مراجعات كتب

البابويون والشحاذون: الجذور اللاهوتية للجماعات المتخيلة القومية/ محمد تركي الربيعو

 

 

في دراسة نشوء القوميات والدول، غالباً ما اكتفت النظرية الاجتماعية بافتراض تمييز أيديولوجي مسبق بين المخيلتين القومية والدينية. فالقومية تنتمي وفق هذا المنظور إلى مجال السياسية الشرعية الحديثة؛ وهي علمانية إذ يعتقد أنها تتبلور عبر عملية علمنة وتحديث. في حين ينظر للدين بوصفه قوة اجتماعية سلبية موجهة ضد العلم والعقلانية والرؤية القومية الحداثية.

ويعد كتاب عالم الاجتماع البريطاني أرنست غلنر «الأمم والقومية» من بين وجهات النظر التي كان لها وقع كبير في انتشار هذه الرؤية، التي تفصل بين نشوء القوميات والدين. إذ يرى أن المجتمع الصناعي الحديث تطلّب وجود ثقافة مشتركة تتمثل في القومية؛ التي هي تجمع غير شخصي لا يعرف أفراده بعضهم بعضاً، وأفرادها مستقلون يمكن استبدال أحدهم بآخر، وبالنتيجة تأتي القومية في حزمة تضم الفردانية والعلمانية. ورغم أن فكرة الربط بين نشوء اقتصاد صناعي، وخلق تجانس تدريجي للثقافة من خلال نظام تعليمي تسيطر عليه الدولة، يبقى أمراً معقولاً في تحليل غلنر، إلا أن البعض نظر لنظريته حول ربط القومية بالعلمانية بأنها محكومة بالهزيمة التحليلية، في وجه أي قومية تكون دينية بدلاً من العلمانية. وربما هذه المحاولة لإعادة النظر في مسلمات غلنر وغيره من المنظرين حول حتمية ربط صعود الفكرة القومية بالعلمانية، هي ما شكّلت فكرة ومتن كتاب «الأمة والدين: وجهات نظر حول أوروبا وآسيا» تحرير بيتر فان درفير ـ جامعة أمستردام وهارتمون ليمان ـ معهد بلانك ماكس للتاريخ. من ترجمة الأكاديميين اللبنانيين محمود حداد وسعود المولى.

فقد حاول المشاركون في هذا الكتاب إعادة النظر في بعض التجارب القومية التاريخية الأوروبية بالأخص مثل، هولندا أو بريطانيا؛ واستطاعوا أن يبينوا لنا أن الدين لم يتراجع إلى الخلف في ظل نشوء القوميات الجديدة، وإنما لعب دوراً أساسياً في صناعة القومية الحديثة خلافاً للقراءات والنظريات العلمانية التي عادة ما بحثت في جذور هذه الأفكار من خلال العودة، كما رأينا مع غلنر، إلى المجتمع الصناعي والحديث عن فرز ثقافة مختلفة عن ثقافة المجتمع الزراعي (الديني).

لم يولدوا بعد

يضم الكتاب عدداً من الأوراق لمنظرين كبار في دراسات نشوء الفكر القومي، مثل بندكت أندرسن صاحب الكتاب الشهير «الجماعات المتخيلة»؛ الذي حاول في ورقته «الخير لدى الأمم» الالتفات إلى تأملات ماكس فيبر في محاضرته الافتتاحية التي ألقاها عام 1895 عند توليه منصباً في جامعة فريبرغ. ففي هذه المحاضرة، بدا فيبر متألماً من الوضع المأساوي الذي وصلت إليه الأوضاع في ألمانيا. ووصف أفراد الطبقة التقليدية البروسية الحاكمة بأنهم قد انتهوا، فليس هناك أي أمر جيد متوقع من البرجوازية الألمانية، كما أن البروليتاريا، وفق فيبر، غير ناضجة على الإطلاق؛ فهي طبقة غير متعلمة ذات نزعة معادية للثقافة. وليس هذا ما يلفت نظر أندرسن في كلام فيبر وحسب، بل إشارة الأخير وعزفه على وتر مختلف وغريب تماماً، إذ اشار فيبر إلى أنه «إذا استطعنا أن نقوم من القبر الذي تمددنا فيها منذ آلاف السنين، فسوف نسعى إلى البحث عن الآثار البعيدة لطبيعتنا، في سيماء ملامح عرق المستقبل. حتى مُثلنا الأرضية العليا النهائية هي مُثل عابرة وقابلة للتغيير. فلا يمكن توقع فرضها على المستقبل. لكن يمكننا أن نأمل بأن يعترف المستقبل بأنه في طبيعتنا تكمن طبيعة أجداده أنفسهم. نأمل بأن نجعل من أنفسنا أجداد العرق المستقبلي، من خلال عملنا وطريقة وجودنا». يمكننا أن نلاحظ في هذه الفقرة ذات النغم المسيحاني الخلاصي، ما يحاكي الدافع الديني كما يرى أندرسن.

ولا نرى هذه المخيلة عند فيبر وحسب، بل في قوميات عديدة؛ فنعثر في الهند على حركة «التبتل الذكري» الهندوسية المتشدّدة في شمال الهند، وعلى شكاوى حادة ضد التآكل الأخلاقي والانحلال الجنسي في أوساط الشباب في البلاد. وفي هذا الصدد ليس هناك ما يثير الاهتمام أكثر من الطريقة التي يذكر بها اتباع هذه الحركة المفردات المرتبطة بالتبتل والمستخدمة عند كثير من القوميات. يبين أندرسن، من خلال المقارنة بين آراء فيبر وحركة التبتل الهندية حول المسؤولية تجاه الأسلاف والذرية، أن أخلاقيات الأمة هنا أو هذا الخيال الاجتماعي، يستعير بواعث التعبير عن نفسه ومفرداته (الانحلال الأخلاقي/ الوفاء للسلف) من المخيلة الدينية بطرائق متعددة؛ مع ذلك يبقى الفكر القومي يختلف عن الفكر الديني بشكل لافت، ففي موضوع النُصب التذكارية للمقاتلين وأبطال الأمة، وبخلاف القديسين ليس لهؤلاء الأبطال أي فاعلية، إذ لا يمكننا طلب شفاعتهم لتحقيق المعجزات لنا.

البروتستانتية والقوميات الأوروبية

وفي ورقة أخرى بعنوان «البروتستانتية والهوية القومية البريطانية»، يبين هيو ماكليود أستاذ التاريخ الكنسي في جامعة برمنغهام، أن البروتستانتية المعروفة بعدم قبول المساومة في معاداتها الكثلكة، بقيت أهم مكونات الهوية القومية، فقد أظهرت المقابلات التي أجراها مؤرخو التاريخ الشفوي مع الأشخاص الذين نشأوا في إنكلترا أو ويلز في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أن الأغلبية العظمى من الناس نشأت بروتستانتية. كما اعتقدوا أن لبريطانيا مهمة تبشيرية إلهية للمحافظة على المسيحية الصافية ونشرها. ورأوا في ازدهار بريطانيا مكافأة إلهية، كما فسروا كوارث مثل، وباء الكوليرا عقاباً على فشل الأمة في العيش على مستوى متطلبات تلك المهمة التبشيرية.

وفي عام 1909، كانت اللغة البروتستانتية والنظرة إلى العالم نفسهما، وتحديد هوية إنكلترا بالقضية البروتستانتية حصراً، أمراً مألوفاً على امتداد ثلاثة قرون، بيد أنه بعد حوالي عام 1870، أخذ يُنظر إلى هذا النوع من البروتستانتية بوصفه متطرفاً، ويُنظر إلى داعميه على أنهم متعصبون. ويعود ذلك جزئياً إلى التعددية الدينية المتزايدة، ووجود عملية أكثر تدرجاً، تعددت من خلالها الخيارات الدينية التي سمح بها. أخذ الشكل المعدل من القومية البروتستانتية التي كانت بريطانيا وفقاً لها مفضلة من دون أن تظل أمة الشعب المختار. وكان الازدهار الذي تنعم به بريطانيا نتيجة طبيعية للقيم البروتستانتية أكثر من كونه نتيجة مكافأة إلهية لها على نقاء إيمانها. هكذا تضمّن شكل القومية البروتستانتية بعض التغيرات الأساسية، من أهمها إزالة مصدر المشاعر المعادلة للكثلكة. ففي الحرب العالمية الثانية، ساعد المفهوم الشائع أن بريطانيا كانت تخوض حرباً من أجل الحضارة المسيحية ضد النازيين الملحدين، في تقديم حافز إيجابي لوجود هدف مشترك بين الكاثوليك والبروتستانت والمتحمسين لارتياد الكنائس، وهؤلاء الذين يقفون على هامشها. وفي الواقع، حتى القادة السياسيين الذين لم يكونوا معروفين بورعهم الديني، نظروا إلى الحرب على أنها ذات طابع ديني، ولجأوا إلى اللغة الدينية للتعبير عن أهمية القضايا المطروحة. كما أدت الأزمة أيضاً إلى دعوات عامة لتقوية الأسس الدينية لبريطانيا، وكانت إحدى الطرائق المفضلة لذلك، التأكيد المتزايد للتعليم الديني في المدارس. وقد عكس مرسوم التعليم الصادر في عام 1944 مع شروطه، التي تنص على التعليم الديني غير المحدد بمذهب معين، وعلى صلاة يومية تقام في جميع المدارس، الجوَ العام في تلك السنوات. وباختصار لعبت البروتستانتية دوراً كبيراً في صناعة الهوية القومية البريطانية، لكنها تأثرت في المقابل بلا شك، فقد أصبحت بريطانيا البروتستانتية بريطانيا مسيحية أكثر انفتاحاً وقبولاً بالكاثوليك كمشاركين في صناعة هويتهم القومية.

البابويون والشحاذون

وفي السياق الباحث عن جذور لاهوتية للهوية القومية، يركز فرانز غروت أستاذ التاريخ في جامعة روتردام على دراسة نشوء الأمة والقومية في هولندا وتأثرها بالرؤية البروتستنتانية، من خلال التركيز على دور الاحتفالات القومية في عملية فرض رؤية البروتستانت على الكاثوليك. وخلافاً للرؤية التي تربط بين صعود القومية والعلمانية، نرى في تجربة هولندا، أن الدين لم يُستبعد بوصفه نتاج التقليد، بل كان له دور كبير في صنع هوية هولندية معينة ذات جذور بروتستانتية. فبدأ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عدد من البلدان الأوروبية الاحتفال بالمناسبات القومية السنوية. ففي عام 1880 بدأ الفرنسيون الاحتفال بالرابع عشر من يوليو/تموز في ذكرى اقتحام سجن الباستيل 1789، وفي عام 1871 بدأت الامبراطورية الألمانية الاحتفال بذكرى الانتصار على الفرنسيين في سيدان 1879 بمراسم تقام سنوياً. فجرّب الهولنديون إقامة الاحتفال بذكرى الحوادث التاريخية. وانطلاقاً من الفكرة التي طرحها المؤرخ أيريك هوبزباوم عن اختراع التقاليد، أصبح الشعور أمراً محسوساً ومرئياً من خلال الخطابات العامة والأغاني القومية والمسيرات والعرائض وعرض الأعلام وارتداء الألوان القومية. وفي يوم واحد، انغمست الجماهير في مهرجان وطني كبير.

أما الذكرى الأكثر اضطراباً في حرب الثمانين عاماً، كانت الذكرى المئوية الثالثة في عام 1872 للسيطرة على بلدة دين بريل، ففي عام 1572 قامت مجموعة من القراصنة الهولنديين أو ما كانوا يسمون «شحاذي البحر» بالإبحار من المرافئ الإنكليزية ورست سفنها في دين بريل وهي بلدة صغيرة بالقرب من روتردام؛ في ذلك الوقت لم تكن هناك مواقع عسكرية إسبانية، ولذلك تمكن الشحاذون من الدخول للبلدة واحتلالها. وقد قاموا يومها بقتل تسعة عشر كاهناً كاثولكيكياً. وقد دفعت هذه الذكرى كاثوليك هولندا إلى عدم التفاعل بحماسة مع إحيائها. ورغم إلغاء هذا الاحتفال لاحقاً عبر إلغاء فكرة إقامة تماثيل لشحاذي البحر لجعل الاحتفالية مقبولة للكاثوليك، إلا أن الكاثوليك، كما يرى غروت، قد اكتفوا على امتداد القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بموقع الدرجة الثانية في الساحة السياسية. فعلى سبيل المثال، من خلال نظام المناطق حصل الكاثوليك على مقاعد قليلة غير متساوية، وقبل الحرب العالمية الأولى، كان من غير الوارد أن يكون هناك رئيس وزراء كاثوليكي.

ومن أجل تفسير الدمج السلس لمجموعات الأقلية في النظام السياسي الهولندي، غالباً ما كان المؤرخون يشيرون إلى تقليد طويل من الاعتدال في التاريخ، في حين يرى غروت أن عملية بناء الأمة الهولندية أجبرت الأقليات على تبني دور ملائم لها إلى درجة معينة. إذ كان على القادة الكاثوليك وجماهير الأفراد أن يعدلوا مقاربتهم كي تتلاءم مع القوانين التي وضعتها الأغلبية البروتستانتية.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى