إعادة السحر للعالم: خيمياء الخيالات السامّة/ عمار المأمون
عبرَ التاريخ، وأثناء لحظات الصراع، ومساحات المواجهة الجسديّة بين مجموعتين بشريتين، تحضر علامات ووسائل لاستحضار العلويّ، ذاك السماويّ الذي يمتلك قوة الحسم، الذي لو هيمن، لتلاشى الاختلاف.
هذه العلامات، جزء يختزل الكلّ، غرضٌ سحريّ يستدعي بديلاً أفضل، عادل، يفكك الشرط السياسيّ القائم. الأهمّ، أن هذه العلامة تستدعي يوتوبيا من نوع ما، سحراً قادراً على إعادة توليف الشروط الآنيّة والصراعات، واستبدالها بأخرى مثاليّة تخلق التناغم بين مكونات العالم.
أثناء معركة صفين الشهير في التاريخ الإسلاميّ، رُفع المصحف على رأس الرمح، للاحتكام له، و استدعاء العلويّ لحل «المشكلة» وخلق التجانس، كون هذا «الغرض السحريّ» قادر على اختزال العنف. ذات الشيء في الستينات في أمريكا، أثناء المظاهرات ضدّ حرب فيتنام، حمل المحتجون وردة بوجه شرطة مكافحة الشغب، في استعادة ليوتوبيا رومانسيّة تحوي تجانس الطبيعة وتناغمها، فالوردة نفي للماكينة السياسيّة، واستدعاء للصفاء الطبيعيّ.
في سوريا، وإثر فشل الوردة وسحرها، كانت الكاميرا هي المرفوعة بوجه ماكينات الموت، أداة ديمقراطيّة، لا تستدعيّ نظاماً بديلاً، بل أداة من روح العصر، غرضٌ لتوثيق عيوب العالم وعنف الدولة، إذ لا يمكن الاحتكام «للشاشة» لحلّ الصراع، فهذا الغرض السحريّ، يخلق بديل فائق عن العالم (simulacra)، يستبدله بصور عن صور عن صور، يتلاشى أصلها مع الزمن، بديل لا حقيقة فيه ولا تناغم.
عالم بلا سحر
العلامات الثلاثة السابقة، تستحضر سحراً من نوع ما، قادر على تجاوز الشروط الماديّة، كما أنها لا تكتسب قيمتها إلا ضمن طقوس خاصة، في الأمثلة السابقة، الصراع هو الطقس الذي يفعّل قيمتها السحريّة، هي الكلمات والأفعال المحيطة بها التي تحولها من غرض يوميّ إلى آخر سحريّ.
استخدام كل واحدة من هذه الأغراض، مرتبط بالشرط الإنسانيّ في كل مرحلة تاريخيّة، فالأولى ترى في النموذج الديني «الصحيح» وسيلة لإعادة صياغة شروط «الحياة»؛ والثانية ترى في الطبيعة واللاعنف بديلاً عن عنف «الدولة» وسيادتها على الأفراد؛ أما الثالثة، فتعكس العجز عن تغيير الشرط، يمكن فقط التقاطه، توثيق العنف وفضحه، وجعله مرئياً، وكأن أداة استحضار السحر تهدف لإظهار الحاضر والتقاطه، لا استدعاء الغيبي اليوتوبي، فالتدخل الإلهي اللاعقلانيّ أو الطبيعيّ الرومانسيّ، استبدل بعقلانيّة مفرطة، بتقنيّة وليدة ذات الشروط، تكتفي فقط بـ «التوثيق»، وكأن الرغبة البشريّة بالتغيير، استبدلت بنوستالجيا للتناغم، و إيمان أن الخراب قائم لا محال .
أفقدت السياسات المعاصرة العالم من السحر، بصورة أدق الانعطافة التي سببتها القنبلة النوويّة، إذ أثرت على العلاقات بين «السلطة» و«الفرد» و«الكوكب»، فالعقلانيّة المفرطة أفقدت السحر معناه، أو حسب ماكس فيبر الذي يكتب في مطلع القرن العشرين «العالم أضحى بلا سحر…الفرد لم يعد بحاجة لوسيلة سحريّة ليسيطر أو يترجى الأرواح،..الوسائل التقنيّة والحسابات أصبحت تقوم بذات الوظيفة، كل ما سبق، هو معنى الثقافويّة (العقلانيّ)»، ما يحيل له فيبر هو هيمنة التقنية على العالم، واستبدال المعارف الدينيّة العلويّة، بالمعطيات والأرقام، وقدرتها الفائقة على تفسير كل شيء، فالشروط اليوتوبيّة التي يهدف السحر لتحقيقها تلاشت، والحدود التي تتحكم بنا كأفراد والإيقاع الاجتماعيّ الذي يضبط علاقاتنا أصبح شديد الكميّة، أضحى قياسياً بالمقارنة مع لا نهائيّة السحريّ.
ما يحيل له فيبر هو شكل من العلاقات استبدلت وعينا الروحيّ بالعالم بآخر عقلانيّ، علاقات قادرة على تحوير الشروط الإنسانيّة ومفاهيم الحياة، لكن، وبعد القنبلة النوويّة، والتطور العلميّ الهائل في الألفيّة الجديدة، تحولت الحياة –الكوكب وسكّانه- إلى «غرض معطوب»، يُعاد تشكيله لخدمة «البشري» صاحب السلطة، بصورة أدق من يربح.
هذا البشريّ صاحب السلطة، يمارس «التسميم» الممنهج للشرط الإنسانيّ، مدمراً مقومات الحياة الفيزيولوجيّة، والأخطر أنه لا يمكن الحياة خارج هذه السموم، حرفياً. لا يمكن أن يعيش الفرد وحيداً على جزيرة، فـ «الكوكب» لم يعد صالحاً لاستمرار، والتعرض للسموم أًصبح يومياً، سواء كان إشعاعاً كهرومغناطيسي، أو سلاحاً كيماوياً يدمرّ الهواء، أو طعاماً مبرداً ومحفوظاً ومعدل جينياً ليكون خصيصاً للاستهلاك. وهنا تبرز المفارقة، فإعادة السحر لحظيّة، تلويحة بكتاب أو وردة من المفترض أن تغير كلّ شيء، في حين أن نزع السحر هو «عملية»، جهود بشريّة وسياسية وثقافيّة لتكميم العالم، ونفي عقلاني للبديل اليوتوبي.
غياب السحر هذا- وللمفارقة- له سبب علميّ، إذ لو توقفت جهود تسميم الكوكب وتشييئه الآن، لا يمكن العودة إلى لحظة السكينة، والتناغم بين عناصره، فالعطب تمّ، مع ذلك هذا «العلم» مشكوكٌ به، عدميّ، ولا يتسق مع الرغبة البشريّة بإعادة السحر للعالم.
أين ذهب السحر؟
الجواب بسيط: الاستهلاك!، الذي استبدل المتخيل اليوتوبي الديني والرومانسي، بآخر تقنيّ وسلعي. أستَهلكُ لأحقق ارتباطي مع الفانتازم الذي تقدمه السلع. أتبنى الكلمات والأنساق وأتصرف تحت الرقابة كي أطابق المستنسخ /simulacra، البديل الصوري المثالي عن العالم.
في ذات الوقت، هناك وجه آخر للاستهلاك، فجهود الحفاظ على الحياة-Zoë التي أصبحت مرتبطة بالاستهلاك، هي ذاتها التي تسمم الكوكب دون أن ندري. الطعام المعلّب، والأكياس البلاستيكيّة والمياه المعدنيّة في القنينة، هي صناعات تسمم قبل وبعد استخدامها، لنبدو وكأننا نستهلك/نسمم لننجو، لا لنعيش.
كما في الخيال العلميّ، الحروب المستقبلية هي حروب على شروط الحياة، أما الاستهلاك، فهو الغطاء الفانتازمي لحقيقة الخراب، ففي فيلم ماتريكس، حين يتحرر نيو من الفانتازم ويشاهد الحقيقة، ينطق مورفيس كلماته الشهيرة: «مرحبا بك في صحراء الحقيقة»، المأخوذة من كتاب لجان بوردليارد، في حديث عن استبدال العالم «المسموم»، بصورة مثاليّة له، بفانتازم الاستهلاك الذي يأسر وعينا بالعالم من حولنا.
هذا الاستهلاك ذاته كظاهرة ثقافيّة ما بعد حداثية، استبدل المنطق والعقلانيّة والتطور، بالغموض والسخرية والانحراف واللعب، لتصبح الظاهرة الثقافيّة انعكاساً لعدم الاكتمال والعيوب، إذ لا أعمال ضخمة مهيبة عن سلطة عليا، ويد إلهيّة تنقب المعرفة، بل نسخ مشتتة من غيرنيكا تحترق ويحترق من فيها.
جهود الرحيل وسحر «العالم الآخر»
هذه الأرض غير صالحة للحياة، ليس منذ الآن، منذ اللحظة الذي أصبح تهديد الفناء حقيقة، إثر القنبلة النوويّة، التي لا فقط تدمّر، بل تبيد الشكل البشريّ، تنفي حدوده الخلويّة، وتهدد تكوين الجسد السليم منذ لحظة انفجارها، وحتى الآن.
الانتهاك الدائم الذي تتعرض له شروط الحياة، جعلنا ناجين، لا أحياء فاعلين، فالجهود المبذولة هي جهود إنقاذ للحياة لا لتحسينها، فكل خليّة هي احتمال للربح، سوائل الجسد تباع و تشترى، نحن نبذل جهداً لنستمر ضمن شروط سياسيّة سامّة، ونحاول خلق مساحات للأمان، لحياة متناغمة دون ضجيج، يتضح ذلك في متلازمة الحساسيّة العاليّة للأمواج الكهراطيسيّة، والتي ما زالت الحالات الموثقة منها قليلة، هذه المتلازمة تعكس السموم في المجتمعات المتقدمة (نظرياً)، لا تلك التي تمر بحروب وكوارث، وبسببها تم «عزل» بضعة أماكن في أميركا وأوروبا عن تلك الأمواج، لتكون ملاذاً للمصابين بهذه المتلازمة.
الفشل في إصلاح الكوكب، واتحاد السياسة مع العلم ولّد نزعة الرحيل، فـ «الغرض» الذي من المفترض أن نكون جزء طبيعياً منه، أصبح فاسداً، بالتالي لابد من مستعمرات جديدّة، وهنا ظهر غزو الفضاء، الرحيل نحو الخارج، وخصوصاً أن لاجديّة الحقبة الحاليّة، حولت «الحقيقة العلمية» إلى أسطورة شعبيّة، يمكن نفيها ضمن برنامج إذاعي أو مقال صحفي، كما في حالة الاحتباس الحراريّ، وكأن المعرفة التي يقدمها العلم، تكشف هيمنتنا على الكوكب، في ذات الوقت خرابه، لكن جهود الإصلاح تتراجع أمام جهود الرحيل، فترامب ذاته، الذي يرى في الاحتباس الحراريّ «أسطورة»، أمر بتأسيس قسم عسكري جديد باسم «قوى الفضاء»، إذ نقرأ في أحد التقارير الرسميّة: «تنشىء وزارة الدفاع قوى للفضاء لحماية اقتصادنا، وردع الأنشطة المشبوهة، لضمان أن الأنظمة الفضائيّة تتوافق مع الأمن القوميّ..»، يترافق هذا مع الإعلان عن اكتشاف مياه جوفية على سطح المريخ، ومن الممكن أن تكون صالحة للاستخدام البشريّ.
ما يحصل، أن العلم المسيّس يعيد تكوين شروط أخرى للبشر، ويبنيّ أسطورة خلاص جديدة، تنتمي للخارج، ويستدعى سحرها بعقلانيّة تامة، دون قوى ما ورائيّة، وهذا ما نراه في فيلم الخيال العلميّ المريخيّ، الذي يتمكن فيه الممثل مات ديمن من النجاة لسنوات في المريخ، إذ يقوم بالزراعة والحصاد، وكأنه يمكن للفرد أن ينجو على كوكب آخر، كونه محكوم بالسموم هنا على الأرض.
تبشّر الجهود العلميّة والسياسية السابقة أن هناك نهاية من نوع ما قادمة، ولا بد من شروط حياة جديدة، ونشاط «استعماريّ» للنجاة، فلا سحر قادر على إيقاف ذوبان الجليد، ولا سحر قادر على إيقاف ماكينات الموت في أقبية القمع في أنحاء العالم، فالأحياء المؤقتون، لهم حكايات فقط وصور للتوثيق وإعادة الإنتاج، لنعود لسؤال النجاة هنا، من هم الذين سينجون؟ ماذا عن الباقين ؟ ألا يستحقون «شروط حياة» أفضل؟
هنا تبرز مقولات إعادة السحر للعالم، عبر اللجوء لخارجه، لتحضر سرديات الخيال العلميّ، عن عالم «آخر» يصلح لنجاتنا، فالتكنولوجيا الفائقة والقدرة الهائلة على تكميم وقياس الشروط البشريّة، خلقت نوعاً من إعادة السحر، لكن ليس لهذا «العالم» بل لـ «هناك»، لعالم آخر بعدي، مرئي وملموس، إلا أن اليقين بوجود هذا الاحتمال، يشابه اليقين الدينيّ بأن هناك «عالم آخر»، حيث مساحات من العدل و شروط للحياة تناسب الجميع.
هذا «العالم الآخر»، متاح للأغنياء، أصحاب المال المبتذلين، المتيقنين «علمياً» من خراب العالم، منهم الأمريكي إيان موسك، والذي يحذر دوماً من خطورة الذكاء الاصطناعي ومن خطر حرب عالميّة ثالثّة، ما جعله يسعى لإنقاذ «بذور» الحضارة البشريّة، عبر السعي لاستعمار المريخ، وبناء مستعمرة إنسانية هناك تشكّل أملاً للبشريّة.
الخلاص السابق لا يتجلى فقط ببذل المال والجهد، إذ يحضر أيضاً في «الاستهلاك»، الذي يرسم فانتازمات «علميّة» عن ذاك «العالم الآخر»، وهذا ما نراه في الشكل الثقافي للترويج للشرط البشريّ الجديد، إذ تقوم وكالة الفضاء الكنديّة ببث صورة دورية، وفيديوهات من محطة الفضاء الدوليّة، يقوم فيها رائد الفضاء كريس هادفيلد الذي أمضى خمسة أشهر هناك عام 2013، باختبار أنشطة الحياة اليوميّة، تلك المبتذلة التي نقوم بها بصورة دوريّة، كتفريش الأسنان، والتبول، والاستحمام وشرب المياه، ويجيب عن تساؤلات المتابعين الناس، لتتحول مهمة البحث العلميّ إلى برنامج لتلفزيون الواقع.
هذه التسجيلات، تخلق وهم الخلاص للمتابعين، تجيب عن أسئلتهم الساذجة في حال وجدوا أنفسهم في ذاك «العالم الآخر»، لنعود للاستهلاك وفانتازماته. إلا أن الرسالة الخفية من هذه الفيديوهات يمكن أن تكون أن الخلاص من سموم هذا الكوكب مستحيل، لكن، يمكن أن نستمر خارجه، فكل شيء ممكن، فيمكن أن نستحم ونشرب الماء من أكياس خاصة بل ونبكي. نعود هنا للربح، الذي يستثمر في مخيّلة الموتى المحتملين، لتحقيق نجاة من يملكون أسباب مغادرة الكوكب.
المشترك بين المقاربتين السابقتينّ، هو التأكيد على الخراب، وعدم القدرة على استعادة الأرض لألقها، إذ وصلنا إلى نقطة لم نعد كائنات على الكوكب، بل كائنات تمتلك الكوكب، تعيد تكوينه، وهنا تبرز الخاصيّة التي تبرز بسببها العلامات سحريّة، والتي تغيرت آليات إنتاجها منذ رفع المصحف حتى الهاتف المحول، وهي اختزال العنف، الذي لم يعد محتكراً من قبل الدولة وجهازها البشريّ، بل أصبح ديمقراطياً. أساليب شرعنته وصناعة أدواته متاحة للجميع، فهناك فئة تمتلك السلاح الثقيل وسلاح الصيد عن بعد (الدولة)، وفئة تصنّع أسلحتها، مسدسات وبنادق مطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد، وانتحاريين لتحقيق الفوضى الكليّة (الأناركيون).
يمتد العنف ليطال حتى من لا يخضعون للسيادة المباشرة، بل لأي مشتبه به، كما أن التلويث الصناعي لمقومات الحياة قائم دوماً، ما يترك المجال للأغنياء فقط ليأكلوا الطعام «الطبيعي»، لا ما هو استهلاكي ومسرطن، ويمكن أن يسمم من يستهلكه. فالسموم والعنف ديمقراطيين، يتشارك أشكالها الجميع على اختلاف المستوى، لكن على النقيض، نرى تقنيات إعادة السحر المعاصرة أقلويّة، بعكس السحر الدينيّ أو الرومانسيّ، فالخلاص حكر لفئة بسيطة، قلة قليلة من أصحاب المال والسلطة قادرة على تحقيقه.
نحن العاديون سنفنى مع الكوكب، ونصبح جزء من سمومه، فالسلطة تمارس القتل من جهة، والتسميم من جهة أخرى، أما سحر الخلاص والانتقال إلى «عالم آخر»، فغرضه السحريّ مكلف، معقّد الصنع، باهظ التكلفة، غير متاح، ولا استخدام يومي له كالمصحف أو الوردة أو الهاتف النقال، إذ لا طقوس وشعائر لاستحضار مركبة فضاء تحسم الصراع، وتعيد التوازن، وتختزل العنف عبر نفي المكان الجغرافي ذاته، واستحضار فضاء آخر الجميع فيه يعيشون في تناغم.
موت غايا
خلق الاستهلاك شكلاً جديدّاً من إعادة السحر الوهميّ للعالم المأزوم، وهو الروعة أو fabulousness، وهو الشكل الأقصى للاستهلاك الثقافيّ للأزياء وأنماط الحياة والمنتجات الثقافيّة عبر استعراضها، وجعلها مرئيّة للآخرين، والتبني الكليّ للفانتازم الذي تروج له، وبعكس السحر الدينيّ والرمانسيّ، «الروعة» لا تَعد بقيم عليا أو يوتوبيا متماسكة، هي ديناميكيّة، متحركة، يضبط أشكالها المنتجات المختلفة، هي بورنوغرافيّة تتلاشى قيمتها لحظة استعراضها/استهلاكها، فكما لا أحد يكمل الفيلم البورنوغرافي بعد الإنزال، لا أحد يترك طعامه على حاله بعد نشر صورته، فلا خلاص أو سكون أو نهاية «للصراع»، بل دائرة مغلقة من الإنتاج والاستهلاك.
لكن ماذا عنّا نحن؟، المستهلك اليوميّ، المراقبّ بشدة، المعرّض للاصطياد في أي لحظة، أين السحر في حيواتنا، وخصوصاً أن العمل الفنيّ أصبح سلعة أخرى، سواء سياسية أو استهلاكيّة، أو احتجاجاً من نوع ما، لا يبشر ببديل، بل يكشف عن مواطن السموم، لنبق أمام السحر اليوميّ، تلك اللحظات الرومانسيّة، والطقوس التي تخلق الوهم بأننا جزء منظومة عليا ما، وأن أجسادنا ما زالت قادرة على التساميّ، كأن تمشي حافياً على أحجار مدينة قديمة، أو تقع في حبّ الأشجار وتعانقها لساعات.
هذه الأشكال الثقافيّة، تندرج تحت إطار اللعب، التحرر من زمن الحياة اليوميّة وجهدها، لخلق زمن خصوصيّ فردانيّ لا استهلاكيّ، هي تحرر من العقلانيّ، لخلق لحظات فرديّة من السحر تحاكي ذاك اللانهائيّ، هي أزمنة مجزّأة للسيادة الفرديّة على الذات واستقلالها، ما يميز هذه الأشكال، أنها حميميّة وشخصيّة، وغير مكتملة، فالمتخيّل اللامتناهي، استبدل بتلويحات نوستالجية لشروط وهميّة، وشكل أصيل للطبيعة، نتلمسه حين تهب ريح في حديقة، تحيط بها غابات الإسمنت.
الإشكالية في هذه الأشكال من إعادة السحر الذاتيّ، التي ترفض تكنولوجيا العصر من جهة، والخلاص الديني من جهة أخرى، أنها تتجاهل الشروط المحيطة، تسلم بالمشكلة، وتجعل النجاة فرديّة، هي شكل آخر لغريزة البقاء، وتحمل ذات النزعة العدوانيّة ضد هذا العالم وشروطه، إلا أن «زمن اللعب» الآن، مختلف عن السابق، إذ لا تناغم مع «الأرض – غايا»، ففضاء الأخيرة غير موجود، هو وهم بالتناغم، كون العلاقات الآن كمية ومدروسة، حتى تلك الطبيعيّة منها محكومة بالسموم، وخصوصاً أن «التناغم الأصلي» تلاشى.
تحويل جهود اللعب إلى محاولات للتغيير، لا تدخل ضمن الجهد «السياسي» إلا عبر التسليع ، ونقلها إلى مساحة للاستعراض من أجل الربح، كأولئك الذين يعانقون الأشجار، إذ يتلاشى السحر حين تمتصه عدسة الكاميرا التي تصنع التقرير التلفزيوني، ليصبح مجرد وهم بالنجاة، ولعب اقتصاديّ وأداء ربحيّ.
تقنيات إعادة السحر هذه، ليست إلا تسليماً بموت غويا، المثال الأقصى على ذلك الرجل الذي وُجد يعيش وحيداً على جزيرة يابانيّة، منذ حوالي الثلاثين عاماً، وحين التقى به الصحفيون، كان أهم ما طلبه منهم هو أن لا يقتربوا منه، فأجسادهم تحوي جراثيم لا يعرفها، وهنا يتضح مفهوم التسمم والعدوى، الفضاء ذاته ونشاطنا ضمنه يلوثنا، وحتى «الناجي» أو من يسعى لإعادة السحر لحياته، سيبقى وحيداً على جزيرة، إن بقي هناك جزر لم تتحول لقواعد عسكريّة أو ذابت أو اكتسحتها التسونامي، وإثر تحول «رجل الجزيرة العاري» عبر الاستهلاك الثقافيّة إلى أيقونة شهيرة، تم تسميمه بالاستعراض، والنتيجة أنه تمت إعادته بعدها إلى «المدنيّة» من قبل رجال الشرطة.
الـGamefication
العقلانية الشديدة للعالم من حولنا، ومعطياتنا المخزنة على «السحابة» كجزء من «الروعة»، حولتنا نحن أنفسنا إلى معطيات، إلى كميات منطقية وعقلانية يتم التلاعب بها، ليغدو وعينا ذاته جزء من منظومة الاستهلاك، وهنا يبرز شكل آخر للخلاص، لاستعادة السحر، لا يقوم على النفي الكلي لتكنولوجيا النظام القائم، بل العكس الانغماس الكامل بها، والانصياع كلياً لتقنيات الألعاب التي تأسرنا، لنتحول إلى معطيات صرفة، وعينا وذاكرتنا و إدراكنا للألم واللذة، يمكن أن يكمم ويتحول إلى شيفرة رقميّة، يمكن تخزينها، ونقلها وإرسالها، فإعادة السحر هنا تكمن بالتحرر من الجسد وقيوده، والتماهي بالعوالم الرقميّة، وفصل الوعي بالذات عن الجسد، ليكون الوعي تطبيقٌ يمكن تحميله ونقله من مكان لآخر، لتتجلى إعادة السحر بالانعتاق الكليّ من شروط الحياة، بل والحياة نفسها، كما فعل الفنان التايلندي كوراكريت أرونانوندتشاي الذي وضع «روح» جدته في درون طائر، عبر جمع كل صورها وتسجيلاتها و تخزينها في درون، الأمر مشابه لما قام به البيلونير سام التمان، الذي انضم إلى شركة ناشئة، دفع لها 10 آلاف دولار، لتطور أبحاثاً لتحويل «دماغه» إلى بيانات رقميّة، وحفظها على السحابة، ليتحول وعيه إلى مجموعة من الخوارزميات يستطيع استعادتها في حال فقد جسده.
نعي أخير
«حينما استيقظ صباحاً، يتملكني شعور مريع، لأني أعلم أني سأعود مجدداً، كل شيء يؤلمني»، هذه كلمات دورسان ذو السنوات الثمانيّة، الذي يعمل في مناجم استخراج الكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطيّة. يُستخدم الكوبالت لاستخراج الليثيوم، المكوّن الأساسي لبطاريات الهواتف النقالة والكاميرات الحديثة، ذاتها التي يستخدمها جاك ماس، لتصوير فيديوهاته التي يشرح فيها فوائد معانقة الأشجار، والتأمل، والانغماس في الطبيعة، التأمل كي نحقق الانضباط العقلي للهيمنة على الجسد، لذلك يصور نفسه وهو يتحدث عن مسيره في الطبيعة لإعادة اتصاله معها، ومع الكوكب الذي أتى منه، وسيعود إليه.
موقع الجمهورية