طرابلس-سوريا: رحلات الكتمان وذاكرة الدم/ صهيب أيوب
في رحلتي إلى سان سيبستيان استعدتُ بأسىً رحلات الصيف السوريّة الآفلة، وأنا أقرأ كتاب سوريا، الدولة المتوحشة لميشال سورا، متكئاً على شباك الباص المنتقل بنا من الجنوب الفرنسي إلى تخوم بلاد الباسك. وكأني أعود في غفلة مني إلى ظلال لم يبقَ منها إلا بقع الحسرة، وذكريات تعود إلى مرحلة زمنية بين عامي 1998 و2004، حين شهدت سوريا حدثين متسارعين؛ أولهما موت حافظ الأسد وثانيهما تعديل الدستور ليتسلم بشار الابن مقاليد السلطة. كان للحدثين وقعٌ صاخبٌ علينا نحن الطرابلسيون، نظراً للكراهية المضمرة التي يكنّها أهل المدينة لنظام الأسد.
في تلك الأثناء كانت السياسة خارج حساباتنا نحن الأولاد، فكنا نعتبر الرحلة السوريّة بمثابة ابتهاج تعلنه أيام الحرّ الأولى، عكس أهالينا الذين كانوا يبدون حماسة أقل. بِدءاً من طريق العبّودية المنسيّ تحت أشجار باسقة، والذي يُعدّ طريق المحرومين من أهل الشمال اللبناني، إذ هُمِّشت هذه البلدة الحدودية لاعتبارات كثيرة، وحُرم سكانها من حيازة الهوية اللبنانية لجغرافيتها الحساسة بين بلدين، زُعِمَ أنهما «شعب واحد في بلدين» كما أحبّ الديكتاتور حافظ الأسد أن يُلطّف معنى تطاول أيدي الوصاية العسكرية والسياسية لنظامه على لبنان.
كنا نفرح في تلك الرحلة، رغم وعورة الطريق، بسبب ابتسامات الفقراء الموزعين بين بساتين الملوخية والهندباء والذرة، وصولاً إلى ضجيج أسواق حمص وحاراتها، وما يليها من شهر صاخب نُوزِّعُ أيامه بين مدن سوريّة كان الخوف والكتمان جزءاً منها.
لا يمكن أن تزور «سوريا الأسد» وتتمتع بخفّة اللسان والتحرك، أو على الأقل تنعم بنوم هانئ، في ظل نظام يقوم على الدسائس والسلوك الاستخباراتي. كان شائعاً القول لدينا كلبنانيين إن في «كل بيت سوري واشٍ واحدٌ على الأقل».
لغة بكماء
كل شيء كما كان يبدو لنا، يتماشى مع لغة بكماء بين خالاتي وأبي وأمي وهم يتجولون في الأسواق، أو حين يركبون سيارات السرفيس والباصات، أو داخل المحال التي توسطت جدرانها صور حافظ الأب، كأنها إشارة تنبيه دائمة إلى أن الرقابة شبح أسود يخنق حياة السوريين وزوّارهم أيضاً.
كدنا نحن الأطفال نعيش في خرس بين الغرباء، وسط تحذيرات متكررة بالتزام الصمت والحيرة حول ما هو مسموح النطق به أو لا، أو حتى طريقة لباسنا، حيث مُنِعتُ مراراً من التجول بشورتاتي القصيرة التي تظهر فخذيَّ الأبيضين لامعين أمام المارة. وعلى الرغم من أننا آتون من مدينة سنّية محافظة، لكننا كنا نشعر بأن حمص أكثر صرامة في عادات أهلها وأذواق لباسهم، في ذاك الحين.
يومها لم نكن نفرّق بين لبنانيتنا وسوريتنا نحن أولاد الأمهات السوريات. ولم تكن سوريا محطة زيارات عائلية فحسب. كانت بيتنا الآخر الذي ننتظر الصيف كي نلوذ إليه. حتى أنني أتذكر أن أمي كانت تترك لنا أغراضاً لدى خالاتي لاستخدامها. ومن بين هذه الأغراض «شورتي» الأحمر الذي كنت أفضّله للسباحة في برك صافيتا وشلالاتها وسدّ «المقبور» باسل الأسد، كما كان أبي وزوج خالتي يقولان عنه بصوت منخفض خوفاً من آذان الآخرين ووشايتهم.
وربما كانت تلك المرة الأولى التي عرفتُ فيها أنه لا يحقّ لنا أن نشتم «القائد المؤبد» أو أحد أبنائه كما كنا نفعل في طرابلس، حيث نحمل لهذا النظام عداوة مضاعفة، وهو واحدٌ من أسوأ حقبات ذاكرتنا الأليمة. ومن هنا تعلمنا التكتم، خصوصاً في السرفيسات المنتقلة بنا وبأغراضنا من ساحة التلّ في طرابلس إلى طرطوس وحمص. والحال يومها أن قناعة مستشرية لدى غالبية الطرابلسيين أن سائقي سيارات الأجرة على خط «طرابلس-طرطوس» خصوصاً، جميعهم عناصر «مخابرات» مفترضون.
كان الخوف الذي يبثّه هذا النظام ملتصقاً في حيوات أبناء المدينة الشمالية، ونتيجةً أليمةً لبطش ضباط علويين وسنّة كانوا يمسكون برقاب التجار الطرابلسيين، ويفرضون الخوّات على المؤسسات في التبانة وباب الرمل والقبة، وعلى الشركات الكبرى من معامل الإسمنت والسكر، ويدخلون «شراكات» إجبارية في مشاريع بناء مستحدثة على تلال مجاورة لطرابلس وأقضيتها، في المنية والضنية وقرى وبلدات عكّار.
مُتَعٌ ممزوجة بالخوف
لكن أكثر التنبيهات العائلية لنا كانت تصدر من أمي موجهة إليّ، لمنعنا من الكلام والاستفاضة في التعليقات: «خصوصاً أنت يا أبو لسان طويل».
كنتُ أسكتُ غصباً عني، لكن حشريتي سرعان ما كانت تدفعني إلى سؤال أبي عن سبب وضعه حفنات من المال في أكفّ عساكر الحدود السوريين. كان الردّ يأتي مباشرة من السائق السوري الذي يتذمر لاحقاً من أسئلتي ويحدّجني بنظرات قاسية: «لأنو حباب وبيستاهل».
وعلى الرغم مما كنا نعيشه في الخفاء من مشاعر التوتر والقلق المتسربة من أهلنا، تعود بي الذاكرة إلى يوميات الحرّ المتخففة بين قلعة الحصن والشندوف، وسُفرة طعام خالتي ليلى المليئة بالحب، التي تزيد من شهيتنا على تلقف الصيف ومباهجه. والليالي التي لا تعلن نهاياتها إلا عند مشارف الصباح، ونحن نسترق السمع إلى صوت فيروز الخارج من مطابخ وغرف جارات خالتي في قلعة الحصن، التي قيل يوماً إن السوريين أحبوها أكثر منّا، وهذه حقيقة. متذكراً مصايف مرمريتا الواسعة ومشتى الحلو وشاطئ جبلة وكُنافتها، التي أُجيز لنفسي أن أعدُّها أطيب من الكنافة الطرابلسية التي نتفاخر بها أمام الأغراب. عدا عن بحر اللاذقية الأزرق، وشجر بلدة كسب الجبلية وهوائها المنعش.
ذاكرة دموية
هناك كنا ننتقل في بيوت أقارب أمي، سوريّة الأصل طرابلسيّة المولد، كما حال أمهات بعض الطرابلسيين. وفي زمن الرحلات السورية، لم يكن «بعض» أهل طرابلس يحكون بخطاب عنصري كما هو الحال اليوم بحق السوريين، أهلهم وجيرانهم ومرآة حيواتهم بأحداثها الكبيرة والصغيرة. حيث العلاقة التاريخية ليست محصورة في المصاهرة فقط، بل بتاريخ سياسي واجتماعي تقاطع أكثر من مرة وفي محطات مفصلية، وكانت أبرز تقاطعاته المعاناةُ المكتومة المشتركة من نظام عامل أهل طرابلس بفجاجة وقهر ودموية مفرطة، ومارس شتى أنواع التنكيل بهم بِدءاً من حواجز جيشه التشبيحية المنتشرة على أوصال المدينة ومفارقها، ووصولاً إلى غرف التحقيق السوداء والإخفاء القسري الذي مورس بأيدي جنود وعساكر برتب دنيا، وأمام عيون سلطة لبنانية ينتجها هذا النظام بالتلاعب بصناديق الانتخابات، وبالإجبار والتعيين.
لكن كل هذا لم يجعل يوماً أهل طرابلس يحقدون على السوريين كسكان، فكان هذا الخيط الأبيض الذي يفصل بين ممارسات النظام وأهلهم الذين رأوا فيهم إلى وقت قريب شعبهم المقهور والمُعذَّب، فاستقبلوهم مع بداية الثورة في بيوتهم وآووهم قبل أن تنتشر اليوم لغة عنصرية جلفة، وكأن هذا التاريخ الواحد تُبدِّدُه ذاكرة الدم الماثلة في عقول الطرابلسيين.
هؤلاء الطرابلسيون أنفسهم يعيشون تناقضاً منذ سبع سنوات مرت على بدء الثورة السورية، بين حالة الترحيب باللاجئين (لفعل القرابة أولاً، وللعلاقة السنية-السنية ثانياً) ومن ثم التذمر من طول الأزمة، وهو ما يُستدلّ به من خلال بعض ما يُنشر هنا وهناك على مواقع التواصل الاجتماعي، أو من خلال ما يُنقل عبر وسائل الإعلام وما يسمعه الناس في الشارع. ولعلّ ثقل ذكرى الجيش السوري يكون أحد ركائز نزعة الاحتقان ضد اللاجئين الهاربين من نيران «الأسدية القاهرة»، التي وللمناسبة هي نفسها التي ألحقت بالطرابلسيين ندوباً لا تنسى، وأقساها مجزرة «باب التبانة» في العام 1986، التي يقال إن ما يقارب من 600 قتيل راحوا ضحاياها بفعل الإعدامات والقتل الممنهج الذي مارسته قوات الوحدات الخاصة السورية التي كان يرأسها علي حيدر وعناصر من الحزب العربي الديمقراطي (الفرسان الحمر) الذي كان يرأسه علي عيد وعناصر من البعث والقوميين السوريين وعناصر من «فتح الانتفاضة».
سُوقنا الذي انتهى
وتحت ظل هذا الفضاء القاتم من أجواء المهانة والذلّ، بقيت سوريا وجهة مفضلة لنا نحن أبناء الشمال اللبناني لقضاء فصل صيف ممتع وغير مُكلف. وحين أشيرُ إلى المتعة أخصّ بها ما كنا نعيشه نحن الأطفال، محبّي الفسحات الواسعة والأطعمة الدسمة والبوظة المدقوقة والبحر النظيف، هذا ما كان ينتظرنا هناك ونتمتع به وبأسعار لم يتذمر أهلنا منها، حيث كلفة رحلة شهر قد تُصرَفُ خلال أقل من أسبوع في ربوع بلاد الأرز.
وقبل اندلاع الثورة السورية، بقيت أسواق حمص مرتعاً لنا هي ومطاعمها التي كُنّا نفضل فيها أكل اللية المشوية مع لحم الغنم وبرك اللبن. وكُنّا أحياناً نذهب في الصباح ونعود في المساء، في كزدورة هدفها الاستمتاع والتسوق أيضاً.
كُنّا نشتري من هناك كل لوازمنا، الموسمية منها والطارئة وحتى الأسبوعية. أمي اشترت جهاز أختي كله من سوريا، وبنات خالاتي أيضاً. ولا ننسى موسم المدارس، من الكراسات إلى الأقلام والشنط وطبعاً مواسم الأعياد. نشتري الجوز واللوز وماء الزهر من حمص، والشوكولاتة الدمشقية، والملبن الحلبي. كانت سوريا نافذتنا إلى اقتصاد يسترنا في ظل الغلاء في لبنان وقلة الجودة أيضاً، والفساد المستشري حيث كل شيء له فاتورتان أو أكثر. كان هذا البلد الغني بمواده ومنتجاته البيتية وأسواقه المتنوعة منفذاً لنا بعيداً عن لبنان الذي قسى علينا وأبعدنا وأقصانا عنه وأشعرنا أننا جزءٌ مٌهمل منه. كانت بيروت بعيدة جداً، وحمص هي أقرب البيوت إلينا وأمتع محطاتنا، وناس سوريا أقرب إلى مزاجنا العام في الابتهاج وحبّ الطرب والنكتة والتذوق، حيث لا يمكن إنكار التأثر العميق للمطبخ الطرابلسي بالمطبخ السوري.
كل هذا كان قبل الثورة، وانتهى. قَهرَهُم موت أهلهم في سوريا، قَهرتهم الصور الآتية من الخالدية وبابا عمرو والدبلان وسوق الناعورة، قهرهم الظلمُ وذاكرةٌ مثقوبةٌ عن أماكن صارت حطاماً.
أخذتني رحلة الباص الطويلة في سان سيبستيان إلى معنى الصيف، في أفوله وبُعده وخوفه، ذاك الذي جعلنا يوماً كعائلة نستسهل الفرح والبهجة على قلّتها. وبينما كنتُ أنزلُ من الباص مُشتَّتَ الرأس والذاكرة، سألتُ نفسي، وربما هذا سؤال السوريين المكرر في منفاهم ومنفاي أيضاً: هل سنعود يوماً إلى سوريا بلا نظام الأسد ودمويته؟ وهل ستعود لنا رحلات الصيف الآفلة؟ وفي اللحظة التي لمحتُ كتاب سورا بين يدي، شعرتُ أن الأمل ضئيل، لكن لا استحالة من تحقيقه، إذ من كان يقول إن السوريون سينتفضون يوماً؟
لنا ثورة ستزهر يوماً، لسوريانا وطرابلس. وسننتقم.
موقع الجمهورية