إعادة الترجمة: قراءة جديدة أم سعي للربح؟/ سارة عابدين
تظهر مع الوقت ترجمات جديدة للعديد من الأعمال الكلاسيكية. تتغير الترجمة مع الوقت، لتعكس لغة وأسلوب الوقت الذي تتم فيه. لذا في بعض الأحيان تصبح إعادة الترجمة أمرا لازما، وفي أوقات أخرى تصبح أمرا تجاريا عندما يتعلق الأمر بكاتب جماهيري، ترجمت أعماله ترجمات متعددة، ولا حاجة تدعو إلى ترجمتها مجددا، ولا إضافة جديدة تقدمها الترجمة.
للزمن مفعوله
عن أهمية إعادة الترجمة يتحدث المترجم المغربي شكير نصر الدين، ويقول إن إعادة الترجمة أمر مطلوب لأن للزمن مفعوله، وذلك جليّ حتى حينما لا يتعلق الأمر بنصوص مترجمة. إن قراءة النص الواحد، خاصة الأدبي منه، تغتني بكل ما راكمه النقد والتلقي الجمالي عموما، وإذا كانت هذه الحال بالنسبة للقراءة، فإن الترجمة تتجدد بالضرورة لكنها تبقى فعلا مشروطا بالجودة، قبل أي اعتبار آخر.
ويضيف نصر الدين أن إعادة الترجمة تصبح ضرورية حينما تشكو ترجمة النص من عيوب كثيرة، كالحذف، والزيادة غير اللازمة، والتأويل المفرط، والإخلال بالمعاني الموجودة في النص المصدر. أما عندما تكون بغاية الربح التجاري فحسب، وأمام جودة الترجمة المتوفرة، فإنها لا تستحق أن يلتفت إليها القارئ أو المهتم.
أما عن أخطاء الترجمة، وهل يمكن اعتبارها سببًا لإعادة الترجمة، فيقول نصر الدين: قد يتنبه الناشر مثلا لأخطاء مطبعية، أو غيرها، ويتدارك الأمر في طبعات جديدة؛ لكن حينما تكون الترجمة رديئة بصورة مفرطة، الأفضل أن يعدمها الناشر، أو يبادر غيره لإعادة الترجمة؛ وهذه حقيقة نشهدها على الأخص حينما يكون النص متوجا بجائزة ذات اعتبار، نوبل، البوكر، الغونكور وغيرها، فنجد من الناشرين من يعجل بطرح الترجمة في السوق فقط لأن النص صار مكرَّسا؛ وهكذا نصادف الكتاب نفسه بعناوين مختلفة، ومضامين متنوعة، تختلف من حيث الجودة بين ناشر وآخر.
تعتبر الموازنة بين اللغة الأصلية وزمن كتابة النص، وبين اللغة المعاصرة والقارئ المعاصر، من أهم سمات الترجمة الناجحة. ويقول نصر الدين إن الأمر يختلف حسب الجنس الأدبي، أو الفلسفي أو العلمي للنص. لكنه شخصيا أثناء ترجمة الرواية، أو العمل الفكري، من نقد أدبي وفلسفي، يرى أن اللغة ليست واحدة، بل هي لغات، أو مقامات لغوية تختلف حسب الأجناس الأدبية والفلسفية، بل وداخل الجنس الأدبي الواحد. الرواية مثلا تطرح إشكالية الأسلوب، أو الأساليب اللغوية التي تتنوع وفق مدارات كلام الشخصيات، وسياقها التاريخي الزمني أو الفضائي. لنفترض مثلا أن لدينا شخصية محورية في رواية ذات صبغة تاريخية أو فلسفية أو علمية، هنا يجب أن يراعي المترجم لغة عصر تلك الشخصية، ويزداد الأمر صعوبة حينما يحفل النص الروائي بمرجعيات كثيرة؛ يكون المترجم في وضع لا يحسد عليه: إذ يجب عليه استعمال معجم الشخصية في عصرها ذاك (القرن الثاني عشر مثلا) من دون نسيان أنه يتوجه إلى قارئ عربي معاصر من الألفية الثالثة.
بعض الكتب ترجمت بشكل منقوص، تحت دعاوى العادات والتقاليد العربية، أو حرصا من المترجم/ المترجمة، على عدم ترجمة ما يسيء إليه أخلاقيا. يقول نصر الدين إن الترجمة في هذه الحال تكون مطلوبة، بل ولازمة، لأن النص المنقوص، أو المقدم في صورة تناسب ذوق أو فكر أو إيديولوجيا ما، هو إساءة للنص الأصلي، وللمتلقي الجديد. يجب على المترجم أن يكون وفيا للنص المصدر وأن ينقله بمعانيه ومضامينه، وإلا فإن الأمر لا يعد ترجمة بل تصرفا وتكييفا، وهو في الحالين معا مضر بالنص وبالقارئ، وخير مثال على ذلك كتاب أدولف هتلر “كفاحي” الذي ترجم إلى كثير من اللغات، وتم توظيفه حسب أجندات هذا الطرف أو ذاك، من نازيين جدد ومعارضين للنازية.
أما عن الأعمال التي يجب النظر في إعادة ترجمتها من جديد، فيقول نصر الدين إنه لا يمكن ذكر عناوين بعينها، ويكفي القول بأن كل ترجمة رديئة أو منقوصة، أو توظيفية للنص دون غاياته الأصلية، تستوجب إعادة الترجمة؛ كما أن كل نص نقدي مترجم يجب إعادة ترجمته بعد مرور فترة غير قصيرة من ظهوره أول الأمر في لغته، وفي لغة الترجمة، لأن الفاصل الزمني ليس فسحة زمنية فقط بل إنه فضاء ثقافي اغتنت خلاله الدراسات المتصلة بالنص المترجم.
القارئ المعاصر
يرى المترجم المصري عبد السلام باشا أن الترجمات الجديدة يُفترض أن تكون أكثر قربًا من القارئ المعاصر، بحكم سهولة البحث حاليا عن الأمور المتعلقة بالسياق التاريخي والاجتماعي عن طريق الإنترنت. وأيضًا يُفترض أن يكون أسلوب ولغة الترجمة أكثر قربًا من القارئ. لكن في نهاية الأمر يتعلق الأمر بإمكانات المترجم وتمكنه من اللغة الأصلية ومن اللغة العربية، وأيضا باختياراته الشخصية وميوله.
لا يرى باشا أن السعي للربح أمر مشين، ويتساءل هل يجب أن يعمل المترجمون والناشرون مجانًا؟ ويقول إن المعيار هو جودة الترجمة والإتقان في العمل. كل من يقوم بعمل يجب أن يحصل على مُقابل، والحكم عليه يجب أن يكون حكم وتقييم الجودة وليس حكمًا أخلاقيًا. أما فيما يتعلق بإعادة الترجمة من وجهة نظره، فهي تصبح ضرورية عندما تكون الترجمة أو الترجمات السابقة غير جيدة أو غير مكتملة، أو غير أمينة في نقلها لأسلوب الكتاب الأصلي. وأيضًا إن كانت قد تمت قبل وقت طويل والآن أصبحت لغتها العربية عتيقة وقديمة إلى حد ما. بالإضافة إلى رغبة المترجم في المغامرة وفي التحدي. ربما يكون هذا الأمر صعبًا، لأنه لا يوجد ناشرون كثيرون على استعداد للاستثمار في إعادة ترجمة عمل مشهور ومُترجم بالفعل. يقول باشا “بشكل شخصي أعدت ترجمة كتاب Ficciones لبورخيس الذي ترجم للعربية بضع مرات وليس مرة واحدة، معظمها عن الإنكليزية. بل وقام أستاذي محمد أبو العطا بترجمته عن الإسبانية كاملًا تقريبًا، باستثناء قصتين أو ثلاث، وقمت بإعادة ترجمته كاملًا بعد استئذانه. والحكم في النهاية للقارئ”.
أما عن أخطاء الترجمة وهل تستدعي بالضرورة إعادة الترجمة بشكل كامل، أم يمكن تدارك الأخطاء في طبعات لاحقة، فيقول باشا: هذا يعتمد على كل نص على حدة، فهناك أساتذة أكاديميون كبار، مثل سليمان العطار، ترجموا أعمالًا هامة عن الإسبانية، مثل ترجمة سليمان العطار لخلية النحل لكاميلو خوسيه ثيلا، وترجمة رواية الحجلة لخوليو كورتاثر. وكلتا الترجمتين تقوم بتجاوز أو تجاهل عبارات وسطور كاملة من النص الأصلي. فضلا، في رأيي الشخصي، عن شيء من الركاكة وشيء يشبه التعريب بدلًا من الترجمة. وتوجد أيضًا ترجمات علي عبد الرؤوف البمبي لبعض روايات ميجيل ديليبس، وفي رأيي الشخصي لا تُعبر جيدًا عن النص الأصلي وجمالياته. تحتفظ فقط بالحكاية أو الحدوتة. وفي هذه الحالة أعتقد أن إعادة الترجمة واجبة وضرورية. أما بعض الأخطاء البسيطة التي يمكن للمترجم تداركها في طبعات تالية، فلا تستدعي ترجمة جديدة، مع الاحتفاظ بحق كل مترجم في أن يفعل ما يشاء.
الموازنة بين اللغة الأصلية للنص وزمنه، وبين اللغة المعاصرة للقارئ المعاصر، لها دور كبير في التواصل بين القارئ والنص. ويعتقد باشا أن الكتب الكلاسيكية القديمة يجب أن تُترجم للغة معاصرة حديثة، لأنها كُتبت بلغة وقتها، وإن كان هؤلاء المؤلفون بيننا الآن لما كتبوها غالبًا بهذه اللغة. أما الكتب والأعمال الإبداعية الحديثة المكتوبة عمدًا بلغة عتيقة وبإيقاع بطيء، فيجب احترام هذا والترجمة بلغة تشي وتوحي بشيء من القِدم والكلاسيكية، لأن هذا هو اختيار المؤلف لأغراض فنية. في هذه الحالة تعتبر الترجمة للغة عربية معاصرة ابتعادًا عن النص الأصلي.
أما عن الكتب التي ترجمت بشكل منقوص، تحت دعاوى العادات والتقاليد العربية، أو حرصا من المترجم/ المترجمة على عدم ترجمة ما يسيء إليه أخلاقيا، ولماذا لا تعاد ترجمتها بشكل أكثر احترافية، فيرى باشا ان هذا الأمر تُسأل فيه دور النشر وهو قائم على رغبتها في تكليف مترجمين بإعادة ترجمة مثل تلك الأعمال. ومن وجهة نظره من الأعمال التي يجب النظر في إعادة ترجمتها أعمال ثيلا وديليبس وكورتاثر، ويذكر أن المترجم مارك جمال قام بإعادة ترجمة رواية خلية النحل. يضيف باشا: دون كيخوتة لثربانتس، وبرغم الترجمة الرائعة لعبد الرحمن بدوي، ترجمت قبل سنوات كثيرة، وبلغة عتيقة تحاول الاحتفاء بروح النص الأصلي. لكن باعتبارها نصا قديما يمكن ترجمتها مرة أخرى بلغة معاصرة، وهذه ليست بدعة، لأن هناك طبعات جديدة باللغات الأصلية لثربانتس وشكسبير وغيرهما، يتم فيها تخفيف اللغة، وتقريبها من القارئ المعاصر.
ظاهرة إيجابية وحيوية
المترجم العراقي كاصد محمد يرى أن إعادة ترجمة الأعمال الأدبية ظاهرة عالمية، بل ربما هي أقل انتشارًا في العالم العربي من غيره، وهي ظاهرة إيجابية وحيوية، إذا لم تستغل على نحو سيئ. وهو يرى أن الترجمة قراءة نقدية وفكرية وفلسفية للنص قبل أن تكون عملًا تغيريًا في لغة النص، لذا فالاختلاف في الترجمة – أحيانًا – ينبع من الاختلاف في تلك القراءة. على أن هذه الاختلافات صحية ومثرية، إذا كانت مبنيةً على أسس صحيحة. لكن العمل على إعادة الترجمة لا ينتج بالضرورة نصًا أفضل من سابقه، فالأمر يعتمد على كفاءة المترجم وإمكانياته وحسن أدائه. وهو لا يظن أن تغيرات كبيرة طرأت على العربية حتى تصبح الترجمات السابقة غير مناسبة للقارئ المعاصر، إذا كان الأمر يتعلق بمسألة اللغة وحسب.
من وجهة نظر محمد تصبح إعادة الترجمة ضرورة إذا ما كانت ترجمة العمل الأدبي سيئة أو منقوصة، وهنا تصبح واجبًا أدبيا وجماليا، بينما تتحول إلى وسيلة للربح التجاري حين تكون إعادة الترجمة أسوأ من الترجمة السابقة.
أما عن أخطاء الترجمة وهل تعتبر سببًا لإعادة الترجمة أم لا، فيقول محمد إن هذا يعتمد على حجم الأخطاء ومدى تأثيرها على تكاملية النص. إذا كانت الترجمة حسنة بنحو عام، سوى أنها تحتوي على بعض الهفوات التي يمكن تداركها، فلا ضرورة لإعادة الترجمة بالكامل. أما إذا كانت الأخطاء منتشرة ومستشرية في جسد النص فإن تدقيقها والعمل عليها يتطلب جهدًا يفوق بأضعاف جهد إعادة ترجمة العمل الأدبي بأكمله، لذا فالأجدر إعادة صياغة النص من جديد.
الموازنة بين اللغة الأصلية للنص وزمنه، وبين اللغة المعاصرة والقارئ المعاصر، بالرغم من كونها أهم تحديات الترجمة، فإن محمد يقول إنه لم يواجه هذا الأمر في الأعمال التي ترجمها، لأنه لم يترجم نصوصا قديمة، لكن قد يواجهها من يعمل على نصوص تعود إلى عدة قرون. وهنا يمكن العودة إلى نصوص عربية وُضعت في زمن مقارب للزمن الذي وضع فيه العمل، ومع قليل من الجهد والاجتهاد يمكن صياغة الترجمة بلغة مقاربة للمرحلة التاريخية التي كُتب فيها النص الأصلي. ويتساءل محمد: هل هذا ضروري بالفعل؟ هل يجب القيام يعمل كهذا؟ بوكاتشو، مثلًا، كتب ديكاميرون بلغة إيطالية بعيدة عن إيطالية اليوم، لكن في حينها لم تكن سوى لهجة من اللهجات اللاتينية، مثل أي لهجة عربية اليوم. أيجدر بنا إذًا ترجمة ديكاميرون بعربية القرن الرابع عشر؟ علمًا أن الإيطاليين اليوم صاروا يترجمون الأعمال الإيطالية الكلاسيكية، مثل ديكاميرون أو الكوميديا الإلهية، إلى اللغة الإيطالية المعاصرة، لتسهيل أمر قراءتها على الأجيال الجديدة التي لا ألفة لها مع تلك اللغة القديمة.
يختلف محمد مع فكرة الرقابة على الترجمة في الوقت الحالي، ويعتقد أن هذه الأمور واردة الحصول في الماضي، يوم كانت المجتمعات العربية غير معتادة على المشاهد أو التخيلات التي تخدش الحياء أو غير اللائقة اجتماعيا وأخلاقيا، حسب العادات والتقاليد السائدة إذّاك. أما اليوم فقد انفتحت الشعوب العربية على العالم، سواء بفضل التلفاز أو بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وما عادت الأمور كما هي عليه. وأصبح الكاتب والفنان والمترجم أكثر جرأة مما كان عليه في السابق، لذا ليس ثمة ما يمنع من إعادة ترجمة هذه الأعمال. ولكن يبقى الخيار للمترجم والناشر، ويتعلق الأمر أيضًا بجودة العمل الأدبي.
يستعيد محمد الأعمال التي ربما بحاجة إلى إعادة الترجمة في الأدب الإيطالي مثلا، ويرى أنها أعمال قليلة جدا. ويذكر أنه حاول ذات مرة إعادة ترجمة عمل أعجبه كل الإعجاب، وقد تُرجم بنحو لا يليق بقيمته الأدبية، إلا أنه أخفق. يقول محمد “من يدري، ربما سأعيد المحاولة في المستقبل. ولكن أظن أن ثمة الكثير من الروائع الإيطالية غير المترجمة، والتي ما زالت تنتظر من يقدمها إلى القارئ العربي، لذا فمن الأولى التركيز على تلك الأعمال”.
تأثير نظريات القراءة والتأويل
يتفق المترجم المصري أحمد عبد اللطيف مع الرأي القائل بأن الترجمة الجديدة ليست بالضرورة هي الترجمة الجيدة أو الأجمل والأكثر أمانة، لأن ذلك يتوقف على ثقافة المترجم ولغته ومدى إحاطته بعوالم الكاتب. لكن، مع ذلك، يُفترض أن تتخطى الترجمة الجديدة مشاكل الترجمة السابقة، وأن تتجنب أخطاءها، وأن تستفيد منها. هناك ترجمات قديمة جيدة تمت عبر لغة وسيطة، لأن الإنكليزية والفرنسية كانتا لغتي الترجمة في العالم العربي لفترة طويلة، الآن مع التوسع في لغات أخرى، يجب أن يحدث فارق في تلقي النص، وإلا ما ضرورة إعادة الترجمة؟
أما عن أسباب إعادة الترجمة فيقول عبد اللطيف إنها أسباب متعددة، منها وقوع الترجمة الأولى في أخطاء فادحة في فهم النص الأصلي ونقله، ومنها أسباب ربما تخص الرقابة وانحياز المترجم الأول لضميره الرقابي لا لأمانة المهنة، ومنها شرود المترجم أحيانًا ما يؤدي إلى سقوط فقرات في النص المترجم. وهي كلها أشياء حدثت وتحدث. لكن هناك سبب آخر لا يخص أمانة الترجمة بقدر ما يخص اللغة. فلقد تطورت اللغة العربية كثيرًا، ويمكن أن يلاحظ القارئ ذلك بسهولة لو انتقلت من لغة النفري إلى طه حسين ثم نجيب محفوظ إلى نص مكتوب في العشرين عامًا الأخيرة. واللغة ذكية بطبعها، تسقط ما يحلو لها وتعيد إحياء مفردات أخرى. بذلك تكون إعادة الترجمة ضرورة. أما الترجمة للربح التجاري فلا أجد لها أي معنى، لأن الربح سيتحقق في كل الأحوال، كما يمكن أن تتحقق الخسارة بنفس الرهان.
يعتقد عبد اللطيف أن تدارك أخطاء الترجمة يمكن أن يحدث في طبعات لاحقة، في حال كان نفس المترجم وليس مترجمًا جديدًا، لأن كل مترجم يأتي بنظريته ومن خلفيته المعرفية. ربما تكون ترجمة صحيحة لكني لم أحب تراكيب الجمل. أو ربما كانت صحيحة لكنها أقل شعرية من النص الأصلي. أو لو كان النص الأصلي متقشفًا تبدو لي الترجمة شاعرية بدون مبرر. يقول عبد اللطيف “ظني أن نظريات القراءة والتأويل أثرت بشكل كبير في الترجمة، فلم يعد للنص الواحد ترجمة واحدة لأنه لم يعد له تأويل واحد”.
يرى عبد اللطيف أن الموازنة بين لغة النص الأصلية وزمن كتابته، وبين اللغة المعاصرة والقارئ المعاصر، تمثل إشكالية كبرى في الترجمة حين نتصدى لترجمة نص تراثي. في إسبانيا صدرت في العام الماضي رواية دون كيخوته بلغة عصرية، عمل عليها أكثر من كاتب وكانت بالطبع أسهل في قراءتها بالنسبة للقارئ المعاصر. لكنها لم ترُق له كثيرا، وأحبها أكثر بلغة ثيربانتس القديمة، لأن اللغة، في رأيه، جزء من العالم السردي، وعالم دون كيخوته السردي لا يناسبه لغة عصرية. لذا من الضروري أن يبحث المترجم عن لغة قديمة تناسب النص، ليس في مجملها بالطبع، إذ أن المترجم لا يجب أن يكون مؤلفًا ويتمتع بلغات وأساليب متعددة، لكن على الأقل يمنح القارئ الشعور بأنه عمل يدور في زمن قديم.
فيما يخص الكتب التي ترجمت بشكل منقوص، تحت دعاوى العادات والتقاليد العربية، أو حرصا من المترجم/ المترجمة على عدم ترجمة ما يسيء إليه أخلاقيا، وأهمية إعادة ترجمة تلك الأعمال، يرى عبد اللطيف أن هذه ضرورة، ويقول: يجب أن يتوقف بعض المترجمين عن أفكار الوصاية والرقابة على النص، أو يتوقفوا عن الترجمة، على الأقل بمنطق أن ناقل الكفر ليس بكافر.
أما عن العناوين التي يرى عبد اللطيف أنها بحاجة إلى إعادة الترجمة، فيقول إنه رغم حبه لترجمة سامي الدروبي لديستويفسكي، يحب أن يقرأها مترجمة مباشرة من الروسية. ومن واقع تخصصه، تحتاج معظم ترجمات بورخس وكورتاثر إلى إعادة ترجمة، لأنه لم يتوافر فيها الحد الأدنى من البعد الجمالي المتوافر في النص الأصلي، بل وأحيانًا هناك سوء فهم لبعض العبارات.
إعادة الترجمة تعني عمليا إعادة قراءة
الشاعر السوري معاوية عبد المجيد، الحاصل مؤخرا على جائزة جيراردو دا كريمونا لترويج الترجمة في حوض البحر المتوسط 2018، يعتقد أن أهمية إعادة الترجمة ترتبط في الأصل بأهمية النص، ويضرب عبد المجيد مثلا بمسرحية فاوست لغوته، ويقول إنهم بإيطاليا يقومون بإعادة ترجمتها تقريبا كل 30 عامًا، نظرا لأهمية النص في الأدب الأوروبي الكلاسيكي، لذا هناك حاجة ملحة لأن تكون متاحة دائما بلغة معاصرة وقريبة من القارئ، لأن النص في حد ذاته صعب لغويا، ولذا مهمة المترجم هي تخفيف الصعوبات اللغوية على القارئ ليلتفت للصعوبات ما بعد اللغوية، ويدخل مباشرة إلى جوهر النص، لأن القارئ المعاصر لا تهمه طريقة حديث الأبطال في القرن الخامس عشر، لكنه يقرأ فاوست ليستمتع بها كأنه يتابعها على المسرح في اللحظة الحالية.
يضيف عبد المجيد أن ذلك التبسيط مفيد لكن لا يمكن الاتجاه إليه دائما، وهناك نصوص لا يمكن التعامل معها بنفس الطريقة، مثل الكوميديا الإلهية لدانتي، التي دائما ما تترجم بفرنسا ترجمات متجددة، لكن تبقى الترجمة الكلاسيكية الأولى لهذا النص المعقد معروضة بالأسواق، والجامعات والمكتبات، لأن اللغة الفرنسية في ذلك الوقت كانت في غاية التعقيد، والمترجم تعامل مع النص كما يتعامل مع الشعر، وهنا لا يمكن اعتماد التبسيط، لأن الشعر أصلا قائم على التعقيد اللغوي والتورية، وتعدد التأويل.
يعتقد عبد المجيد أن بعض الكتب ربما تشكل هاجسًا عالميًا لإعادة الترجمة، وهنا يجب أن يكون هناك منطق جديد لإعادة الترجمة، ويستعيد كتاب كفاحي لهتلر الذي تمت ترجمته أكثر من مرة، بالرغم من فشل تجربة هتلر بأكملها، لذا عند إعادة ترجمته ربما يكون المترجم بحاجة إلى زيادة الشروح ليصبح الكتاب أشبه ببيوغرافي أو سيرة ذاتية، تمكننا من فهم النازية الجديدة بأوروبا، والذي يعتبر الكتاب بالنسبة لها كتابًا مقدسًا. هنا يجب أثناء إعادة الترجمة فهم الكتاب من خلال هذا السياق، لأنه عند إعادة ترجمة كتاب بدون فكرة جديدة، أو رؤية جديدة للترجمة، يصبح للأمر علاقة بالربح التجاري فقط. لذا تجديد اللغة لا يمكن أن يصبح الهدف الوحيد من إعادة الترجمة، لأن إعادة الترجمة تعني عمليا إعادة قراءة، ومع كل قراءة جديدة للنص يتجلى النص أكثر، لذلك يرى عبد المجيد أن صدور ترجمة جديدة لا تضيف شيئًا للترجمات القديمة، يجعلها ترجمة بلا أهمية.
أما عن صدور ترجمات ناقصة أو غير أمينة، لأسباب أخلاقية تتعلق بتعارض المحتوى مع العادات العربية، وأهمية إعادة الترجمة لذلك السبب، فيقول عبد المجيد إن الأمر سيستمر، لأن العادات لم تتغير، ومع الوقت يصبح التضييق الأخلاقي أكثر وأكثر، ولا يملك المترجم ما يفعله حيال ذلك. يستعيد عبد المجيد في هذا السياق ترجمة الدكتور حسن عثمان للكوميديا الإلهية، ويذكر بعض الأناشيد التي كانت تحكي عن رؤية الرسول محمد وعلي بن أبي طالب بالجحيم. هذه الأجزاء لم يترجمها عثمان، ولم تترجم في الطبعات اللاحقة، لأن الرقابة مستمرة، ولن تسمح بترجمة النص الأصلي، وهنا تصبح المشكلة بعيدة عن المترجم وإدراكه لجوهر النص أو جوهر عملية الترجمة.
عن أهم الكتب التي هي بحاجة إلى إعادة الترجمة من وجهة نظر عبد المجيد يقول إن الأمر لا يمكن حصره في كتب معينة، إذ أن مترجمي المسرح الإغريقي سيهتمون بإعادة ترجمة كامل المسرح الإغريقي لأهميته، وسيقترح مترجمو الفلسفة الفرنسية إعادة ترجمة كل أعمال ديكارت، لكن تبقى الفكرة هي دراسة المترجم، وما سيضيفه للترجمات السابقة لتلك الأعمال الكلاسيكية. لأن تلك الأعمال دائما ما تقوم حولها دراسات متجددة، وهنا يجب على المترجم أن يقرأ النص والبحوث التي نشرت حوله، في السنوات العشر الأخيرة على الأقل، حتى يمكنه إيجاد مدخل مفيد لإعادة الترجمة.
أما أخطاء الترجمة وهل توجب إعادة الترجمة بالكامل أم لا، فيعتقد عبد المجيد أن لكل حالة من الحالات حلولًا مناسبة لها، ويستعيد عبد المجيد رواية الفهد لجوزيه تومازي دي لامبيدوزا، وهي من أهم الروايات الإيطالية، ونُشرت عام 1959، وصدرت ترجمتها الوحيدة بالسبعينيات للمترجم الأردني عيسى الناعوري، وهي ترجمة جيدة جدا، لذا تشاور عبد المجيد مع إدارة دار المتوسط في إعادة طباعة نفس الترجمة. لكن بالطبعة الإيطالية الأخيرة أضافوا مقاطع وفقرات كان يرغب لامبيدوزا في إضافتها إلى الرواية، غير أنه توفي قبل أن يفعل، لذلك أضافوا ملحقًا منفصلًا لتلك المقاطع. وما حدث مع الطبعة العربية للمتوسط أنه تم الاحتفاظ بترجمة الناعوري الكلاسيكية، وقام عبد المجيد بترجمة تلك المقاطع المنفصلة.
ضفة ثالثة