الغريبة تقول للغريبة/ سمر يزبك
ــ أيائل تحدّق في نقطة عمياء. ومن بياض خشبٍ حفّته أصابعي مقضومة الأظافر تدلّي رؤوسها. أيائل لا تغفو. تلوح قرونها بحبالٍ عُلّقت عليها بقاياي المسلوخة. إذا ما فتحتُ نافذتي وألقيتُ التّحيّة على الشّجرة الّتي صادقتني هنا، هبّت نسماتٌ باردةٌ محمّلةٌ برذاذٍ خفيفٍ لتتمايل بقاياي، وأعود لأنسلّ بينها وأستلقي محدقًة في عيون الأيائل. أيائل في سقف غرفتي تميل برؤوسها في حركةٍ نواسيّةٍ، وينفرد أحدها من حينٍ لآخر بميلٍ متباطئ كعجوزٍ سِئمٍ. تُحرّك الأيائل رؤوسها، تحرّكها وترمش قليلاً. سقفي مليء بالّثريّات الأيائل.
تقولين إنّك فقدت اليقين يا غريبة، هُزمتِ، لكنكِ لم تفقدي روحك المقاتلة! تحدّق الأيائل فيك. أنت ِالنقطة العمياء. أشيحي النّظر عن بقاياكِ المعلّقة.
وطنٌ لك؛ غرفتك والمطارات تتأرجحين معها مُعلّقةً من الحنجرة بصنّارة صيدٍ، ثم ّفي ليلٍ أرِقٍ تناجين الأيائل: هو منفاي السّابع، وما الأمر بجديدٍ! سابعٌ كيوم استراح الرّب! منفية أنت! وفي ما فات اخترت منافي تمرّدك على الضّيق والحدود، وخَبرتِ فيها حد السّكين فوق الرّقبة، يوم مرت بنشوة ٍصوفيّة ٍعند رجمك. ساعتها كنت تتوهجين وتحلّقين مع فعل حرّيتك. حان للمنفى أن يختارك الآن، انطفأت النّشوة، حيث في بطنك ينام القتلى! مرري فعل الهزيمة هذا، مرّريه كريمةً شمّاء.
لِسِنَةٍ تسبلين أجفانك، تتمتمين: لا شيء يكسرك. لا الموت وما يليه ولا ما سبقه، لا ما كان، ولا ما هو آتٍ. أنت بركان الطّين والنّار، ولكن تعرفين أنّ مجرّد اتّساخ جدران غرفتك ذات العشرين متراً قد يُهلك قلبك، فتعيدين طلاءها من جديدٍ، وتحفّين كلّ الزوايا إذا لاح لك نتوءٌ، ترتبين حتّى طيّات السّتارة. تحملقين في نساءٍ عشْرٍ يُقِمْن في إهابك. بكفّك تنزعين قلبك، وتضعينهُ على طاولة المكتب مقابل النّافذة. تُنهين خصومات النّساء العشْر. أعياك ِالتّعب وأنت تضبطين إيقاعهنّ! في عَدوٍ سريع ٍ؛ أنت مع البشر تمشين نحو الهاوية نفسها! حدّقي في السّماء ولا تنسي الحفر، فالتّهلكة أخفّ من زفرةٍ، رغم أنّ الخفّة لا تليق سوى بالحبّ مضاد العدم. كناسكةٍ تغلقين باب غرفتك الوحيدة، تحدّقين في الباب الوحيد لديك، تستدركين، أنّه شجرة. تفتحينهُ، ترمين المفتاح أمامه. لا شيء حولك يستحق الاهتمام، بضعة رفوف ٍمن الكتب وجدرانٍ بيضاءَ. تذكرين شجرة السّرو أمام بيت أمّك، لا تعلمين إذا ما كانت قائمةّ الآن، مثلها أنت تبتلعين الشّر بأنفَةٍ، ترنو عيناك إلى بقاياك المعلّقة بقرون الأيائل. تكشطين الشّر حتّى تطال أظافرك العظام، ثم تتأمّلين نُحولَك المخيف وجلدك الذي يشفُّ عن عظامك، وتردّدين: نصفك رحل، وما تبقّى منه ستمحوه الأيام!
بلا ندم،ٍ طردتِ نفسك من كلّ الأمكنة، من القرية ومن المدينة ومن الجبال.. تذكّري الفتاة النّحيلة التي وبّخَتْها معلّمة الصّفّ، كانت أنتِ: «ارفعي صوتك وقفي كرمحٍ»، يومها كنتِ قد كتبت الكلمات، ولكن لم تجيدي خطابتها. تصمتين وتعودين إلى بيتك، إلى شجرة البرتقال، وكم خبّأتْكِ وأنت صغيرةٌ! كنت تحفرين حفرةً وتضعين فاكِ الصّغير فيها، وتصرخين: سيأتي يوم أكتب فيه وأخطب! بكماء كنتُ أصرخ في الحفر وينبت صوتي في بساتين البرتقال حيث تمتد مساحات الغبطة حتّى تصل إلى سكّة القطار التي قضمت أراضي الفلاحين. هناك حيث يموت النّاس مرتين، معتقدين أنّهم يدافعون عن الحياة.
ــ كلّما نبتَ لي مخلب، اقتلعته بمشرط المعرفة. لحوارنا يصرّ النّاس على رؤية مخالبنا، لكنّني صنعت مصيدةً للشرّ ورميتُ مخالبي فيها. أتقنتُ فنّ الاحتقار، ثم الاستغناء! لا تجزعي! حدّثيني يا غريبة؛ فهنا في عالمٍ كبقعة الزّيت، لا أحد إلّانا!
النّافذة التي يفِدُ العالم منّها إليك ليست صغيرة. تطّل على فناء ٍمشجّرٍ وزقاق مبلّط بإسمنتٍ قرميديّ، على جانبيه شجرتان وعرائش وورود؛ الشّجرة الأولى تصادق جارتك العجوز التي اعتادت مناداتك من تحت النّافذة، تصيح باسمك، تنطقه بموسيقيّة ٍعذبةٍ، وتنسين أنّك أنت صاحبة اسمك. الثانية تُصادقك أنت، ومُهاجران من أوكرانيا، يفصل بينكم حائط ٌرقيقٌ. ينزلان الدّرج بدون أن يبتسما، ويصعدانِه ليلاً مع صوت تنفّسهم المتُهالك، تفكرين أنّ كلّ واحدٍ منهما يتقاسم عشَرة أمتار ٍفي بنائكم المهترئ ذي الثّلاثة طوابق. وأنت تصعدين الدّرج الخشبي الأملس المتآكل بفعل السنين تحشرين جسدك؛ فالدّرج ضيق وغريب، تلامس جدرانه كتفيك، وتتقشّر بين حينٍ وآخرَ، تفكرين لِمَ الأدراج هنا مختنقة هكذا وكأنّها معلّقة من رقبتها أيضاً، تدفعين برفقٍ بابك، وتفتحين السّتارة لتٌعاين الشّجرة وجهكِ، ويبدأ وصالكما اليومي.
لم تكلّمي أحداً منذ أيامٍ، صوتك اختفى، ولم تجرُئي على كتابة حلم الأسبوع الماضي كما اعتدت: رأيت نفسك في درعا عند أقدام مئذنة الجامع العمري؛ تقفين في الحلم وسط جموع من البشر، تراقبين مرور الطّائرات، وكان الموتى من حولك يتطايرون مع غبار القذائف، ثم نظرت إلى السّماء. كانت هناك قذيقة تأخذ شكل حوتٍ أبيضَ تتوجّه نحوك، لترتطم بك، من صدرك خرج الحوت بعد أن اجتاز قلبك وبقيتِ واقفةً، لقد عبر جسدك بلقطة سينما. شهقتِ! ثم فجأة انهارت المئذنة وتساقطت زجاجاً، وحال الزّجاج إعصاراً لولبيّاً واجتاحكِ، وعندها شهقتِ ثانية، ابتلعتهِ وغصّتْ حنجرتكِ بنثراته! استشعرتِ طعم الدّم في حلقك، وعندما استيقظتِ، بصقتهِ واختفى صوتك! هل تروين للشجرة حكاية الحلم الآن؟
ــ بماذا أحدّثك؟ أخاف الذين لا يعترفون بالهزائم!
لي حقّ الألم وحقّ الاشتغال ضد الممحاة العملاقة الآن، ولا شيء عندي أحدّثك عّنه، سوى غرفتي الصّغيرة هذه، ومكتبي الذي حفّفته ولمّعته بأصابعي، لديّ مكتبٌ وشجرةٌ ونافذةٌ وروحٌ مستغنية، لا شيء لديّ أحدّثك عنه، ربما عمود القرميد الأحمر الأسطواني الذي يجانب الشّجرة، وجدرانٌ قديمةٌ تفصل حدود الأبنية الأخرى تعرش عليها جذوع ورودٍ يابسٍة، لكأّنني هنا أعيش من مئة سنةٍ مضت. ها أنت في غرفتك، تقفين أمام شجرة لا يعنيك اسمها ولا نوعها، كل ما يعنيك أنّها لربّما شجرة برتقالكِ التي خبّأتْكِ وهربتِ إليها. أدخلي جذعها واعرجي في اللّحاء كقطرةٍ حتى تبلغي الفنن، حَذارِ من العودة إلى الأرض. أنت تبغيْن العيش فوق الأغصان مثل البارون المعلّق عند كالفينو.
ــ سمكة أنا، شقّها من رأسها إلى ذيلها، وهم يدهنون صبحاً وعشيّاً بالملح أحشائي النّابضة والمفتوحة! لستُ حتّى على شاطئ، أنا فوق سطحٍ معدنيّ زلقٍ! أستطيع تذكّر ظهيرةٍ قائظةٍ عندما انكشط جلدي عن مرفقيّ، كنتُ في الرّابعة عشْرة، وفي المدرسة تأمرنا مدرّبة الفتوّة العسكريّة بالزّحف على أكواعنا وبطوننا؛ لم يكن ما مرّ معنا سوى إشارتٍ لما نعيشه الآن. صغيرات كنّا، لم تنبت نهودنا بعد، فتياتٌ ضاحكاتٌ في مدرسةٍ على أطرف مدينةٍ بحريةٍ. نحبّ بعضنا، ونكره بعضنا، سعادتنا تلك حالت صورةً باهتة غيّب الّزمن تفاصيلها. تذكرين يومها، زحفتِ في باحة المدرسة، الأخريات صامتاتٍ، تتلوّين أنتِ وتفكرين: خُلِقَ الإنسان قائماً على قدميه، تلك كانت أوّل مراحل الإذلال، نفي إنسانيتّنا عنّا، وتهيّئتنا للسّير في موكب العبيد. كان على قامتكِ أن تنكسر، أنتِ المُختالة بها. متفرجو البيوت المتراصّة التي تجاورالمدرسة يتابعون مسرحيّة الإخضاع، أتذكرين علامَ كان العقاب! ربما كلّ ما فعلتهِ أنّك والأخريات قد نسيتنّ وضع شعار(الشّبيبة)، أو شيئاً كهذا، في بلدنا كان النّظام المدرسيّ عسكريّاً على مبدأ «نفّذ ثمّ اعترض». جنديات كنّا ولم نعرفْ هذا! لقد كنّا جنديات ولم نعرفْ هذا.
وأنتِ تزحفين كنتِ تسمعين صريرعظامك، يراقب المتفرّجون جسدك الذي يجاهد ليتقدّم. ألمٌ حارقٌ في ركبتيّكِ ومرفقيّكِ، تغمضين عينيك في خجل يجللّك، تبدو نهاية الباحة بعيدة، تتكوّرين. ما تذكريه هو عينا المدرّبة ذات القوام المشدود والشّفتين الحادّتين، وهما تلاحقانكِ من بعيدٍ، مراقبتُها لكِ تُشعرك بعارٍ مضاعفٍ. حين عُدتِ مجروحة اليدين رمقتْكِ المدرّبة بقرفٍ؛ كان العرق يبلّل ثيابك ولا تقوين حتّى على النّهوض، بينما تتقافز رفيقاتك على الدّرج.
لزِمَك وقتٌ طويلٌ كي تفهمي أنّ مدرّبة الفتوّة في أعماقها تزدري أمثالك، أولئك الذين لا يزعقون، لكنّ الهواء الحارّ والرّطب المشبع برائحة الذلّ، يخنقهم..
شُغِل النّاس في تفسير كل شيءٍ ليصلوا إلى معاني الموت، الموت بسيط،ٌ حادّ وواضحٌ فتلك اللحظة وأنت تزحفين بمرفقيكِ على إسمنتٍ قاسٍ وقذرٍ وحارق،ٍ جلبتِ لك ما يشبه موتاً ناعماً متقطّعاً، صرْت تختبئين وراء رفيقاتك عندما تلمحين مدرّبة الفتوّة، وتتحاشين النّظر في عيون مدرسيّك، تضبّين أضلاعك في رقبتك، وبعدها ابتلعتِ لسانك. الطّريق بين البيت والمدرسة حياة بهيّة ٌوفسحةٌ بين سجنين، ترقبين ما حولك بعينين خفيّتين دقيقتين. كان اسمك: الذّاهلة! لقد سألت نفسك وأنت تخلعين شرنقتك، تُرى أينبتُ في صدري وحشٌ برأسين أم فراشتين؟ كنت ِتتكلمين مع لحاف سريرك وتصنعين منه قبّة لتحدثّيني، نسيت يا غريبة؟ أَنَيْنَا تجلسان معاً، لتكتبي ما تقولانهِ، ثم تمزّقين أوراقك خشية أن يهزأ بك الآخرون. تحت اللّحاف صنعتِ خيمةً، وبين خيمة السّرير وحفرة شجرة البرتقال دفنتِ أسرارك.
مرّ زمنٌ طويلٌ لتنظري في عيون الأيائل التي تعيشين معها الآن في غرفة صغيرة على أطراف مدينة غريبة، ترسمين الحفر والخيام عبر منافيك السّبع. أخبرتِ الشّجرة أنّ الفتاة التي فقدت صوتها، تكلمت قليلاً، وصرخت غاضبة قليلاً، وهي ذا تُسلبُ الصوت من جديدٍ بعد أن علِقتْ في حنجرتها نثرات الزّجاج. لقد كانت الحكمة التي عرفْتِها أبلغ ما حصل لك، لقد رأيت ما لا يُرى. ثم مضيتِ، بلا صوتٍ تكتبين. هل تعيشين فنّ الهامش العميق المضاد للسّرعة، للظلم، للإمحاء، للامبالاة، للسّخرية من الضعفاء، لِتَجنُّب المكرّر البليد؟
ــ أعيش حيث قبضتُ على رهبة الموت، حيث الأبديّة هي لحظةٌ حقيقة نواجهها
هل هي حكمة الآلم؟
ــ هي الحكمة التي جعلتنا نعيش نبوءات كاساندرا، بل الحكمة التي جلعت منّك كاسندرا، تعلمين موتك.
ــ ما أعلمه أنّي أكتبُ موت ناسي، وأرث الأكفان وحسب….
باريس شتاء 2017
٭ روائية سورية
القدس العربي