ثقافة وفكر

عن السجال حول التحديث والقبيلة والطائفة/ موريس عايق

 

 

 

في النقاشات العربية الدائرة حول موضوع التحديث والحداثة وعـــلاقتـــهما بالقبـــيلة والطــائفة، تحـــضر آراء متباينة عدة.

– يرى أصحاب الرأي الأول، أن عودة الطائفية والقبلية كانت نتيجة لفشل مشروع التحديث وهزيمته التامة. حيث عادت الطائفة والقبيلة الى الظهور نتيجة لهذه الهزيمة ولملء الفراغ الحاصل مع فشل الدولة الحديثة وحكم القانون والهوية القومية أو الوطنية.

– في المقابل، هناك رأي ثان يرى أصحابه أن التحديث فشل بسبب تداخله منذ البداية مع القبيلة والطائفة، اللتين نجحتا بالتسلل إلى الدولة والسلطة والاستيلاء عليها خلف ادعاءات أيديولوجية حداثية. فالتحديث لم يكن في حقيقته ومنذ البداية، سوى تحديث براني لم يصل إلى عمق البنى الاجتماعية. العلاقة بين السبب والنتيجة بالنسبة الى هذا الرأي مقلوبة، ففشل المشروع التحديثي نتيجة لسبب أولي هو مقاومة البنى الاجتماعية القبلية والطائفية والجهوية وصلابتها.

– رأي ثالث يعتبر أن عملية التحديث، كما عرفتها الدول العربية، كانت في أساسها تحديثاً طرفياً، تابعاً وخاضعاً للشرط الاستعماري. فنحن لسنا أمام فشل للتحديث، بل ما نراه هو الحالة الطبيعية للتحديث الطرفي والكولونيالي. تبدو علاقة السبب – النتيجة بالنسبة الى هذا الرأي شبيهة بتلك التي نراها مع الرأي الأول، لكن السبب هنا لا يتعلق بالفشل، بل بالحالة الطبيعية لعملية التحديث.

 

المعضلة التي تواجهنا مع هذه الآراء المتباينة هي عملية التحقق، كيف يمكن الحكم عليها وتحديد الصائب والخاطئ منها. للوهلة الأولى، قد تبدو العملية يسيرة بحكم سهولة التحقق من السبب والنتيجة، السبب يتقدم زمنياً على النتيجة. لكن الواقع أن المسألة ليست بمثل هذه السهولة المتخيلة. فالحديث عن الطائفة أو القبيلة وغيرهما من الهويات الجهوية لدى أصحاب الرأي الأول لا يحيل إلى هويات قديمة وتراثية، بل إلى هويات حديثة تحوّرت خلال عملية التحديث. على سبيل المثال، اضمحلت الهوية القبلية في شكل متزايد في سورية والعراق منذ منتصف القرن العشرين، لتحل مكانها هويات اجتماعية/ طبقية. وصار مألوفاً أن يلجأ الناس إلى اتحادات العمال أو الفلاحين للدفاع عن حقوقهم وليس إلى قبائلهم، لكن لاحقاً وبدءاً من الثمانينات ضعفت الهوية الطبقية بانهيار قدرة هذه الاتحادات على الدفاع عمن تدعي تمثيلهم. مقابل هذا التراجع، عادت الهويات القبلية الى الصعود باعتبارها وسائل دفاع عن أبناء القبائل، وصولاً إلى إعادة العمل بالقانون القبلي في العراق. بل تم خلق هويات قبلية في شكل جديد تماماً في عدد من المدن السورية التي لم تعرفها مسبقاً. السؤال عندها يدور حول تفسير العودة إلى القبيلة والطائفة، بعدما اعتقد الجميع بأفولهما. المقارنة بين الرأيين الأول والثاني تتمثل بالتساؤل التالي: هل العودة إلى القبيلة هي نتيجة لفشل هذه الهويات الحديثة (اتحاد العمال مثلاً) أم لأن القبيلة كانت أكثر صلابة من هذه الهوية الحديثة، بحيث نجحت حتى في التغلغل إليها واستخدامها لمصلحتها؟

أحد أوجه الصعوبة يكمن في تحديد ما نعنيه بالبعد الجديد للقبيلة أو الطائفة، بخاصة مع وجود رأي يؤكد حداثة هذه الهويات بوصفها هويات متخيلة. هنا يتم تأكيد تسييس الانتماء إلى هذه الجماعة. فالانتماء كان موجوداً دوماً، غير أن الجديد تمثل بتحويل هذا الانتماء إلى قاعدة للفعل السياسي من خلال تسييس هوية الجماعة. وُجد دوماً مسلمون سنة بوصفهم جماعة ذات اعتقادات محددة، من دون أن يترتب شيء سياسي على وجود هذه الجماعة والانتماء إليها. لكن الأمر الجديد هو تحول الهوية السنية إلى هوية سياسية وادعاء حق تمثيلها والكلام باسمها بوصفها جماعة سياسية، أو ذات مطالب سياسية يجب تمثيلها. ما يصدق على السنة يصدق على غيرهم من أبناء الطوائف أو القبائل أو الهويات الاثنية والجهوية وهلمّ جرا.

هذا التعقيد يجعل الأمر كأنه أقرب إلى نقاش أيهما الأول البيضة أم الدجاجة. سورية والعراق، مرة أخرى، يقدمان مثالين مفيدين عن هذا التعقيد. كيف نفهم نظام صدام حسين مثلاً؟ هل هو نظام حكم السنة والقبيلة؟ رأي يبرره انحدار الغالبية الساحقة من ضباط الجيش المؤثرين من المناطق السنية، وانحدار العصبة الحاكمة من أقرباء صدام حسين القبليين، وخضوع تراتبية القوة والسلطة لعلاقة القرابة والقرب من تكريت والبعد منها. لكن هل كانت هذه العملية مقصودة بذاتها، أم هي نتيجة لسياق تاريخي لم تلعب فيه النزعة القبلية والطائفية دوراً محورياً إلا في مرحلة متأخرة من انهيار المشروع وتفككه؟ فأيديولوجيا حزب البعث علمانية، كما كانت غالبية أعضاء الجناح المدني لحزب البعث من الشيعة عند استلامه السلطة، ويصدق هذا أيضاً على قياداته السنية. كذلك، حارب البعث الهويات الطائفية أو القبلية، وقام بمحاولات قانونية لقمعها ولتعزيز الهوية الوطنية العراقية. الانقسام السني – الشيعي، كما الهويات القبلية، لن يكفي لتفسير وضع العراق مع استلام البعث للسلطة وبقائه فيها. في المقابل، لا يمكن تفسير ما يحصل في العراق من دون الإحالة إلى الانقسام السني – الشيعي والهويات القبلية.

ليس هدف المقال الإجابة عن سؤال: أي هذه الآراء هو الصحيح؟ بل تبيان المعضلة الخاصة بمثل هذه النقاشات، والمتمثلة بغياب المعايير التي يمكن استخدامها للحكم على هذه الآراء واختبار قدرتها التفسيرية. تبدو هذه الآراء – على تباينها – متكافئة من حيث قدرتها على التفسير، بعضها يبدو أقدر على مقاربة وقائع محددة أكثر من النظريات الأخرى، وبعضها أكثر كفاءة في تناول حقب زمنية معينة. لكن ليس هناك وضوح حول كيفية اختبار هذه النظريات ضد بعضها البعض. فأصل المعضلة ليس أكاديمياً صرفاً، بل سياسي. هذه النظريات منخرطة في مشاريع سياسية ورهانات متباينة. هذا في حد ذاته ليس أمراً سيئاً، فكل نظرية اجتماعية منخرطة بطريقة أو بأخرى في السؤال السياسي، طالما أنها تطرح القواعد الناظمة لحياتنا على محك السؤال. لكن المشكلة هي إخفاء الرهانات السياسية الخاصة بهذه النظريات وعدم التصريح بها، والادعاء بأن هذه النظريات نظريات علمية. عندها نكون أمام أيديولوجيا بالمعنى السيئ للكلمة، أي وعي مزيف، يخفي ويخدع ولا يكشف ولا ينير، حيث يختار المدافعون عن أي من هذه الآراء ما يناسبهم من الوقائع، ويتأولونها بالطريقة التي يرغبون فيها، متهمين الآخرين باللا علمية وحتى بالانخراط في معرفة استشراقية مثلاً.

كون هذه الآراء ليست مجرد آراء علمية، بل مشاريع لها رهاناتها السياسية، فإنها مصابة بالعمى بطريقة أو بأخرى، ويمكن أن تصبح أيديولوجيا تستخدمها جماعة ما لتبرير وتشريع سلطتها في مواجهة جماعات أخرى. عندها تصبح مواجهة الطائفية ستارة أيديولوجية لهيمنة طائفية، تمنع النظر في البنى العميقة للسلطة وعملية الحفاظ عليها. يمكن أن تصبح مواجهة «الإمبريالية» والتأميم تنظيرات لتبرير الاستيلاء على السلطة والثروات وتحطيم القاعدة الاجتماعية والاقتصادية لأي قوة قد تكون قادرة على مواجهة الحاكمين.

تجاوز المعضلة لا يكمن في الانسحاب من السياسة إلى مطلب المعرفة وحدها، لكن في كشف الرهانات السياسية، بما يسمح بقيام نقاش جدي وحقيقي، وليس في إخفائها وتحويلها إلى أيديولوجيا. فقط على هذا الأساس، يصبح من الممكن لاحقاً تطوير نقاش جدي حول فهم الطائفة والقبيلة وعلاقتهما بمشروع التحديث.

الحياة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى