ما في حدا!/ أمجد ناصر
بتردّدٍ أدرتُ الرقم المكون من ثلاث عشرة وحدة، فرنَّ هاتفُ منزلِ تفصلني عنه خمسة الآف ميل. استغربت أن “يلقط” خط ذلك البلد من المرة الأولى، ففي العادة، تنبغي المحاولة مرة وثانية وثالثة ورابعة، حتى تُحِدث تلك الأرقام، المرسلة عبر أقمار اصطناعية لا أعرف كيف وأين تدور، فعلها السحري في قلب الآلة الصماء. الرقم قديم. بقي، في دفترٍ يشبه دفاتر البقالين في البلدات والدساكر، من دون أن يطلبه أحد رنَّ الهاتف أربع أو خمس مرات ثم جاءني صوت فيروز يقول، بمدَّ حزين لا يتناسب مع حالتي العاطفية المحايدة: “ما في حداااا”. إنه مقطع من تلك الأغنية الشهيرة التي لا أدري إن كان صاحب الهاتف قد أدرك كنهه اليائس أم اختاره ليقول، ببساطة، إن لا أحد في البيت. لكن “ما في حدا” بصوت فيروز الذي يفتح الكلمة الأخيرة على الغياب التام لا تعني “لا أحد في البيت”. وعلى الرغم من حالتي العاطفية المحايدة، كان بإمكاني أن أكتشف، في ذلك المقطع، معنىً أبعد من الجملة المعتادة التي نسمعها في “المجيبات الآلية” المسجلة، غالبا، بصوت امرأة لا أحد يعرف من تكون: يُرجى ترك رسالةٍ بعد سماع الرنين.
كدت أقفل الهاتف، لولا أن صوتا آخر، صوتا أعرفه حق المعرفة، ولم أسمعه منذ وقت، طلبَ، بنبرةٍ مرحة، بعد المقطع الفيروزي اليائس مباشرة، ترك رسالةً له إن كان هو المقصود، لزوجته إن كانت المكالمة لها، أو لولديه. سمّى نفسه سمّى زوجته، وسمّى ولديه الاثنين اللذين أعرف أكبرهما ولا أعرف الأصغر. أخذني الصوت الذي طلع بعد “ما في حدا” على حين غرة. أربكني. فلم يكن القصد من مكالمتي، أصلا، التحدّث إليه. فهو ميت. كيف يمكن التحدّث بالهاتف إلى رجل ميت؟ بل كيف يمكن التحدّث إلى ميت بالهاتف أو بغيره؟ قد تكون هناك لغة وطقوس يعرفهما محضّرو الأرواح والمنجمون للتحدّث إلى الميتين، ولكني لست محضّر أرواح ولا منجماً.
تلك شؤون ميتافيزيقية لا قِبَلَ لي بها، أنا مدوّن الوقائع الأرضية الصغيرة العابرة، ولم أوطّد نفسي، وأنا أطلب الرقم، على سماع ذلك الصوت الذي تركه صاحبه، سهوا أو قصدا، على آلة تسجيل، فكيف بقي ذلك الصوت الذي أعرفه بين مئات الأصوات، طالبا مني ترك رسالةٍ له، فيما الجسد، آلة الصوت، تحلّل في التراب؟ كدت أنسى، بعدما فاجأتني رنّة صوته المرحة المألوفة، لِمَ طلبت الرقم. تذكّرت، في خضم اللحظة الميتافيزيقية المداهمة، أنني كنت أنوي الرد على رسالةٍ صوتيةٍ عاجلةٍ تركها ابنه البكر على هاتفي النقال من تلك المدينة التي ترصد الهواتف فيها آذان كبيرة ذات تجويف خاص، يمكنها التقاط دبيب النملة على الأرض. أقفلت الهاتف، وأنا في حالةٍ بين تصديق أذنيَّ وتكذيبهما. ثم طلبت الرقم مرة ثانية. أردت التأكد أن ما سمعته كان صوته لا صوت شخص آخر يشبهه. رنَّ الهاتف وجاء، مثل المرة الأولى، صوت فيروز يقول “ما في حداااااااا”، ثم أعقبه صوته المرح، وهو يطلب ترك رسالة. أعترف أنني فزعت، لسببٍ تجاهلت، بعناد، مصدره. لم أترك رسالةً بناء على طلبه. وجدت صعوبة (بل شعرت بنوع من الإعاقة الصوتية) في تخطيه وتخطي زوجته، كي أترك رسالة لابنه الثالث في ترتيب الأسماء التي عددها. فما عساني أقول؟ عفواً، الرسالة لابنك، وليست لك؟ فأنت ميتٌ، وأنا لا أزال على قيد الحياة، ربما نتحدّث وجهاً لوجه، ولكن ليس الآن.. كلا ليس الآن!
العربي الجديد