الناس

على هامش السجال حول مادة محمد برو/ بكر صدقي

 

 

أثار نص للصديق محمد برو، نشر في هذا الموقع، يتحدث فيه عن لقاء عابر، في مدينته حلب، مع أحد سجانيه في سجن تدمر، الكثير من اللغط وردود الفعل الغاضبة، على مواقع التواصل الاجتماعي، لدى أبناء المنطقة الشرقية ممن اعتبروا النص مهيناً لهم.

قرأت النص ولم أشعر بأن فيه شيئا موجها ضد إخوتنا “الشوايا” كما ورد في النص. اعتبرت أنها مجرد صدفة أن محمداً لم يلتق بسجان من “شعب آخر” من الشعوب السورية غير “الشوايا”. ولكن هل كنت سأستقبل النص بالطريقة نفسها لو كان هذا السجان، بالصدفة، كردياً؟

ليس لدي جواب جاهز. الأمر يتعلق بنص أدبي يتم النظر إلى شخصياته باعتبارها أنماط دالة على انتماءاتها أو مواقعها الاجتماعية. وينتظر من الكاتب تجنب الوقوع في هذا المطب، كي لا يقال عنه إنه “صور الشاوي في نصه على أنه جلاد”.

أنا لست مع هذا التقييد للكاتب. فحتى في النصوص التاريخية يقال إن “فرنسا، أو الفرنسيين، احتلوا سوريا”. ولا يقال حكومة الحزب الفلاني أو جيش تلك الحكومة أو الرئيس الفرنسي هم من فعلوا. ولا نرى غضاضة في ذلك. فما بالك بنص أدبي، فوق ذلك واقعي أو “وثائقي” إذا جاز التعبير. خاصةً وأن الكاتب لم يتحدث عن “شوايا” بالجمع، بل عن شخص واحد صادف أنه كذلك. هل مطلوب من الكاتب ألا يحدد الحيثية الاجتماعية لإحدى شخصياته كي لا ينظر إليها كنمط دال؟

لقد أشارت بعض منشورات فيسبوك ذات الصلة، إلى أن سكان المناطق الشرقية، يقولون عن أنفسهم “شوايا” بلا حرج، لكنهم يشعرون بالمهانة إذا وصفهم آخرون بهذه الصفة. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار التركيبة العشائرية المتنوعة لهؤلاء السكان، أمكننا القول إنهم لا يشكلون معاً هويةً واحدة، إلا حين يتعرضون إلى ما يعتبرونه إهانة بحقهم. أي أن هويتهم “الشاوية” ذات طابع سلبي موجه إلى ما هو خارج الجماعة، وذات طابع ظرفي يتعلق بالتعرض لهم.

من تجربتي الواقعية: كانت عناصر الشرطة العسكرية في سجن تدمر ينتمون إلى كل الشعوب والأمم السورية بلا استثناء، فهم يؤدون الخدمة الإلزامية هناك. كنا نعرف ذلك من لهجاتهم، فلا أسماء ولا وجوه في سجن تدمر، بل فقط أصوات ولهجات وشتائم. وحتى نميّز بعضَهم عن بعض، كنا نسميهم بـ”الحلبي” و”الشاوي” و”الكردي” و”الشامي” و”الديري” و”الجزراوي” و”الحموي”.. إلخ. لم نسمِّ أحداً بـ”العلوي” لأنهم كثر، أكثر من غيرهم، وكان علينا ابتكار تسميات جديدة لهم تميز كلاً منهم. كذلك لم يكن هناك “المسيحي” أو “الدرزي” أو الإسماعيلي”، فالأول لا يختص بلهجة معينة، في حين أننا لم نصادف درزياً أو إسماعيلياً هناك. لا أعرف إذا كان ذلك مجرد صدفة، أم أن الإدارة لم تفرز أحداً من هاتين الجماعتين الصغيرتين للخدمة العسكرية في سجن تدمر، لسبب لا أعرفه.

الفكرة هي أن نظام حافظ الأسد قد صمم إدارة سجن تدمر بما يعكس “فلسفته” الاستعمارية لحكم سوريا، أي باستثمار التنوع السكاني في سوريا من خلال تعميق الشروخ الأهلية بين مكونات المجتمع، وجعلها فاقدة الثقة بعضها ببعض، خائفة من بعضها بعضاً، الانتماءات الخام الجهوية أو الدينية أو الطائفية أو الإثنية والثقافية – وهي طبيعية بذاتها، لا مشكلة فيها – تحولت بفعل “فلسفة” الإدارة الاستعمارية لحافظ الأسد إلى هويات منغلقة على ذاتها، متنابذة، ألغام قابلة للانفجار حين يتطلب بقاء النظام انفجارها، وتبقى “متعايشة” على السطح، في الأحوال العادية، بقوة القمع والتكاذب، إضافة إلى شيء من البراغماتية الاجتماعية، وأعني بهذه الأخيرة أن عموم السكان لا مصلحة لهم في تفجر ألغام الانتماءات. لكن تلك الثقة المفقودة والمخاوف المتبادلة جعلت وحدة المظلومين في مواجهة النظام أمراً متعذراً، وهذه هي الغاية من تطييف المجتمع أو تسييس الطوائف والمكونات.

كانت إدارة سجن تدمر مصممة، بحدود ما ظهر لي، على ثلاث طبقات: تتكون الأولى من رتبة رقيب أول فما فوق، وصولاً إلى مدير السجن، وكانوا جميعاً علويين (ربما كان هناك غير علويين، لكنهم لم يظهروا في أي تماس مع السجناء. تبقى معرفتي محدودة بتجربتي). في حين ضمت الطبقة الثانية المجندين، وكانوا من مختلف الانتماءات الجغرافية بما يعكس تنوع التركيبة السكانية في سوريا. أما الطبقة الثالثة، فكانوا “الباحاتية” أو عناصر الخدمة، وهم سجناء من القسم العسكري في السجن، أو سجناء جنائيون مسجونون مع العسكريين المخالفين. كان هؤلاء هم “شبيحة” سجن تدمر، يتصرفون مع السجناء السياسيين بشراسة وكأنهم جزء من إدارة السجن.

تركيبة الإدارة هذه تشبه، إلى حد كبير، تركيبة السلطة نفسها من حيث الانتماءات الأهلية لعناصرها. فلا اجتهاد هنا أو “إبداعاً”، بل مجرد نسخ لنموذج سلطة النظام.

عموماً، هل تترك الحيثيات الاجتماعية للأشخاص انطباعات تحولهم إلى أنماط دالة على الجماعات التي ينتمون إليها؟ أظن أنه لا مفر من ذلك، ليس فقط بالنسبة للسوريين، بل هذه هي حال الناس في كل مكان. لكن أثر تلك الانطباعات قد يكون مختلفاً من مكان لآخر. ففي سوريا لدينا رهاب من ذكر الانتماءات الأهلية للناس، كأننا إزاء إناء زجاجي قابل للكسر في أي لحظة. ومع ذلك نرى السوريين يهتمون كثيراً بمعرفة انتماء كل شخص. هذا أيضاً من طبائع الاجتماع السوري في ظل حكم السلالة الأسدية.

ما طرأ على العلاقات بين المكونات، في زمن الثورة والحرب، يحتاج تناولاً مستقلاً.

تلفزيون سوريا

الضحية والجلاد في لقاء عابر/ محمد برو

كعادتي كنت أسير في عصر يومٍ، من أواخر آذار، عام 1993 في شوارع العزيزية، المعروفة جيداً في حلب، بعيد خروجي من المعتقل بأشهر قليلة، وكان دأبي أن أعبر الشارع بناظري، أتملى في وجوه العابرين، علي ألتقط وجهاً أعرفه، لصديقٍ قديمٍ فرقتنا السنين الطويلة، وحصل هذا أكثر من مرةٍ، حيث التقيت صديقاً جمعتني به مقاعد الدراسة، وكان هذا اللقاء العابر بدايةً لوصل ما انقطع بيننا.

منهم من كان هذا اللقاء بالنسبة له فرصة لإعادة التواصل، وسماع ما يرغب من أحاديث سرية، يتهامس بها الناس هنا وهناك، عن ويلات وفظائع عالم المعتقلات الأسدية، التي روعت الأمصار وكمت الأفواه، وأسكنت الشعب السوري برمته، في عوالم الصمت المسور بالرعب لعقودٍ طويلة.

ومنهم من اكتفى بهذا اللقاء العابر على استحياء، وعيونه تقول بجلاءٍ بادٍ (سررت بلقائك ناجياً، بعد أن حسبتك لسنين طوال بين الأموات، لكنني بكل تأكيد لا أجرؤ على لقائك ثانيةً، فالضريبة أنت خير من يعرفها) وسرعان ما يختفي ثانيةً، في زحام الحياة.

في ذلك اليوم وأنا أستمتع بتسكعي، كان ثمَّتَ رجل ضخم الجثةِ، في نهاية عقده الثالث، يتابعني بعينيه بتركيز واضح، وكانت تمشي إلى جانبه امرأة، ذات لباس بدوي طويل، وكنت أقترب منه وأعاود النظر، فألمحه يُتبعُ النظرَ النظرَ، وكأنه يريد التحقق من هوية شخصٍ يعرفه.

لم يبق بيننا أكثر من عشرين متراً، وأصبحت على زاوية منعطفً فتوقفت، وأشرت إليه بيدي أن اقترب، وكان كمن ينتظر هذه الإشارة، فما لبث إلا أن كان قبالتي بجثته الغليظة، يصافحني بيد عظيمة خشنة، يمسك بشماله يد المرأة التي يصحبها، ولم تكن أقل منه خشونة، وأرجح الظن أنها زوجته، وسرعان ما بادرته بالسؤال، يبدو أنك تعرفني أو تشبّهني لشخص تعرفه، فأجاب على الفور نعم، وأنه لا يذكر أين التقى بي، فسألته عن اسمه فذكر لي اسماً لا أعرفه، وهو اسم شبيه بأسماء الرجال، في قرى الشمال السوري، وكان شكله يوحي أنه ممن يسمون في شمال سوريا بالشوايا.

فأجبته على الفور، أن اسمه لم يرد أمامي ولا لمرة واحدة، وإلا لكنت تذكرته، ثم وبطريقة عاجلة أشبه بالسرنمة، حيث يتصرف الإنسان

كمن يمشي في نومه، دون أن يعرف الدوافع أو الاتجاهات، سألته وبسرعة مباشرة، أنت خدمت عسكريتك في قسم الشرطة العسكرية، فأجاب على الفور نعم، وكأنه شارف على الاهتداء إلى ضالته، فأردفت وأنت خدمت في سرية التأديب في سجن تدمر، فأومأ فرحاً أي نعم، فقد تقلصت الفرجة بيننا وكدنا نصل معا إلى علة المعرفة الغائبة بيننا.

فأكملت كلماتي ببرود هادئ واطمئنان، (أنت كنت سجاناً في سجن تدمر، وأنا كنت سجيناً لسنوات) هذه هي صلة المعرفة بيننا، تلك الصلة التي لم يكن صاحبي ليتمنى إدراكها، في هذه الساعة التعيسة من ساعاته المتعثرة.

كانت الثواني بيننا تمر بهدوءٍ وبطءٍ شديد، لا يشبهها في الطول إلا ثواني انتظار التعذيب، والقتل في مهاجع تدمر، إلا أنني هذه المرة، كنت أنعم في سكينةٍ وطمأنينةٍ غامرة، لم أكن خائفاً كعادتي، فقد كنت أرقب بهدوء قطرات العرق البارد، التي يتفصد عنها جلده، من أعلى جبينه إلى نهاية أصابعه، ما إن أنهيت أحرفي الأخيرة من شرحي له، عن علة المعرفة بيننا، حتى اكتسى وجهه شحوب الأموات، ضائعا بين بياضٍ وصفرة، ولم يعد المسكين يجيد ترتيب مفرداته، فتمتم بصوتٍ خافتٍ مهترئ (الحمد لله على السلامة، هل خرجت من السجن) فأجبته مؤكداً بثقة، لا لم أخرج بعد، وكنت متردداً بين أن أترك نفسي على سجيتها، تضحك من سخافة السؤال ومراوغة الإجابة، أم أرثي لحاله المزرية أمام زوجته كما أفترض، لقد أوقع التعيس نفسه بيديه بين يدي أحد ضحاياه، الذين سامهم التعذيب والإذلال لسنوات طويلة، وربما بال مرات ومرات في قدر الحساء، الذي سيتناولونه على العشاء على مشهدٍ منهم، أو مرغ جزمته العسكرية القذرة، بقدر الرز الذي ينتظرونه على الغداء.

وللأمانة وبتلقائيةٍ غير مفسرةٍ ساعتها، من العفوية البريئة، فقد غلب على روحي الأسى لحاله وانكساره، أمام سيدة يصحبها، وربما كان قبل لحظات هو فارسها الأوحد، يحكي لها عن بطولاته ومناقبه.

لم أرغب أن يطول به الأمر، أكثر من هذا القدر، مع أن الموقف برمته لم يتعد دقائق قليلة، فعاجلته مودعاً ومصافحاً يده الباردة المشلولة من بهجة الموقف، وتعللت بأنني على عجلة من أمري، وتركت يده التي كنت أهزها وحدي، وهي جامدة في الفراغ، وانصرفت بخطى سريعة، وحين جاوزته بمقدار سبعين متراً كما أقدر، التفت نحوه بشكل سريع، فوجدته على ذات الهيئة لم يسترد يده بعد، متسمراً بمكانه ينظر نحوي بذهول وبلاهة.

أذكر إلى هذه الساعة، وأنا أكتب بعد مضي خمس وعشرين

سنة على هذا المشهد، أنني لم أشعر ساعتها نحوه بأي ضغينة، وكنت ألمس تفوقي الكبير عليه، كل نظرة وحرف ذل من شفتيه، كان يقطر ذلاً وخوفاً ورجاءً صامتاً ألا أبادر بأي فعلٍ، لرد جمائله التي يعرفها بدقة.

وما يدهشني إلى هذه الساعة، أنني والآلاف من أقراني وأصدقائي المعتقلين، ممن عبروا جحيم تدمر وسنوات الجمر، لم تترعرع بذرةُ للحقد، أو رغبة للانتقام في نفوسنا، يشق علي في هذه الساعة شرح علتها، لكنه بإيجازٍ شديد، هو خليط بين سوية عالية من التهذيب والمثاقفة والوعي الذاتي العميق، الذي أورثتنا إياه سنون المعتقل، والتي تعد الانتقام فعلاً متخلفاً، ولا يفضي إلّا إلى مزيد من الفساد وتسعير الأزمات، وبين سطوة هائلةٍ للرعب المسلح الذي يحكم به نظام الأسد، قبضته على أرواح السوريين.

ويدهمني السؤال كل يومٍ، مرةً تلو أخرى، هل سيجدي هذا في هذه الأزمة.

لقد تهتك جدار الخوف لدى عموم السوريين، وفي ضحضاح هذه المذبحة المستمرة، وتواطئ المجتمع الدولي وصمته المشين، بات من الشطط أن ننتظر تسامحاً وصفحاً وتعقلاً، يمسك النفوس الذبيحة، من الرغبة العارمة في الانتقام، واعتماد عقيدةٍ واحدةٍ لا منجاة منها (إن لم أتمكن من النيل من قاتلي، فلتكن عليَّ وعلى أعدائي).

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى