الصراع على الزعامة المارونيّة في لبنان/ حازم صاغية
(1/ 3)
في 1960، السنة الأولى للعهد الشهابيّ، بدا أنّ الرئيس السابق كميل شمعون، الذي قامت في وجهه “ثورة 1958″، سيكون الرأس المطلوب: إنّه الأُضحية التي سيقدّمها فؤاد شهاب لكي يستقرّ عهده. الآخرون أتيح لهم أن يوجدوا، على نحو أو آخر، في صحن الزعامة، وإن بترتيب متفاوت و”مدروس”.
فالحكومة الرباعيّة، التي شُكّلت بعد “الثورة المضادّة” الكتائبيّة، رسمتْ ريمون إدّه وبيار الجميّل بوصفهما وجهي الدرجة الأولى: هما وحدهما يمثّلان المسيحيّين، لا الموارنة فحسب، إلى جانب رئيس الحكومة رشيد كرامي والوجيه – المليونير حسين العويني اللذين يمثّلان المسلمين، لا السنّة فقط. مع هذا، رُسمت لكلّ منهما حدوده ووظيفته: ففي العام نفسه، 1960، خيضت معركة انتخابيّة تنافس فيها، في بيروت الأولى، بيار الجميّل وبيار إدّه، شقيق ريمون، ففاز الأوّل ومعه كامل لائحته. هذه النتيجة رأى فيها الأخَوان إدّه “اختلاساً” للمقعد ضمنتْه للجميّل مداخلات “الشعبة الثانية” أو “المكتب الثاني” وفق التسمية الشعبيّة. هنا، مع هذا “التحجيم”، بدأ الافتراق بين ريمون إدّه والعهد الشهابيّ. السنوات اللاحقة وسّعت المسافة بينهما وحوّلت نزاعهما واحداً من عناوين الحياة السياسيّة للستينات.
إدّه والجميّل وفرنجيّة
إدّه كان الأقرب إلى السياسيّ البرلمانيّ الذي يشرّع ويحاسب السلطة التنفيذيّة من دون أن تستغرقه مطالب القضاء الخدماتيّة من ماء وكهرباء وطرق ومدارس. كان محبوباً على نطاق وطنيّ بوصفه أمل الفئات الحديثة التي عوّلت على النزاهة والكفاءة ومواكبة الانتقال إلى رأسماليّة أشدّ انفتاحاً على الخارج وأكثر اندماجاً فيه. هؤلاء رأوا فيه رمز التوجّه “العصريّ” هذا، ولم تستوقفْهم حماسته لحكم الإعدام أو للسرّيّة المصرفيّة، بل اعتبروهما، على العكس، حاجةً وضرورةً لما بعد “فوضى 58”. ومع أنّ قاعدة قوّته، قضاء جبيل، صغيرة وطَرَفيّة قياساً بالعمق الجبليّ، فريمون إدّه ورث أيضاً بقايا زعامة أبيه، الرئيس الراحل إميل إدّه، ما وفّر له كتلة تضمّ نوّاباً من أقضية أخرى، كنهاد بويز في كسروان وإدوار حنين في المتن الجنوبيّ. والحال أنّه منذ منافسات إميل إدّه وبشارة الخوري، وتالياً “الكتلة الوطنيّة” و”الكتلة الدستوريّة”، بات وجود “الكتلة” شرطاً لبلوغ السياسيّ المارونيّ سدّة الرئاسة.
بيار الجميّل كان شيئاً آخر: فهو يوفّر لشهاب الغطاء المارونيّ في مواجهة شمعون وإدّه، فيما يستخدمه الجنرال – الرئيس بوصفه ممثّل الاعتراض المارونيّ على التنازلات المقدّمة للزعماء المسلمين ولجمال عبد الناصر. إنّه حدود التنازل الممكن. ومؤسّس حزب الكتائب هو الأكفأ لأداء دور كهذا: ففي 1958، قاتلَ حزبه، بقدراته المحدودة حينذاك، إلى جانب شمعون ضدّ “الثوّار”، ثمّ انتقل إلى تأييد شهاب بوصفه رمز التسوية الوحيدة الممكنة والمقبولة عربيّاً ودوليّاً، والقادر، من خلال الجيش، على إدامة السلم الأهليّ في ظلّ رجحان مسيحيّ.
وبعدما كان لـ “الكتائب اللبنانيّة” نائب واحد في البرلمان، بدأ الحزب يتوسّع، عام 1960، على نطاق وطنيّ يتعدّى الجبل. فإلى الجميّل وجوزيف شادر في بيروت، وعبده صعب في المتن الجنوبيّ وموريس الجميّل في المتن الشماليّ، صار للكتائب نائب في جزّين هو بازيل عبّود، قبل أن يصبح لها نائب في الزهراني هو راشد الخوري، ثمّ نوّاب في مناطق طرفيّة أخرى. لقد واكبت الكتائب، في نموّها، صناعة الوطن على النحو الذي سعت فيه الشهابيّة: توسيعاً للخدمات وربطاً للمناطق وتوليداً لطريقة حياة وثقافة لبنانيّتين.
على مقربة من إدّه والجميّل، كان هناك سليمان فرنجيّة في زغرتا. فهو الزعيم الأوّل في بلدته وقضائه، والوجه الأوّل لموارنة الشمال الذي لا يُعدَم حلفاء مجاورين، ككميل عقل في البترون وحبيب كيروز في بشرّي. لكنّ نقاط الضعف كانت كثيرة: ففرنجيّة حلّ في الزعامة مكان شقيقه حميد بعدما كان “شيخَ شبابه” ومُدبّرَ علاقاته الأهليّة، وهو ما لم يكن ليحصل لولا مرض حميد الذي أقعده فيما أبناؤه صغار السنّ. ولئن كان الأخير، وهو محامٍ، من نجوم السياسة اللبنانيّة والصالون البيروتيّ لحقبة ما بعد الاستقلال، فإنّ سليمان، الذي نفر مبكراً من المدارس، هو مَن اقتصر حضوره على زغرتا وجوارها. إلى هذا بدت الزعامة الشماليّة عموماً، في قيامها على الملكيّات الزراعيّة، شيئاً من ماضي الجبليّين ينظرون إليه من أعلى. ففي الجبل شرعت تنكسر تلك الملكيّات منذ ستينات القرن التاسع عشر، وراحت السياسة تعكس المهن الحديثة، خصوصاً المحاماة والصحافة، لفئات اجتماعيّة حديثة.
فؤاد شهاب، قائد الجيش السابق والرئيس التحديثيّ، لم يكن يكنّ لهذا الصنف من سياسيّي الأطراف كبير تقدير.
لكنّ الطعن الأبرز بسليمان فرنجيّة نشأ عن دوره المباشر في مذبحة كنيسة مزيارة عام 1957 التي أُنزلت بآل الدويهي. لقد بدا هذا السجلّ الشخصيّ عبئاً فضائحيّاً على صاحبه. أمّا الذين بدوا مستعدّين أن يغفروا له دوره ذاك، وهو غفران صعب، فلم يغفروا لجوءه اللاحق إلى “الإقليم الشماليّ للجمهوريّة العربيّة المتّحدة”. ذاك أنّه إبّان الاستنفار غير المسبوق الذي استنفرتْه العصبيّة المارونيّة ضدّ الناصريّة المهاجمة من الخارج، استقرّ فرنجيّة في اللاذقيّة.
فؤاد شهاب “الأب”
في مقابل الزعماء الموروثين، عمل شهاب على تخليق سياسيّين جدد، كلّهم متعلّمون وكلّهم ذوو حيثيّات أهليّة أو شعبيّة في مناطقهم: جون عزيز في جزّين وفؤاد نفّاع في كسروان ورينيه معوّض في زغرتا وأنطوان سعيد في جبيل… الرهان هذا الذي حقّق، بين الموارنة على الأقلّ، نجاحات مُعتبرة، نمّ عن استعداد تعدّديّ يتّسع لخليط طبقيّ ولحراك ديناميّ في داخله، حراكٍ يُرجَّح أنّه شغل المخيّلة الأبويّة لفؤاد شهاب فتَـفَـنّـنَتْ فيه.
فهو، كـ “أمير” ورئيس جمهوريّة وزعيم وطنيّ، رسم لنفسه صورة “القدّيس”، بحسب الوصف الذي أطلقه مناصروه وموظّفو أجهزته. هكذا وقف فوق السياسة وفوق الأحزاب، مُطبّقاً ما يفترضه سيناريو نظريّ، أو شرط دستوريّ، في رئاسةٍ متعاليةٍ صاحبها معجب بشارل ديغول. أمّا بالنسبة إلى قلّةٍ صدّقت أنّه قدّيس، يرشح من جسده زيت وبخور، فتراءى واقفاً فوق الحياة نفسها. “قدّيس صربا”، حيث أقام قصرَه الرئاسيّ، قريباً من جونيه، هو “صنم صربا” عند كارهيه.
بيد أنّ التعالي الظاهريّ، الذي يكلّف الأبناء بما يريده الأب المتعالي، لم يُخفِ الحرب التي نشبت بين شهاب وبين ثلاثة من أصل “جبابرة” الموارنة الأربعة. فشمعون اشتمّ منذ اليوم الأوّل لرئاسته ميلاً ثأريّاً حياله، سيّما وأنّ الودّ كان مفقوداً في الماضي القريب. ذاك أنّ الرئيس السابق حين واجه “الثورة” لم يجد إلى جانبه قائد جيشه الذي آثر اتّخاذ موقف الحياد. وإبّان رئاسة القائد هذا، لم يحتمل شمعون، وهو أحد أبرز مَن واجهوا المدّ الناصريّ في الشرق الأوسط، ربط السياسة الخارجيّة للبنان بمصر الناصريّة، ومنح سفيرها في بيروت، عبد الحميد غالب، منصّة إشراف ووصاية. وبدوره، أسند إدّه معارضته على رفضه الموقع الذي بات يحتلّه “المكتب الثاني” في حياة الناس العامّة، وإلى حدّ ما الخاصّة. لقد رأى مُحقّاً أنّ الموقع هذا يتعارض مع برلمانيّة النظام ومع الديمقراطيّة وحرّيّاتها. وعلى نقاط التقاطع بين شمعون وإدّه، ركّز غسّان تويني جريدته “النهار” صوتاً مؤثّراً للمعارضة المسيحيّة. أمّا فرنجيّة، الذي تصالح مع شمعون ومع حليفه المحلّيّ في زغرتا، الأب سمعان الدويهي، ضامّاً الأخير إلى لائحته عام 1964، فساورتْه الشكوك التي تقارب اليقين. ذاك أنّ رينيه معوّض بات يحلّ محلّه وزيراً في الحكومات الشهابيّة. وكمثل مَن يكون في فمه ماء، اضطُرّ فرنجيّة لأن يحافظ على تحالفه الانتخابيّ مع معوّض، خصوصاً أنّ خلافات العائلات في زغرتا قد تفضي إلى الدم. حكمة المغلوب على أمره كانت: إنّ ما حصل مع شمعون والدويهي في الخمسينات ينبغي ألاّ يتكرّر مع شهاب ومعوّض في الستينات.
انتخابات 64
مع انتخابات 1964، شكّل سليمان فرنجيّة لائحة جمعت إليه معوّض والدويهي. لكنّ ما أمكن تجنّبه في زغرتا استحال تجنّبه إلى الجنوب منها. فقد وجّه شهاب ضربة لمعارضيه الموارنة الجبليّين بحجم الضربة التي سبق أن وجّهها شمعون في انتخابات 1957 لمعارضيه المسلمين: في الشوف رسب شمعون نفسه، وفي جبيل رسب إدّه. هذا الزلزال أشعر موارنة لبنان عموماً، وموارنة الجبل خصوصاً، بأنّ الأرض جُعلت صلصالاً تحت أقدامهم. لقد تراءى لهم أنّ قبضة جمال عبد الناصر تقرع أبوابهم في المتن وكسروان، مهدّدةً بإسكات أجراسهم.
أمّا بيار الجميّل فلم يعد في وسعه، وقد أمعنتْ الخطّة الشهابيّة في صلفها، أن يقدّم الغطاء المارونيّ الذي قدّمه قبلاً. صحيح أنّ انتخابات 1964 أعطت الكتائب المتوسّعة خارج الجبل مقعداً شغله راشد الخوري في الزهراني، إلاّ أنّ ناخبي الجبل صفعوها باثنين بارزين أسقطوهما: عبده صعب في المتن الجنوبيّ ولويس أبو شرف في كسروان. لقد بدأت الكتائب تتململ وراحت تحذيرات شيخها من هذا “السير في المجهول” ترتفع.
لكنّ رفض فؤاد شهاب التجديدَ أعفى الجميع، لا سيّما الجميّل، من متاعب يُستحسَن تفاديها. ومواجهة القدّيسين، أو الأصنام لا فرق، مهمّةٌ لا يُحسَد صاحبها عليها. حينذاك استقرّ الأمر على شهابيٍّ مُلتبس، وصفه البعض بـ “اليسوعيّ”، لا لأنّه يجاهر بإيمانه بل لأنّه يُخفيه. فشارل حلو، وفق عارفيه، ذو تقيّة تجعله يقول ما لا يُضمر ويُضمر ما لا يقول.
وفي الحالات كافّة، حرص الأقطاب الموارنة على إحاطة الرئيس الجديد برعايتهم، عاقدين الرهان على ما يُضمر لا على ما يقول. وهو بالفعل كان يُضمر الحدّ من سلطان “المكتب الثاني” ومن وصاية القاهرة على السياسة العربيّة للبنان. فوق هذا، كان يعرف، هو الذي تتلمذ على ميشال شيحا، أنّ للبلد معادلات وتوازنات لا يقوم إلاّ عليها، فإذا هُمّش الجبل، ولبنان في آخر المطاف بحر وجبل، خانَ البلدُ أصولَه وفقد معناه.
هذه المساعي أثمرت في 1968، وكانت سبقتها بعام واحد هزيمة عبد الناصر المدوّية في 1967. يومذاك جيء بسليمان فرنجيّة وزيراً لداخليّة الحكومة التي تجري الانتخابات، وفرنجيّة أحد ثلاثة أسّسوا “تكتّل الوسط” الذي ضمّ إليه صائب سلام وكامل الأسعد. الثلاثة هؤلاء كانوا أيضاً خصوماً للشهابيّة، وإنْ بتفاوت في التعبير والحركة. أمّا شمعون وإدّه فأنجزا، في هذه الغضون، استمالة بيار الجميّل، المتعافي من فؤاد شهاب، إلى خطّهما. هكذا نشأ “الحلف الثلاثيّ” المتحالف في الخفاء مع “تكتّل الوسط”. إنّها، إذاً، معركة الحسم ضدّ الشهابيّة وعسكرها.
(2 من 3)
في انتخابات 1968 اكتسح “الحلف الثلاثيّ” جبل لبنان. الملائكة استُنزلت، وقيل إنّ مريم العذراء نطقتْ ونبّهتْ من مخاطر الشهابيّة والناصريّة. رجال ونساء. صغار وكبار. أغنياء وفقراء…، الكلّ عصفت بهم تعبئةٌ تحمل في تضاعيفها ناراً تنذر بالحريق. إنّها تعبئةٌ تعبق بالمقدّس ولا ترتدع عن المدنّس.
الزلزال، لا سيّما في حالة حزبٍ حديث وممتدّ وطنيّاً كالكتائب، تجاوزَ قلب الجبل إلى حدوده: جورج عقل نجح في زحلة، وإدمون رزق في جزّين، وجورج سعادة في البترون. أمّا بيروت الأولى نفسها فلم تنجُ من مفاعيله: الشهابيّان، الأرثوذكسيّ فؤاد بطرس والكاثوليكيّ أنطون صحناوي، رسبا. الشمعونيّان ميشال ساسين ونصري المعلوف، فازا.
وكمثل جيشٍ أسقط الحصن الأوّل لعدوّه، تقدّم “الحلف الثلاثيّ”، يغطّيه “تكتّل الوسط”، لدكّ الحصن الثاني والأخير الذي هو رئاسة الجمهوريّة. لقد عبّأوا وحشدوا للانتخابات الرئاسيّة التي ستُجرى في 1970 مثلما عبّأ خصومهم، المعروفون بأنصار “النهج” الشهابيّ، مدافعين عن ذاك الموقع المهدّد بالسقوط.
لكنْ بين 1968 و1970، انفجر تطوّر آخر، أعرض وأعمق من أن تستوعبه الحياة السياسيّة ومؤسّساتها. فقد انقسم اللبنانيّون بين أكثريّة مسيحيّة كبرى اعتبرت نفسها نصيرة للجيش الذي كان يواجه النُوى الفلسطينيّة المسلّحة والمتّسعة بإيقاع يوميّ، وأكثريّة مسلمة كبرى رأت نفسها نصيرة لتلك النُوى، تعامِلُها بوصفها “جيش المسلمين”. التسلّح الفلسطينيّ، لا سيّما في المخيّمات الواقعة في مناطق السكن المسيحيّ، في ضواحي بيروت الشرقيّة، كان يؤجّج النزاع الذي عرف انفجارات صغرى كان أكبرها تظاهرة 23 نيسان (أبريل) 1969 وما تلاها. الضربات الإسرائيليّة الموجعة ردّاً على العمليّات الفدائيّة من الجنوب، وتوسّع النزوح الجنوبيّ إلى العاصمة، كانت عنصر تأجيج آخر. الموارنة خصوصاً، والمسيحيّون عموماً، أحسّوا أنّهم بدأوا يخسرون البلد الذي كانوا أوّل الداعين لإنشائه، وفي الوقت نفسه، بدأوا يفقدون السيطرة على مناطقهم التي يتحكّم بها سلاح لا سيطرة عليه.
هكذا تحوّلت الشهابيّة لزومَ ما لا يلزم: الطرفان الفاعلان على الأرض تصرّفا كأنّهما متوافقان، من موقع الخصومة، على إزاحة هذا العازل. لقد بدا الالتحام المباشر مطلوباً. الجيش تحديداً جابهه عداء إسلاميّ وفلسطينيّ قاتل، مثلما عانقه حبّ مسيحيّ هو من الصنف الذي يقتل. ذاك أنّ المسيحيّين، وفي تكرار موسّع لما حصل في 1958، أرادوه قوّةً موحّدة كالله في دفاعها عن “الدولة”، ولو استدعى الأمر صدامه بالمجتمعات الأهليّة المسلمة. ولأنّ مطلباً كهذا مستحيل، في ظلّ تكوين لبنانيّ لا يجمع بين مُكوّناته إلاّ القليل، ساد التفكير بـ “جيوش” بديلة وموازية اسمها الميليشيات.
هؤلاء الشبّان المتلهّفون للدفاع عن عالمهم الأهليّ الحميم، الراغبون ببلد مستقرّ لا يتحكّم به النزاع العربيّ – الإسرائيليّ ومُجرياته، ولا يعني لهم تحرير فلسطين أو الصلاة في القدس أكثر ممّا تعنيه الأغاني الرحبانيّة، فرزوا جيلاً سوف تبدأ أسماء أصحابه باللمعان بعد حرب السنتين. حججه كانت بسيطة وآليّة: في مواجهة السلاح الفلسطينيّ نتسلّح. في مواجهة القضيّة الفلسطينيّة نطرح قضيّتنا اللبنانيّة. المهمّ الحصول على السلاح. من إسرائيل؟ لا بأس.
وكما يحصل حين تأتلف قلوب المؤمنين، انضوى في هذا الموقف مَن يريد الدفاع عن مألوفه، ومَن يريد الدفاع عن مصالحه، ومن يؤيّد بقليل من التحفّظ، ومن يتحفّظ بكثير من التأييد. إنّ مصير الطائفة وبشرها مطروح على المحكّ.
حدث آخر استجدّ معزِّزاً تلك الوجهة: إنّه اتّفاقيّة القاهرة أواخر 1969 التي أقرّت للمقاومة الفلسطينيّة بالسيادة على جزء من لبنان. إذاً خسرت الدولة احتكارها للعنف واحتكارها لقرار الحرب والسلام. يكفي أن يطلق مسلّحان في العرقوب، لا سلطة للدولة عليهما، قذيفة باتّجاه إسرائيل حتّى تحترق قرى وتتهدّم بيوت كثيرة. لكنّ معارضة اتّفاقيّة القاهرة، ولم يكن عرّابُها وراعيها أقلّ من جمال عبد الناصر، لم تجد بطلها: بيار الجميّل أيّدها بتحفّظ وكذلك كميل شمعون، ظنّاً منهما أنّها الثمن الذي لا بدّ منه لتلافي الحرب الأهليّة. لقد قلّدا في موقفهما هذا موقف الملك حسين حين انخرط في حرب 67 لتجنّب الحرب الأهليّة. بيد أنّ تقليد حسين ما لبث أن تبدّى نسجاً على وهم: فشمعون والجميّل ما إن وافقا على اتّفاقيّة القاهرة حتّى اندلعت الحرب الأهليّة في الأردن، بعدما كان الإسرائيليّون قد احتلّوا، في 67، الضفّة الغربيّة. لا من هذه إذاً ولا من تلك.
ريمون إدّه، في المقابل، اتّخذ موقفاً مغايراً: عارض الاتّفاقيّة بقوّة لكنّه، هو المعارض لكلّ تسلّح، مُسلّحاً بحساسيّة مدنيّة مشوبة بقرف أريستوقراطيّ، طالبَ ببوليس دوليّ على الحدود مع إسرائيل. وإذ انهالت عليه الشتائم والتعيير بالخيانة، مضى “عميد الكتلة الوطنيّة” يردّ على الكلام بالكلام.
إدّه، الذي يأنف السلاح والتسلّح، بات رمزاً لإضاعة الوقت وللاّجدوى في نظر شبّان قليلي الصبر رأوا أنّ الكلام لا يحمل حلّاً وأنّ ما من حلّ سوى البنادق.
في 1970، ووسط توتّر استولى على “شوارع” الطوائف، انتُخب سليمان فرنجيّة، بفارق صوت واحد، رئيساً للجمهوريّة. المهزوم كان المرشّح والموظّف الشهابيّ الياس سركيس. لم يفرح كثيرون بفرنجيّة لكنّهم فرحوا بالسقوط الأخير للشهابيّة، ولم يحزن كثيرون على سركيس لكنّ فرح خصومهم أحزنهم.
مع هذا، لم تعد أمزجة الطوائف تجد في ما يجري تحت قبّة البرلمان ضابطاً لها. لقد أفلتت الأمزجة من كلّ عقال مؤسّسيّ. هكذا ما أن أُنجز تفكيك الأجهزة الشهابيّة بوصفه المهمّة السهلة التي تشبه دفن الجثّة، حتّى ارتسم الصراع الكبير: الزعيم الدرزيّ كمال جنبلاط، في تحالفه مع المقاومة الفلسطينيّة وزجّها في القرار السياسيّ اللبنانيّ، كان يكسر الدولة من خارجها. رئيس الجمهوريّة سليمان فرنجيّة، الذي أزاح معظم العوائق بين الدولة والجماعة الأهليّة، كان يكسرها من داخلها. باقي الزعماء المسلمين لم يجرأوا على مواجهة جنبلاط المدعوم بالسلاح الفلسطينيّ وقضيّته الموصوفة بالقداسة. معظم الزعماء المسيحيّين راحوا يدفعون فرنجيّة، الذي أسّس إحدى الميليشيات المسيحيّة الأبكر، إلى مزيد من الجذريّة.
الصدام الذي بات الجميع يترقّبونه انفجر فعلاً في النصف الأوّل من أيّار (مايو) 1973، بعد أسبوعين على رحيل فؤاد شهاب عن واحد وسبعين عاماً، وبعد شهر وأسبوع على عمليّة فردان الإسرائيليّة التي أودت بثلاثة من القادة الفلسطينيّين. لقد استقالت حكومة صائب سلام الذي أصرّ على إقالة قائد الجيش اسكندر غانم، فيما رفض فرنجيّة “المسّ” بالجيش وقائده. الصداقة السياسيّة والشخصيّة بين رئيسي الجمهوريّة والحكومة بدت أوهن من أن تصمد لتحدّي الخلاف الطائفيّ الذي صاغه القادة السُنّة بشعار “المشاركة” في القرار.
يومذاك راحت تتصدّع محاولات مسيحيّة تحديثيّة شاءت أن تنأى بنفسها عن الطوائف وتؤسّس السياسة على المصالح والأفكار: “الحزب الديمقراطيّ” لجوزيف مغيزل وإميل البيطار وباسم الجسر، و”حركة الوعي” التي وُلدت حركةً طلاّبيّة في الجامعة اللبنانيّة، ومسيحيّون بشّروا بالمسيح بوصفه شيوعيّاً مبكراً، هؤلاء وسواهم طردهم ما سُمّي “القضيّة القوميّة” التي لم يروا فيها غير اسم مؤدلج للتنازع الطائفيّ. الشيوعيّون المسيحيّون جعلوا ينكمشون عن حزب أسّسه مسيحيّون في مناطق مسيحيّة.
عناصر أخرى كانت تغذّي هذه الميول اللبنانيّة العميقة. فمنذ أواخر الستينات، وقبل أن ينتقل المقاتلون الفلسطينيّون بعد هزيمة الأردن إلى لبنان، بدا أنّ النظام السوريّ يستخدم البراءة “القوميّة” لأغراض تصعب نسبتها إلى البراءة. ذاك أنّ الفدائيّين الذين كانوا أوّل المتمركزين في العرقوب، كما باشروا الصدامات الموضعيّة مع الجيش، كانوا من منظّمة “الصاعقة” التي أنشأها البعث السوريّ الحاكم. فحين انفجرت مواجهة أيّار، كانت سوريّا المبادرة إلى فرض حصار اقتصاديّ خانق على لبنان مرفق بشروط واقتراحات سياسيّة تضمن “عروبة لبنان” وتُديمها.
حرب تشرين (أكتوبر) 1973 بين إسرائيل وكلّ من مصر وسوريّا سرقت الضوء وسلّطته على موضع آخر. لكنْ بين الحرب اللبنانيّة الصغرى والحرب الإقليميّة الكبرى، تبدّى أنّ لبنان لم يعد قابلاً لأن يُحكَم، وربّما لم يعد قابلاً لأن يكون. هذا ما كانه الدرس الأوّل الذي نطقت به حكومة تقيّ الدين الصلح التي حظيت بإجماع ظاهريّ صحبه انهيار أمنيّ مفتوح ومتمادٍ. منظّمة التحرير الفلسطينيّة نشطت تسليحاً وتدريباً في منافسة ضمنيّة مع دمشق. “دولة المطلوبين” في طرابلس، التي سلّحها ياسر عرفات، راحت تتوسّع. فحين شُكّلت حكومة رشيد الصلح، التي جمعت سائر المتناقضات فيها، انفجر الوضع وبدأ ما عُرف لاحقاً بحرب السنتين.
حرب السنتين
كان اليأس مُرشد المسيحيّين، ومع أنّ اليأس أستاذ سيّء فإنّ تجنّبه بدا صعباً: في 1970، رعى عبد الناصر الاتّفاقيّة التي تحاصرهم. في 1973، وقفت سوريّا ضدّهم إلى جانب المقاومة الفلسطينيّة. بعد ذاك، تفاوتت المواقف العربيّة بين ناصح بالتهدئة وداعٍ إلى قبول الأمر الواقع. الغرب كان مشدوداً إلى ما يحصل على الجبهتين السوريّة والمصريّة مع إسرائيل. أمّا في الداخل، فالجيش لا يُعوَّل عليه للحماية، وهو ما أكّده لاحقاً الانشقاق الذي رعته حركة “فتح” وأدّى إلى نشأة “جيش لبنان العربيّ”، ثمّ الانشقاق الثاني الذي رعته سوريّا وأدّى، هو الآخر، إلى نشأة “جيش الطلائع”.
فلسطينيّو لبنان كانوا أيضاً يائسين. المعاملة المُذلّة والعنصريّة التي عانوها في مخيّماتهم، سنةً بعد سنة، ساهمت في جعل هذه “الطائفة اللبنانيّة” تتسلّح. القضيّة، كما قُدّمت، تجيز كلّ شيء، وتأسيس “منظّمة التحرير”، أواسط الستينات، أوحى بضوء في آخر النفق. أمّا الأنظمة العسكريّة المجاورة التي لم تقتصد في بيع القضيّة وشرائها، فلم تقتصد أيضاً في توزيع السلاح على طالبيه.
الكلام المارونيّ عن خصوصيّة لبنان كبلد تعدّديّ وبرلمانيّ، بدا للفلسطينيّ المتوسّط لغواً يردّده أسياد يتلذّذون بإبقائه عبداً. الكلام الفلسطينيّ والعربيّ عن تحرير فلسطين، بدا للمارونيّ المتوسّط انتحاراً يبدأ بنحره هو.
في هذه الغضون، تواصلت الحرب التي اندلعت في أواسط 1975. الشبّان المسيحيّون الذين حملوا السلاح جاؤوا من أحزاب كالكتائب و”الوطنيّين الأحرار” الشمعونيّ، لكنّ بينهم مَن جاء من تنظيمات صغرى نشأت للتوّ، ومن مبادرات فرديّة، أو من عسكريّين انشقّوا هم أيضاً. بعض هؤلاء كانوا أبناء الحواضر الغنيّة والبورجوازيّة، وبعضهم وفدوا من ضواحي المدن ومن أرياف نائية نسبيّاً لم يتسنّ لها أن تحتلّ في السياسة التقليديّة موقع الصدارة. وهناك، بالطبع، تابعون لسياسيّين حوّلوهم إلى ميليشيات كي يحفظوا مواقعهم ومواقع عائلاتهم في زمن متقلّب، وهناك أيضاً شبّان ناقمون على سياسيّيهم التقليديّين الذين “أوصلونا” إلى حيث نحن الآن.
هؤلاء وقفوا وراء “الجبهة اللبنانيّة” التي ضمّت شمعون وفرنجيّة والجميّل، وبعضاً من المثقّفين المسيحيّين الذين زاولوا السياسة، كشارل مالك وإدوار حنين وجواد بولس وفؤاد أفرام البستاني. الشبّان، وكما يحصل في الحروب غير النظاميّة، كانوا يستمعون إلى ما يقوله الشيوخ ثمّ يتصرّفون على هواهم، في انتظار اليوم الذي يُخلي فيه أولئك المسنّون الساحة محاطين بالتكريم. أمّا ريمون إدّه، الذي مضى يناكف حمل السلاح وحامليه، غير عابىء بحرب السنتين وما استوجبتْه من تعبئة، فداهمته محاولة اغتيال قبل أن ينتقل، في 1977، إلى باريس. هناك، في فرنسا، عاش حتّى وفاته عام 2000.
بنهاية حرب السنتين حلّت في لبنان قوّات الردع “العربيّة”، التي ما لبثت أن تقلّصت إلى سوريّةٍ فحسب. رافق ذلك انتخاب الياس سركيس في 1976 رئيساً للجمهوريّة والذي صادق عليه مؤتمرا قمّة عربيّان في الرياض والقاهرة. اختيار سركيس جاء إعلاناً عن بعثٍ شهابيّ سيحقّق هذه المرّة النجاح الذي خانَه قبلاً. الحجّة كانت النسيان: فمَن مات مات وما فات فات، وساعة إعمار ما تهدّم هي التي أزفت. لقد استعادت الخدمة العامّة والنزاهة والكفاءة والتخصّص بريقها، خصوصاً مع تكليف موظّف كبير آخر، جمعه بسركيس العمل في القطاع المصرفيّ، هو سليم الحصّ، تشكيل الحكومة. الصديقان سركيس والحصّ وعدا ضمناً بدولة موظّفين تتعالى على الطوائف وسياساتها، واستكملا ثنائيّهما بثالث ليس سوى الشهابيّ فؤاد بطرس الذي سُلّم وزارة الخارجيّة.
لكنّ قدرات الموظّفين امتحنتْها أوضاع لا يذلّلها إلاّ السَحَرة. في مواجهتها، انهارت صداقة سركيس والحصّ مثلما انهارت من قبل صداقة فرنجيّة وسلام. كلٌّ منهما عاد، وإن بتدرّج ومُداوَرة، إلى طائفته.
ففي 1977 انتهى شهر العسل السوريّ – المسيحيّ القصير الذي كانت ذروته معركة مخيّم تلّ الزعتر الفلسطينيّ. ذاك أنّ الرئيس المصريّ أنور السادات توجّه إلى إسرائيل أواخر ذاك العام، فصار مطلوباً أن تتصالح سوريّا والمقاومة الفلسطينيّة، جارّةً وراءها “الحركة الوطنيّة” اللبنانيّة. أمّا القصد فليس من ورائه سوى “الصمود” أمام إسرائيل و”التصدّي” لهجمتها التي استمالت مصر. ذبحُ المخيّم ثمّ قتل كمال جنبلاط لم يردعا المتصالحين عن مصالحتهما التي سريعاً ما امتحنَها اجتياح إسرائيليّ عُرف بـ “عمليّة الليطاني” تصرّف حيالها الجيش السوريّ كأنّها تحصل في أدغال بعيدة. ذاك أنّ الاتّفاق الذي دخل بموجبه إلى لبنان لا يجيز له التوغّل جنوباً إلى حيث قد يتوغّل الإسرائيليّون. وبالفعل ما لبث الأخيرون أن أنشأوا دويلة، أو “شريطاً حدوديّاً”، ولّوا عليه الضابط المنشقّ سعد الحدّاد.
العام 1978 سخا بحدثين دمويّين آخرين وثيقي الصلة بأحوال الزعامة المارونيّة وتقلّباتها. في 13 حزيران (يونيو) شهدت بلدة إهدن في الشمال إحدى أبشع الفظاعات التي عرفتها الحرب اللبنانيّة: لقد أقدم مقاتلون كتائبيّون على قتل النائب والوزير السابق توني فرنجيّة، نجل سليمان، كما قتلوا زوجته وابنته وبعض مرافقيه. سبق تلك المقتلة إقدام عناصر تابعة لآل فرنجيّة على تصفية أحد الكتائبيّين، في سياق الحدّ من “تغلغل” الأحزاب في عالم العائلات المقفل. أمّا ما مهّد لذاك الصدام فأنّ فرنجيّة كان قد بدأ يخلط أوراقه ويقترب من دمشق مبتعداً عن حلفائه في “الجبهة اللبنانيّة”. الأهمّ، أنّ ذاك الصدام نفسه سوف يمهّد لقطيعة، مشوبة بالعنف والتهجير، بين مارونيّة الجبل ومارونيّة الشمال.
الحدث الآخر كان مسرحه الأشرفيّة. فبعد مناكفة مع جنود سوريّين، تعرّضت تلك المنطقة لقصف متواصل ومركّز على مدى أشهر الصيف. الكتائبيّون وحلفاؤهم سمّوها “حرب المئة يوم” التي خاضوها بقيادة بشير الجميّل، نجل بيار الأصغر، والذي كان أسّس، قبل عامين، “القوّات اللبنانيّة” كجسم ينصهر فيه مقاتلو الأحزاب المسيحيّة.
الأشرفيّة التي انطلق منها بشير كمناضل كتائبيّ فتى وشابّ، والتي قضى فيها بانفجار، بعد أعوام قليلة، هي التي جعلته، بحربها تلك، نجماً وبطلاً. الموارنة عثروا على القدّيس المحارب الذي بحثوا عنه.
(3/3)
كان “النظام” الذي أقامه بشير الجميّل في مناطق سيطرته صارماً وإن لم يكن حديديّاً. ضبطُ الأمن بدا شاغله الأوّل، ما استدعى درجة من القمع لم يحدّ منها إلاّ التأييدُ الشعبيّ الذي أبداه خائفون من “الآخر”، المسلم والسوريّ والفلسطينيّ، ظنّاً منهم أنّ بشير هو الحامي. معارضوه خلدوا على مضض إلى السكينة، وكان منهم طامحون سياسيّون وعائلات أحسّت أنّ القطار فاتها. قليلون غادروا المنطقة، التي سبق أن فرغت إبّان حرب السنتين من اليساريّين الأرمن وسواهم من شيوعيّين ومن قوميّين سوريّين. مَن لم يغادرْ لزم المنزل واهتمّ بهوايات انقطع عنها، أو تعلّم هوايات جديدة.
ضبط الأمن و”توحيد البندقيّة المسيحيّة” امتحنتْهما بلدة الصفرا الساحليّة، عام 1980. هناك صُفّي مقاتلو “نمور الأحرار”. عشرات الجثث نقلتها الشاحنات قبل أن تطمرها في البحر الذي يسمّيه أهل الصفرا “نبع الحسّون”. لكنّ قائد “النمور” داني شمعون، نجل كميل، لم يُصفَّ، كُرمى لأبيه الذي كان ساحر المسيحيّين قبل عقدين فحسب. الأب عضّ على جرحه وبايع الكتائبيّ الصاعد قائلاً إنّه خلاف بين أخوة هم كلّهم أبناؤه. مسيحيّون كثيرون قالوا: ما حدث في الصفرا مكروه، لكنّ بشير هو الذي لا يُحمَد على مكروه سواه.
لقد أضاف استتبابُ الأمن رصيداً إلى رصيده، لا سيّما قياساً بالانفلات الذي كان يعيشه الشطر الغربيّ من العاصمة حيث عاثت الميليشيات اللبنانيّة والفلسطينيّة والأجهزة السوريّة فساداً.
مواجهة بشير الأخرى كانت في زحلة حيث امتدّت من أواخر 1980 حتّى صيف 1981. مقاومة الحصار السوريّ للمدينة البقاعيّة، غير البعيدة من سوريّا، رسمته قائداً أوّل لا يُنافَس للمسيحيّين اللبنانيّين.
الغزو والرئاسة
في 1982 أتى الغزو الإسرائيليّ ببشير رئيساً للجمهوريّة. النوّاب تعرّضوا لضغطين جدّيّين، واحد يطالبهم بأن يحضروا الجلسة، وآخر يريدهم أن يغيبوا عنها. يومذاك كان كامل الأسعد السياسيّ الأشجع بإطلاق: رفض الإذعان للرئيس السوريّ حافظ الأسد، معتبراً أنّ إحدى مهامّه، كرئيس للمجلس، منع الموقع الرئاسيّ من الشغور. يوم 23 آب (أغسطس)، حضر 62 نائباً وانتخبوا قائد “القوّات اللبنانيّة” رئيساً لجمهوريّة بدت على حافّة الانهيار العصبيّ.
كان في الإصرار على بشير الجميّل صلفٌ ومكابرة نافران. لقد استُبعد سياسيّون ينتمون إلى خطّه السياسيّ، أكبر سنّاً منه وأقلّ استفزازاً، ككميل شمعون ووالده بيار الجميّل. حتّى شقيقه أمين استُبعد، هو النائب الذي رطّبتْه الحياة البرلمانيّة ووضعَه الطموح في منافسة مع أخيه الأصغر.
“إلاّ بشير”…، هذه كانت صرخة الأكثريّة المسيحيّة الكبرى تُطلقها من حنجرة واحدة.
وبشير كان الرئيس غير المدنيّ الثاني في التاريخ اللبنانيّ الحديث، مع فارقين كبيرين ميّزاه عن الأوّل: ذاك أنّ فؤاد شهاب كان قائد جيش، وقد اختير لأنّه لم يقاتل. بشير قائد ميليشيا، اختير تحديداً لأنّه قاتَل. هذا كان من تقلّبات الأزمنة والأمزجة ومن مفاعيل انتشار السلاح التي جعلت المتطرّف أكثر تطرّفاً والمتعصّب أكثر تعصّباً والخائف أكثر خوفاً.
فوق ذلك، هناك إسرائيل التي رعت، باجتياحها العسكريّ، هذا التحوّل السياسيّ الكبير. أكثريّة المسيحيّين لم تر مُنكراً في هذا: لمَ لا؟ قبل ستّ سنوات دفعَنا الحصار والتهديد بأنّ “الطريق إلى فلسطين تمرّ من جونيه” إلى الاستنجاد بالحكم السوريّ، ومَن الذي قال إنّ مناحيم بيغن أبعد وأخطر من حافظ الأسد؟
دروس التجربة السوريّة لم تعصم عن تكرارها مع الإسرائيليّين.
الحجج هذه لم تكن كافية لتطبيع الانتخاب الرئاسيّ. بالنسبة إلى كثيرين، بقي الأمر كسراً غير مُتَخيَّل للمُحرّمات. ومع أنّ دمشق تاجرت بالحدث وراحت تعبّىء اللبنانيّين ضدّه، فهذا لا يلغي تعارضه مع التركيب اللبنانيّ ومع أهواء جماعاته المتباينة، ناهيك عن تنازع تواريخها الفرعيّة. إنّه يطيح فكرة التسوية التي لا يقوم لبنان، إذا قام، إلاّ عليها.
ما ضاعف الاستفزاز أنّ الكثير ممّا رشح عن الرئيس الجديد، في الكلام والسلوك، نمّ عن ميل فرانكويّ ودولة جبروتيّة مصحوبين بتبجّح مُتخَم بالظَفَر. هذا ما لا يمكن أن يطيقه تركيب لبنان، ولا يمكن إلاّ أن يخيف ديمقراطيّيه وتعدّديّيه. لقد خاطب بشير الشابُّ مُسنّين وأصحاب تجارب، وكذلك أصحاب سوابق، كما لو كانوا كلّهم تلامذة في صفّ ابتدائيّ. في وجوههم رفع سبّابته ووعدهم بأن يضمنهم ويقود خطاهم إلى المستقبل.
بيد أنّ بشير الذي مثّل نوعاً من القطع مع “الصيغة والميثاق” اللذين لم يكتم عداءه لهما، مثّل أيضاً نوعاً من الاستئناف: فهو سليل بيت سياسيّ دخل، منذ 1960 على الأقلّ، نادي التقليديّين، وعضوٌ في حزب يتباهى بدوره في الاستقلال وبالتعاون مع سياسيّين مسلمين كرياض الصلح، وهذا ناهيك عن توفيره “الغطاء المارونيّ” للتجربة الشهابيّة المكروهة مارونيّاً. صعود بشير في طائفته، إذاً، لم يشبه الصعود الموازي لنبيه برّي، مثلاً لا حصراً، في الطائفة الشيعيّة. في الحالة الأخيرة نحن أمام بُعد جيليّ يلازمه بُعد طبقيّ. هذا لا يَسري على الحالة الأولى. وإذا صحّ أنّ الحرب والميليشيا شقّتا للمناطق المسيحيّة الطَرَفيّة وللفئات الأدنى في الهرم الاجتماعيّ طريقاً إلى الشأن العامّ، ففي وسع بشير، “ابن البيت”، أن يضبط هذا الطموح ويمنع انفلاته.
هكذا رأيناه، كرئيس مُنتخَب، يعتدل في أمرين قال سابقاً إنّه لن يعتدل فيهما: طالبَ الإسرائيليّين بمنحه فرصة أطول كي يوفّر إجماعاً لبنانيّاً حول معاهدةٍ كالتي عقدَها الرئيس السادات قبل أربعة أعوام. في الآن نفسه، شرع ينتقل تدريجاً من الرعاية الإسرائيليّة إلى الرعاية الأميركيّة، مثيراً استياء تلّ أبيب المتمسّكة بالضابط سعد حدّاد في ازدراء واضح لرئاسته. من جهة أخرى، راح يتحدّث عن المصالحة بين اللبنانيّين، و”بين شهدائهم”، ويمدّ الجسور مع زعامات ومراتب تقليديّة في سائر الطوائف.
في 14 أيلول (سبتمبر) اغتيل بشير بعبوة زرعها قوميّ سوريّ، ليس بعيداً من المخابرات السوريّة، في مقرّ حزب الكتائب بالأشرفيّة. 26 حزبيّاً قضوا معه. لكنْ قبل العبوة، تراءى لمَن هم أعرف وأوفر تجربة أنّ في المشروع العتيد خللاً قاتلاً: المسيحيّون صاروا، بنتيجة الحرب كما بفعل التحوّلات الديموغرافيّة، أصغر عدداً وأضعف من أن يُنهضوا مشروعاً مسيحيّاً جدّاً كالذي يرمز إليه الجميّل الشابّ.
بعد مصرعه، وسّعت الأحداث الداخليّة والإقليميّة التفاوت بين قدرة المسيحيّين، والموارنة خصوصاً، وبين رغباتهم: من حرب الجبل التي قصفت حضورهم في لبنان إلى المناخ المجنون الذي أطلقته الثورة الإيرانيّة.
عهد أمين الجميّل
انتُخب أمين الجميّل رئيساً للجمهوريّة يوم 22 أيلول 1982. المحامي، الذي حلّ في 1970 نائباً عن المتن في انتخابات فرعيّة أعقبت وفاة خاله موريس، ثمّ انتُخب للمقعد نفسه عام 1972، لم ينافسه أحد. شمعون فكّر بالترشّح في وجهه ثمّ تراجع. فأمين، ككتائبيّ وشقيق لبشير يُرضي المسيحيّين، وقد يستطيع إقناع الإسرائيليّين، مقابل ثمنٍ ما، بالانسحاب من لبنان. وهو كسياسيّ معتدل قياساً بأخيه، قد يلقى ترحيباً من المسلمين واستعداداً سوريّاً للانسحاب.
لكنْ ساذجاً كان هذا الحساب. الحساب الصائب كان يقول إنّ حافظ الأسد الذي أدمتْه وأهانتْه حرب 1982 وما أعقبها من انتخاب بشير، مصمّم على انتقام حقود. وفي أواخر 1982 وصل إلى سدّة السلطة السوفياتيّة يوري أندروبوف الذي بدا مستعدّاً لأن يعطيه ما يطلبه من أدوات القتل. حرب العراق وإيران كانت، من ناحية أخرى، قد شقّت طريقها إلى لبنان. فمن خلال مسلّحين، ما لبثوا أن صاروا “حزب الله”، جُعل البلد ملحقاً بتلك الحرب. لقد تولّى أتباع إيران اللبنانيّون تصديع بعض الأسس العميقة لوجود البلد السياسيّ. في الآن نفسه، كان معظم المساحة الوطنيّة محتلاًّ تتقاسمه سوريّا وإسرائيل وجيوب فلسطينيّة مسلّحة.
في 17 أيّار (مايو) 1983، وبعد 32 جولة تفاوض، وتدخّل مباشر من وزير الخارجيّة الأميركيّ جورج شولتس، أمكن التوصّل إلى اتّفاق مع إسرائيل أقرب إلى عدم اعتداء منه إلى سلام. تلّ أبيب زرعت لغماً في الاتّفاق، هو ربط تنفيذ انسحابها بالانسحاب السوريّ. دمشق، التي كانت بيروت تطلعها على كلّ خطوة يخطوها التفاوض وتنال موافقتها قبل التقدّم خطوة أخرى، فجّرت جميع الألغام المخبّأة وأضافت إليها ما تيسّر. هكذا، ما أن وُقّع الاتّفاق حتّى سمّاه الأسد ومريدوه “اتّفاق الإذعان” و”اتّفاق العار”. “إسقاط 17 أيّار” صار مثل “الوحدة والحرّيّة والاشتراكيّة” مع فارق واحد: إنّه وحده شعار للتنفيذ.
والجحيم فتح بوّاباته: فبالاعتماد على تناقضات الطوائف، وعلى أخطاء الجميّل الذي أُخذ عليه الاستعلاء والمحاباة والمحسوبيّة، واتّهمه خصومٌ بالفساد، وإن كان معظمهم فاسداً، اشتعلت الحروب ضدّ السلطة المركزيّة وووحدة الجيش، لا ضدّ الجميّل وحده: حرب الجبل في 1983 وحربا بيروت والضاحية في 1984. الجيش تشرذم. تهجير المسيحيّين تمدّد إلى شرق صيدا عام 1985. هناك، كما في الجبل قبلاً، سَوّغتْ جلافة الميليشيات المسيحيّة وعدوانيّتها حيال السكّان المسلمين إعمال العقاب الجماعيّ بكتل مسيحيّة وازنة.
الوعي التآمريّ استولى على مسيحيّين كادوا يؤمنون بأنّ الله نفسه ضالع في المؤامرة عليهم، خصوصاً وأنّ الضربتين الإيرانيّتين الموجعتين للقوّات الأميركيّة والفرنسيّة سبق أن أدّتا إلى انسحابهم من لبنان. الإسرائيليّون، في ضغطهم على الجميّل، تخلّوا عن علاقتهم الحصريّة بالمسيحيّين عاقدين صلة موازية بخصومهم الدروز.
في 5 آذار (مارس) 1984 ألغيت اتّفاقيّة 17 أيّار تمهيداً لانعقاد مؤتمر لوزان لـ “الحوار الوطنيّ”، بعدما سبقه في 1983 مؤتمر في جنيف. في لوزان، استسلم الجميّل للأسد لبنانيّاً، وإن لم يسلّمه المناطق الشرقيّة التي سوف يتصارعان لاحقاً عليها. خطفُ الأجانب في الضاحية الجنوبيّة وبيروت، وانهيار الليرة، ثمّ اندلاع حرب المخيّمات الموحى بها سوريّاً، كانت كلّها عناوين مختلفة لرسالة واحدة مدارها الاحتضار الوطنيّ.
العالم الصقليّ – الانقلابيّ
أنهى أمين الجميّل عهده الكئيب، عام 1988، بلقاءات متكرّرة مع الأسد، حاول من خلالها التوافق حول رئيس جمهوريّة للسنوات المقبلة. ريتشارد مورفي، نائب وزير الخارجيّة الأميركيّ للشرق الأوسط، شارك في هذه العمليّة التي انتهت إلى فشل محض. الجميّل كلّف قائد الجيش ميشال عون تشكيل حكومة تحلّ محلّ حكومة سليم الحصّ القائمة، لكنّ الحكومة العونيّة، التي ضمّت ستّة عسكريّين، ظلّت عرجاء بسبب امتناع مُسلميها الثلاثة عن المشاركة فيها. الجميّل تصرّف كأنّه غسل يديه بعدما أدّى قسطه إلى العلى، ثمّ هاجر هجرة طويلة إلى فرنسا وسويسرا والولايات المتّحدة. في هذه الغضون، في 1992 تحديداً، حلّ في المقعد المارونيّ عن دائرة بيروت الأولى، الذي ارتبط منذ 1960 باسم والده بيار، غسّان مطر. مطر سوريّ قوميّ ينتمي إلى الحزب الذي ينتمي إليه حبيب الشرتوني، قاتل بشير الجميّل. حين عاد أمين إلى لبنان في 2000، وجد أنّ سلطة الوصاية استكملت “سرقة” حزبه، وحزب أبيه، واضعةً على رأسه قيادة مطواعة لها.
لكنّ عهد أمين الجميّل شهد تطوّراً آخر لم يكن قليل التداعيات. مع انحسار سلطته عن مناطق المسلمين، أبدتْ مناطق المسيحيّين برَمَها بهذه السلطة: من لا يستطيع أن يحكمـ”ـهم”، لماذا ندعه يحكمـ”ـنا”؟. القادة الشبّان الذين صعدوا مع بشير، ولم يستسيغوا أصلاً ما اعتبروه رخاوة في أخيه الأكبر، انقضّوا على قيادة “القوّات اللبنانيّة”. وفي عالم من المكائد والعنف، اجتمعت أفعال العائلات الصقَليّة وأفعال الضبّاط الإنقلابيّين. هكذا تمرّد القياديّان القوّاتيّان إيلي حبيقة وسمير جعجع على فؤاد أبي ناضر الذي مثّل خالَه أمين الجميّل على رأس “القوّات”، ثمّ انقلب حبيقة على جعجع ليوقّع، أواخر 1985، “الاتّفاق الثلاثيّ”، المرعيّ سوريّاً، مع نبيه برّي ووليد جنبلاط. ولأنّ هذا الاتّفاق لم يكتف باستثمار الانهيار المسيحيّ، بل حاول تكريسه ومأسَسته، انقلب جعجع على حبيقة وأخرجه من المناطق الشرقيّة، فحين حاول العودة صدّه جعجع و”جيش أمين الجميّل” معاً، وأسقطا “الاتّفاق الثلاثيّ”.
في هذه الغضون، رحل رموز جيل الآباء. في 1984 توفّي بيار الجميّل، وفي 1987 كميل شمعون. أمّا جيل الأبناء، مرموزاً إليه بحبيقة وجعجع، فنمّ عن تحوّلات طبقيّة ومناطقيّة تواكب التغيّر الجيليّ داخل الزعامة المارونيّة، تحوّلاتٍ لم يعد يضبطها ضابط بعد رحيل بشير. حبيقة المولود في 1956 ينتسب إلى طبقة وسطى دنيا لا تختلف إلاّ قليلاً عن المنبت الاجتماعيّ لسمير جعجع المولود في 1952. الأوّل تعود عائلته إلى بسكنتا في المتن، لكنّه تربّى في ضواحي بيروت الشرقيّة. الثاني من بشرّي في الشمال، عُرف عن شبابه الأوّل نفور من “الإقطاع” و”العائلات التقليديّة” بما فيها عائلة الجميّل نفسها.
حبيقة لم تعمّر “زعامته” طويلاً. سمعتُه لم تعمّر أيضاً. لقد أطلّ اسمه على الدنيا بوصفه منفّذ المذبحة التي نزلت بمخيّم صبرا وشاتيلا بُعيد مقتل بشير الجميّل. تلك المذبحة المهولة التي أشرف عليها أرييل شارون، زاد في دناءتها حصولها بعد مغادرة المقاتلين الفلسطينيّين لبنان. العنوان الثاني في سيرة حبيقة كان “الاتّفاق الثلاثيّ” الذي لجأ إلى زحلة بعد إسقاطه، والسلطة الفعليّة في زحلة للأمن السوريّ. في عهد الوصاية، بُعث نائباً عن المتن الجنوبيّ ووزيراً. لقد كان مقرّباً جدّاً من ذاك العهد ومُدلَّلاً بالتقديمات الممنوحة له كي يوطّد زعامةً شغلها من قبل إدوار حنين ونديم نعيم. في 2002 اغتيل بتفجير كثرت التكهّنات في صدد منفّذيه. بين حلفائه الجدد قلّةٌ ظلّت حتّى النهاية تمسّه بأطراف الأصابع.
سمير جعجع ارتبط الظهور الأوّل لاسمه بالمشاركة في جريمة إهدن عام 1978. على مدى عمله السياسيّ والعسكريّ اتُّهم بجرائم كثيرة، في عدادها مقتل رئيس الحكومة رشيد كرامي عام 1987. بعض هذه التّهم بُرّىء منها، بعضها لا يزال مُشكَلاً. في مطالع 1990، وبعد موافقته على “اتّفاق الطائف”، نشبت بين قوّاته وبين ميشال عون وجيشه “حرب الإلغاء”. حين عزف عن المشاركة في سلطة ما بعد الطائف سيق إلى السجن الذي بقي فيه حتّى 2005.
جعجع حوّل “القوّات” إلى حزب سياسيّ، كما لو كان يقطع مع ماضيه المليشياويّ. ومع قيام 14 آذار، بعد اغتيال رفيق الحريري، بدا أنّه أكثر السياسيّين اللبنانيّين قابليّة للتغيّر. كان الأكثر آذاريّةً والأشدّ جذريّةً في التزامه بالسلم الأهليّ وفي رفضه المساومة مع “حزب الله” وفكرة الدولة الموازية. مارونيّته صارت أقلّ قليلاً ولبنانيّته أكثر قليلاً. صوفيّته، أكانت حقيقيّة أم مفتعلة، تراجعت. مواقفه السياسيّة وتعبيره عنها باتت تتّسم بعقلانيّة أعلى. موقعه الأهليّ في بشرّي يعطيه قاعدة انطلاق صلبة.
حينما نشبت الثورة السوريّة اندفع في تأييدها بلا تحفّظ، وحين تحوّلت مسألة السوريّين في لبنان موضوعاً للمزايدات العنصريّة السخيّة مال إلى الاقتصاد في التعبير.
إبّان سجن جعجع، غادر “القوّاتِ” قواتيّون كثيرون اعترض معظمهم على دور زوجته، النائب لاحقاً، ستريدا جعجع. ثمّة من تحدّث عن ميل توريثيّ عند “الحكيم” لا ينسجم مع مزاعم عصريّة وديمقراطيّة يزعمها. نتائج الانتخابات الأخيرة التي منحت “القوّات” كتلة نيابيّة من 15 نائباً همّشت هذا النقد وسلّطت الضوء على فعاليّة قواتيّة غير مألوفة في باقي القوى السياسيّة. أمّا في حدود القدرة على التكهّن بأوضاع شديدة الزئبقيّة، فيتبدّى أنّ جعجع أكثر الزعامات المارونيّة الحاليّة قابليّة للبقاء، وربّما التوسّع.
رؤساء وعائلات
بعد عهد أمين الجميّل، انتُخب رينيه معوّض رئيساً للجمهوريّة. لكنّ الرئيس الشهابيّ الجديد الذي وُصف بأنّه “يريد تطبيق الطائف”، قضى بانفجار بعد 17 يوماً على انتخابه. لم يكن من الصعب، سياسيّاً على الأقلّ، اعتبار المتضرّرين من تطبيق الطائف المستفيدين من تفجير معوّض. بعده، وعلى اختلاف في الظروف، انتُخب للرئاسة الياس الهراوي ثمّ قائد الجيش إميل لحّود. كان واضحاً أنّ الميل السائد في عهد الوصاية يفضّل أبناء المناطق الطرفيّة، الأقرب جغرافيّاً إلى سوريّا، على أبناء الجبل الذين شكّلوا تقليديّاً القاعدة الأوسع والأصلب للفكرة والدولة اللبنانيّتين. مع إميل لحّود، جيء بمارونيّ جبليّ، لكنّه عارٍ من كلّ تأييد في طائفته، ناهيك عن الطوائف الأخرى. الذين فرحوا بـ “لا طائفيّة” لحّود كدليل على محاربة الطائفيّة في عهد الوصاية فاتَهم أنّ الأوصياء طائفيّون جدّاً، في سوريّا كما في لبنان. بعد العهد المذكور، لم تنتج التوازنات الدقيقة، بل القاتلة، أكثر من ميشال سليمان، وهو الآخر قائد جيش، رئيساً للجمهوريّة.
في ظلّ الهراوي ولحّود وسليمان حلّ انفصال كامل بين الزعامة السياسيّة المارونيّة ورئاسة الجمهوريّة. الرئيس لم يعد بذاته حدثاً سياسيّاً. لقد صار، في أحسن أحواله، مناسبة الحدث.
تخبّط العائلات السياسيّة التقليديّة لم يعد خافياً. معظمها وجد في 14 آذار طريقاً إلى استعادة الماضي، لكنّ ما فعله كان يضاعف الجرعة الماضويّة في 14 آذار نفسها. كارلوس إدّه الذي ورث عمّه ريمون، لم يكمل الطريق. بعد حياة مديدة في البرازيل وعدم تمكّن من العربيّة، انخرط في السياسة بأفكار دستوريّة حديثة. لم يحالفه الحظّ في انتخابات 2005، كما أخذ على 14 آذار نقص جذريّتها لدى القبول بتسوية ميشال سليمان، فابتعد. داني شمعون، نجل كميل الأصغر، قضى في أواخر 1990، في جريمة مروّعة أخرى من جرائم الحرب. تلك الجريمة التي اختُتمت بها الحرب، بمعنى ما، أودت أيضاً بزوجته وطفليه. الاتّهامات تكاثرت وتعارضت. شقيقه الأكبر دوري حلّ محلّه على رأس “حزب الوطنيّين الأحرار” الذي كاد يغدو اسماً بلا مُسمّى. دوري انتخب في 2009 نائباً عن الشوف، وهو ما لم يتكرّر بعدذاك. هو الآن في السابعة والثمانين. ابنه كميل دوري شمعون خاض انتخابات 2018 عن الشوف لكنّه لم ينل سوى 1084 صوتاً.
آل الجميّل وآل فرنجيّة قصّة أعقد. بيار أمين الجميّل خاض الانتخابات عن المتن وفاز في 2000 و2005 كما تولّى مقعداً وزاريّاً، لكنّ جريمة أخرى أودت به هي إحدى الجرائم التي بدأت باغتيال رفيق الحريري واستهدفت وجوهاً من 14 آذار. شقيقه سامي حلّ محلّه. سامي كان قد أسّس “حركة لبناننا” التي ذكّرت البعض بالتمايز المبكر لعمّه بشير عن التسوويّة الكتائبيّة. بعد اغتيال شقيقه انتُخب عن المتن في 2009 وفي 2018. ابن عمّه نديم بشير الجميّل انتُخب في 2009 نائباً عن بيروت. بعض المعلّقين ذكّرهم ثنائيّ سامي ونديم بثنائيّ أمين وبشير، لكنْ إذا صحّ أنّ في الأمر تكراراً فهنا يقف التكرار. لقد تولّى سامي رئاسة “حزب الكتائب” بعد أبيه، ووُصف بأنّه يحمل مشروعاً لتجديد الحزب لا تموّهه الوراثيّة التي وفّرت له الصعود.
واقع كهذا طرح، ويطرح، أسئلة مشروعة يعزّزها ضمور الكتائب وانكماش تمثيلها النيابيّ: فماذا يعني تجديد حزب بات عمره 82 سنة؟ وباستثناء ولاء عائليّ ومتنيّ لآل الجميّل، هل تملك الكتائب اليوم ما يكفي من مبرّرات تميّزها عن كلّ من “القوّات اللبنانيّة” و”التيّار الوطنيّ الحرّ” لميشال عون؟
هموم آل فرنجيّة من نوع آخر. لقد توفّي سليمان الجدّ في 1992، بعدما رشّح نفسه في 1988 لرئاسة الجمهوريّة. حفيده سليمان توني تولّى قيادة العائلة وتنظيم “المردة” الذي أسّستْه إبّان الحرب. الوريث أظهر عن حنكة في سياسات القسوة والمكائد التي اشتُهرت بها تلك المنطقة. استفاد من خدمات نظام الوصاية وتقديماته، هو الذي كان أحد أقطابه، وضمّ هذا الرصيد إلى خدمات كان وفّرها، في السبعينات، جدّه كرئيس جمهوريّة ووالده كوزير. سلّم الراية في انتخابات 2018 الأخيرة لنجله توني سليمان فرنجيّة.
آل فرنجيّة لم يتوسّعوا ولم ينكمشوا. إنجازهم هو الحفاظ على النفس، لا بفعل الخدمات والتنفيعات التي أتيحت لهم فحسب، بل أيضاً بسبب تماسك التركيب العشائريّ في الشمال الذي يمنح أسياده أعماراً سياسيّة أطول. هذا ما لا يصحّ في الجبل طبعاً.
في المجمل، يبقى أنّ المهنة الدمويّة المتوارَثة، المسمّاة زعامة طائفيّة، مسكونة بالكثير من نداءات الماضي ومن أشباحه. جدود وآباء وأبناء وأخوة وأعمام…، شخصيّات شكسبيريّة وقضايا مأسويّة تحضّ الورثة على أداء واجب مقدّس. إنّه جلد الأحياء بموتى لا يموتون. الراحلون يُراد استنطاقهم، والماضي يراد تكراره، وهذا مستحيل.
العونيّة والرئاسة “القويّة”
ميشال عون أنجبه تاريخ الإخفاق المسيحيّ وفصول تراكمه. صحيح أنّه، بعد نجاحه في بلوغ الرئاسة، أعاد بناء الصلة التي انهارت بين رئيس الجمهوريّة والزعامة المارونيّة. فهو صاحب الشعبيّة الأقوى بين الموارنة وسائر المسيحيّين. وصحيح أيضاً أنّه أحدثَ تغييرات عميقة وغير مسبوقة، خصوصاً بعد “تفاهمـ”ـه مع “حزب الله”، في المزاج والحساسيّة المسيحيّين. لقد صارا أبعد عاطفيّاً عن الغرب وأقرب، ولو لفظيّاً، إلى بشّار الأسد وحسن نصر الله وإيران.
لكنّ البشيريّة التي استعيدت مع عون بوصفها “قوّة”، جاءت برهاناً صارخاً على المعضلة التي لا علاج لها للبشيريّة وللعونيّة. فتجربة 1982 كشفت أنّ في وسع عبوة زرعها سوريّ قوميّ أن تنهي حياة رئيس مُنتخَب وأن تقضي على مشروعه. هذا كان كافياً لكي يبثّ في المسيحيّين، الأعرف والأذكى، حيرة عميقة في صدد “القوّة”، كما في صدد التموضع حيال الدولة والمجتمع.
عون، لا سيّما بعد بلوغه الرئاسة، أراد أن يعيد المعادلة إلى بساطة ما قبل بشير: “الرئيس القويّ” و”العهد القويّ”. كان واضحاً أنّ الغثّ، هنا، أكثر كثيراً من السمين، وأنّ استعادة البشيريّة بوصفها “قوّةً”، لن تغدو، في زمن الضعف، غير نسخة باهتة عن أصل باهت. الزجل حلّ بدلاً عن ضائع.
أبعد من ذلك: نجمت العونيّة، إلى حدّ بعيد، عن هذا الضعف الذي عزّزه ميشال عون نفسه بـ “حرب التحرير” و”حرب الإلغاء” قبل لجوئه المديد إلى فرنسا. بالحربين هاتين تمكّن نظام الأسد من دخول المناطق التي منعه أمين الجميّل وسمير جعجع من دخولها. تناقضٌ آخر أقام في الاستخدام العونيّ لـ “القوّة”: ذاك أنّ “شرعيّة المقاومة” و”شرعيّة البندقيّة” كتائبيّتان وقوّاتيّتان أكثر كثيراً ممّا هما عونيّتين. هذا ما يفسّر الالتباس، بل الارتباك، حيال البشيريّة بوصفها القوّة – المثال مسيحيّاً، لكنْ بوصفها ذات أصول كتائبيّة وقوّاتيّة كذلك. إنّه يفسّر أيضاً ذاك الاستئجار الموسميّ العونيّ لمقاومة “حزب الله”، على طريقة الصلعاء المتباهية بشعر جارتها.
في الحالات كافّة، لم يعد المسيحيّ المتوسّط، بعد اتّفاق الطائف الذي غيّر المعادلات وأضعف الرئاسة المارونيّة، قادراً على قراءة السياسة اللبنانيّة وتعقّلها. لقد فقد أدوات تحليلها فصارت عنده لغزاً عجائبيّاً يعالجه بالسذاجة الفولكلوريّة أحياناً، وبالعنتَرة الفارغة في أحيان أخرى. العونيّة، بمعنى ما، هي اجتماع السذاجة والعنتَرة اللتين تقودان معاً إلى تحويل حسن نصر الله إلى فُرجة مثيرة للانبهار.
بسبب الضعف واستحالة الاستعادة البشيريّة، كان لا بدّ أن تتضخّم تلك الظاهرة بالمعاني السلبيّة والدلالات الضدّيّة: ضدّ السنّة لأنّهم، من خلال رفيق الحريري، انتزعوا الدور التقليديّ للمسيحيّين حيال الغرب. ضدّ الدروز بسبب حرب الجبل. ضدّ “القوّات” لأنّهم ميليشيا صادمت الجيش وصادمها. فاقم هذه الضدّيّة وألبسها ثوب المظلوميّة أنّ “الشركاء في الوطن” من المسلمين لم يكترثوا بتهميش المسيحيّين إبّان عهد الوصاية. أكثر من هذا: استفاد “الشركاء” من هذا التهميش وملأوا الفراغات التي خلّفها. استمرّ هذا النهج إلى ما بعد 2005 كما نمّ عن ذلك إنشاء “التحالف الرباعيّ”. أوضاع مسيحيّي العالم العربيّ واللجوء السوريّ الكثيف بعد الثورة والحرب الأهليّة السوريّتين فاقمت السلبيّة والضدّيّة.
والعونيّون يشبهون العونيّة. إنّهم جمهور ضئيل التسيّس، جزء أساسيّ منهم تساقط من أحزاب مسيحيّة تعرّضت للتآكل، ومن عائلات أفلَ نجمها، تجتمع على كراهية الكتائب والقوّات وزمن سيطرتهما، وعلى “حبّ الجيش” الذي لم يعد الجيش الذي أحبّوه قبلاً. جزء آخر مهنيّون ومتعلّمون جاؤوا إلى السياسة من سذاجات عامّة غير سياسيّة ومن “حِكَم” أو تصوّرات إنشائيّة عن “العصريّة” و”النزاهة” و”العداء للفساد”. هؤلاء رفدتْهم بيئةٌ غالبها أرثوذكسيّ، كانت على صلة ما بقوميّة سوريّة وشيوعيّة جفّت شرايينهما ولم يبق منهما سوى رفض غامض وغاضب لـ “لبنان المارونيّ – السنّي” الذي كفّ بدوره عن الوجود. لهذا يبدو أحياناً أنّ العونيّة حرب على أشباح وتقديس لأشباح أخرى.
هذا البناء السياسيّ ليس مُرشّحاً لحياة مديدة بعد رحيل المؤسّس البالغ اليوم 83 عاماً. ركيزة العداء للفساد تصدّعت قليلاً بسبب الصهرين، الوزير والنائب، كما بسبب روائح غير مُستحبّة، لا سيّما إبّان الانتخابات الأخيرة وصفقات لوائحها. العونيّون الذين ناضلوا كشبّان في عهد الوصاية ضُحّي بمعظمهم لمصلحة رجال أعمال ومتموّلين. ركيزة “القوّة”، عهداً ورئيساً، باتت أيضاً تخلّف إحباطاً كان يمكن، بقليل من التواضع، تفاديه. ركيزة “الدولة” و”الجيش” تفضحها يوميّاً دولةُ “حزب الله” وجيشه.
إنّ ضخامة الإحباط الذي تسبّبه العونيّة نابعة من ضخامة التوقّعات والآمال التي تطلقها.
ما الذي يتبقّى على مدى متوسّط؟ الصهر الصاعد جبران باسيل قد يحجز لنفسه موقعاً ضيّقاً في دائرته الانتخابيّة، البترون. القدرة على تقديم الخدمات قد تتيح ذلك. التخويف من الغريب والتحريض على الآخر يمنحانه الصوت والصدى. لكنّ هذا لا يكفي لزعامة و”تيّار” مُستدامَين.
درج