بيروقراطية الموت: “ليبراسيون” تكشف تصفيات المعتقلين في سوريا/ حسن مراد
تحت عنوان “كل مساء تُفرّغ الجثث” تناولت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، في عدد أمس الإثنين، حال المعتقلين السوريين في سجون النظام. في صفحاتها الخمس الأولى، عرضت الصحيفة لظروف اعتقالهم من جهة، وإقدام النظام أخيراً على الإفصاح عن أسماء الذين قضوا تحت التعذيب من جهة ثانية.
حملت الافتتاحية عنوان “القرون الوسطى”، حيث كتبت ألكسندرا شفارتزبرود أنه وبالرغم من كل ما يتناهى إلى مسامعنا عن الجرائم التي تُرتَكب في سوريا، فإننا ما زلنا نجهل الكثير عن واقع السجون وما يدور داخلها من فظائع، بدءًا بالتعذيب الممنهج وأساليبه التي تُذكر بالقرون الوسطى، وصولاً إلى إرساء ما أسمته “بيروقراطية الموت” الشبيهة بجرائم الإبادة التي عرفها التاريخ البشري. وختمت افتتاحيتها مطالبةً بإنقاذ من يمكن انقاذه من المعتقلين، ومنع النظام السوري من إعادة تدوير نفسه وإفلات أركانه من المحاكمة.
لم تكتف “ليبراسيون” بتناول هذه القضية من جوانب متعددة، كما لم تسردها بصورة مجردة، بل وضعتها في سياق زمني أعاد التذكير ببدايات الثورة وسلميّتها. الغرض من طرح الملف على هذا النحو هو التذكير بإرهاب النظام الممارس بحق شعبه، لا سيما أن جزءاً من الرأي العام الفرنسي لم يعد يرى من الملحمة السورية إلا خطر الجهاديين الذي يتوجب درءه بأي ثمن حتى لو اقتضى الأمر تطبيع العلاقات مع بشار الأسد.
عبر هذا الملف سلطت “ليبراسيون” الضوء على مسألتين: أولهما أن الآلاف من السوريين والسوريات ما زالوا في أقبية المعتقلات الأسدية، ما قد يضاعف هذه الكارثة الإنسانية في المستقبل. النقطة الثانية أنه، وعلى الرغم من سعي النظام إلى الإفلات من المحاسبة الدولية، إلا أن سبلاً أخرى ما زالت متاحة لملاحقة أركانه على جرائمهم المرتكبة.
وحملت المادة الأولى في هذا الملف شهادة لنجاح البقاعي، أستاذ الفنون الجميلة في جامعة دمشق والمعتقل السابق في الفرع 227، فروى لهالة قضماني ولوك ماتيو، تجربته المزدوجة في الاعتقال وخروجه من المعتقل بعد دفع عائلته أموالاً للضباط.
شهادة البقاعي تمحورت أساساً حول ما رآه وعايشه من ظروف اعتقال، فسرد أساليب التعذيب المتعددة، كالكرسي الألماني الذي تسبب بكسر العامود الفقري للعديد من المعتقلين. وبحسب البقاعي، لم يتمكن من مقاومة هذا الكرسي سوى الفتيان (12-14 عاماً) لأن أجسادهم ما زالت طرية. كما تطرق في شهادته إلى احتضار معتقلين أمام عينيه بسبب التعذيب أو سوء الرعاية الصحية.
على نحو مواز، يروي البقاعي أنه في كل ليلة كان السجان يصطحب أربعة أو ثمانية معتقلين لإفراغ شاحنة محملة بعشرات الجثث المرقمة، وفي الصباح تضاف إليها جثث المعتقلين في الفرع 227 ليعاد تحميلها إلى مقبرة جماعية في محيط دمشق. يصف البقاعي الأجساد بأنها كانت هزيلة وعليها آثار التعذيب والأمراض، كما أن بعض هذه الجثث تعود إلى جنود (تعرّف إليهم من البزة العسكرية)، وهي تحمل آثار طلقات نارية، ما يشير برأيه إلى محاولتهم الفرار من الخدمة أو تمنّعهم عن تنفيذ الأوامر.
لم تكتف “ليبراسيون” بسرد تجربة نجاح البقاعي تلك، بل أرفقتها برسوم خطها بنفسه، لتحاكي ريشته تجربة الاعتقال تلك، من أساليب التعذيب التي ذاقها، إلى عملية “تحميل وإفراغ الجثث”.
بعد شهادة نجاح البقاعي، تناولت الجريدة الفرنسية جانباً آخر من هذه القضية، وهو إفراج النظام السوري أخيراً عن لوائح المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب. تحت عنوان “النظام يلفظ لوائح التعذيب”، وصفت الصحيفة طريقة إعلان أجهزة النظام عن لوائح قتلاه في السجون بـ”بيروقراطية الموت”، لا سيما أن الوسيلة الوحيدة لتتأكد الأسر من مصير أبنائها هي مراجعة السجل المدني.
“بيروقراطية الموت”، دفعت الصحيفة إلى التساؤل عن السبب الكامن وراء هذه الخطوة، خصوصاً أنها سابقة لم تسجل في تاريخ الأسد الإبن، ولا حتى الأب. وبحسب نديم حوري، مدير برنامج الإرهاب ومكافحة الإرهاب في “هيومن رايتس ووتش”، فإن أعداد الضحايا باتت ضخمة وبشكل يصعب تجاهله حتى من قبل أجهزة النظام. وأضاف حوري لـ”ليبراسيون” أن النظام يسعى إلى طي ملف المعتقلين المطروح بقوة على طاولة المفاوضات في أستانا.
من جهته اعتبر أسامة شربجي، مدير مؤسسة “آفاق”، أنها رسالة للسوريين لردعهم عن الثورة على النظام مجدداً. ورأت الصحيفة الفرنسية أن النظام ما كان ليقدم على هذه الخطوة لولا إفلاته من العقاب، افلاتٌ تتيحه له ثغرات في القانون الدولي، كما الفيتو الروسي – الصيني الذي يمنع إحالة هذه الجرائم على المحكمة الجنائية الدولية.
وأنهى لوك ماتيو مقاله بالإشارة الى أنه، إزاء هذا الواقع القضائي المتحجر، فالملاذ الوحيد لمحاسبة أركان النظام السوري على جرائمهم هو اللجوء إلى الأجهزة القضائية المحلية، على غرار مذكرة التوقيف التي أصدرتها ألمانيا بحق مدير المخابرات الجوية جميل حسن.
ختام هذا العدد كان بقلم هالة قضماني التي عرضت شهادة آمنة خولاني، شقيقة مجد خولاني الذي أُعدم في 15 يناير/كانون الثاني2013 وأفرجت سجلات النظام عن إسمه. دفاع مجد المستميت عن سلمية الثورة (بشهادة ما نشره في فايسبوك قبل اعتقاله) لم يشفع له ولشقيقه بمواجهة حكم الإعدام الصادر عن المحكمة العسكرية. مأساة هذه العائلة لم تتوقف عند هذا الحد، فشقيق آمنة الثالث، قضى هو الآخر تحت التعذيب، على مرأى من شقيقها الرابع الذي تمكنت العائلة من إخراجه بعد دفع الرشاوى.
تناول “ليبراسيون” لقضية مجد خولاني، أعاد التذكير بما كانت عليه الثورة من سلمية، لا سيما في داريا التي يتحدر منها مجد، هذه المدينة التي حمل ثوارها الورود البيضاء ووزعوا زجاجات المياه على الجنود الذين بادلوهم بالرصاص.
http://www.liberation.fr/photographie/2018/08/13/damas-la-bureaucratie-de-la-mort_1672305
المدن