كتاب «في مديح الكسل»: لماذا يجب أن نطالب بتوزيع عادل لأوقات الفراغ؟/ أحمد أشرف
درج الناس منذ نعومة أظفارهم على الاعتقاد بقاعدة بسيطة، هي أن العمل هو واحد من الفضائل المهمة للإنسان الشريف عفيف اليد، والضمير السليم يدفع الإنسان إلى بذل الجهد ومكابدة المشقة في العمل المضني من أجل تحقيق الذات والرضا عن النفس.
لكن في عام 1935، كتب الفيلسوف البريطاني الشهير «برتراند راسل» كتابًا سمَّاه «في مدح الكسل»، دافع فيه عن القيمة النقيض تمامًا لفضيلة العمل، أي فضيلة الكسل والبطالة والفراغ الذي يسمح للإنسان بالانغماس في أنشطة يحبها وتهب له إحساسًا بالتحقق، بعيدًا عن العمل المنظم الذي اعتادته البشرية.
يرى راسل إذًا أن أخلاق احترام العمل وتقدير الانشغال والجدية أمور في حاجة إلى مراجعة. لكن إلى أي حد يمكن أن نعد هذه الرؤية مثالية، وإلى أي حد قد تكون مفيدة في عالم عربي نشتكي فيه باستمرار من انعدام الجدية في العمل، ومن «البطالة المقنعة»؟
أخلاق العمل: من أين اكتسبناها؟
يشرح راسل في كتابه أنه منذ بدء الحضارة وحتى بزوغ الثورة الصناعية، كان يمكن لأي رجل، كقاعدة عامة، أن يقيم أوَده وأوَد عائلته وما يزيد عن ذلك قليلًا، هذا إن وضعنا في اعتبارنا أن زوجته كانت تؤدي مثل عمله الشاق، وكذلك أطفاله ما إن تشتد سواعدهم.
لم يكن الفائض الذي يزيد قليلًا عن الكفاف يُترك لأصحابه العاملين، وإنما يذهب إلى جيوب الكهنة وجنود الجيش عبر المؤسسة الدينية والضرائب، بطريقة تضمن لهم استمرار نمط معيشتهم بالطريقة نفسها في أوقات المجاعة أو الحرب، كما في أوقات السلم والرخاء. كان هذا يعني بالضرورة أن يتضور الكادحون جوعًا في أوقات الأزمات.
يرى راسل أن هذا النظام البسيط استمر بصور مختلفة طوال التاريخ البشري تقريبًا، ويضع الثورة الروسية (1917) فقط نقطة للانفصال عن هذا الوضع في روسيا، فيما يرى أنه استمر في بريطانيا حتى القرن التاسع عشر عندما استولت طبقة جديدة على زمام السلطة، وانتهى في أمريكا مع حرب الاستقلال. عندها، وعندها فقط، بدأ العامل العادي في مراكمة فائض يمكِّنه من تأمين نفسه وعائلته في أوقات الأزمات.
يتحدث راسل إذًا عن نظام لم ينته منذ وقت بعيد في تاريخ المجتمعات البشرية، بل عن نظام رافق الإنسان منذ بداية الحضارة وحتى القرن العشرين، ومن المعقول جدًّا في رأيه أن يترك نظام كهذا أثرًا هائلًا في قناعات الناس وعقولهم، دافعًا إياهم إلى القول بفضيلة العمل الدؤوب كجزء من الأشياء التي نراها بدهيات ومسلمات لا تحتاج إلى نقاش.
إذًا، كانت هذه الأخلاق ضرورية في هذا النظام لأن عدم الاعتقاد في فضيلة العمل قد يعرض الإنسان إلى خطر مادي مباشر.
لكن هذه الأخلاق تتناقض مع مقتضيات العصر الحديث لسبب بسيط، هو أن وسائل الإنتاج الحديثة قادرة ألا تجعل «الفراغ» حكرًا على قلة قليلة من البشر، بل بسبب النمو الهائل في معدلات الإنتاج بجهد أقل، تستطيع أن تعمم هذا الامتياز ليصبح حقًّا يتساوى فيه جميع الناس.
في هذه الحالة، تصبح أخلاق العمل الدؤوب منتمية إلى الماضي، رغم أن الحديث عن فضائل العمل لا يزال رائجًا بدرجة كبيرة في العالم المعاصر.
يقدم راسل فرضية بسيطة تبدو على قدر من البداهة، وهي أن جميع العاملين، خصوصًا هؤلاء الأقل حظوة، لو تُركوا لشأنهم وزال عنهم بطش التعسف، لما فرَّطوا في الفائض القليل من إنتاجهم وأجورهم لصالح الآخرين الذين يستأثرون بها رغمًا عنهم، ولفضَّلوا أن يقللوا من إنتاجهم أو يزيدوا من حاجاتهم لصرف الفائض بدلًا من التنازل عنه.
لكن راسل وجد بالتدريج أنه يمكن إغراء أكثرهم بقبول أخلاق من شأنها أن تجعل واجبًا عليهم أن يكدحوا، فيما تُتخَم بطون الآخرين في بحبوحة ودون جهد.
إذًا، لا تخدم هذه الأخلاق إلا طبقة الملاك الأغنياء الذين تسمح لهم ثرواتهم بإسناد مهمات العمل إلى آخرين مقابل أجور، فيما يتمتعوا هم بالكسل.
فضائل الكسل: لماذا يجب أن نعمل أقل؟
تمتعت الطبقة البرجوازية المترفة في القرون الوسطى بامتيازات لا أساس لها على ميزان العدالة الاجتماعية، بحسب رؤية راسل، الأمر الذي أدى إلى تحويل هذه الطبقة إلى ظالمة محدودة في عطفها. لكن رغم كل هذا، فإننا مدينون إلى هذه الطبقة، العاطلة بطبيعتها، ومدينون لامتيازاتها لأنها احتضنت الفنون والثقافة والعلوم، سواء عن طريق النبلاء المثقفين، أو إنفاق الأعيان على الموهوبين من الطبقات الأخرى، وتوفير الفراغ لهم.
مثلًا، كان مُلَّاك العبيد في أثينا القديمة يستغلون فراغهم لإضافة شيء ما إلى الحضارة. هذه الإضافة لم تكن ممكنة في نظام اقتصادي يسوده العدالة وقتذاك، لأن الفراغ الذي نعمت به الأقلية لم يكن ممكنًا إلا بفضل كدح الأكثرية، لأن أدوات الإنتاج كانت أقل تقدمًا بكثير مما عليه الحال الآن.
لكن وسائل العلم الحديث جعلت تخفيض قدر الجهد والوقت اللازميْن لحصول أي إنسان على حد الكفاف ممكنًا وسهلًا. يبرهن راسل على ذلك بالإشارة إلى الحرب العالمية الثانية، حين سُحب جميع الرجال من وظائفهم المدنية للانضمام إلى الجيش أو المصانع الحربية، واستمرت المؤسسات المدنية تعمل دون تأثر تقريبًا، ما دامت لم تقع تحت نيران الحرب مباشرة.
يخلُص راسل من تحليله إلى حقيقة بسيطة: هناك الملايين من ساعات العمل، يقضيها الأفراد دون أي منفعة حقيقية تمسهم هم، وإن كانوا يوفرون فراغًا ووفرة هائلة لقلة ضئيلة من البشر. يعني هذا أن المطالبة بتوزيع عادل للثروة تؤول، في رأي راسل، إلى النداء من أجل توزيع عادل للفراغ والبطالة، مع التخلص من ثقافة العمل التي لا تنتمي في رأيه إلى زمن الوفرة هذا.
يدعونا راسل إلى التفكير في أخلاق العمل بالطريقة التالية: كل إنسان يبذل بالضرورة في حياته مقدارًا معينًا من الجهد البشري، ما يعني أن الإنسان يؤدي خدمات مقابل مأكله ومسكنه، وفي هذه الحدود فقط يكون العمل واجبًا.
أما خارج هذه الحدود، «من المنطقي جدًّا هذه الأيام، وقد بلغت الممارسة الديمقراطية السواد الأعظم من الدول، أن يُخيَّر عموم المواطنين بين ما إذا كانوا يريدون إنتاجًا أكثر أم فراغًا أكبر»، وفقًا لراسل.
إذا صيغ سؤال الاقتصاد بهذه الصورة، يعتقد راسل أن الناس سيختارون الفراغ الأكبر بالضرورة، وهو يؤمن أن متع الإنسان الحديث في معظمها سلبية، مثل مشاهدة مباريات كرة القدم أو الاستماع للراديو، لأن العمل لساعات طويلة يسلب كل الطاقة الإيجابية عقليًّا وجسديًّا، لكن لو كان للناس فترات فراغ أطول لاستمتعوا بملذات أكثر إيجابية.
لا يقصد راسل من ذلك أن الناس سيصبحون مفكرين وفنانين، لكنها فقط دعوة لإعطاء الفرصة كي يكون لكل منهم الحق في تنظيم حياته وتسييرها بأقصى قدر من الحرية تسمح بها وسائل الإنتاج الحديثة.
هل يجب أن نستمر «في مدح الكسل»؟
إذا نظرنا إلى عالم العمل ونظمه في يومنا هذا سنجد حراكًا حثيثًا أكثر من أي وقت مضى نحو ما حاول راسل التبشير به منذ عقود طويلة. ففي فبراير 2018، حدث واحد من أكبر الإضرابات العمالية في التاريخ القريب، من حيث حجم الشركات ومدة الإضراب وطبيعة المكاسب التي جناها العمال من ورائه، وهو الإضراب الذي نظمته نقابة «IG Metall» التي تضم عمال قطاعي المعادن والكهرباء في إحدى ولايات ألمانيا، مثل عمال «Dailmer» (الشركة الأم لمرسيدس) أو «Bosch» للهندسة والإلكترونيات.
كان مطلب العمال واضحًا وبسيطًا، وهو خفض ساعات العمل إلى 28 ساعة أسبوعيًّا، أي خمس ساعات ونصف الساعة يوميًّا، وربحت النقابة الرهان واستطاعت تحقيق مطلبها، ويُفترض أن يُفعَّل النظام الجديد بداية من يناير 2019، ولمدة عامين، قبل أن يُراجَع من أجل الاستمرار فيه أو إلغائه.
في السويد، خفضت ساعات العمل إلى ست ساعات يوميًا منذ أكتوبر 2016، بأحد بيوت رعاية المسنين، في تجربة لجأت إليها الحكومة من أجل تعميمها بعد ذلك، وهذا لأسباب اجتماعية بالأساس، كالسعي وراء رفع معدل المواليد، وإعطاء وقت أكثر للأفراد لقضاء نشاطاتهم، وتقليل معدلات الانتحار، ورفع رضا الموظفين العام.
كذلك لن يبدو مستغرَبًا أبدًا إذا علمنا أن ثماني من أصل 10 دول الأكثر سعادة في أوروبا، يجمعها قاسم مشترك، وهو أنها الأقل في ساعات العمل السنوية على مستوى العالم.
بالتأكيد، وكما اعتقد راسل، سيجد كل إنسان يملك حب الاستطلاع العلمي وسيلة لإشباع رغبته في عالم لا يضطر فيه أحد للعمل أكثر من ست ساعات، وسيتمكن كل رسام من الرسم دون التضور جوعًا، ولن يضطر الكتاب الشباب في سعيهم للاستقلال المادي، إلى التملق لمحاولة جذب الأنظار إليهم من أجل التفرغ لإنتاج الأعمال الأصيلة التي سيستطيعون تنفيذها فقط عندما يتوفر لديهم الوقت والمال.
لقد مهدت وسائل الإنتاج الحديثة إمكانية توفير الراحة بقدر كافٍ ومتكافئ. لكننا اخترنا الكد والتعب والإرهاق لبعضنا والبطالة والتضور جوعًا لآخرين، وما زلنا على نفس الحالة التي كنا عليها قبل عصر الآلات. لكن هل يمكن للنظام الاجتماعي القائم أن يسمح بتحقيق هذا التصور، إذا وضعنا في اعتبارنا أن قلة من الناس تستفيد بقدر هائل من العمل الزائد الذي يعمله آخرون؟
إلى أي حد يمكن أن تكون رؤية راسل مفيدة لنا، هنا والآن؟ تميل ساعات العمل في دول العالم الثالث عمومًا إلى أن تكون أكثر من غيرها. لكن مع ذلك، تروج باستمرار قيمة الدأب في العمل، ويُعتقَد كثير من الناس أن معظم العمال يجب عليهم، بالعكس، أن يعملوا أكثر.
فهل يمكن قراءة هذا الموقف باعتباره تجليًا آخر لأخلاق العمل الدؤوب التي ينتقدها راسل، والتي ينبغي علينا الخلاص منها، أم إنها جزء من نقد واقعي لثقافة تفتقر عمومًا إلى الجدية وتغيب عنها قيم العمل الأساسية؟
منشور