شهادات

في مقدمات الثورة السورية – 11: مدافعون عن حقوق الإنسان في وطن لا يعرف الحقوق ولا الإنسانية/ وائل السوّاح

 

 

لا تتمتع سورية بسجل نظيف في مجال حقوق الإنسان. ويعتبر مفهوم حقوق الإنسان مفهوما جديدا على الساحة السورية. فمع التطورات السياسية السريعة التي عصفت بالبلاد منذ ستينات القرن الفائت، كانت المفاهيم السياسية مثل الاشتراكية والإمبريالية والقومية والوحدة والديمقراطية هي المتداولة، وفي حين تقدم مفهوم التحرر الوطني تراجع مفهوم الحريات الفردية وحقوق الإنسان. وقد أعلنت حالة الطوارئ في سورية بالقرار العسكري رقم 2 الصادر صبيحة الثامن من آذار، 1963. وعلى الرغم من إقرار دستور للبلاد في عام 1973، إلا أن قانون الطوارئ لم يعدل، كما أن حالة الطوارئ بقيت مستمرة دون انقطاع على امتداد العقود الأربعة الفائتة.

بدأ إدخال مفهوم حقوق الإنسان إلى ساحة العملين الثقافي والسياسي متأخرا جدا عن باقي بلاد الدنيا. بل إن أول منظمة معروفة لحقوق الإنسان لم تشكل إلا مع نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وهي منظمة لجان الدفاع عن الحريات الأساسية وحقوق الإنسان.

ومع ذلك لم تكن هذه المنظمة هي أول منظمة بالفعل. ففي الستينات من القرن الماضي، وقبل أن يستولي حزب البعث على السلطة في دمشق، تم تأسيس جمعية لحقوق الإنسان سميت برابطة الدفاع عن حقوق الإنسان، وكان مؤسسوها مجموعة من خيرة المحامين والأطباء السوريين المرموقين منهم د. أحمد بدر الدين؛ د. أسعد الأسطواني؛ المحامي بشير كعدان؛ المحامي عاكف باكير؛ المحامي عبد الحميد الخليل؛ د. عبد المسيح داغوم؛ د. فايز القوتلي؛ د. مروان محاسني؛ د. موفق الكزبري؛ والمحامي نزار سعيد. ومن الغريب أن هذه الجمعية كانت مرخصة من قبل السلطات المختصة الحكومة السورية، وقد تم إشهارها بكتاب من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل إلى “رئيس رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان بدمشق.” وفي نص الكتاب أنه “عملا بأحكام المادة 9 من قرار رئيس الجمهورية 1330 لسنة 1958، المتضمن اللائحة التنفيذية لقانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة، نرسل إليكم طيا نسخة من نظام جمعيتكم الذي تم شهره برقم 700 وتاريخ 8/7/1962، مؤشرا عليه بذلك. توقيع وزير الشؤون الاجتماعية والعمل.”

كان ذلك الكتاب هو الأول والأخير الذي يصدر منذ العام 1963 وحتى الآن، فلم يسبق أن منح قبلها ترخيص لجمعية سورية لحقوق الإنسان،

ولم يحدث ذلك بعدها أيضا. وأعلنت الرابطة أن هدفها “إرساء مبادئ حقوق الإنسان في نفوس المواطنين وإلى تطوير هذه المبادئ ونمائها وضمان حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والدفاع عنها عملا وقولا. غير أن فاعلية الرابطة ظلت ضعيفة على أية حال، وظلت قائمة حتى تلاشت، دون أن يعلن رسميا عن حلها.

أما أول تحرك فعلي لامس قضايا حقوق الإنسان والحريات الأساسية في سورية، فكان بلا شك تحرك نقابة المحامين التي قامت به في نهاية السبعينات. ففي آذار/ مارس 1978، قام مجموعة من المحامين بصياغة كتاب وجمعوا عليه توقيع ربع أعضاء الهيئة العامة لمحامي دمشق، للمطالبة بعقد جلسة للهيئة لمناقشة قضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان. وقبل موعد انعقاد الهيئة العامة بأيام، اجتمع ثلاثة محامين يمثلون تيارات مختلفة داخل النقابة، وهم هيثم المالح ومروان الحصري ونزار عوايني، واتفقوا صياغة مشروع لمسألة حقوق الإنسان والحريات الأساسية.

وفي 22/6/1978، عقد مجلس نقابة المحامين في دمشق جلسة رسمية درست فيه حالة الطوارئ والأحكام العرفية في البلاد، حيث تلي مشروع القرار فنال شبه إجماع.

وصدر عن فرع نقابة دمشق للمحامين قرار يرى أنه التزاما من النقابة “برفع الظلم وإزالة الحيف والدفاع عن المواطن (…) وإيمانا منها بأن قانون الطوارئ المعمول به حاليا لم يحقق الغاية من إصداره بل أدى إلى عكس ذلك. فضلا عن أنه قد أسيئ استعماله إساءات بالغة، واستعمل في ما لا علاقة له بالحرب (…) واعتقادا منها بأن لا شيء يساعد على قوة الوطن ومنعته وازدهاره مثل الأوضاع الطبيعية، وهو الأمر الذي لا يأتلف مع قانون الطوارئ والأحكام العرفية المعلنة، ذلك أن الدفاع عن حدود الوطن يبدأ من الدفاع عن كرامة المواطن (…) فإن الهيئة العامة لفرع نقابة المحامين في دمشق (…) تطلب من المؤتمر العام ما يلي:

أولا: المطالبة برفع حالة الطوارئ المعلنة بالأمر العسكري رقم 2، تاريخ 38/3/1963، فورا.

ثانيا: السعي لتعديل قانون الطوارئ بحيث يقيد إعلان تلك الحالة بأضيق الحدود والقيود، وعلى أن تقصر مدتها بثلاثة أشهر قابلة للتمديد إلى مدة مماثلة بعد استفتاء الشعب مباشرة.

ثالثا: اعتبار الأحكام العرفية الصادرة خلافا لأحكام قانون الطوارئ والتي أضحت شبه مؤسسة تشريعية سرية معدومة انعداما مطلقا، والطلب إلى الأساتذة المحامين والقضاة إهمالها وعدم التقيد بمضمونها وعدم المرافعة استنادا إليها ومقاطعتها مقاطعة تامة.

رابعا: اعتبار أي محام، وخاصة محامي الدوائر الرسمية والمؤسسات العامة وجهات القطاع العام، (…) يشير على تلك الجهات بالعمل والسعي لاستصدار أوامر عرفية بمصادرة أموال المواطنين والاستيلاء عليها وحجز حريتهم وتجاوز الأحكام القضائية (…) إنما يرتكب زلة مسلكية يجب مساءلته عليها أمام مجلس التأديب…

خامسا: السعي للإلغاء المحاكم الاستثنائية تحت أي تسمية كانت، وإحالة القضايا المعروضة عليها إلى المراجع المختصة في القضاء العادي، واعتبار أن كل ما صدر عنها ويصدر من أحكام خلافا لأحكام القانون ومبادئ العدالة إنما هو معدوم.

سادسا: الطلب إلى الأساتذة المحامين عدم المثول والمرافعة أمام المحاكم الاستثنائية، ومقاطعتها مقاطعة تامة تحت طائلة المساءلة المسلكية أمام مجلس التأديب، وذلك حتى لا تكون مؤسسة المحاماة المقدسة ستارا يضفي الشرعية على أعمال تلك المحاكم.

سابعا: تحريم جميع صور الكبت والقهر والقمع والتعذيب الجسدي والنفسي المنافية للكرامة الإنسانية والوطنية، وتطبيق مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء العادي، وتمكينه من أداء واجباته بحرية تامة وإنهاء كل حالات الاعتقال الكيفي وإطلاق سراح المعتقلين بسبب الرأي أو الفكر أو العقيدة، أو إحالتهم إلى القضاء العادي لمحاكمتهم محاكمات عادلة وعلنية يؤمن لهم فيها حق الدفاع وتحترم فيها حقوقهم الأساسية.

ثامنا: التصدي لجميع أنواع الاعتقال والاتهام والامتهان وفرض العقوبة، التي تمارسها جهات غير قضائية لا تخضع إجراءاتها لأي رقابة قانونية أو قضائية.

تاسعا اعتبار مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الدستور الأساسي للمواطن وتقديم أحكامه على أي نص تشريعي محلي مهما كان نوعه في حال تعارض أحكامهما.

بعد صدور القرار، شكلت نقابة دمشق ما سمي بلجنة الحريات العامة وبدأت اللجنة تتحرك وتقوم بعمل ملحوظ ضمن النقابة، كما راحت اللجنة تشكل ضغطا معنويا وتقدم مشروعات قرارات أخرى وتنشط ماديا لتطبيق قرار نقابة المحامين، واستمر عملها منذ تأسيسها في صيف 1978 وحتى مطلع العام 1980. ويقول أحد مهندسي القرار إنه أرسل القرار إلى نقيب المحامين في عمان الذي استغرب من وجود من يستطيع أن يتكلم بهذه الطريقة الجريئة في سورية.

وقامت مجلة لوموند ديبلوماتيك بنشر القرار بعد شهر من صدوره. واستلم نقيب المحامين آنذاك صباح الركابي رسالة من اتحاد الحقوقيين العالمي يشيد الاتحاد بالقرار رقم واحد ويقول إنه خطوة عظيمة في سورية، ووجه الاتحاد دعوة إلى الركابي لزيارة فرنسا.

وكان تحرك المحامين بداية لتحرك نقابيين مهنيين آخرين، بينهم اتحاد الكتاب ونقابة المهندسين وأساتذة الجامعات. وكان من الممكن لهذه الحركة أن تسفر عن نتائج مختلفة لولا وقوع حدث استثنائي وبائس في آن في تاريخ سورية المعاصر هو قيام جماعة “الإخوان المسلمين” بتحركات إرهابية في سورية، استهدفت في البداية رموزا من السلطة السورية، ثم امتدت لتشمل رموزا مهمة في القضاء والتعليم الجامعي وشخصيات مجتمعية مرموقة، من مثل الأستاذ والمحامي محمد الفاضل، الذي كان لاغتياله أثر كبير على السلطة السورية والشارع. ثم أقدمت مجموعات من الإخوان على تفجيرات في أحياء سكنية مثل التفجير في حي الأزبكية المكتظ في قلب العاصمة السورية دمشق. والأسوأ أن تحرك الإخوان تطور ليمتد إلى قطاعات شعبية واسعة في بعض المدن السورية، مثل حلب وحماة، التي شهدت أكبر صدام مسلح بين الجماعة والسلطة، انتهى باقتحام قوات سورية خاصة للمدينة ومقتل آلاف من شباب المدينة، ومن ثم تدمير أحياء كاملة من المدينة القديمة وإعادة بنائها بشكل عصري، بشوارع واسعة، بدلا من الحواري القديمة التي كانت تسهل عملية اختفاء مقاتلي الإخوان المسلمين وهربهم.

وقد اتهمت السلطة جماعة الإخوان المسلمين بقتل “المئات، إن لم يكن الآلاف من خيرة أبناء الشعب السوري،” وبنشر ” الفتنة وإشعال الحــرب الأهليــــة في سوريا منذ عام 1975– 1986″ واتهمهم بأنهم “اختطفوا مدينة حماة في شباط 1982 وقتلوا على الفور المئات من مواطنيهـا الأبرياء،

ومن مسؤوليهـا في الحـزب والدولــة، وبسلاح ثقيل ومتوسط ومحطات اتصـال متطورة حصلوا عليها بتمويل ودعـم مـن (الرئيس العراقي السابق) صدام حسين.”

ولا يتفق خصوم السلطة مع هذا التحليل، بل يرون ما حدث في حماة “جريمة مدبرة ومعدّا لها إعداداً كاملاً وأن النظام مستاء منها (حماة) ومن أهلها الذين هم في خط المعارضة له منذ اليوم الأول لخطف النظام السلطة”.

ومهما يكن، ومهما تكن الحقيقة، فالحقيقة الأخرى التي لا مراء فيها أن الصراع بين السلطة السورية والإخوان المسلمين أنهى زمنا من التراخي السلطوي الذي تميز به بداية عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وسارت الأمور باتجاه تصعيد، صار معه الحديث عن حقوق الإنسان أمرا من المحرمات. واستمر الوضع على هذه الحالة، حتى التسعينات، حين أدخل إلى الساحة المجتمعية السورية مصطلح بدا غريبا في تلك الأثناء: حقوق الإنسان.

وكان ذلك على أيدي حفنة من الناشطين السياسيين السابقين الذين اعتقل بعضهم لسنوات بتهمة العمل في منظمات سياسية محظورة. وقد تخلى هؤلاء الأفراد عن العمل السياسي لصالح العمل الحقوقي. وينبغي الاعتراف لهذه المجموعة بقصب السبق في هذا المجال. ذلك أن نشاط المحامين في العام 1978 لم يسمّ الأمور بمسمياتها، ولم يتحدث عن حقوق الإنسان كمفهوم وكواقع، أما رابطة حقوق الإنسان فلم تقدّم سوى اسم لا يذكره معظم السوريين. بالمقابل، يعتبر الكثيرون في سورية والعالم العربي تشكيل “لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان” في 10/11/1989 بداية انطلاق الحركة الحديثة لحقوق الإنسان في سوريا.

وتقول حسيبة عبد الرحمن، الناشطة السياسية المعروفة والمعتقلة عدة مرات في سجون الأسدين،

وإحدى مؤسسي الجمعية في مرحلتها الثانية إن تأسيس الجمعية جاء “بتأثير المد الديمقراطي الذي انتشر في العالم بعد سقوط الأنظمة الشمولية في أوربا الشرقية والانهيار المدوي والدراماتيكي للسلطة في رومانيا وتأثيره في النخب السياسية والثقافية بالعالم الثالث ومنها سوريا، ولعل أحلاماً كبيرة داعبت البعض في لعب دور سياسي قادم.” وتضيف حسيبة أن هذا المناخ الدولي شكل أرضية ملائمة للإعلان عن قيام أول جمعية لحقوق الإنسان “كجمعية أهلية طوعيه ولكن بآليات عمل حزبية سرية تأثراً بالمحيط السياسي السائد آنذاك وكنتيجة للشروط الموضوعية القائمة.” وهي غياب الحريات السياسية من جهة وغياب إرث الجمعيات الأهلية في سورية. وتضيف أن تاريخ سورية الحديث “تاريخ أحزاب وهذا ما ترك أثره على مختلف الأنشطة وأدوات التعبير وما تزال الجمعيات تفتقد إلى رؤى وآليات عمل خاصة بالعمل الأهلي وتتعثر به، وتعيش حالة خلل وظيفي إن كان في البنية أو الأهداف رغم انهيار وسقوط مرحلة أيديولوجية وسياسية بأكملها لكن ثقافتها النظرية والميدانية لا تزال هي السائدة.”

وبسبب انعدام الخبرة في هذا المجال، وبسبب الماضي السياسي لمؤسسي اللجان، فقد خلطت اللجان بين تجربتها الحقوقية وتجربة الأحزاب السياسية في التنظيم والخطاب، بحيث كان يصعب التمييز بين بياناتها وبيانات المعارضة السياسية (وخاصة اليسارية) في تلك الفترة. وكان آخر بيان أصدرته في العام 1991، بيانا سياسيا بامتياز لا تنقصه الجرأة ولا يعوزه الوضوح، بمناسبة إعادة انتخاب الرئيس الراحل حافظ الأسد. وكان ردّ فعل النظام كما هو متوقّع، وصدرت أحكام قاسية بحق مؤسسي اللجان وناشطيها، تراوحت بين ثلاث وعشر سنوات وتجريدهم من الحقوق المدنية، وهو ما يمنعهم في حال إطلاق سراحهم من المشاركة في العملية السياسية والانخراط في وظائف الدولة.

بقي فرع اللجان في الخارج يعمل ويصدر البيانات ويطالب بإطلاق سراح أعضاء المنظمة وبقية معتقلي الرأي واستطاعت المنظمة بالخارج إطلاق حملة عالمية للإفراج عن أكثم نعيسة الناطق باسم المنظمة، توجت أخيرا بإطلاق سراحه فعلا في عام 1997 وكان قد أطلق سراح مجموعة من اللجان في وقت سابق وبقي مجموعة أخرى في السجن حتى غاية 2001، حيث ستبدأ مرحلة جديدة من نشاط المدافعين السريين عن حقوق الإنسان.

تلفزيون سوريا

 

 

في مقدّمات الثورة السورية (1): بذور المجتمع المدني السوري

في مقدمّات الثورة السورية (2):حين فتحت حفنة من المثقفين الطريق أمام التغيير

في مقدمات الثورة السورية (3):من الـ 99 إلى الألف: لجان إحياء المجتمع المدني

في مقدمات الثورة السورية (4): ربيع دمشق: خطوة واثقة على أرض غير مستقرة

في مقدّمات الثورة السورية (5): جدل السياسة والثقافة: لمن الأولوية

في مقدّمات الثورة السورية (6): حين رفض النظام أن يغيّر جلده: نهاية ربيع دمشق

في مقدّمات الثورة السورية (7): منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي آخر مظاهر الربيع

في مقدّمات الثورة السورية (8): اعلان دمشق حجر في بركة راكدة

في مقدّمات الثورة السورية (9): إعلان بيروت-دمشق/دمشق-بيروت: النظام يحكم قبضته من جديد

في مقدّمات الثورة السورية (10): المجلس الوطني لإعلان دمشق نقطة فارقة في تاريخ سوريا الحديث

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى