“كروسان” القيمرية: القذارة التي يحبّها السوريّون/ مروان كيالي
هي الرسالة الخامسة التي أرسلها لصديقي حتى أسأله عن مصير محل “كروسان” القيمرية، هل تم افتتاحه مجدّداً أم هل سيطاوله الإغلاق الدائم، بخاصة أنه تم تداول أنباء على مواقع إخبارية تفيد بأن بعض المتنفذين يسعون بكامل طاقاتهم إلى شراء المحل، في حين أن صاحبه لا يريد بيعه.
التهمة جاهزة ولا تحتاج إلى برهان “قذارة في المحل”، واستخدام صحون كرتون “غير نظامية”. هذا ما أظهره التقرير رقم 7615 الذي تم تداوله.
على كتف قصر الشهبندر شمالاً، وفي الطريق المؤدّي إلى الجامع الأموي، يتموضع دكان عتيق تفوح منه رائحة الخبز الشهي. لكروسان القيمرية شهرة قد تكون عالمية وهو المكان الذي يتغنى البعض به بل ويتفاخر به ويوثق على وسائل التواصل الاجتماعي أنه كان يشتري منه في الذهاب وحتى في الإياب.
في بحثك عن صور للمكان لا تحضرك المشقة أبداً، فقد صوّر سوريون كثيرون هذا المحل وأظهروا قطع الكروسان المصنعة وكأنها أيقونات باهظة الثمن، وقد تكون حقاً كذلك.
ولقد تدرجت أسعار كروسان القيمرية من 15 ليرة إلى 25 ثم وبفعل الشح في المواد الأولية ارتفع السعر إلى 50، وبعدها إلى 75، واليوم يبلغ سعر قطعة الكروسان 150 ليرة سورية. هذا المخطط الزمني لسعر الكروسان منذ بداية عام 2011 وحتى تاريخ الاغلاق عام 2018.
أذكر دائماً وفي معظم الصباحات أثناء ذهابي إلى العمل، ذلك الدكان العتيق؛ فبعد أن أدخل حارة حمام البكري المهجور، والتي شهدت على بدء أعمال ترميمه بداية العام الحالي، تأخذك حواري دمشق القديمة في متاهاتها لتتعلق في ماضٍ لطالما سعيت إلى تجاوزه. فالشام القديمة وما تحويه من ذكريات وأحداث أصبحت بعيدة من القلب، لكنها ولمعظمنا ما زالت قريبة من “المعدة”.
” كروسانة على الماشي، ليمونية فاخرة، صحن فول من عند أبو أحمد، أركيلة عند النوفرة، كلها طقوس تقتحم مخيّلة السائر في دمشق القديمة عموماً، وفي حي القيمرية خصوصاً”.
قذارة في محل كروسان القيمرية وإن صح حدوثها فهي مرغوبة من السوريين، وكثر يعلمون هذا السر في القذارة. فكم من شاب وفتاة يعلمون أن معظم محلات الطعام الشعبية لا تحظى بمستوى مناسب من النظافة، لكنهم يؤيدون بقاءها بإجماع يكاد يكون الوحيد ما بين السوريين حالياً.
تقف طوابير الشابات والشباب على بسطة كروسان القيمرية، وهم يشاهدون جزءاً من داخل الفرن والبسطات المرفوعة عن الأرض. يشاهدون كيف تأتي صواني الكروسان الاثنتين إذ لا تتسع البسطة لأكثر من ذلك، وما أن تحط رحالها حتى يبدأ الناس بالتهافت ووضع النقود على رف البسطة بشكل سريع علهم يحصلون على مبتغاهم قبل غيرهم.
أطفال وشابات وشبان وشيوخ وأمهات يستمتعون برؤيتهم لعامل المحل وهو يمسح عرقه ثم يضع يده على إحدى الأوراق ويمسك بها قطعة ساخنة من الكروسان.
“جبنة أم شوكولا” يسأل العامل من دون كلل عن رغبة الذواقة الذين لا يملون الانتظار مهما طال.
“جبنة أم شوكولا” يكرّرها العامل على مسامع فتاة تائهة في غرام المكان، أو شاب تائه ظنّ أن الفتاة ذاتها معجبة به.
“جبنة أم شوكولا” يردّدها العامل بصوت عال على مسمع أحد كبار السن الذين لم يعد سمعهم يسعفهم لفهم الكلام في حضرة ضجيج المتحلّقين حول بسطة الكروسان.
“بعدوا شوي لو سمحتوا لنعرف نشتغل” يقول العامل الذي توتر من كثرة العيون الناظرة إلى بسطة الكروسان وكأنها سوف تنقض على فريسة.
وقفت ذات مرة أمام المحل، وأخذت قطعتين كالعادة، واحدة جبنة (لأتملح)، وأخرى شوكولا (لأتحلى)، وما كان مني إلا أن أعطيت العامل ألف ليرة سورية فطلب “فراطة”، نظرت إلى المتجمعين، وما هي إلا لحظات حتى فُتحت الحقائب والجزادين، كلهم يريدون تلبية مطلب العامل بالفراطة، ينظرون إلي وكأنني المُعطّل الشرير الذي أرهق العامل، وهم في سرّهم فرحون بأنهم تجاوزوا أحد الزبائن.
يمكن أن تتحدث أي دولة في العالم عن قذارة في المطاعم أو أحد المرافق، إلا أن النظام القذر بعينه والمبني على القذارة في أساسه لا يحق له التكلم عنها. فبسبب قذارتهم تحوّلت سوريا منذ زمن إلى بلد بائس، وبسبب تضييقهم على الناس، تراخى البعض في الاهتمام بأعمالهم. قذارة النظام في سوريا بأن أغلق محلاً يستخدم صحوناً “غير نظامية”، وهو أمر وقح حقاً، فكروسان القيمرية يبيع قطع الحلويات الأخرى من “دونات وكلير” بصحون كرتون كغيره من المحلات حيث تستخدم لمرة واحدة.
أما لمن لا يعلم ما يحبه السوريون، فهم يحبّون رؤية العامل إذ تعرّق، والمحلات إذ اكتظّت، والأيادي إذ لامست طعامهم، يحبّون رؤية الشقاء والعمل فهم يعانون الشقاء ذاته، بأساليب مختلفة. تراهم يتناقلون النرجيلة من المكان ذاته، فالهدف البقاء في قهوة النوفرة على جوانب درج جيرون، والتأمل في المكان ولو انتقلت عدوى التهاب الكبد من النرجيلة. لا يهمّهم آلاف الناس الذين شربوا من كأس الشاي ذاته، قبل “شطفها” بشكل سريع، فالرغبة في بالتمتع بالشاي الخمير في أحد الصباحات الجديدة بدمشق لا تمكن مقاومتها بسهولة.
رسائل خمس أرسلتها كي أعلم مصير كروسان القيميرية من دون أن يأتيني رد عليها، ما أثار استيائي من صديقي الذي لم أعهده يتصرف على هذا النحو، لكنني أعهده صاحب رغبة في “الكيد”، فها هو يرسل لي الآن صورة له وهو يأكل من أمام كروسان القيمرية متفاخراً بتفوقه علي، بعد أن افتتح المحل من جديد، فنصحته بشراء الكثير، تحضيراً لقرارات جديدة قد يصدرها النظام تؤدي إلى إغلاق المحل مجدداً كونه من الأماكن التي تَجمع السوريين أينما رحلوا.
درج