مقطوعون من شجرة/ رشا عمران
قلة من السوريين كانت تشعر أنها معنيةٌ بالتاريخ العريق الذي كانت عليه سورية. قلة نخبوية إلى حد ما، تنتمي إلى شريحة الثقافة والفن التي ينتمي إليها أيضا المهتمون بالآثار اهتماما علميا وثقافيا ومعرفيا، وآخرون يعملون في الحقل السياحي. لم تكن زيارة الأماكن الأثرية جزءا من الثقافة الإجتماعية السورية، (مدينة تدمر والقلاع ومسرح بصرى كانت في مقدمة الأماكن التي يزورها السوريون، بسبب الرحلات التي كانت تنظمها المدارس لتلاميذها وطلابها)، حتى المتحف السوري في دمشق الذي زرته، بصحبة أصدقاء عرب وأجانب، لم يكن يحظى كثيرا باهتمام السوريين.
لا أعرف سوريين كثيرين يعتبرون زيارة المدن والأماكن الأثرية شيئا مهما لهم. أنا من هؤلاء، لست على علاقة طيبة مع الأماكن الأثرية. ولطالما كانت الدهشة تصيبني من اهتمام الأجانب بالآثار ومعرفتهم بالأماكن الأثرية بسورية أكثر بكثير من السوريين. كان الأمر بالنسبة لي مثار تساؤل، وازداد أكثر بعد إقامتي في مصر، حين رأيت مصريين، من كل الشرائح الاجتماعية والثقافية والعمرية، يزورون المتحف المصري، ويتجولون بين قاعاته، وبهجة عارمة ترافقهم، واعتزاز كبير وألفة بينهم وبين المكان. طبعا، هناك مصريون كثيرون غير معنيين بالأمر، ويعتبرون الاعتزاز بالتاريخ الفرعوني بمثابة الكفر، فالتاريخ المصري عندهم يبدأ مع دخول الإسلام مصر.
ثمة اختلاف في العلاقة مع التاريخ بين المصريين والسوريين، لم أستطع فهمه، مع كل محاولات فهمي له. هل السبب أن السوريين لم يشكلوا يوما مجتمعا حقيقيا على غرار المجتمع المصري، على الرغم من كل ما فيه من تناقضات ومشكلات كبيرة؟ قبل الاحتلال العثماني وفي أثنائه لم تكن هناك سورية (الحديثة). كانت سورية الحالية مدنا متفرّقة بين بلاد الشام والهلال الخصيب. لا يمكن الحديث عن مجتمع سوريٍّ تجمعه حضارة واحدة، حتى لو تلاقحت مع عشرات الحضارات الأخرى. كان الدين، في الفترة العثمانية، الرابط الأهم، لا الحضارة ولا التاريخ. وبعد اتفاقية سايكس بيكو، دخلت سورية (الحديثة) مرحلة الاحتلال الفرنسي، ثم مرحلة الانقلابات العسكرية، ثم حكم حزب البعث والأسد. لم يتح للسوريين أن يكونوا مجتمعا حقيقيا. في ظل القبضة الأمنية القوية للأسد، تشكل مجتمعٌ مريضٌ مشحونٌ دينيا ومذهبيا ومناطقيا وطبقيا. لم يستطع التاريخ، ولا الحضارة القديمة، ولا حتى الدين، أن يشكل إطارا يحدّد خصائص معينة للمجتمع، عدا أنه لا توجد حضارة قديمة واحدة خاصة بسورية. عرف التاريخ السوري، في وقت واحد، حضارات الآراميين والآشوريين والفينيقيين. وتتالت الحضارات القديمة على بلاد الشام، تاركة علاماتٍ كبيرةً وبالغة الأهمية، تدل عليها، غير أن الفكر القومي البعثي استطاع أن يلغي أي علاقة للسوريين بهذا التاريخ.
كانت آثار سورية مواد إعلامية لصورة أخرى عن سورية، مصدّرة للآخرين، هذا غير احتكارها لتهريبها والتجارة بها، (وهو حال كل آثار العرب عموما). لم تتشكل بين السوريين وتاريخهم القديم أية علاقة ود وفخر واعتزاز. لم يروا تماثيل ضخمة لملوك قدماء. لا يتذكّر أبناء جيلي، والأجيال السورية اللاحقة، من التماثيل سوى الخاصة بحافظ الأسد الذي استطاع إفقار المخيلة السورية إلى درجة أن الأطفال كانوا حين يرون تمثالا ضخما في التلفزيون لأيٍّ كان، يقولون: حافظ الأسد!
هذا الإفقار المترافق مع إفقار للسياحة الداخلية السورية، ووضع اقتصادي يتدهور باستمرار، جعل العلاقة مع الآثار والتاريخ السوري القديم محصورةً بفئاتٍ قليلةٍ ومحدّدة. تبدلت أيضا بعد سنوات الثورة والحرب، حيث من ضمن الانقسامات العديدة في المجتمع، ظهرت فئةٌ تريد أن تنأى بنفسها عن المجتمع السوري (المتخلف!)، فاستعادت جزءا من التاريخ القديم، ونسبت نفسها له، في محاولةٍ استعلائيةٍ للتنصّل من دورها فيما يحدث بسورية. طبعا من دون أن يترافق ذلك مع إعادة تأهيلٍ لآثار هذا التاريخ التي أصبحت في متاحف الغرب.
هل كان كل ما سبق سببا في ازدهار سرقة الآثار وتهريبها من سوريي النظام، وسوريي الكتائب المسلحة في وقت واحد؟ هل الفوضى التي تسببها الحروب ما فعلت ذلك، أم هناك حالة من فقدان الانتماء، عاشها غالبية السوريين زمنا طويلا، جعلتهم لا يتورّعون عن بيع أي شيء، بما فيه تاريخهم؟ وإذا كان هذا حقيقيا، هل هم أنفسهم المسؤولون، أم هناك من يتحمّل مسؤولية جعلهم يقفون كما لو كانوا مقطوعين عن ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم؟
العربي الجديد