الوضع العربي الجديد: أعظم الكوارث الانسانية في التاريخ/ مارك لينش
خرج ملايين المواطنين في جميع أرجاء العالم العربي إلى الشوارع عام 2011. وعزمت الانتفاضات الشعبية من تونس إلى القاهرة على الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية إيذاناً ببدء إصلاحات ديمقراطية.
للحظة، بدا كما لو أن النظام القديم في الشرق الأوسط كان يقترب من نهايته، وأن نظاماً جديداً أفضل سيحل محلّه. لكن سرعان ما تدهورت الأوضاع. إذ انهارت بعض البلدان تحت الضغط وآلت الأوضاع فيها إلى حرب أهلية؛ في حين نجح آخرون في إيجاد طرق لتدبّر الأمر واستعادة السيطرة على مجتمعاتهم. لكن وبعد أكثر من سبع سنوات، يبدو أن هذه الآمال المبكرة في تحوّل جذري وإيجابي في سياسات الشرق الأوسط كانت في غير محلّها.
لكن هذه الاضطرابات أدّت بالفعل إلى إنشاء واقع عربي جديد؛ لكنه ليس ما كان يتوقعه معظم الناس. فعلى الرغم من أن الثورات العربية لم تسفر عن ديمقراطيات جديدة ناجحة، إلا أنها أعادت تشكيل العلاقات الإقليمية. القوى العظمى التقليدية المتمثلة في مصر والعراق وسوريا، هي بالكاد دول متماسكة الآن. وباتت تزدهر أدوار بلدان الخليج الثرية وذات الأنظمة القمعية المتمثلة في قطر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة.
أدّى تزايد أعداد الدول المنهارة والضعيفة إلى خلق فرص جديدة للمنافسة والتدخّل، ممّا مهّد لإمكانات وجهات فاعلة جديدة. لم تعد التحالفات الرسمية والنزاعات التقليدية بين الدول الكبرى هي ما يحدّد الديناميات أو التحرّكات الإقليمية. فبدلاً من ذلك، أصبحت السلطة والقوة تعملان من خلال بسط النفوذ والحروب بالوكالة.
أصبحت السياسة الخارجية -تقريباً في كل دولة عربية اليوم- مُنقادة بمزيجٍ قوي من التهديدات والفرص المتصوَّرة.
تهديدات من الثورات الداخلية الناهضة، ومن النفوذ الإيراني، و من نبذ الولايات المتحدة القائمة إلى جانب مطامح في الاستفادة من الدول الضعيفة والفوضى الدولية، مثّلت ديناميكية جذبت القوى الإقليمية إلى صراعات مدمّرة بالوكالة وغرست الفوضى في كافة أنحاء المنطقة. أي رؤية تَخلُص إلى إمكان وجود توازن في القوى قابل للتطبيق في المنطقة هي محض سراب: النظام الجديد هو في الأساس نظام الفوضى.
أصبح من الصعب تصوّر حجم الأسى في الشرق الأوسط اليوم. فقد أصبحت الحرب الأهلية السورية واحدة من أعظم الكوارث الإنسانية في التاريخ، إذ قُتل خلالها ما لا يقل عن نصف مليون مدني، وأدّت إلى تشريد أكثر من عشرة ملايين شخص. ورغم أن العراق حقّق تقدّماً ملحوظاً في دحر تنظيم الدولة الإسلامية -أو داعش- لكن هذا النجاح كلف أولئك الذين يعيشون في المناطق المحرّرة تكلفة فادحة. وأدّت الحرب الأهلية في اليمن إلى أكبر تفشٍ للكوليرا في تاريخ البشرية، وخلّفت وراءها 8,4 مليون شخص على حافة المجاعة. وما تزال ليبيا دولةً مفكّكة بشكل كارثي.
حتى الدول التي تجنبت الانهيار، ما زالت تعاني. فما تزال مصر تترنح من عواقب الانقلاب العسكري الذي حدث فيها في عام 2013، وذلك لأن القمع الخانق يحول دون حدوث التقدّم السياسي، ويقوّض السياحة، ويغذي التمرّد، ويؤدّي إلى السخط الشعبي.
وما تزال الأوضاع في البحرين مضطربة بعد أحداث القمع الطائفية الدموية في عام 2011، ولا حلول في الأفق غير قمع المعارضين السياسيين. وحتى الدول الناجحة نسبياً، مثل الأردن، والمغرب، وتونس، تجابه مشاكل اقتصادية ضخمة، وجيل شاب ساخط، وبلدان مجاورة غير مستقرة.
في كل بلد تقريباً، أصبحت الأزمات الاقتصادية والسياسية التي أوصلت المنطقة إلى الانتفاضة الشعبية في عام 2011 أكثر فداحةً ممّا كانت عليه قبل سبع سنوات.
وفي غضون ذلك، ليس ثمة أي نقص في بؤر التوتر بالمنطقة. حيث أعاد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية مع إيران فتح باب احتمالات ضربة عسكرية أميركية أو إسرائيلية قد تؤدّي إلى حرب.
كما قسّمت مقاطعة قطر، بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مجلس التعاون الخليجي،أكثر المنظمات العربية الدولية نجاحاً.
وفي سوريا، فإن ضربات إسرائيل الجوية المتكرّرة بوتيرة متزايدة، وعمليات تركيا العابرة للحدود، والوجود الإيراني الراسخ؛ دفع بالحرب الأهلية إلى اتجاهات جديدة حتى مع تلاشي المعارضة المسلّحة لنظام الأسد.
وتستعصي الحرب التي وصلت إلى طريق مسدود في اليمن على الاحتواء، مع إطلاق المتمرّدين الحوثيّين صواريخ بإتجاه المملكة العربية السعودية، والغارات الجوية السعودية التي تتسبّب في مقتل الكثير من المدنيين، وإنشاء الإمارات العربية المتحدة قواعد بحرية عبر منطقة القرن الإفريقي للمساعدة في تعزيز الحصار الذي تقوده السعودية من جهة ولحماية وجودها الجديد في جنوب البلاد من جهة أخرى.
في ذات الوقت، تهدّد أعمال العنف المتكرّرة في غزة بإعادة قضية الأراضي الفلسطينية إلى محور الاهتمام الدولي.
وفي خضم كل هذا، فإن الولايات المتحدة، في ظل حكم الرئيس دونالد ترامب، قد تحالفت بكل حماسٍ مع محور من الدول المتماثلة المواقف، وهي: مصر وإسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. لكن هذه المحاولة لاستعادة شيء يشبه نظام ما قبل عام 2011، أكثر هشاشة ممّا تبدو.
في الشرق الأوسط اليوم، يؤدّي انتشار الدول المنهارة، وأزمات الحكم المعلّقة، وخطوط المنافسة المتشابكة، إلى تقويض كل مسعى للهيمنة. فعندما تحاول الدول فرض سيطرتها في الداخل أو بسط نفوذها في الخارج، فإنها لا تخرج من ذلك إلا بالمزيد من الإضطرابات.
إن قرار إدارة ترامب بزيادة دعم الأنظمة الاستبدادية بينما يتجاهل التغييرات الهيكلية العميقة التي تقف عقبة في طريق استعادة الوضع القديم؛ لن يؤدّي إلى تحقيق الاستقرار ولا إلى تعزيز المصالح الأميركية.
التوازن المتغيّر
لا جديد في السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، لكن اختلفت كثيراً بنية وديناميكية المنطقة اليوم عمّا كانت عليه في فترات سابقة. وُصفت حقبة الخمسينات والستينات من القرن العشرين “بالحرب العربية الباردة” وفقاً للباحث مالكوم كير. دخلت مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر في عدّة نزاعات ضد أنظمة مدعومة من الغرب والقوى المحافظة في المملكة العربية السعودية، تراوحت بين التدخّل العسكري المباشر في اليمن، وصراعات بالوكالة حول السياسات الداخلية في كلٍ من الأردن، ولبنان، وسوريا. في هذه الأثناء، وضعت الوحدة العربية -الإيمان بأمّة عربية مشتركة- شروط التعاون والتنافس بين قادة المنطقة على أسس مناهضة الاستعمار، ودعم الوحدة العربية، ومعاداة إسرائيل.
وتظهر الروايات التقليدية عن تاريخ الشرق الأوسط أن فترة السبعينات شهدت نهاية هذه الحروب الأيديولوجية الخارجية. ومع وفاة عبد الناصر والظهور المفاجئ للثروة النفطية الهائلة، أصبحت الدول أكثر اهتماماً بالمحافظة على أنظمتها، أكثر من الانشغال بالقضايا الإيديولوجية الكبرى.
خلال هذه الفترة، طوّرت هذه الدول أجهزة قوية للأمن الوطني، والتي منعت الانتفاضات الداخلية. ومع تحسّن الوضع الأمني الداخلي للدول، انخفضت فرص التدخلات بالوكالة في البلاد. (لسوء الحظ، يعتبر لبنان هو الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة، حيث استمرت الحرب الأهلية هناك من 1975 إلى 1990، وأصبحت الميدان الرئيسي للصراعات والحروب بالوكالة).
بينما فشلت الثورة الإيرانية التي اندلعت في 1979 في إعادة إحياء نفس ديناميكيات الحرب بالوكالة، برغم أنها أدخلت شكلاً جديداً من التعبئة الجماهيرية الخارجية بين الإسلاميين الذين ألهمتهم الإطاحة بالطاغية المدعوم من قبل الولايات المتحدة. بدلاً من ذلك، توحّدت الأنظمة العربية ضد عدو مشترك، وضاعفت من قمعها للمنافسين الإسلاميين في الداخل.
على نقيض القصة الرسمية، كانت حقبة الدول الصلبة تتلاشى لبعض الوقت قبل انفجار عام 2011. في التسعينيات، بدأت العولمة تطرح تحدّيات جوهرية للنُظُم التقليدية في الشرق الأوسط. دفعت الهيئات الاقتصادية الدولية الجديدة الدول إلى خفض الإنفاق على الرعاية الاجتماعية والتوظيف العام. وتزايد الفقر في الدول العربية الكبرى و تآكلت البنية التحتية. حتى الدول الغنية بالنفط وجدت نفسها تحت رحمة القوى الاقتصادية العالمية، مثل ما حدث خلال الأزمة المالية عام 2008 والتقلّبات في أسعار النفط. وفي الوقت نفسه، قوّضت القنوات الفضائية والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من التقنيات الجديدة الأنظمة المعتمدة على التحكّم في تدفّق المعلومات والتعبير عن الرأي. بعد عام 2001، قوّضت الحرب العالمية على الإرهاب والشياطين التي أطلقها الاحتلال الأميركيّ للعراق، وانهيار عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية أسّس التعاون الإقليمي. وبحلول عام 2010، لم يبق سوى القليل من الأعذار للنُظُم العربية بخلاف احتواء إيران وخنق التغيير الديمقراطي.
لم تأت الانتفاضات العربية عام 2011 من العدم. بل كانت تتويجاً للتغيرات الهيكلية التي كانت تتنامى لفترة طويلة. ظل الإحباط الشعبي من الاقتصادات الراكدة في البلاد وانعدام الحريات السياسية يتصاعد منذ عقد على الأقل. وقد أصبح الفضاء السياسي في المنطقة موحّداً من خلال قنوات التلفزيون الفضائية وشبكة الإنترنت وغيرها من الشبكات العابرة للحدود الوطنية، ممّا سمح بانتشار الاحتجاجات بسرعة من تونس إلى مصر ومن ثم في جميع أنحاء المنطقة. كشفت هذه الانتفاضات المتزامنة عن قدر كبير من القوة الداخلية للدول العربية: بعضها تكيف بسهولة، والبعض الآخر بالكاد نجح في ذلك، والباقي انهار.
على الرغم من أن تأثير الانتفاضات على السياسات الداخلية كان واضحاً، إلا أن المراقبين اهتمّوا بشكل أقل بالكيفية التي غيّرت بها تداعياتها توازن القوى الإقليمي بشكل جوهري. كانت الصراعات الداخلية تستهلك القوى التقليدية مثل مصر وسوريا، ممّا جعلها غير قادرة على إظهار قوتها خارجيّاً. من ناحية أخرى، كانت الدول الخليجية الغنية مناسبة تماماً للواقع الهيكلي الجديد للمنطقة. لقد أتاح لهم المال والإمبراطوريات الإعلامية والموقع المركزي داخل الشبكات القوية العابرة للحدود مثل جماعة الإخوان المسلمين (قطر)، أو الشركات الدولية (الإمارات) استخدام القوة الناعمة. وعلى الرغم من صغر حجمها، لدى هذه الدول جيوش مجهزة جيداً ومدربة تدريباً جيداً، ويدعمها مرتزقة يحصلون على رواتب مجزية. مكّنهم ذلك من استخدام المزيد من القوة الصلبة في الساحات مثل ليبيا واليمن ممّا كانت القوى العربية التقليدية قادرة عليه. الأهم من ذلك، أن هذه الأنظمة تمارس سيطرة شبه كاملة على سكانها، مما يعني إمكانية منعها التدخّل الخارجي بطرق لا تستطيعها الدول الأكبر والأقل ثراءً والأقل قمعية فعله. هذا صحيح حتى عندما ينقلب بعضهم على بعض. في الغالب فشلت الجهود التي بذلتها السعودية والإمارات على مدى عامٍ من أجل زعزعة استقرار قطر -عن طريق قطع العلاقات الدبلوماسية، ونشر معلومات مغلوطة، وفرض حظر اقتصادي وتجاري- لأن قطر لديها الموارد المالية والقدرة القمعية على كبح التحدّيات المحلية المحتملة.
نفوذ الوكلاء
في هذا النظام الإقليمي الجديد، يعمل النفوذ نفسه بطريقة مختلفة. أوجدت الانتفاضات مخاوف جديدة حول استطاعة الأنظمة على البقاء والاستمرار، حتى بين اللاعبين الأكثر نجاحاً. في الوقت نفسه، قدّم وجود الدول الفاشلة والحروب الأهلية فرصاً جديدة لدول لتوسيع نفوذها. جعل توحيد الفضاء السياسي العربي من خلال التجربة المكثفة للثورات الدول تنظر إلى كل حدث في المنطقة كمؤشّر قوة وتهديد محتمل: ولا يمكن لأي دولة أن تعرض الانسحاب. سواء تعلّق الأمر برغبة في نشر السلطة أو مصلحة دفاعية في منع المنافسين من فعل الشيء نفسه، وعليه فقد وجد كل نظام تقريباً نفسه في حروب أهلية وألعاب النفوذ الأخرى.
بينما أظهرت تونس ومصر مخاطر الانتفاضات الشعبية على القادة الذين كانوا واثقين من قدرتهم على منع التحدّيات التي تواجه حكمهم، قدّمت ليبيا النموذج الأول للاستفادة من هذه الاضطرابات. عندما وصلت الانتفاضات العربية إلى ليبيا، قفزت دول خليجية ثلاث: قطر والسعودية والإمارات إلى جانب تركيا، لتتحرّك ضد الزعيم الليبي المُزدرى معمّر القذافي. استخدمت دول الخليج إمبراطوريتها الإعلامية لجذب الانتباه إلى الفظائع الليبية (مع تجاهل العنف المتزامن في البحرين). ووافقوا على قرار من جامعة الدول العربية للمساعدة في دفع الولايات المتحدة والأمم المتحدة إلى دعم التدخّل الإنساني. كما قاموا بتوجيه كميات هائلة من الأسلحة والمال إلى ميليشياتهم المحلية المفضلة التي تقاتل النظام.
كان لهذه التدخّلات غير المباشرة تأثيرات سلبية طويلة الأمد. فقد دعمت كلٌ من قطر والإمارات معارضة القذافي، لكنهما دعمتا وكلاء محليين مختلفين. بعد سقوط النظام، احتفظت تلك القوات بسلاحها ورعاتها الخارجية، ممّا أعاق تعزيز الدولة الليبية الوظيفية وانحدار البلد بعد ذلك إلى حربٍ أهلية. وحتى اليوم، يعمل الدعم العسكري المصري والإماراتي لعملية الكرامة تحت قيادة خليفة حفتر -الذي تسيطر قواته على جزءٍ كبير من شرق ليبيا- على تسريع وتكثيف القتال.
لكن التداعيات المدمّرة للتدخّل الخارجي لم تظهر على الفور. في الأيام التي عرفت اندفاعاً في 2011، نظرت دول الخليج وتركيا (مثلما فعلت الولايات المتحدة) إلى تدخّلها في ليبيا على أنها قصة نجاح: فقد أدركوا فوائد دعم الوكلاء المحليين، وعلموا أنهم يستطيعون تأمين الدعم الأميركي والأوروبي والأممي للتدخّل ضد منافسيهم. ومع فتح أعينهم على الإمكانيات الجديدة، رأوا الانتفاضة الشعبية ضد الرئيس السوري بشار الأسد بمثابة فرصة لإبعاد سوريا عن إيران واسترجاع توازن القوى الإقليمي لصالحهم. وعندما اتضح في أوائل عام 2012 أنهم لا يمكنهم تكرار نجاحهم في ليبيا عن طريق الحصول على دعم مجلس الأمن الدولي للتدخّل ضد الأسد، تحرّكت دول الخليج وتركيا لتسليح التمرّد السوري. وحتى إذا لم ينجح ذلك في إسقاط الأسد، فقد رأوها فرصة لإيقاع حليف إيراني دموي ونقل المعركة إلى أرض منافس رئيس.
أدّى هذا الدعم الخارجي للمتمرّدين السوريين إلى نتائجٍ كارثية، وعجل من العنف دون تقديم أي طريق معقول للحل. وعلى الرغم من تحمّل نظام الأسد لأكبر قدر من المسؤولية عن الفظائع والوحشية المنظّمة في الصراع، فإن الداعمين الخارجيين للتمرّد ساعدوا في تكثيف الحرب على الرغم من التكاليف الباهظة. لقد فرض الهيكل السياسي الجديد في المنطقة الفشل. في كل مرة قام فيها المتمرّدون بهجمات، تدخل المتنافسون الخارجيون ـ إيران، وحزب الله، وروسيا ـ إلى جانب الأسد. كل تقدم ولّد تراجع حتمي، وهو ما صعد فقط من مستوى المعاناة الإنسانية. في واحدة من أكثر الأمثلة الحاسمة لهذه الديناميكية، في عام 2015، بعد أن استولت جماعات متمردة أصولية مدعومة من الخارج على أراضي في شمال سوريا، تدخلت روسيا بوحشية في حلب.
لم تكن القوى المتنافسة في سوريا على نفس القدر من المهارة في الحرب بالوكالة. فقد ركّزت القوى الداعمة للأسد مثل الليزر على دعم النظام. وأتقن الإيرانيون فن رعاية الميليشيات المحلية بشكل خاص، وغالباً ما رافق ذلك التوجيه والدعم المباشر من فيلق الحرس الثوري الإسلامي. من ناحية أخرى، ترى كل من قطر والسعودية وتركيا بعضهم بمثابة منافسين بقدر ما يرون بعضهم حلفاء، كما أدت جهودهم التنافسية غير المنسقة إلى نتائج عكسية. (اتخذت الإمارات مقعداً خلفيّاً في سوريا).
على الرغم من أن الولايات المتحدة حاولت فرض التعاون بين الفصائل القطرية والسعودية والتركية، إلا أنها فشلت في التغلّب على الاقتتال الداخلي بين تابعيها أو فرض استراتيجية متماسكة. تضخّمت هذه المشكلات بسبب خصخصة تدفّق الأسلحة والمال للجماعات المتمرّدة في الأيام الحاسمة من أواخر عام 2012 وأوائل 2013، إذ قامت الشبكات السلفية في الخليج بصب الأموال لصالح التمرّد. أدّى هذا إلى المزيد من التوتر وسحب مركز الثقل نحو النهاية الجهادية. ومع اندلاع الحرب، حوّلت دول الخليج وتركيا دعمها إلى تحالفات إسلامية متشدّدة على نحو متزايد بحثاً عن مقاتلين فعالين. خرجت داعش من هذه البيئة، ليس كوكيل لأية دولة ولكن كقوة متمرّدة تتكيّف بشكل جيد مع ما أصبحت عليه سوريا.
بعد سنوات من محاولة تسليح المعارضة وحكمها وتشكيلها في وقت واحد عن بعد، تدخّلت الولايات المتحدة في نهاية المطاف في سوريا لمحاربة داعش وليس الأسد. نجح هذا التدخّل بشروطه الخاصة، حيث دُمّر كيان داعش الشبيه بالدولة في كلٍ من العراق وسوريا. وفي الوقت نفسه، منع نطاق الحملة المحدد والقرارات المسبقة الولايات المتحدة من الانزلاق في صراع أوسع مع الأسد وروسيا. لكن تعقيدات إدارة هذا التدخّل المحدود ضد داعش أثبتت أنها صعبة وتُنتج التزامات جديدة غير مقصودة. تميّزت السنوات القليلة الماضية بالجهود الأميركيّة والروسيّة لإدارة تنافسهما في سوريا. في هذه الأثناء، أعاد النظام المدعوم من إيران وروسيا الاستيلاء على الأراضي دون هوادة من حركات التمرّد الآخذة في الهبوط بشدة والمدعومة من الخارج.
لكن حتى انهيار داعش ومكاسب نظام الأسد الكبرى لم تؤدّ إلى تقريب الصراع من نتيجة. تستمر دولة سوريا الفاشلة في العمل كمغناطيس جاذب لدول أخرى في المنطقة. على سبيل المثال، أدت الحملة ضد داعش في النهاية إلى مشاركة تركيّة أكبر. في عام 2015، استقرّت الولايات المتحدة التي كانت في حاجة ماسة إلى وكلاء محليين لمحاربة داعش على الاستعانة بوحدات حماية الشعب التي يهيمن عليها الأكراد (YPG)، بجانب ميليشيات أخرى، تحت مسمّى القوّات الديمقراطية السورية (SDF). أثار نجاح هذه القوّات المخاوف التركية من النزعة الانفصالية الكردية، والتي أدّت في عام 2017 إلى قيام تركيا بتدخّلات عسكرية متصاعدة في العديد من المناطق الرئيسية في شمال سوريا. في الوقت نفسه، بدأت إسرائيل في زيادة ضرباتها الجوية ضد أهداف إيران وحزب الله داخل سوريا. يبدو أن معارضة النظام والحملة ضد داعش بدأت تنحسر، لكن الحرب السورية أصبحت أكثر تدويلاً من أي وقت مضى.
على الرغم من أنّ سوريا هي الحالة الأكثر كارثية، إلّا أنّ القوى المحلية بدَورها قد خلَقت أضراراً بشرية وسياسية هائلة في أماكن أخرى كذلك، أثناء سعيها للنفوذ والمَكانة. كما تسبّبت جهودهم في زعزعة دول لم تكن متورّطة في حربٍ أهليّة. والمثال الأسوأ على ذلك هي مصر. ففي عام 2013، دعمت المملكة العربية السعودية والإمارات الانقلابَ العسكريّ بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، والذي أطاح بمحمد مرسي، الرئيس المنتخَب ديموقراطيّاً، والذي كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين والمدعوم من قطر. لكن على الرغم من عشرات مليارات الدولارات التي قدّمتها المساعدات الخليجية، إلا أنّ نظام السيسي القمعي والوحشي فشل في استعادة الأوضاع الطبيعية في مصر أو في إعادة استقرارها. حتى في تونس، التي كانت ناجحة نسبياً، فإن المنافسة بين قطر والإمارات قد أدَّت إلى زعزعة الأوضاع. وقد لوّث ضخ الأموال الأجنبية الكبير والدعم السياسي للحلفاء المحليّين السياسات الديمقراطيّة الوليدة.
معضلات الأمن في كل مكان
هذه الديناميكيات الإقليمية المضطربة هي نتاج “معضلات أمنية” كلاسيكية؛ فعندما تحاول الدول زيادة أمنها، فإنها تقوم باتخاذ تدابير مضادة تجعلها أقلّ أمناً ممّا كانت عليه من قبل. إذْ تعيش اليوم جميع الأنظمة العربيّة في ظل حالة من الشعور العميق بانعدام الأمن. وبسبب كل تبجّحهم هذا، فإنهم يشعرون بالرعب من اندلاع موجة أخرى من الاحتجاجات الشعبية. وقد أدّى الانتشار السريع للاحتجاجات في عام 2011 إلى إقناع الدول بأن انطلاق الانتفاضة في أيّ مكان في المنطقة يمكن أن يشعل واحدة في الداخل. وعندما هزّت الاحتجاجات الاقتصادية الأردن في مايو/أيار الماضي، قامت قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على الفور بتجديد المساعدات الاقتصادية لعمّان من أجل وقف الاضطرابات.
ولكن عندما تحاول الدول قمع المنافسين المحتملين من خلال ممارسة سيطرة أكبر على مجتمعاتها، فإنها عادة ما تجعل الوضع أسوأ فحسب. وكلما كانوا أكثر حزماً، ازداد الغضب والاستياء الذي يولّدونه وكذلك إمكانيات الإدماج الديموقراطي التي يستبعدونها. يمكن رؤية هذه الديناميكية بشكل أوضح في مصر، حيث وسّع السيسي حملته ضد الإسلاميين لتشمل النشطاء والصحفيّين والأكاديميّين العلمانيّين. نتيجةً لذلك، قام -بشكل متزايد- بقمع فئات كبيرة متزايدة من الائتلاف الذي دعم الانقلاب.
هذه المعضلات الأمنيّة الداخليّة تفسّر قرارات السياسة الخارجيّة التي لا يُمكِن تفسيرها بغير هذا. لنأخذ بعين الاعتبار ولي العهد السعودي الجديد، محمد بن سلمان: بعد توطيد سلطته بسرعة، قام وليّ العهد بتحوّلات جذريّة في السياسة المحلّيّة. وقد أدخَل إصلاحاتٍ اجتماعية، مثل السماح للنساء بقيادة السيارات وفتح دور السينما. وفي الوقت نفسه، قام بقمع النشطاء في مجال حقوق المرأة، وقام باعتقال وترهيب قِسم كبير من نُخَبة البلاد، كما قام بتهميش أجزاء رئيسية من المؤسسة الدينية.
لكن لا يمكن النظر إلى نجاح بن سلمان الملحوظ في توطيد القوة في الداخل بمعزل عن تدخّلاته الخارجيّة الكارثيّة والمفرطة في العدوانيّة. حتى قبل استيلائه على السلطة المحليّة، قرّر التدخّل في الحرب الأهلية في اليمن، مفترضاً أنّ النصر السريع هناك سيَحشد الدعم في الداخل. ولكن بدلاً من ذلك، أصبحت القوّات السعودية مُحاصَرةً في مستنقَع مدمّر.
وبالمثل، كان من المتوقع أنْ يُؤدِّ حصار ومقاطعة قطر عام 2017 إلى هيمنة السعودية على مجلس التعاون الخليجيّ وتقويض أي تحدٍّ محليّ من جماعة الإخوان المسلمين. بدلاً من ذلك، كانت النتيجة عكسية، فقد أثبتت قطر قدراً أكبر من المرونة مما توقعه معظم الناس. كما قوَّضَ الحصار العلاقات مع واشنطن، وألحق أضراراً بمحاولات لاحتواء إيران، وأضعف مجلس التعاون الخليجي، وربما بشكل قاتل. وفي كلٍّ من اليمن وقطر، وجدت المملكة العربية السعودية نفسَها عالقة، وغير قادرة على التصعيد بما فيه الكفاية للفوز ولكن أيضاً غير قادرة على التراجع خوفاً من العواقب السياسية الداخلية.
ولنا في المنافسة بين الدول العربية وإيران مثالٌ آخر على المعضلة الأمنيّة في أوجها. فرغم أنّ مخاوف العرب من التوسّع الإيرانيّ مبنيّة على حقائق واقعيّة، إلا أنّ هذه المخاوف كانت دائماً غير متناسبة البتّة مع القوة الإيرانيّة الفعليّة. ومع ذلك، كلما زاد تحرّك الدول العربية لمواجهة إيران، أصبحَت أقوى. ففي اليمن، حوَّلَت الحملة الإماراتية والسعودية ما كان في الأصل مَوطِئَ قدمٍ إيرانيّاً ثانويّاً إلى تحالفٍ استراتيجيٍّ أقوى مع المتمردين الحوثيّين وأدّى إلى اختراقٍ أكبر من قِبَل وكلاء مدعومين من إيران.
في سوريا، أعطى التمرُّد المدعوم من دول الخليج وتركيا لإيران دوراً قيادياً أكبر بكثير في البلاد. وفي لبنان، أثار المشهد الغريب لاحتجاز الحكومة السعوديّة رئيسَ الوزراء اللبنانيّ سعد الحريريّ رهينةً في الرياض لعدة أسابيع أزمةً سياسيّةً داخليّة أضعفت في نهاية المطاف الائتلافَ السنيّ الموالي للسعوديّة في البرلمان اللبنانيّ.
لكن هذه الديناميكيّات الجديدة ليست مجرّد نتيجة تنافس بين الدول؛ وإنّما هي أيضاً نتاج الدول الضعيفة والهشة، التي تخلق معضلاتها الأمنية من خلال خلقها لفراغاتٍ في السلطة والقوّة. وحتى إذا لم تكن قوة إقليمية ما تنظر على الفور إلى فراغٍ في السلطة كفرصة جيّدة لتوسيع نفوذها، فإنها تخشى أن يقوم مُنافسوها بذلك. وحالَما تتدخّل دولة ما، فإنها تعتقد أن خفض الدعم لوكلائها المحليين لن يؤدي إلا إلى تعزيز وكلاء منافسيها الإقليميين. هذا الخوف يصعِّب تهدئةَ التوتّر في الحروب الأهلية في ليبيا وسورية واليمن. حتى لو أدركت الجهات الفاعلة أنّ تدخلاتها قد فشلت، فإنها مُحاصَرة بالمنطق التنافسي لمعضلة الأمن – لتصبح غير قادرة على الفوز ولا على مغادرة الساحة.
المعيار الجديد
في منطقة مشبّعة بالمعضلات الأمنيّة، لا يمكن لأيّ قدرٍ من التطمينات الأميركيّة أن يكون كافياً على الإطلاق. إنّ الحجم غير المسبوق لمبيعات الأسلحة الأميركيّة إلى السعودية والإمارات العربية المتحدة خلال السنوات الخمس الماضية (التي وافقت عليها إدارة أوباما لحشد الدعم من أجل الاتّفاق النوويّ الإيرانيّ) لم يترك أيّاً من هاتين الدولتين أكثر أماناً. حتى مع تخلّي واشنطن عن أي حديث عن الدمقرطة أو الامتثال لحقوق الإنسان، لم تتفرّغ تلك الأنظمة الاستبداديّة لحل تحدّياتها الداخلية.
لم يؤدِّ انسحاب الولايات المتّحدة من الاتفاق النوويّ الإيرانيّ إلا إلى زيادة المخاوف بين دول الخليج العربيّ من إيران التي تزداد قوّة. كما أدَّى دعم واشنطن الأحاديّ الجانب لإسرائيل، أثناء أحداث العنف في غزّة، إلى تعميق العزلة الدولية لهذا البلد (إسرائيل) والتعجيل باحتماليّة اندلاع صراع آخر. ورغم أنّ الولايات المتحدة قد ساهمت في إضفاء العلانية على التحالف بين دول الخليج السنيّة وإسرائيل، إلا أن هذا الجهد قد قوّضته المواجهة الإماراتية-السعودية مع قطر.
حتى مع وجود رئيس أميركيّ يتّخذ موقفاً متشدّداً تجاه إيران، ويبدو أنه ليس لديه مشكلة مع الحكم الاستبدادي، إلّا أنّ الأنظمة العربية لم تعد ترَى الولايات المتحدة ضامناً موثوقاً لبقاء النظام أو لمصالح سياستهم الخارجية. في هذه البيئة الجديدة، مِن المنطقيّ أن يقوم حتّى حلفاء الولايات المتحدة المقرَّبون ببناء علاقات مع الصين وروسيا والاتحاد الأوروبيّ – كما تفعل الآن مصر والسعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة وحتّى الأردن. مثل هذه الجهود هي تحوُّط عقلاني ضد عدم القدرة على التنبؤ بما قد تقوم به الولايات المتحدة، ولكن يمكن بسهولة أن يتصاعد إلى شيءٍ آخر من خلال نفس ديناميات معضلة الأمن التي سبَّبت اضطراباً لجميع الأبعاد الأخرى للسياسات الإقليميّة.
كافحت إدارة ترامب لإدارة هذه الحقائق الجديدة. إنّ التغييرات المفاجئة في سياسة ترامب والرسائل غير المترابطة التي تأتي من أجزاء مختلفة من الحكومة الأميركيّة تُربِك الحلفاءَ والخصومَ على حدٍّ سواء. قد يَروق للسعودية والإمارات العربية المتحدة موقفُ ترامب المتشدّد تجاه إيران ودعمه للحرب في اليمن، لكن سياسات أخرى، مثل ضغوط واشنطن عليها لإنهاء حصار قطر ومطالبها لهما بزيادة إنتاج النفط، وإشارات عزم واشنطن على الانسحاب من سوريا، ولّدَت إحباطات جديدة.
ومع ذلك، لا يجب أن تصرِفَ إدارة ترامب الفوضويّة الانتباه عن الحقائق البنيويّة الأعمق، والتي كانت ستشكل تحدّياً لأي رئيس أميركيّ.
لم يعد لدى الولايات المتحدة القوّة أو المكانة لفرض نظامٍ إقليميّ وفق شروطها الخاصة. في جميع الاحتمالات، لن تتمَّ استعادة الهيمنة الأميركيّة في الشرق الأوسط لأنّ المنطقة تغيّرَت بشكلٍ جذريّ. كما أن تجاوُز الفشل السياسي والحروب التي أعقبَت الانتفاضات العربية لن يكون سهلاً لأن الضرر عميق جداً.
– متخصّص في شؤون الشرق الأوسط، خاصة شؤون الإسلاميين والعراق وفلسطين.
هذا المقال مترجم عن موقع foreignaffairs.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي.
https://www.foreignaffairs.com/articles/middle-east/2018-08-13/new-arab-order?cid=int-fls&pgtype=hpg
درج