نوبل السلام ونساء سوريا/ يوسف بزي
نالت الشابة الأيزيدية العراقية نادية مراد (25 عاماً) جائزة نوبل للسلام، مع الطبيب الكونغولي دينيس موكويغي (63 عاماً) لدورهما البارز في مواجهة العنف الجنسي في الحروب.
نادية مراد كانت ضحية سابقة لـ”داعش”، وهي اليوم ناشطة حول العالم للتعريف بالمأساة التي يتعرض الأيزيديون لها، وخصوصاً النساء منهم.
من الواضح أن نوبل للسلام استجابت لمزاج عالمي بات أكثر حساسية وتفهماً لقضايا الانتهاكات الجنسية التي تتعرض لها النساء. وإذا كان موضوع “التحرش الجنسي” قد بات عنواناً لكسر الصمت والخوف ولصون كرامة المرأة، فهو قد لا يختلف كثيراً عن العنف الجنسي في زمن الحروب. سبي النساء واستعبادهن واغتصابهن هو بمثابة سلاح إبادة. ثمة حروب في العالم الثالث كانت سمتها الأساسية تحطيم المجتمعات المحلية، عبر فظائع الاغتصابات الجماعية كما عبر ارتكاب المجازر بحق سكان المدن.
خبر نيل الشابة الأيزيدية نادية مراد أرفع جائزة عالمية، يدفعنا للتفكير بنساء العراق وسوريا تحديداً، ليس فقط بوصفهن ضحايا “داعش” في هذين البلدين، أو بوصفهن ضحايا نظام الإجرام “الأسدي” في سوريا، لكن أيضاً بوصفهن ضحايا مجتمعاتهن المحلية، مجتمعهن العائلي والأسري الذي لا يتأخر في “معاقبتهن” معظم الأحيان إلى حد القتل، تحت شعار “غسل العار”. هؤلاء النسوة اللواتي يصبحن ضحايا مرتين وإلى الأبد.
إن قصص الضحايا السوريات والعراقيات لا تنتهي عند حد وقوعهن ضحية العنف الجنسي على يد “داعش” أو جيش النظام السوري، بل تستمر إلى فصل آخر لا يقل عنفاً وانتهاكاً، هو فصل “العقاب” الذي ينزله أهل الضحية بها. هذا المصير المروع لاقته الكثير من السيدات والشابات السوريات والعراقيات، حتى لمجرد تعرضهن للاعتقال. ففي الوعي الجمعي، تظهر مراكز الاعتقال دوماً بوصفها المكان الوحشي الذي يشهد كل أنواع الانتهاكات تعذيباً أو اغتصاباً.
ميزة نادية مراد وأمثالها ليست فقط بالنجاة من جلادها، لكن أيضاً بالنجاة من احتمال “العقاب” العائلي أو العشائري. ومقابل الخوف والمهانة والصمت، واجهت نادية محنتها بالبوح والكلام، بروي قصتها بلا كلل. استعادت إنسانيتها بسلاح القول والفضح. غسلت عارها بصوتها لا بسكين ذكورها المنكسرين.
صحيح أن المرأة الضحية تخسر كرامتها وإنسانيتها عند تعرضها للانتهاك وللعنف الجنسي، ولكن هذه الخسارة تتفاقم إلى حد الموت حين تقع الضحية في براثن الصمت والخوف وتخضع لمصير المهانة الأبدية. وهذا ما يريده الجلاد بالضبط.. فهو يريد من فعل انتهاكه أن يتحول عند الضحية إلى جرح دائم، إلى انكسار لا نهائي. وللأسف فإن الكثير من عائلات الضحايا يكملون مهمة الجلاد ويجهزون على الضحية.
تذكرنا قصة نادية مراد بآلاف القصص التي روتها السوريات عما أصابهن على يد العصابات الأسدية. إن أفضل مثال هنا كان الفيلم الوثائقي “سوريا، الصرخة المخنوقة” الذي قدم شهادات نساء رفضن وأد الحقيقة، رفضن العيش في الصمت الذليل. كانت شهاداتهن من الشجاعة بحيث أظهرن كبرياءهن بلا خوف، بحيث تجاوزن قسوة المهانة والانتهاك إلى جرأة طلب العدالة.
لقد هزت شهاداتهن العالم، بحيث إن “لطخة العار” التي لن تُمحى باتت على جبين النظام الأسدي. مقترف الجريمة هو الذي يحمل وزر فعلته لا الضحية. ولذا، هذه الشهادات هزت أيضاً المجتمع السوري نفسه. لقد قمن بانقلاب على دوامة التواطؤ بين الانتهاك الممنهج عند النظام و”العقاب” الغرائزي عند الأهل. قمن برفض دورهن كضحايا صامتات “يشحذن” الشفقة أو ينتظرن “الستر” (كما روجت ثقافة الإسلام السياسي ومشايخه وجمعيات “تزويج السوريات”) فما فعلته هذه النسوة هو التعبير الأكبر عن معنى الثورة السورية: كسر الصمت والخوف. شهاداتهن كانت تجسيداً مؤلماً لحال “سوريا الأسد”: مغتصِبون قساة في السلطة ومواطنون مغتصَبون صامتون أبداً.
وعلى هذا، الثورة لم تكن مجرد مطالب سياسية. إنها انقلاب عميق لا يمكن أن يكتمل من دون حيازة المرأة لشرط حريتها وكرامتها بلا نقصان ولا قيد.
ولا شيء يديم نظام الانتهاك، ونظام سلب كرامة السوريين، إلا استضعاف النساء. بل يمكن القول إنّ حرية سوريا مشروطة بتحرر النساء وبتمكينهن من كرامتهن الجسدية والمعنوية. ولا يمكن التغلب على نظام “الاغتصاب” (بكل أشكاله) إن لم يتغلب السوريون على عقلية “غسل العار” (“جريمة الشرف”!) ووأد النساء الضحايا.
السوريات اللواتي رفعن صوتهن وسردن قصصهن هن اللواتي منحن الثورة تفوقها الأخلاقي والإنساني. وهذا ما لم يفهمه بعض الإسلام السياسي، المتشبث بنظرة دونية للمرأة.
بهذا المعنى نساء الثورة السورية، كما في كتاب “إلى أن قامت الحرب” (تحقيق جولان حاجي)، يواجهن في الثورة لا نظام الأسد ووحوشه، لكن أيضاً نظاماً اجتماعياً استبدادياً يسلبهن كرامتهن، حتى من دون وقوعهن ضحايا العنف الجنسي في زمن الحرب.
ثمة عشرات الآلاف من السوريات اللواتي يشبهن نادية مراد، يستحقن نوبل السلام ونوبل الشجاعة. وهؤلاء، وبغض النظر عن الحرب ومصيرها، هن في المنفى وفي الأرياف المدمرة وفي مدن الخراب وفي معتقلات التعذيب وفي سجون الظلام وفي بيوت الخوف، وفي خيام اللجوء.. هن اللواتي لديهن الحكاية، التي من دونها ستكون سوريا موؤدة في صحراء الصمت والخواء والموت.
تلفزيون سوريا