلال العقد التالى من 2000 إلى 2011 عاشت سفيتلانا ألكسيفيتش متنقلة بين باريس وجوتنبرج وبرلين. وفى عام 2011 عادت إلى مينسك. وبخلاف جائزة نوبل حصلت على عشر جوائز أدبية كان آخرها قبل نوبل بالطبع عام 2013، حيث حصلت على prix Médicis الفرنسية. من أبرز أعمالها الأدبية إذا جاز التعبير على اعتبار أن معظمها شهادات حية لأشخاص واقعيين كما هو الحال فى أكثر أعمالها شهرة: وجوه غير أنثوية للحرب، أولاد الزنك، أصوات من تشيرنوبيل، على أية حال لربما تكون نوبل لهذا العام اعترافًا عالميًا بالأدب التسجيلى أو لعلها جائزة فى الصحافة الأدبية:
1- وجود غير أنثوية للحرب، منسك 1985.
2- أولاد الزنك، موسكو 1991.
3- مفتون بالموت، موسكو 1994.
4- أصوات من تشيرنوبيل، موسكو1997.
5- آخر الشهود، قصص غير طفولية، موسكو 2004.
6- الوقت من جهة أخرى، موسكو 2013
وهذا النص الذى نقوم بترجمته فى هذا الملف من كتابها “أصوات من تشيرنوبيل” الصادر عام 1997 بالروسية، والذى ترجمته إلى الإنجليزية عام 2006 من قبل كيث جيسين ((Keith Gessen وهو كاتب روائى أمريكى من أصل روسى (ولد فى عام 1975) وهى تعد أدق ترجمة للنص الروسى، وهو النص الذى اعتمدنا عليه فى الترجمة، ينقسم كتاب “أصوات من تشيرنوبيل” إلى افتتاحية وثلاثة أقسام وبديلاً عن الخاتمة على حد قول المؤلفة.
وقد قمنا بترجمة الافتتاحية أو البورلوج، هى منولوج طويل تروى فيه قصة زوجة رجل الإطفاء الفقيد فاسيلى إجناتينكو وما حدث لزوجها ولها حيث كان أحد الرجال الذين شاركوا فى القيام بإطفاء مفاعل تشيرنوبيل، وقد وضعت له المؤلفة عنوانًا ثانيًا “صوت بشرى متفرد” وهو نص تبرز فيه بقوة سمات أسلوب الكاتبة الفنية والتيمة المركزية لأعمالها من حيث الاستفادة من الوقائع الحقيقية والتاريخية والوثائق وتوظيف التعبير الشفاهى وتقتيات السرد الحديثة وبساطة العرض الصحفى والمباشرة من ناحية، ثم التعبير عن المعاناة والشجاعة فى عصرنا من ناحية أخرى