الموت سيد من دمشق/ أمجد ناصر
لم يخطر في بالي سوى بيت شعر بول سيلان هذا، عندما قرأت أخبار توزيع النظام السوري، بكل برود واستهتار ويقين عميق بالإفلات من العقاب، أسماء مئات، إن لم يكن آلاف الشبان الذين قضوا في سجونه على مدار سني الثورة: الموت سيد من ألمانيا عينُه زرقاء.
حضور الشعريِّ في حالةٍ كثيفة الألم كهذه حتمي على ما يبدو. فماذا يمكن أن يقال حيال هذه الميتات المجهولة، حيال كل هذه الأسماء التي كانت لها وجوه وسير حياة يومية معلومة، وصارت أرقاماً أو تبليغات رسمية؟
يتحدّثون عن آلاف الأسماء التي انقطع خبرها وصارت أثراً بعد عين! يتحدّثون عن مجزرة عملت في صمت مطبق، وراء القضبان، وجدران الإسمنت، وفي الأقبية العميقة، سنين عديدة.
كيف يمكن لخبرٍ كهذا أن يثير ما يظنّ النشطاء السوريون أن يثيره في فضاء العالم المشبع بالنفاق، المستسلم، بلا أدنى مقاومة، لإرادة “الأيدي الإلهية” التي ترتفع، كقضاءٍ لا رادَّ له، تحت قبة مجلس الأمن الدولي، لتحمي الجريمة باعتبارها حقاً سيادياً؟ ما لا نلاحظه، أو نفعل ونعجز عن حرف مساره، أن كثرة الموت تزري بالموت، وتجعله أقل، وأن التكرار لا يعني مزيداً من تركيز الحقائق. كلا. الأمر مقلوب. وهذا ما يعرفه المجرمون، فالمثل السائر يقول إن سرقتَ فاسرق جملاً. إن قتلت فكثِّر، لأن فعلتك، يستحيل، حينها، تعدادُها وحصرها، فالدم يتوزّع في جهاتٍ ومسارب، ولا يعود له مُطالب. من يطالب بدم مجزرة؟ من في وسعه تبيَن وجوه الراقدين في قبور جماعية، وردَّ حقوقهم الفردية؟
لكي يكون الموت موتاً، وقابلاً لرد فعل إنساني وقانوني، عليه أن يكون فردياً، ومتعيّناً. وهذا يعني تحويل أسماء القتلى إلى وجوه وقصص ملموسة. غير ذلك ليس للموت كلفة، وهذا ما يعرفه نظام عائلة الأسد، ومارسه ونجح فيه، وأفلت كل مرةٍ من دفع الثمن. يعرف هذا النظام أنه لكي لا يكون لفعلته حساب عليه أن يدفعها خارج المتوقع والمتعارف عليه، حتى لتصبح عمل كائنات قادمةٍ من الفضاء الخارجي، لا يمكن التكهن بأفعالها، لأن لا مرجع لها، في تجاربنا وأذهاننا، ولا قياس.
التقط بعض النشطاء السوريين بعداً غير معهودٍ في سياسة السجن والإخفاء والتعذيب وهدر الكرامة البشرية التي سنَّها نظام عائلة الأسد دستوراً مُعلناً له، فإذا كانت صور العقاب وأشكاله التي تطاول المعترضين على النظام (أيِّ نظام في العالم حتى عند وحشيات القرن العشرين الثلاث: النازية والفاشية والستالينية) تبقى، غالباً، في حيز وسائل الإخضاع والسيطرة. بيد أن نظام عائلة الأسد أحدث تحوّلاً فريداً على هذه “السياسة” لفهم ما لا يُفهم. فكيف يمكن فهم إرساله برقيات، رسائل، أو نصوص هاتفية لآلاف العائلات، تفيدها بموت أبنائها وأقاربها المباشرين في السجون: سكتات قلبية؟ لكن ليس تحت التعذيب؟!
لقد بيّنت الحرب في سورية أن نظام عائلة الأسد ليس سوى جهاز أمني كبير بمئة جسد ووجه. كادت الحرب تقتلع النظام من جذوره، وخرجت معظم مناطق سورية من سيطرته، وكادت البلاد تتفكّك أجزاء، لكنَّ شيئاً واحداً ظل يعمل في كفاءةٍ طول الوقت: جهازه الأمني. هذا هو سرّ النظام السوري (الأسدي بالأحرى) ولا شيء غيره. ولا ضرورة للتذكير أن “حلفاءه” الذين مكَّنوه من “البقاء” حتى الآن لم يرهق كاهلهم على هذا الصعيد، فهنا اختصاصه، وبهذا هو قادرٌ على تقديم خدمةٍ حتى لرجل “كي جي بي” في موسكو. عندما تنكشف “الدولة” عن لا شيء سوى جهاز أمني، فهذا يعني أننا كنّا دائماً حيال عصابة وفرق موت صنعت “دولة” من عظام معارضيها. يعود صوت بول سيلان الفردي، ما بعد المحرقة، ليطلّ على دخان المحرقة السورية، ويتقمّصني: الموت سيدٌ من دمشق، مُكمَّمٌ بقناع غاز، على صدره تشعُّ محاجر القتلى بأضواء الفسفور.
العربي الجديد