بيت وشارع ومقبرة: ثلاث شهادات من الوعر/ وائل عبد الحميد
سنة وخمسة أشهر مرت على أول قافلة إخلاء لحي الوعر من أولئك الذين كانوا محاصرين فيه، ومنذ أيار 2017، أصبحت مدينة حمص كاملة بيد النظام السوري، وعاد إلى الوعر بعض من نزحوا إلى أحياء المدينة الأخرى على امتداد مراحل الحصار الطويل الذي تعرض له الحي، تاركين منازلهم فيه خوفاً من حصار لا يرحم، ولم يرحم أولئك الذين عاشوه، فكان مصيرهم التهجير خارج مدينتهم ووطنهم.
عاد من بقي منهم في حمص إلى حي الوعر، ليكتشفوا عالماً أصبح منذ إقفال أبواب الحصار غريباً، وظلّ غريباً أيضاً حتى بعد أن فُتِحَ باب الحي من جديد أمامهم، لأنهم عادوا فلم يجدوا أحداً فيه، بل وجدوا آثار من رحلوا، بُقع دمائهم في كل شبر، وذاكرتهم المدفونة تحت ركام أبنية الحي، الذي كان محاصراً، ولم يعد كذلك الآن.
هذا النص هو شهادة لثلاث سيدات سوريات، عُدنَ إلى حيهنّ وبيوتهنّ بعد إنهاء النظام الحاكم في سوريا لحصاره الذي فرضه على بقعة لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات مربعة، عُدنَ لتبدأ لديهنّ مرحلة جديدة، مرحلة التعايش مع ذاكرتهنّ ما قبل الحصار، ومع ذاكرة الحصار الذي أرهقه الجوع وأثقلت كاهله القذائف، ومع واقع الحي الحالي الذي ما زال يعيش قسوة ماضيه القريب.
هي شهادة لثلاث سيدات، عن البيت والشارع والمقبرة.
(بيت)
لم أستطع العودة إلى الوعر الذي كنتُ محاصرةً فيه لفترة طويلة إلا بعد أشهر أربعة من إنهاء الحصار وتهجير معظم المحاصرين، سألني العسكري يومها بعيونه الخضراء الواسعة وسحنته البشوشة عن رقم المنزل الذي سأزوره في حي الوعر، اتجهَت إليَّ رؤوس جميع الجالسين في السرفيس الأبيض «الذي يبدو لي أحياناً مثل رحم كبير حارّ وخانق». عندما صمَتُّ وارتبكت، تمتم السائق وبدأ يتلفظ بشتائم سرّية، ثم أخرى علنية عندما تلعثمت. كانت على ذراع العسكري عصابةٌ سوداء كُتِبُ عليها: «قوات الدفاع الوطني». قلتُ له: «لا أعرف الرقم». طلبَ هويتي، وطلبَ أسماء من سأذهب إليهم، ثم طلبَ مني الاتصال بهم، والاستعلام عن رقم بيتهم.
خطرَ لي بداية أن أؤلّفَ أرقاماً من مخيلتي، لم أعرف إن كان عليَّ أن أعطيه رقماً من فئة المئات أو الآلاف، ثم تذكرتُ أنهم يطابقون الاسم بالرقم. لم يكن بالإمكان الاتصال أو إخباره عن أسماء قاطني البيت، لأن البيت الذي سأزوره، هو البيت الذي كنتُ أسكنه، وهو الآن فارغ، والأهمّ من ذلك، أنه بلا رقم.
يبدو لي المشوار من حي الإنشاءات الذي أعيش فيه حالياً بعد إخلاء الوعر من مُحاصَريه أشبه بالعذاب اليومي، أحتارُ في كيفية الاحتيال على الدقائق الخمسة عشر اللازمة للوصول هرباً من وطأة الذكريات. الوجوهُ الأليفةُ الوحيدة التي أعرفها هي وجوه سائقي السرافيس، الذين حفظوني بدورهم وأصبحوا يقفون لي من دون أن أعطيهم حتى إشارة، إضافة إلى وجوه العساكر الذين على الحاجز، والتي تتغير بشكل شبه دوري كل فترة، لكن هؤلاء، على خلاف سابقيهم في حاجز الفرن الشهير ذي السمعة السيئة؛ والذي كان المنفذ الوحيد للوعر خلال حصاره، لم يستطيعوا أن يحفظوا الوجوه بسرعة، لذا يمكن رؤية بعض الناس وهم يشعرون بسعادة عارمة وشيء يشبه الفخر، أو لعله الاطمئنان، حين يحفظ الحاجز وجوههم، والآخرون يسعون لتبادل السلامات التي لا داعي لها مع العساكر، وهكذا أصبحت هناك ألفةٌ من نوع «متلازمة ستوكهولم» بيننا وبينهم، تلك الأُلفة المُدّعاة التي لم أفهمها يوماً.
لعلّي لا أستطيع نسيان وقع السؤال في نفسي حين سمعته من العسكري أول مرة عندما دخلتُ الحي ذاك اليوم لأول مرة بعد أربعة أشهر من خروج الثوار والأهالي، إلى درجة ظننتُ معها أنه يمزح، يومها، نحن النساء المتكتلات مثل أجنّة هائلة في رحم لا يعرف الشفقة، سُئلنا بنبرة حادة: «هل من أحد معه سلاح أو عطر؟». ابتسمتُ وقلتُ للفتاة التي أمامي: «يمزح؟»، فقالت: «لا» بصوت عابس ثم التفتت.
وبحركة لا إرادية فتشت كل الفتيات في محافظهنّ، عن سلاح أو عطر، وفي أقل من عشرين ثانية، امتلأت أيادي الفتيات بعطورهن التي اضطررن أن يعرضنها أمام العسكري، الذي بدوره أعطانا إنذاراً مزلزلاً بأن الجهاز الذي معه يفحص المتفجرات، وأنه يرنّ على العطر والسلاح والأدوية. قال لنا السائق ساخطاً: «اضغطنَ على أنفسكنّ قليلاً وامتنِعنَ عن وضع العطور في محافظكنّ… ما بدنا مشاكل». كان ذلك منذ شهور، أما الآن، فقد اعتدنا، نحن الفتيات المتكورات داخل السرفيس مثل أجنة في رحم لا يرحم، على أن نضع العطر عن سابق قصد وتصميم في جيوبنا، ساخرين من غباء العسكري والجهاز.
كانت علبة العطر مستلقية في محفظتي إلى جانب هاتفي الذي يٌفترض أن أتصل من خلاله بسكان المنزل الفارغ، وكان جهاز كشف الأسلحة والمواد الغريبة في يد العسكري يزعق ويتجه نحونا أنا والرجل الوحيد في السرفيس، الذي كان يجلس إلى جانبي، والذي لم يكن مبالياً بزعيق الجهاز. هدَّدني السائق بأنه سيطردني من السرفيس عندما تلكأتُ بالإجابة على السؤال وعندما طال زعيقُ الجهاز باتجاهي، لكن الرجل الذي كان إلى جواري، «الذي يبدو لي الآن حينما أتذكره ودوداً مثل عشب على الرصيف»، أخرجَ فجأة مسدساً من جيبه، وتمتم للعسكري بأن الجهاز يرنُّ بسببه، وقال له بضع كلمات تشبه تعويذة ما، جعلت العسكري يبتسم له ويلقي عليه التحية، وأتمّت التعويذة مفعولها بأن نسيَ العسكري أن يكرر سؤاله لي عن رقم البيت الذي سأزوره، ثم أمرَ السائق أخيراً بالتحرّك.
عندما وصلتُ دوار المهندسين قبل الوصول إلى قلب الوعر بعشرات الأمتار، حيث سأنزل، كانت صورةٌ هائلةٌ للقائد معلقة بتحدٍّ، بحيث لا يمكن المرور من الشارع دون مشاهدتها، وكان العلم الأحمر بطبيعة الحال يرفرف فوقها. خطواتٌ بعد، وها أنا أمام البيت، البيت الذي بلا رقم، البيت الذي بلا ساكنين، الذي اعتدتُ منذ أكثر من ثلاث سنوات على أن أجلس على المصطبة التي تقابله حيث شجرة النخيل المكسورة بفعل ضربة الطائرة الأخيرة التي سقطت أمامه.
اختلفت الأمور قليلاً خلال الفترة الحالية، بعد أكثر من سنة على إخلاء الحي من قاطنيه لم تعد الأرقام مهمة، ولا زجاجة العطر أيضاً، فقد أزالوا الحاجز الواقع على طريق الغاردينيا بين الوعر وبقية أحياء حمص، لكنني ما زلتُ حتى الآن، وخلال كل زيارة للحيّ، أجلسُ وحيدة على المصطبة أمام البيت من دون امتلاك الجرأة يوماً على دخوله.
(شارع)
قررتُ الذهاب إلى الوعر مشياً، من شارع خالد بن الوليد، أو شارع الخراب كما هو اسمه عند أهل حمص، وهو واحدٌ من شوارع قليلة تصل أحياء حمص بحارتي. اخترتُ هذا الطريق لأنني أشتهي أن أجرّب شارعاً جديداً لم أمشِ فيه خلال السنوات الماضية؛ شوارع حمص أصبحت قليلة بعد دمار معظم المدينة، ومزدحمة بشكل لا يطاق. لدي رغبة بأن أمشي في شارع مساحته كبيرة وفارغ من الناس، شارع أعرفه ويعرفني ويتذكر خطواتي القديمة فيه، شارع طويل بما يكفي لأجمع أشلاء مشاعري المبعثرة على أرصفته، وفارغ بما يكفي لكي أترك لذاكرتي أن تستحضر ذكرياته على مهل وبلا ضجيج، ذكرياته التي تحتل حيزاً من ذاكرة طفولتي.
استقبلَنا الحاجز عند الملعب البلدي، بداية شارع الخراب، سألني عن وجهتي، قلتُ له إنني أرغبُ في المشي قليلاً، أومأ برأسه وأضاف: «بس لا تروحوا عالوعر». لم أُجبه ولم أُبدِ أيّ ردة فعل، لكن طريقي هو الوعر، والوعر الآن أصبحت بيدهم وعدنا إليها وعاد إليها من عاد، فلماذا يخافونها حتى الآن!
الطريق مليءٌ بالعشب اليابس والأحجار، والشجر المزروع على منصّف الطريق أصبح كبيراً، هَرِماً مثل هذا الطريق، ويمنعنا عن رؤية بقيته، على عكس ما كان سابقاً، عندما كُنّا نرى نهاية الشارع من بدايته. لم يخطُ هذا الشارعَ أيّ أحدٍ منذ سنوات، منذ إغلاق الطريق بين أحياء حمص والوعر، حُوصِرَ هذا الشارع الذي يبلغ طوله ثلاثة كيلومترات كما حُوصِرَت الوعر، لكن حصاره مختلف قليلاً، فهو لم يَجُع بالتأكيد كالمحاصرين، لكنه أصبح هَرِماً، هَرِماً مثل جميع من مرّوا به سابقاً.
الشارع فارغٌ الآن إلّا من رجل وطفل صغير يلعب على دراجته، تعجّبتُ من قدرة الطفل على اللعب وسط هذه الأحجار، من يمشي هنا يمشي بصعوبة بالغة بسبب الركام، فكيف استطاع هذا الولد الصغير! كيف استطاع أن يلعب على دراجته وسط الخراب كما كنا نلعب نحن سابقاً، حين لم يكن هناك أي خراب في الشارع إلّا اسمه.
أمشي في الشارع الفارغ والمخيف، وأتذكّرُ كيف كان قبل الثورة، عندما كان قبلة أهل حمص للجلوس على المقاعد المصفوفة على الأرصفة هرباً من حرّ المدينة، والطريق المحاط بالبساتين من كلا الجانبين، الذي يتقاطع مع نهر العاصي بجسر إسمنتي سيكون طقسه بالتأكيد أخفّ وطأة من حرّ المدينة، كما أن هواءه أنقى، على عكس ما هو عليه الحال الآن، رائحة فضلات الحيوانات ترثي حال المكان.
بحثتُ طول الطريق عن مقاعد لأجلس عليها قليلاً ولم أجد، بالتأكيد تم «تعفيشها» كما «عُفِّشت» المدينة بأكملها. كان همّي أن أجد مقعداً محدداً، مقعداً كنت أجلسُ عليه أنا وأمي لكي أحفظ دروسي هنا. أحاولُ أن أستعيد جزءاً من ذاكرتي، ذاكرة طفولتي التي قالوا لي يوماً عنها: «إن ذاكرة الطفولة هي ذاكرة الجنة». كانت طفولتنا تظنُّ أن هذه الأماكن التي شكلّت وعينا هي الجنة بحدّ ذاتها، لكنهم «عفّشوا» مقعدي وذاكرتي وطفولتي وجنّتي.
(مقبرة)
عدتُ إلى بيتي منذ عدة أشهر، لكني لم أستطع أن أزور المقبرة، صار لحينا مقبرة! هذه الفكرة تأكل رأسي منذ عودتي إلى البيت الذي بدأتُ فيه حياة جديدة قبل أكثر من عشرة سنوات. صحيحٌ أننا غبنا لأربع سنوات عن الحي الذي أصبح محاصراً بعد خروجنا منه، لكننا عُدنا وأصبح لدينا بدل الحديقة، مقبرة.
سمعتُ منذ فترة وجيزة أنهم سيُرّحلون رُفات من قضوا هنا، وبأن هناك مطالبات حثيثة من مواليّ النظام من أجل ذلك، لهذا قاموا بتسوير المقبرة «بالخفّان». منظرها كئيبُ ويُشعر بالحزن أكثر ممّا كانت عليه عندما رأينا صورها سابقاً، الصور التي كانت تأتي من حصار الوعر، صور المقبرة التي وُضِعَت على طرفها تلّةٌ من التراب ليكتب عليها بالحجر «مقبرة الشهداء».
أنا الآن بالقرب من المقبرة، رأيتُ كرسياً من بعيد، اقتربتُ منه لأجده أمام شاهدة أحد القبور، لا أحد يجلس عليه سوى ظلّ هذه الشمس الحارقة. الكرسي من الجلد، كاحتٌ لا لون له، وقديم، لكنني رأيته أسوداً، أسوداً إلى درجة لم أرها من قبل. كان الظلّ يتكئ عليه ويبكي بحرقة أكسبت الكرسي لوناً قاتماً، كان وكأنه يقول لي: «هنا يرقد من دفع عمراً من أجل قضية وموقف».
الموقف ثمنه عُمر؟ سألتُ الظلّ عن ذلك، كان يبكي وبكيتُ معه، لم أرَ الذين كانوا هنا قبلاً، لكن الظلّ يعرفهم، لهم أعمار، وهو يبكي لأنه يعرفهم بالتأكيد. الظلُّ لا يبكي إلا من ضاعت أعمارهم في غفلة عن العالم.
كانت لهم أسماء على الشواهد، هكذا رأينا في الصور، لكنها الآن أرقامٌ فقط، 16 – 17 – 18 -19 – 20 …، تحولوا إلى أرقام، والعالم كله يرى أن من يعيشون تحت هذه الشواهد مجرد أرقام، ولكنهم حقيقةٌ واقعة، لأن ثمة من يعرف أسماء هذه الأرقام، الكرسي يشهد، هو موجودٌ أمام أحد الشواهد، لسنا وحيدين أنا والظلُّ إذن، لأن هناك من يجلس على الكرسي بين فينة وأخرى ويتفقد من يحبّ، وإلا ما جدوى وجود هذا الكرسي هنا.
موقع الجمهورية