المجتمع المدني السوري والاصطياد في الماء العكر/ وائل السوّاح
أثارت زوبعة مؤخرا حول إضراب عدد من العاملين الرئيسيين في منظمة مدنية سورية ساهمت إلى حدّ كبير في المدّ المدني السوري بمجال المناصرة والتوثيق ورفع الوعي لدى السوريين عموما.
البض ممن يهوى الاصطياد في الماء العكر، غالبا لأنه لا يملك شيئا آخر يفعله، سارع إلى استغلال هذه الأزمة ليشنّ هجوما ليس على المنظمة وحدها، وإنما على المجتمع المدني السوري بأسره.
المنظمّة التي أثارت هذه الزوبعة هي “اليوم التالي”، التي يعرفها معظم السوريين لنشاطها الدؤوب في محاولة تلمّس مسار للانتقال الديمقراطي في سوريا، وعملها في مجالات الحريات الأساسية والديمقراطية وتمكين المرأة وجسر الهوّة بين السياسي والمدني في الحياة المجتمعية السورية.
لا يصعب الدفاع عن منظمة فاعلة بحجم اليوم التالي. فهي وثّقت الملكيات العقارية لنحو مليون عقار سوري، وهو ما سيقف في وجه محاولات النظام إجراء تغييرات ديموغرافية قسرية في الشمال السوري. كما أنها قدّمت، من خلال مسؤولي التواصل في الداخل السوري، وسيلة لربط مكونات المجتمع وطوائفه بقضايا الحوكمة والمواطنة والعدالة للحكم، وجسرت بين المجتمع المدني والمجالس المحلية، بهدف بناء قدرات الأطراف الفاعلة في المجتمع المدني وتمكينها من لعب دور فعال في الاستجابة لاحتياجات المجتمع،
وقام مسؤولو التواصل بنشاطات مباشرة داخل سوريا للمناصرة والدفاع عن قضايا الديمقراطية والمواطنة وتمكين المرأة في أحلك الظروف التي كانت تمرّ في مناطق المعارضة السورية في حلب وإدلب والحسكة ودير الزور واللاذقية وريف دمشق. وأجرت المنظمة عددا من استطلاعات الرأي التي تناولت مواضيع كان تناولها محظورا، مثل الطائفية وسيادة القانون والعدالة الانتقالية وحرية المرأة والعنف الأسري والهدن والمفاوضات والمجالس المحلية وغيرها.
وكان اليوم التالي وراء تشكيل تحالف سوري للعدالة الانتقالية ضمّ بضع عشرة منظمة سورية رائدة في مجال التوثيق وحقوق الإنسان والمناصرة في قضايا العدالة الانتقالية. “مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية” هي اليوم التحالف المدني السوري الأطول عمرا والأكثر دلالة في مجال اختصاصه.
ضمّ اليوم التالي في صفوفه فاعلين من مختلف البيئات الاجتماعية والثقافية والقومية، وربط بين القول والفعل في مجال المساواة التامة بين النساء والرجال في الوظائف والرواتب. واستطاع جمع أكثر من أربعين منظمة سوريا في مشروع “بكرة أحلى” الذي حاول رسم الحدود والتلاقي بين منظمات المجتمع المدني وقوى المعارضة السياسية السورية. وفي جنيف، كان اليوم التالي بمشاركة مجموعة من المنظمات السورية الرئيسية البوصلة التي وجهت علاقة المجتمع المدني السوري مع فريق دي مستورا، وأبقت قضايا المعتقلين والمساءلة على طاولة المفاوضات ووضعت تصورها لمشكلة الدستور.
ويتمتّع اليوم التالي بسمعة طيّبة واسعة في أوساط المهتمين بالشأن السوري، ويتمتّع باحترام مؤسسات المجتمع المدني ومنظّمات حقوق الإنسان والدبلوماسيين والصحفيين والمراكز البحثية في أوروبا وأمريكا الشمالية والشرق الأوسط.
وقد كان لي شرف قيادة منظمة اليوم التالي لمدّة ثلاث سنوات، ولكنني لم أكن أنا من قام بكلّ ما ذكرت أعلاه، بل كان فريقا من سوريين خبراء وشرفاء ومؤمنين بسوريا الديمقراطية المستقبلية. هذا الفريق هو الذي ساهم في وضع تصوره عن اليوم التالي وشارك في وضع خطة العمل وأشرف من خلال عمل جماعي منظم ودقيق على سير المشاريع في داخل سوريا وخارجها.
قبل أيام قام مديرو البرامج في اليوم التالي بإضراب عن العمل، دون أن يعلنوا ذلك، حرصا على استمرار أداء المنظمة وسمعتها. ولكنّ وسيلة إعلامية سورية سرّبت خبر الإضراب من دون توثيق، وصوّرته باعتباره تمردا ومحاولة انقلاب. وأضافت إلى النقطة الوحيدة الدقيقة، وهي الإضراب، تفاصيل واختلاقات لا أساس لها من الصحّة. وقد سارع المضربون إلى الردّ على الخبر في رسالة أوضحوا فيها أن إضرابهم قانوني وأنهم ليسوا بصدد الإساءة إلى المنظمة ولا إلى المجتمع المدني السوري.
ولكن الأسوأ كان تصدّي عدد من المتصيّدين لاستخدام إضراب المضربين في اليوم التالي وخبر الوسيلة الإعلامية (التي اعتذرت عن نشره) لشنّ حرب على المنظمة ككلّ وعلى القائمين عليها كأفراد وعلى المجتمع المدني السوري عموما. المتصيّدون لم يحاولوا تقصّي الحقيقة، ولم يحاولوا تمييز الغث من السمين في خبر الوسيلة الإعلامية، بل انتهزوا الفرصة لمهاجمة رئيس مجلس إدارة اليوم التالي، وهو رجل له مكانة علمية ونضالية وسمعة محترمة، والمضربين على حدّ سواء، وألقوا تهم التخوين والفساد يمنة ويسارا، وجلسوا يتفرّجون على الحريق الذي أشعلوه. كان هدف بعضهم التشهير، وهدف بعضهم الشهرة، أما بعضهم الآخر فيفعل ذلك للتسلية وتزجية الوقت لأنه لا يملك شيئا أفضل ليقوم به.
ينسى هؤلاء أن المجتمع المدني السوري هو الذي كان يعمل على السطح عندما كانت المعارضة نائمة أو مغيبة في السجون. وينسون أيضا أن المجتمع المدني هو من أسس لربيع دمشق فأقام المنتديات وطرح مفهومات الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى الثقافة السورية البعثية التي قامت على أساس عبادة الفرد وتقديس الحزب والمخابرات.
منظّمات المجتمع المدني هي من سدّت الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الجبان للدولة من معظم مناطق البلد والضعف المخجل للمعارضة السياسية. عملت هذه المنظمات في كل المجالات في الإغاثة والإعلام والدفاع المدني والمجالات الطبية والتوثيق ورصد انتهاكات حقوق الإنسان والحفاظ على التراث الثقافي السوري ونشر الوعي في مجالات حكم القانون والعدالة الانتقالية وصياغة الدستور وغيرها.
والمجتمع المدني هو الذي عمل على إدماج الشباب والمرأة في الثورة السورية، وهو الذي أكد – دون أن يسمع له أحد – على سلمية الثورة ومدنيتها وعلى المواطنة كمعيار أساسي للعلاقة بين السوريين. وهو الذي عمل على تحديد معايير العمل في اليوم التالي لسقوط النظام وبداية المرحلة الانتقالية إلى الديمقراطية، فوضع تصوراته لحكم القانون والعدالة الانتقالية وإصلاح القطاع الأمني وإصلاح النظم الانتخابية وكتابة الدستور وإصلاح القطاع الاقتصادي والعلاقات المجتمعية.
اليوم، يدمّر السياسيون والعسكر والشامتون ذلك كله في مناطق النظام والمناطق التي تسيطر عليها المنظمات الراديكالية الإسلامية كداعش والنصرة وأحرار الشام. الطرفان يعتبران المجتمع المدني بدعة غريبة، ابتدعها الغرب الإمبريالي (النظام) أو الغرب الكافر (الإسلاميون).
مع المجتمع المدني ضدّ العطالة والتهجّم والافتراء.
مع الإضراب الشرعي ضدّ التشهير والأكاذيب والتضليل.
مع العمل دائما من أجل اليوم التالي للنظام في سوريا.
تلفزيون سوريا