هذا ما تقوله النساء عن الحياة والموت في سوريّا/ علاء رشيدي
تكتب الروائية السورية سمر يزبك في مقدمة كتاب “تسع عشرة امرأة: سوريات يروين”، “هذا الكتاب هو أحد طرائقي في المقاومة، وجزء من إيماني بدورنا كمثقفين وكتّاب في تحمل مسؤوليتنا الأخلاقية والوطنية تجاه العدالة وإنصاف الضحايا، والتي يتجلى أهم وجوهها في حربنا ضد النسيان”.
يتألف الكتاب من 19 شهادة نصية عملت سمر يزبك على تحقيقها من خلال الحوارات، واللقاءات مع نساء سوريات فاعلات في مجالات سياسية واجتماعية متعددة، منها الإغاثة، الطب، الإعلام، السياسة، والمجتمع والتنمية التثقيفية.
حرصت الكاتبة سمر يزبك على هذا التنوع في المجالات التي اختارت نساءً فاعلات ليروين شهاداتهن فيها، كما يوضح عنوان الكتاب، وحرصت على تنويع المناطق الجغرافية التي تنتمي إليها النساء، ما جعل الشهادات تشمل السلطات المتنوعة القائمة على الأرض السورية في الفترة الحالية.
تشرح الروائية يزبك عن طريقة تنفيذ الكتاب: “اعتمدت آلية تنفيذ الكتاب على طرائق عدة، أهمها جمع المعلومات عن النساء اللواتي خضن تجارب نضالية في الثورة، وتم التركيز على مجموعة معينة من الأسئلة: ماذا كنت تفعلين حين بدأت الثورة؟ وما هو السبب الذي دفعك إلى الانخراط في الثورة؟ ثم رواية تجربة شخصية من منظور المقاومة والجندرة، لتجمع شهادات هذا الكتاب تفاصيل المرحلة التاريخية التي تمر بها سوريا على جميع المستويات، حيث نقرأ موضوعات متعلقة بالتغيرات السياسية، بالتجارب الاجتماعية، وبالظواهر الثقافية والفردية الخاصة بكل مشاركة من المشاركات في كتابة النصوص”.
أما عن الروايات المشاركة فتكتب يزبك: “تواجه الراويات في هذا الكتاب الوضع الاجتماعي ككل، ومن ضمنه طبقتهن الاجتماعية، يراجعن تجاربهن الخاصة ورؤيتهن إلى أنفسهن، ولا يعملن على تعزيز فكرة الضحية، ولا على تصوير أنفسهن كضحايا، كأن المقاومة بالنسبة إليهن تتناقض مع مفهوم الضحية، وما تنطوي عليه من تقوقع واعتناق للجروح، وكذلك مع فكرة البطولة والتبجح بها”، تبين المؤلفة أنه بعد الانتهاء من تدوين الشهادات، أرسلت كل شهادة إلى صاحبتها، لمراجعتها وتأكيدها.
الراوية الأولى سارة، من المعضمية، الشابة التي درست اللغة الإنكليزية. لقد نجت من مجزرة الكيماوي، ومن مجزرة السكاكين، ومن القصف والحصار، وأسست مشاريع تنموية عدة، وعملت مراسلة إعلامية سرية. وهي تروي كيف مارس الناشطون الشباب، حتى العلمانيون منهم، أسلوب تشويه السمعة والقتل المعنوي لوأد فاعلية النساء، والحد من سلطتهن المعنية بالتأثير والتأثر. كذلك توضح كيف أن السلطة الذكورية القمعية لا تتجسد عند الرجال فقط، بل تتبناها أيضاً فئة من النساء اللواتي يتحولن جزءاً من تلك السلطة. بمعنى الانحياز هنا ليس جندرياً، ولكن يتبع السلطة والقوة، فتصبح النساء جزءاً لقمع أخريات.
نقرأ من شهادة سارة: “طبعنا المناشير في مكتبة قرب حاجز، وهذه مخاطرة كبيرة، لكننا لم نخف، وكنا نصور ونقرأ كتباً تتحدث عن تاريخ الثورات في العالم، ثم نرمي أمام أبواب البيوت، مناشير، تشرح طبيعة الثورة”.
شهادات الاعتقال تحتل جزءاً كبيراً من الكتاب، روت الكثير عن السجن والفظائع التي ترتكب داخله، وصفت بدقة لتعرية الوجه الحقيقي للجلاد وفق تعبير المؤلفة يزبك، فداخل السجن، يشيأ الجسد، ويمسرح التعذيب، وهذه الشهادات تتحدث عن هذه المسرحة بتشابه فظيع. الوسائل كلها متاحة لتحطيم السجينة، وتفتيت إرادتها وكيانها، لدفعها إلى الرضوخ بإذلال لجبروت السجان الذي يمسك بخيوط الحياة والموت، السجان الذي يصبح بمثابة قدر يصعب الإفلات منه.
الراوية فاطمة، 27 سنة، من القنيطرة تروي عن أساليب التعذيب: “كانت جلسات التعذيب بالكهرباء، على رجلي بدايةً، وكان حلقي ينشف نتيحة صدمات الكهرباء، فيسقونني ماء، ثم يعاودون التعذيب، لاحقاً، ونتيجة التعذيب، تمزق الغضروف في ركبتي، وصارت حركتي صعبة، ولا أستطيع تحريك رجلي جيداً الآن، استمروا في التعذيب، ولم أعد أبدي أي رد فعل، توقفت عن البكاء والصراخ، كنت لا شيء، ومحطمة ومذهولة من الاتهامات الموجهة إلي”.
عن التعذيب النفسي المركب وأثره على الذات نقرأ في الشهادة الثانية لمريم حايد، طالبة علم نفس، يجبرها السجان داخل السجن على التأقلم مع اسم آخر: ” قال لي : ما اسمك ؟ قلت مريم. فصفعني بعنف أكثر، وقال اسمك أميرة خليف. فصمتت. ضربني بعنف، ولطمني، ولبطني، فتراجعت السجينات مذعورات. منذ تلك اللحظة، لم أعد أنادى إلا بأميرة، وكلما كان السجان يناديني أميرة، كنت أقول لنفسي: لا تنسي أنت مريم، أنت مريم حايد التي تريد سوريا حرة ديموقراطية، أردد هذا الكلام مع تنفسي بصمت، وأنسى ما يفعلونه بي”.
فاطمة، تقارن بين واقع السجين وواقع السجان في المعتقل، هذه العلاقة المركبة: “على رغم ذلك، ما زلت أذكر أن السجانين كانوا يأكلون من أكلنا الذي كان رديئاً، وأنهم كانوا سجناء في الأقبية أيضاً. لقد كانوا فقراء مثلنا. كنا سجناء لديهم، وقد سجنوا أنفسهم معنا، لأن مهمتهم التعذيب. أعرف أن الظلم مركب، لكن ما عشناه نحن لن يشعروا به أبداً. هؤلاء المحققون والسجانون يعيشون معي في كوابيسي، ولا أريد نسيان ما فعلوه بنا، لذلك إدراكي لحقيقة الظلم الذي عشناه هو دافع لي لأتابع حياتي وأتماسك وأقف ضد الظلم الذي مثلوه، وعشته. لقد كانوا في نهاية الأمر متوحشين، وخسروا إنسانيتهم، وأنا كسبت إنسانيتي”.
الراوية الثالثة ديما، درست التصميم البصري، وهي فاعلة في الإعلام الثوري، أوضحت في شهادتها كيف كان التمويل يتحكم بإيديولوجيا وفكر المجموعات المسلحة التي راحت تتشدد في أفكارها الدينية وسلوكياتها بحسب ما تمليه عليها مصادر التمويل. تروي ديما: “أردت أن أكون جزءاً من عالم الناس المسحوقين، وأساعدهم في التغيير. كانت لهم عاداتهم، وكانوا متشددين دينياً، وقد التزمت عاداتهم. كانوا لطفاء، وصرت واحدة منهم، ووثقوا بي”.
زين، طالبة من كلية التربية، هي من الناشطات اللواتي، وعلى إثر مجزرة نهر قويق، صبغن النهر باللون الأحمر احتجاجاً على القتل، بعد أن وجد الأهالي جثثاً مرمية في النهر، تعود لأبنائهم الذين كانوا معتقلين. ومن نوع أنشطتها أيضاً الإهتمام بالجثث المجهولة الهوية: “كنا ندفنها، وندون اسم المكان الذي دفنت فيه بجانب كل صورة حتى يتمكن الأهل من معرفة قبور أولادهم عندما يأتون بعد القصف للسؤال عنهم. وحاولنا تسليم الأهالي جثث أبنائهم بطريقة لائقة. نخيط أعضاء كل جثة، ونجعلها تبدو بشكل إنساني. أول مرة خيطت لحماً بشرياً، كان لجثة رجل ثمانيني، أمعاؤه خارج جسده، والطبيب قرر ألا يسلم جثته إلى أهله في هذه الحال، كان شعوري لا يوصف، فكرت حينذاك فقط كيف يمكننا مساعدة الناس وإنقاذهم”.
موضوعة حمل السلاح من قبل المرأة، حرصت الكاتبة يزبك على معالجتها في معظم الشهادات المقدمة. أراء النساء المشاركات في الكتاب تميل بمعظمها إلى رفض ظاهرة حمل المرأة للسلاح، على رغم أن شهادتين تذكران أن نساءً حملن السلاح، تقول زين: “كنت ضد السلاح، لكنني أعرف نساء كثيرات حملنه”، وتبين ديما، أن نساء أسسن كتائب عسكرية.
الشهادة الخامسة لضحى عاشور، (52 سنة، صحافية)، تنقل لنا أفكارها الذاتية: “غضبي كان لأنني كنت أعمل على تغيير مجتمعي، وأناضل من أجل ذلك، وعلى المستوى الشخصي، كنت مقيدة في حريتي في أدق تفاصيلها”، لكن التجربة الأقسى التي ترويها ضحى هي الحمل بجنين داخل المعتقل: “لم أكن آكل. نحلت كثيراً، ولم أبدل ثيابي لثلاثة أشهر، وعانيت من تسلخ اللحم، بخاصة بين فخذي، وفي بطني. جسمي اهترأ. كنت أنظر إلى جلدي المتعفن، وأتحدث مع جنيني، وأطلب منه الصمود، وكنت أتلمس بطني، وأربته وأقول: سننجو معاً، ويجب أن نتماسك. لكنني كنت أغيب عن الوعي بين وقت وآخر، ولا أستطيع التنفس، بسبب ظروف الزنزانة غير الصحية. كانوا يأتون لي بفوط نسائية، لم أكن أحتاجها، فكنت أمزقها، وأرميها بين بقايا الطعام حتى لا يعرفوا أنني حامل”.
ربما يكون إنشاء المكتبة من أكثر الموضوعات المثيرة للأمل في ظل ظروف القصف والحصار والرقابة السياسية وسلطة التشدد الديني، يأتي ذكر المكتبة في شهادات عدة، من تبادل كتب ثورات العالم بين النشطاء المدنيين، إلى تأسيس مكتبة للأطفال تحت الحصار إلى المكتبة في المعتقل: “في السجن، تبرعت بترتيب المكتبة، لأننا كسجينات سياسيات منعنا من القراءة. وأقنعت إحدى السجينات القضائيات بأن تستعير لي كتاب روزا لوكسمبورغ، رسائل حب، وكتاباً عن الحمل”.
أما عن التمييز الطائفي فتروي ضحى عاشور: “حاولنا استئجار بيت في اللاذقية وهي مدينة زوجي. كان أصحاب مكاتب الإيجار عندما يرون هويتي، ويعرفون أنني سنية من حلب يقولون لزوجي بشكل غير مباشر إننا سنتعرض لمشكلات كثيرة. وهذا انطبق على المناطق جميعها التي يسكنها السنة، لأن زوجي علوي من قرى الساحل”.
أما سعاد، 25 سنة، طالبة علم نفس، فتروي لنا عن تجربتها مع نظام الحسبة (الهيئة الدينية الشرعية) التي راحت تتشدد في مراقبة ألبسة لنساء وأجبرتهن على ارتداء النقاب والعباءة، وعلى رغم ذلك حين توقف المدرسون عن التدريس، وأغلقت المدارس، جمعت سعاد طلاباً في غرفتها الصغيرة ودرستهم. لم تكن الهيئة الشرعية تعرف بما كانت تقوم به، وحصلت سعاد على تعاطف شعبي، لأن الناس رفضوا “داعش” وأفكاره. روت أنهم كانوا يروعون الناس في الأسواق بالذبح وقطع الأعضاء: “رفضت أن أشاهد عمليات قطع الرؤوس والأعضاء، ولم أكن أخرج لمشاهدة ما يفعلونه”.
تروي أن شيخاً قالها: “إذا مشت المرأة، وأصدر حذاؤها صوتاً، فهذا يعني أنها تفتن الرجل، وهذه معصية، يجب أن تمر المرأة أمام الرجل بصمت تام. وكان عقاب سفر المرأة من دون محرم أربعين جلدة على الظهر. كانوا يلاحقون النساء في كل مكان. امرأة أخرى ظهرت أصابعها من دون قفازين، جلدوها بشكل وحشي على أصابعها حتى نفرت الدماء منها”.
حكاية أخرى ترويها سعاد عن تطبيق الدين بأهواء شخصية: “لي قريب ترك الجيش الحر وجاء إلى داعش، ففرضت عليه التوبة عند الشيخ، فخضع لهم، وذهب ليتوب. لكن الشيخ رفض توبته، فاعتقلوه، وأخذوه إلى السوق، علقوه على عمود. صارت الرؤوس المعلقة في ساحة السوق أمراً عادياً فتوقفت عن الذهاب إلى السوق، كثر فعلوا مثلنا، وابتعدنا من التجمعات”.
تروي ليلى عن إثارة النزاعات الطائفية، عن ظاهرة “الجعاري” في حمص، وهي شخصيات تم استئجارها لتركض بين الحارات المأهولة بإحدى الطوائف وتبث الرعب في نداءاتها عن رغبات إبادة تبادر طائفة ضد طائفة أخرى وحرب تشن بين الحارات المتجاورة. أكثر ما يؤلم ليلى في ذكرياتها هو وجه شاب أحرق سوبرماركت بناء على طلب رجل أمن لإثارة الكراهية الطائفية، رضخ الشاب وأحرق السوبرماركت لكنه كان يردد حينها: “أنا لم أعد إنساناً”، تقول ليلى: “كان السوبرماركت المحترق ممتلئاً بالطعام، ونحن، وهم كلنا جياع. لماذا يحرقون الطعام والكل جياع؟”.
تعرفت أمل إلى الفساد من خلال عملها في دوائر الدولة: “تعرفتُ إلى كيفية تمرير الصفقات التجارية المشبوهة، وإلى الفساد والمحسوبيات، وإلى تدخل رجال الأمن بتفاصيل القرارات، وحتى تعيين الموظفين العاديين أو المديرين، وتعرفت أيضاً إلى أسماء كبار التجار، وشراكاتهم مع شخصيات من النظام الحاكم ومن الضباط”.
شهادة أمل تمثل حالة اللجوء والهجرة إلى أوروبا عبر تركيا. تكتب عن رحلة اللجوء: “كنت منهكة جداً، وأتعرق بشدة، لأنني مرتدية طبقات عدة من الثياب فوق بعضها بعضاً، فقد كان ممنوعاً علينا حمل الحقائب. كانت الساعة السادسة والنصف صباحاً تقريباً حين اكتشفنا أن المهربين تركوا مجموعتنا فوق مزبلة، حمل الشاب العجوزين، وعدنا معاً مشياً باتجاه المدينة، كانت مناظر بائسة، من متعبين، عطشى وجائعين، وعلى وشك السقوط أرضاً، إضافة إلى خوفنا من أن تكتشف الشرطة التركية أمرنا”.
تكرس رنا من منطقة الميدان في دمشق موهبتها في الكتابة لصالح القضايا التي أرادت مناصرتها: “بعد مساعدة النازحين، قررت العمل الصحفي، وعملت في موقع إلكتروني، وفي إذاعة، أبث التقارير الإذاعية الميدانية من قلب الحصار، وأكتب قصص الناس باسم مستعار، كتبت عن النساء والأطفال في الحصار، وعن المعتقلين”.
وعن صعوبات الكتابة في ظل الظروف المأسوية من حولها، تكتب رنا: “في إحدى المرات في المعضمية، التقيت بإمرأة، كان يجب أن أكتب قصتها، لكنني لم أستطع، لقد أجريت حوارات كثيرة، لم أستطع تحويلها قصصاً، كانت مخيفة وقاسية، إلى درجة أنني عجزت عن تركيب جملة واحدة فيها. المعتقل الذي أراني ظهره المتفسخ، لم أكتب عنه، والمرأة التي أخبرتني باغتصابها على الحاجز، ولم يكن مضى على ولادتها خمسة أيام، لم أستطع أن أكتب هذه الفظاعة، وبدلاً من أن أكتب القصة، صرت أواسيها وأبكي، فقدت اللغة معناها”.
كتبت الكثير من الراويات في إدانة الكيفية التي كان التمويل يتحكم عبرها بإيديولوجيا الكتائب المسلحة وأفكارها. لكن لينا محمد، 29 سنة، صحافية، أوردت قصة عايشتها بنفسها تتعلق بهذا الموضوع: “كنت موجودة عندما أجرى أحد القادة العسكريين حواراً عبر السكايب مع شيخ خليجي، لم أستطع تحديد هويته، لقد رأيت ذلك بعيني. كانت المعركة حامية قرب حرستا، والقائد العسكري يطلب مساعدة من الشيخ، فسأله الشيخ عن اسم المعركة، فقال له لم تسم بعد. فطلب الشيخ تسميتها باسمه، فرفض القائد”.
عن الزواج بالإكراه، الذي تعرضت له النساء في ظل تنظيم “داعش”، تكتب الصحافية منى فريج، 42 سنة، عن الفتاة التي رفضت ما قام به ابن عمها، من تزويجها لداعشي: “هناك أشخاص انضموا إلى داعش من أجل السلطة، وليس المال فحسب، وابن عم الفتاة أراد توطيد العلاقة مع التنظيم، فقدمها زوحة إلى أحد عناصره. رفضت الفتاة، وعندما فرض الأمر عليها، تجرعت السم، وقتلت نفسها. ولم تقبل الزواج بداعشي”.
ربما تكون من أشد العذابات النفسية أن يكون هناك تسجيل فيديو مصور لحبيب أو قريب يصور وهو يقتل، هل نشاهد هذه الوثيقة المتاحة عن موت من نحب؟ هل نشاهدها؟ كم من المرات؟ هذه واحدة من العذابات النفسية التي ترويها رولا من اللاذقية عن إحدى الناجيات من مجزرة “اشتبرق”، تكتب رولا: “هي قصة أسيرة عند جبهة النصر، تقول: “ذبحوا زوجي، ثم بثوا عملية ذبحه في شريط فيديو، أنا لم أر الفيديو، ولا أريد، أهل زوجي شاهدوه، وأكدوا لي”.
أما عن التعذيب النفسي في سجون جبهة النصرة فتروي: ” ولدت امرأتان في سجن حارم، إحداهما ولدت والمسدس فوق رأسها، الثانية مات رضيعها من البرد. إحدى الفتيات، وفي أثناء دخول العراقي، وهو يصرخ لنتجهز للذبح، جاءت إليه وقالت: يا شيخ، أنا أريد أن تذبحني. فذهل، ونظر إليها بهدوء، وقال: لا تزالين صغيرة. كان تعذيبهم النفسي غريباً. وضعوا لنا في زوايا الغرفة التي كنا نتكدس فيها، سبيكرات، وكانوا يبثون فيها بشكل متواصل أناشيد دينية وأغنية يومية عن ذبح العلويين. مرضت اثنتان من بناتي جداً، واحدة أصيبت باليرقان، والثانية بالتهاب الكبد. كان الطعام سيئاً والبرد قارساً، ونحن ننام على الأرض”.
عن شعور الكراهية الذي يستلب المرء تجاه كل ما حوله نتيجة الظلم، نقرأ عن الوضع النفسي الذي تصفه رولا: ” كنت على حافة الانهيار والجنون، أجد نفسي في دائرة مفرغة، ومقاومتي انهارت، كنت أعيش خائفة من الاعتقال. لا أعرف حتى إذا ما كنت لا أزال امرأة أم شيئاً آخر، لا أشعر بشيء، لا الغضب، ولا الحقد ولا الكراهية ولا الفرح، ولا رغبة لدي في أي شيء. هذه الكراهية قتلتني”.
ن التعاضد الأهلي تكتب ريم، 50 سنة، موظفة في وزارة الإعلام: “كان جيراني الذين عشت معهم تحت الحصار والقصف سبب استمراري في الحياة، كنت أظن نفسي مثقفة منفتحة، وهم تقليديون متدينون، لكن في الثورة والحصار والحرب يظهر البشر على حقيقتهم. تعلمت منهم، وتعلموا مني، تكاتفنا، وقبلوا بي، وقبلت بهم، تعلمت منهم معنى المشاركة في الحياة، وحين كنا نواجه الموت جميعاً، كنا نحب بعضنا بعضاً، ويخاف عليه كعائلة. واختفى مفهوم العيب في أثناء العيش اليومي مع الموت، وانتفت سطوة العادات والتقاليد”.
يُنتج التعاضد الأهلي تجارب تنموية، مثل المركز التنموي التعليمي للنساء في ريف إدلب، الراوية عليا: “في كل صباح عندما نفتح المركز، ويكون القصف على أشده، كنا نرى النساء قادمات، رؤيتهن قادمات ليتعلمن ويتجاوزن الأخطار والقصف ويتحدين الموت، كانت تدفعنا إلى المتابعة معهن، كان يمكن أن نموت في أي لحظة، وهذا ليس مجازاً، كان الطيران يقصفنا باستمرار، وهذا لم يجعلنا نتوقف أيضاً. لكننا لم نغلق المركز على رغم وحشية القصف”.
“أنشأنا مكتبة للمطالعة، الفتيات بين 15 – 20 سنة كن أكثر المقبلات على المطالعة، كانت مكتبة متنوعة، فيها كتب ثقافية وعلمية ودينية وأدبية. كنا نشجع القارئات، كرمنا فتاةً قرأت عشرين كتاباً خلال عشرين يوماً، كان الهدف تشجيع النساء على القراءة”.
تشهد الراوية حذام عدي، 77 سنة، من حمص، على التغير الاجتماعي الذي حملته معها أحداث الثورة: “تغيرت العادات والتقاليد مع حركة الاحتجاج، فقد كانت في حارة قريبة منا امرأة محافظة زوجها مسافر، آوت عشرات الشباب الذين هربوا من رجال الأمن، وخبأتهم في بيتها حتى الصباح، وكسرت الحدود الاجتماعية المفروضة”.
في شهادة حذام نعثر على ذهن المرأة الراغبة في أن تكون فاعلة في العمل السياسي والاجتماعي: “كنت أعرف أن عمل المرأة في السياسة لا يؤخذ بجدية من قبل الرجال، فعددت نفسي رجلاً، ونسيت أنني امرأة. خفتُ المجتمع، وأردت التأثير فيه. لذلك كان علي نسيان أنوثتي والاختباء خلف تلك القوة التي يظهرها الرجال. لقد انكرت تماماً هويتي الجنسية”.
تتعدد الأسباب التي دفعت المشاركات للانخراط بالعمل السياسي، وتكوين رأي وموقف وقضية، كل شهادة فكل مشاركة لها أسبابها التي دفعتها للانخراط في العمل السياسي والاجتماعي. في شهادة حذام اختصار وذكر لكامل مطالب هؤلاء النسوة الفاعلات، وكذلك مطالب حذام تذكر بكل الأسباب والدوافع التي طالب لأجلها الشعب السوري بالتغيير، وهي: “إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية المطبقة في سورية منذ 1963، وإصدار عفو عام عن المعتقلين السياسيين، ومعتقلي الرأي والضمير، والملاحقين لأسباب سياسية، والسماح بعودة المشردين والمنفيين، إرساء دولة القانون، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعديدية السياسية والفكرية، وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي، وتحرير الحياة العامة من القوانين والقيود وأشكال الرقابة المفروضة عليها، بما يسمح للمواطنين بالتعبير عن مصالحهم المختلفة، في إطار توافق جماعي، وتنافس سلمي، وبناء مؤسساتي، يتيح للجميع المشاركة في تطوير البلاد وازدهارها”.
الراوية فاتن، 24 سنة، شهادتها تختزل الكثير من التحولات الاجتماعية والممارسات الجماعية في منطقة دوما كنموذج، يمكن أن يكون نموذجاً لكل تحول اجتماعي في ظل العنف: “كان الضغط الاجتماعي أسوأ من القصف، بخاصة أن البنية الاجتماعية كانت تتغير وتتراجع إلى مزيد من الانحدار، وهذا التغير كان يتم بقوة السلاح. فرضوا على النساء البقاء في البيت بطريقة غير مباشرة، والقصف ساعد على ذلك والمعارك أيضاً، ونشأ الزواج المتعدد. وصرنا نسمع بطفلات في الثالثة عشرة والرابعة عشرة يتزوجن. لعب العامل الاقتصادي دوراً في هذا، لا الديني فقط. أظن أن أسوأ ما فعلته الحرب، هو إنتاج التخلف الإجتماعي، وكان جزءاً من التشددد الديني الذي طفا على السطح، وهذا مرده إلى أسباب عدة، منها أن طبقة المتعلمين والمثقفين خرجت من دوما، والطبقة غير المتعلمة هي التي حكمت البلد”.
أخيراً، ننهي مع شهادة الصحافية زينة أرحيم، 32 سنة من إدلب. هذه الشهادة تحمل الكثير في التعبير عن المشاعر الخاصة والشخصية من خلال تجربة الانضمام إلى رغبة التغيير في المجتمع، تقول” “أشعر بأنني مخدرة، لا أفرح ولا أحزن، ولم أعد أشعر بالحب تجاه أي شيء، أربي ابنتي كواجب، وشعور بالمسؤولية. أشعر أنني متعبة من الهزائم جميعها في الثورة، والعنف كله الذي تعرضنا له والمجازر التي قام بها الأسد. أشعر بأنني لم أبدأ حزني بعد على خسارتنا التي ذهبت إلى العدم. لقد ظلمنا الناس، وخرجنا إلى الشارع لنتظاهر، وأشعر بأنني ساهمت في الخراب، أعرف أنني لست مسؤولة عن هذا، ولكنني أحمل نفسي المسؤولية. الحزن في الأمر، غير الخذلان الدولي والانقسام المجتمعي والديني ودمار البلد وبقاء الأسد، هو الحقد والكراهية والعداوات التي نشأت بين الناس. العداء الذي نشأ من أتفه الأمور، كان هذا العدء والكراهية بين الناس أكبر خذلان لي. نشأت أنواع جديدة من العنف والقمع والطبقات المستغلة الجديدة. راجعت نفسي كثيراً، كنا ضد نظام متوحش، فوجدنا أنفسنا أمام ديكتاتوريات دينية عنيفة”.
درج