شهادات

مقدّمات الثورة السورية (5): جدل السياسة والثقافة: لمن الأولوية/ وائل السوّاح

 

 

مقدّمات الثورة السورية (5)

أخذ منتدى الحوار الوطني أهميته من أهمية النائب السابق رياض سيف. ولكنه لم يكن المنتدى الوحيد في سورية، كما أنه لم يكن أكبر منتدى أيضا. فمع بداية تحركات المثقفين في العام 1999، وانطلاقة ربيع دمشق في العام 2000، ونشر وثيقة لجان إحياء المجتمع المدني، بدأت تتشكل في المجتمع السوري المديني تحديدا، نوى تجمعات ثقافية أو منتديات كان من أوائلها المنتدى الحضاري، ومنتدى الحوار الثقافي، منتدى الحوار الوطني، ومنتدى جمال الأتاسي، ومنتدى حقوق الإنسان الذي أداره خليل معتوق. ثم، وبسرعة هائلة، انتشرت هذه المنتديات انتشارا هائلا حتى يقال إن عددها قد تجاوز في نهاية العام 2000 مئة وسبعين منتدى في كل أرجاء البلاد.

في معظم الحالات، كانت الثقافة هي منطلق المبادرات والثقافة هي هدفها أيضا. فهذه المبادرات لا تتطلع إلى فعل أو إلى هدف سياسي لكنها في شكل تكوينها وفي آلية عملها تطلق قيما ثقافية جديدة تعتمد على المبادرة الفردية وترفض وصاية المؤسسات. وظهر عدد من المبادرات بشكل خاص في أوساط الشباب، في المسرح والسينما والموسيقى. ففي المسرح، ظهرت أولى التجارب المسرحية المنفلتة من أسر الإدارات الحكومية في نهاية التسعينيات وهي فرقة “الرصيف” التي ضمت المخرجة السورية الشابة رولا فتال والمؤلف المسرحي التونسي المقيم في سورية حكيم مرزوقي.

غير أن العقبات التي وضعتها المؤسسة الرسمية أمام عمل هذه الفرقة أعاق استمراريتها بشكل مستقل وأوقف تطورها. وفي عام 1999 وبمبادرة من مسرحية شابة هي نورا مراد تشكلت فرقة “ليش” (لماذا باللهجة السورية). تقول المخرجة مراد في شرح دوافع تأسيس هذه الفرقة “إن الذي دفعنا للعمل بشكل مستقل عن المؤسسة الرسمية هو هيمنة النظام الإداري والروتين على تلك المؤسسة وإصرارها على نظرة أحادية في العمل المسرحي ترفض التحرك باتجاه أنواع مسرحية مختلفة قد تفترض بحثا فنيا وثقافيا خاصا لا يتناسب بالضرورة مع الثوابت السياسية التي تسيّر التوجهات الفنية للمؤسسة.

وتعددت بعد هذا المشروع المبادرات الشبابية المستقلة فأسس أسامة حلال مجموعة “كون”، ثم أسس إياس مقداد مجموعة “محور”، كما تأسست فرقة “مسرح الاستوديو” في إطار مشروع تنمية الريف الذي تقوم به منظمة غير حكومية. وبموازاة ذلك أطلقت المسرحية الشابة مي سكاف، التي رحلت عن عالمنا قبل أيام، مشروع “تياترو” لدعم المشاريع المسرحية الخاصة. وهو عبارة عن مكان مؤهل للتمرين على العرض تستفيد منه الفرق الخاصة، كما تقام فيه دورات تأهيل للراغبين في تعلم الفنون المسرحية وكذلك دورات لتعليم فنون الرقص للكبار والصغار.

وفي السينما، يمكننا أن نتتبع الحراك الثقافي في مجال السينما على مستويين: مستوى الصناعة السينمائية ومستوى المشاهدة أو التلقي. على مستوى الصناعة السينمائية تكاثرت التجارب الفنية الفردية وبخاصة في مجال الأفلام القصيرة التي لا يتطلب تصويرها إمكانات ضخمة. ويمكن أن نذكر في هذا السياق عددا من المحاولات التي لاقى بعضها نجاحا حقيقيا في شبكات المشاهدة الخاصة، من مثل فيلم “ابن العم” لمحمد علي الأتاسي عن شخصية السياسي المخضرم رياض الترك.

لا تحب السلطات القمعية السينما عموما. وفي مطلع الثمانينات أوقفت الحكومة عمل أهم ناد سينمائي في دمشق لعب دورا هاما في نشر الثقافة البصرية في مرحلة السبعينات. وفي عام 2001، قام الناقد حسان عباس، بمساعدة بعض الشباب الجامعيين بإطلاق ناد للسينما اجتمع أكثر من أربعين مرة، وقد تنقلت العروض بين عدد من البيوت قبل أن يقدّم أحد الأصدقاء كراج بيته كمكان دائم للعرض، لكن سرعان ما تنبهت الأجهزة الأمنية إلى ذلك فضغطت على صاحب البيت حتى اضطرته للاعتذار واسترجاع المقر.

وفي الموسيقى، ظهرت في مطالع الألفية محاولات في تشكيل فرق موسيقية مستقلة. وكان اللافت في هذه الفرق أنها تعيد إنتاج ثقافات كانت إلى يوم قريب محظورة أو على الأقل موضع ازدراء أو لعنة. وبات شائعا في سنوات الألفية الأولى قبيل الثورة أن نرى اليوم على الجدران في الشوارع العامة ملصقات تدعو إلى حفلات لفرق سورية تقدم موسيقى الهارد روك والتكنيك والميتال وإلى ما هنالك من أشكال موسيقية كانت حتى الأمس القريب تستخدم كأمثلة على الاستعمار الثقافي الموجه “ضد الأمة العربية”. بل إن بعض الزوايا في الأحياء الدمشقية الراقية (المزة، دمر، المالكي) تجمع كل خميس (عشية العطلة المدرسية الأسبوعية) أعدادا من طلاب المدارس الذين كانوا يتنافسون بإظهار مهاراتهم في رقص البريك و الهيب هوب والسوبر الكتريك دانس على مرأى من الشرطة والأجهزة الأمنية التي تسهر على حماية الثورة وصون الوطن.

ويقول حسّان عباس إن للفعل الثقافي في سورية المعاصرة “دورا كبيرا جدا في تغيير الثوابت الاجتماعية التي أرستها سياسة حزب البعث، وبالتالي في خلق مجتمع جديد متحرر من هيمنة الرأي الواحد، ومن ضغط المؤسسة الحكومية. مجتمع مسؤول، يعتمد على نفسه، يحترم التعددية، ويتحرر من ثقافة الخوف. ومجتمع كهذا يستطيع أن يشكل أرضية مناسبة لبناء الديمقراطية.”

منتدى الحوار الثقافي

وانتشرت المنتديات في المدن الكبرى والصغرى، بل وحتى في بعض البلدات في ريف سورية. فبرزت منتديات في دمشق وحلب واللاذقية وحمص ودير الزور والرقة والسويداء ودرعا، وفي مدن أصغر كالسلمية ومصياف وشهبا وغيرها.

وفي حين كان بعض هذه المنتديات ثقافيا بشكل بحت، ناقش البعض الآخر قضايا سياسية في جوهرها، مثل منتدى جمال الأتاسي.

وقد لعبت ظاهرة المنتديات دورا في تفعيل المجتمع من خلال تكريس بعض حقوق المواطنة كالحق في التجمع والحق في الإعلام والاستعلام والحق في التعبير والحق في المشاركة، وكذلك من خلال تخليص الناس من ثقافة الخوف بما يعنيه ذلك من إعادة الحياة إلى المجتمع المدني. ولكن إنهاء هذا الدور من قبل الحكومة السورية وأد هذه الفرصة، فانتهى هذا الدور. ومع ذلك فإن نهاية المنتديات لم تحبط عزيمة المثقفين فبدأت مجموعات وأفراد منهم، كان بينهم عدد مهم من الشباب باتخاذ مبادرات هامشية، أي بعيدة عن الأطر المؤسساتية المحددة من قبل السلطة. وكان معظم هذه المبادرات ذات هدف ثقافي صرف، فكانت الثقافة منطلق المبادرات وغايتها أيضا، دون أن تتطلع إلى فعل أو إلى هدف سياسي لكنها في شكل تكوينها وفي آلية عملها تطلق قيما ثقافية جديدة تعتمد على المبادرة الفردية وترفض وصاية المؤسسات.

ولعل أهم منتدى ثقافي كان منتدى الحوار الثقافي، الذي يعود الفضل في تأسيسه إلى حسّان عبّاس والمناضلة النسوية العنيدة نوال يازجي، التي فتحت بيتها للمنتدى في عام 1999. وبذلك يمكن أن نقول إن منتدى الحوار الثقافي كان أول منتدى ظهر، سابقا بذلك حركة ربيع دمشق. وخلال أقل من سنة كان لدى القائمين على المنتدى نحو من 400 مشارك. وركز المنتدى على الجوانب الثقافية ذات البعد العام. وبرز من بين المحاور التي قدمت في المنتدى محور “الثقافة والضمير في سورية”. ولعل تنظيم إدارة الجلسات كان أكثر تميزا من باقي المنتديات، حيث أتيح للمحاضر وقت محدد، يتلوه عدد محدد من المتخصصين بموضوع المحاضرة حيث يقدمون تعقيباتهم عليه، قبل أن يفتح الباب للنقاش العام.

منتدى الدكتور محمد حبش:

الدكتور محمد حبش ظاهرة خاصة في الفكر الإسلامي الجديد في سورية. فبعد سنوات من اعتناقه الفكر المتطرف، قرر التلميذ اللامع لمفتي الجمهورية الراحل أحمد كفتارو وصهر ابنه البكر محمود كفتارو، لأسباب غير معروفة للجميع التحول إلى ما يسميه “الفكر التجديدي في الإسلام.” وبدأ منذ نهاية التسعينات طرح فكر إسلامي معتدل يقوم على مقولة أنه لا يمكن لأحد احتكار الطريق إلى الخلاص الأخروي، وأن الجنة مفتوحة للجميع، بغض الطرف عن دينهم ومذهبهم، وأن الذي يقرر ذلك هو الله وحده.

وللدعوة إلى فكره الجديد، أسس حبش مركزا للدراسات الإسلامية وبدأ مع انتشار المنتديات الثقافية في دمشق، يعقد فيه منتدى يمثل فكره الإسلامي الجديد. وكان واضحا أن حدسه وذكاءه جعلاه يبحث لنفسه عن مكان في الواقع المدني الجديد الذي أفرزه ربيع دمشق. ولعل طموح الدكتور حبش، وهو خطيب وإمام جامع ومقرئ ومؤلف لعدد كبير من الكتب، هو الذي دفعه إلى البدء بالمنتدى، وهو نفسه الذي دفعه إلى إغلاقه بعد أن فكر في طريق أقصر: مجلس الشعب. والطموح نفسه هو الذي أوقع بين الدكتور حبش والمفتي الراحل، حيث وقع بينهما خلاف فكري معلن قبل وفاة الشيخ بمدة.

وكان المنتدى يهدف، كما أعلن مؤسسه، إلى نشر فكر إسلامي معتدل في محاضرات ثقافية واجتماعية، ويقول الدكتور حبش إن منتداه يأتي “نقيضاً لجماعة الإخوان المسلمين، التي تفرّق في الأنظمة بين ما هو إلهيّ ووضعيّ، وأنّ جميع المؤسّسات التشريعية التي تحتكم لغير الكتاب والسنّة مؤسّسات كافرة”؛ ويضيف “لسنا منتمين ولسنا معارضين للسلطة، ولكننا نعارض الإخوان المسلمين، وننتمي إلى تيار إسلامي تجديدي.”

منتدى عبد الرحمن الكواكبي للحوار الديمقراطي في حلب:

كان منتدى عبد الرحمن الكواكبي من أغنى المنتديات بالطاقات الفكرية والسياسية وأكثرها اعتدالا وموضوعية، أسسه في حلب المحامي الناصري عبد المجيد منجونة. وقد حضر اللقاء التشاوري في بيت منجونة لتأسيس المنتدى حوالي 80 شخصية سياسية وثقافية من أطيافٍ فكرية وسياسية مختلفة، بينهم إحسان كيالي، عبد الرزاق عيد، محمد جمال باروت، والقائد الشيوعي عمر قشاش.

المنتدى الثقافي لحقوق الإنسان: أسسه وأداره المحامي والناشط الحقوقي اللامع خليل معتوق، وحاضر فيه نخبة من المفكرين والمثقفين والناشطين في مجالات حقوق الإنسان.

منتدى الشباب الوطني: أسسه وأداره حازم نهار، وكان معظم حضوره من الشباب، ودارت محاوره الأساسية حول قضايا تهم الشباب من مختلف الزوايا. وقد استمر المنتدى من العام 2000 وحتى 2002، حيث أغلق بسبب الضغوط الأمنية.

منتديات أخرى منها: المنتدى القومي العربي، منتدى حمص، منتدى الحقوق المدنية، الذي أسسته عضو مجلس الشعب سهير الريّس، منتدى طرطوس الثقافي بإدارة حبيب صالح،  المنتدى الوطني في القامشلي، منتدى بدرخان الثقافي في القامشلي أيضا،  منتدى الدراسات الحضارية، بإدارة عمر أبو زلام، وهو قريب من  الحزب السوري القومي، منتدى نبيل سليمان، أسسه الروائي والناقد نبيل سليمان في اللاذقية، وقد وقع عليه عدوان وعلى سيارته الخاصة بسبب افتتاحه المنتدى، دخل على أثره المستشفى في حينه.

ولكن أهم هذه المنتديات وأطولها عمرا كان بلا شك منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي. وسيكون لذلك حديث آخر.

 

 

 

في مقدّمات الثورة السورية (1): بذور المجتمع المدني السوري

في مقدمّات الثورة السورية (2):حين فتحت حفنة من المثقفين الطريق أمام التغيير

في مقدمات الثورة السورية (3):من الـ 99 إلى الألف: لجان إحياء المجتمع المدني

في مقدمات الثورة السورية (4): ربيع دمشق: خطوة واثقة على أرض غير مستقرة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى