الوطنية التي تعني الموت/ سوسن جميل حسن
مهما قيل، تعجز اللغة عن التعبير أمام فاجعة أبوين فقدا أولادهما السبعة في لحظة واحدة. إنها فاجعة لا يمكن وصفها، وحريقٌ لا يمكن للأيام إخماده في صدري الأبوين، فكيف لذاكرةٍ من هذا النوع أن تكون رحيمة؟ كيف لها أن تغادر ساحة الوعي، وتتمنّع على استدراجها إليه؟ سيبقى لهيب الاحتراق متقدًا في صدريهما، مهما حاولا تبريده، ومهما حاولا التصالح مع حياةٍ لم تكن كريمةً في الأساس، ولم تمنح تلك الأسرة، مثل مئات آلاف من الأسر السورية، ما يعزّز كرامتها، ويوفر لأطفالها قسطًا بسيطًا من الفرح والسعادة، على الرغم من علامات الفرح والبسمة التي تعلو وجوههم في صورتهم الجماعية مع والدهم. كانوا فرحين لالتقاط الصورة فقط، مثل بقية أطفال سورية الذين اكتسبوا حكمة الشيوخ الهرمين، وتمسّكوا بأن القناعة أمر لا يفنى، وأن تلك الأفراح الصغيرة تكفي في زمن القهر والجور. هذه حقيقة، فأطفال سورية لم يعودوا يبحثون أو يحلمون إلا بأفراحٍ صغيرةٍ، فيها كثيرٌ من كذب الحياة، وكأنهم يريدون أن يقنصوا من الحياة شيئًا، قبل أن يدركهم الموت المختبئ خلف كل باب يفتحونه.
هي فاجعةٌ كبيرة، وهي، في الوقت نفسه، واحدةٌ من الفواجع دائمة التحقق في سورية. الفواجع التي تشكل الكارثة الكبرى، مثلما هي نتيجة الكارثة الأكبر التي تُحيق بهذه البلاد. ليست مجرد حريقٍ نشب في غفلةٍ من أبوين فقط، هي أفظع وأكثر ترويعًا بأسبابها المباشرة وغير المباشرة، بالظروف المتوفرة بغزارة، لتكرارها بأشكالٍ عدة، تحمل الموت المحقق، الموت الذي يمد لسانه الشيطاني إلى السوريين، ويهزأ بهم، وكأنه يقول: لماذا تكرهونني، وأنا الوحيد الذي يخلّصكم من حياةٍ رخيصةٍ تمارس عربدتها فوق أرواحكم؟ هل تصدقون، بعد كل تلك السنوات الحارقة، والعقود التي سبقتها من إذلال وقهر، أن قيمة الواحد منكم لا تساوي شيئًا؟ أن السوري منكم ليس مواطنًا مهما تبجح المسؤولون بمواطنتكم، وبأنكم غاية ما يخططون ويقدمون ويبتدعون من برامج لإدارة البلاد والعباد؟
تعدّدت أسباب الموت لدى السوريين، فالحرب المشتعلة فوق أراضيها منذ ثماني سنوات قتلت مئات الآلاف، وكان الأطفال من أكبر ضحاياها أمام العالم كله، لم يرحمهم أحد، ولم توقف صور أشلائهم الممزّقة ماكينة الحرب عن الدوران الجبار، فكيف لموت سبعة أطفالٍ لأسرةٍ واحدةٍ أن يحرّك الضمائر أكثر مما حرّكته الضحايا الكثيرة التي حصدت بالجملة وبالإفراد،
لكن هذا الموت الذي أتى على الأطفال بحريقٍ وقع في أثناء نومهم، ملتفّين على بعضهم بعضا كي يتدفأوا، منتظرين عودة التيار ليشعل مدفأةً صارت، على الرغم من كل خطورتها، الوسيلة المتاحة للتدفئة في بيوت السوريين، والتي ليست في متناول الجميع، تعمل على برنامج التقنين، هذا الموت يفتح العقل والضمير على تأمل أسبابٍ أخرى، لا تقل خطورةً عن الموت بأدوات الحرب. السوري مرميٌّ في تحدّي الحياة وحيدًا، يناضل بمفرده، ليقنص حقه منها، لم يكن يحظَى قبل سنوات الحرب بحياةٍ كريمةٍ تليق بإنسانيته، وإلاّ لماذا انتفض على واقعه؟ لم تكن عيشته كريمةً، وكانت أبسط حقوقه منتهكة، وأبسط تلك الحقوق وأكثرها بديهيةً حق المسكن، وحق الخدمات التي توفرها الدولة، أية دولة، لمواطنيها مما تحصله من ضرائب تقتطع من دخولهم. البنية التحتية مهترئة منذ سنواتٍ طويلة، حتى الإنشاءات التي كانت تنفذ حديثًا كانت تنجز تحت سطوة الفساد المستشري في مفاصل الدولة ومؤسساتها، والكل يرى ويسمع، والكل يزفر أنفاس الحنق والعجز معًا، وكأن السوريين كانوا مصابين بيأسٍ جماعيٍّ، ويعيشون الحياة بنزعةٍ قدريةٍ حدّ فقدانهم ثقتهم بأنفسهم، وبأن لديهم حقوقًا كباقي الشعوب التي تعيش بكرامتها، وما يحيط بهم من واقعٍ مزرٍ بكل مفاصله هو قدرٌ لا يمكن تحدّيه. ومع هذا تحدوه في لحظةٍ تاريخيةٍ مشهود لهم فيها.
شرائح عديدة من الشعب السوري كانت تعيش في أحياء مهملةٍ، وفي مناطق عشوائية، حتى تلك المنظمة منها كانت في مدنٍ سوريةٍ عديدة، تُبنى بتراخيص تديرها ضوابط بناء، هي واحدةٌ من غيلان الفساد التي كان لها اليد الطولى والأطول في تكريس الرداءة والبشاعة في أعتى صورها في مدن سورية وأحيائها، والواقع يشهد، فما زالت العشوائيات تحيط بالمدن إسوارًا من الفقر والقهر والبؤس، والأحياء الشعبية التي تبدو وكأنها مدروسةٌ بدقة وعنايةٍ، لتنتج أفرادًا وجماعات يشبهونها.
شبكات الكهرباء في المدن السورية قاصرةٌ منذ زمان عن تأمين الحاجة المنتظرة منها، حتى قبل هذه المرحلة التي يحكمها اقتصاد الحرب، وأساليب العيش معها. كانت الشبكة لا تحتمل العبء الملقى عليها، وكانت الأعطال دائمة، خصوصا في موسم المطر والبرد والعواصف،
كان الناس يلجأون إلى وسائل التدفئة الكهربائية، والمعروف بالنسبة للجميع، جهات حكومية ومجتمعا، أن تحصيل فواتير الكهرباء لا يتم بنزاهة، وأن هناك عديدين ممن يعطلون عداداتهم بالاتفاق مع العاملين المكلفين بقراءتها، أو بأن يغضّوا النظر عن تلك المخالفات لقاء “المعلوم”. الرشاوى هي قانون الظل، يعرف الجميع هذه الحالة، ليس أخلص من الفساد في خدمة الأنظمة التي تعرف لا شرعيتها، وأن وصولها إلى السلطة لم يكن بانتخابٍ نزيهٍ وديموقراطية فعلية. لذلك كان على الشعب أن يتدبّر أمره بطرقه التي يبتدعها في بيئة الفساد والقمع، فليسرق الشعب بعضه بعضا، وليسرق المال العام من لديه الفرصة، ولتمشْ الأمور بأي إيقاعٍ، حتى لو كانت الفوضى المدمرة للوعي والضمير، لا ضير في ذلك، بل إنه الضمان الأكبر لديمومة الحال والسلطة والسطوة والسيادة.
هذا كان زمانًا. ربما سنوات الجحيم السوري الأخيرة جعلتنا ننسى، وكأن ما كان كان في عصور موغلةٍ في قدمها، لكن الحقيقة أنها حصلت أمس، وتحصل اليوم بطريقةٍ أشرس، وربما سيكون الغد أشنع وأوحش وأقسى. كل مبرّرات الموت الرخيص كانت موجودة في سورية، الموت الرخيص برخص حياة أبناء هذا الشعب الذي لم يكن الفرد فيه أكثر من عدد، وربما صفرا إلى يسار كل الحسابات. ليس السوري أكثر من رقم مهمل، حتى في فجائعه، وإلا كيف يمكن طعن روحٍ تتلوّى، وتنزف بغزارة أمام هول ما حدث؟ كيف يمكن الاعتداء على كرامة أبٍ مفجوع، لم يستوعب صدمته بعد وتنتهك أحزانه، بل تنتهك روحه التي تتضوّع برائحة احتراقها بأسئلةٍ فاقت كل أدوات التعذيب وانتهاك الإنسانية، بأي حقٍّ تُبذل أحزانه، وتُعرض روحه المنتهكة عارية على الملأ، ليسأله المذيع عن الأضرار التي لحقت به. يا للهول! هل هناك من ضرر غير موت فلذات كبده مرة واحدة، مثلما لو أن هذا الخبر هو التالي، وليس الأول، وكأنه أمر اختصر بخبر عاجل وانتهى، لتأتي التفصيلات الأهم، الضرر؟ ومن من الجهات العامة زاره ليخفّف من مصابه، وما هي الرسالة التي يريد أن يوجّهها إلى العامة؟ ربما هذا هو الأهم، عليه أن يقف صامدًا مرفوع الهامة أمام الكاميرا، يبتلع دموعه، يبتسم ويوجه رسالةً إلى هذا الشعب “الصامد” ويلومه، لأنه يريد أن يتدفأ ويدفئ أولاده، بينما تتعرّض سورية لمؤامرة كبرى كل العالم ضالع بها؟
أيها الفقراء، يا فقراء بلادي، عليكم أن تموتوا من البرد والفقر والجوع والذل والحرمان والتشريد والتهجير “فداء للوطن”، هذه هي الوطنية، اطلبوا الموت بكل الطرق، كلها طرقٌ إلى الشهادة، فالجنة بانتظاركم، واتركوا هذا الوطن بجحيمه، إنه جنة أمراء الحرب وأسيادها، أولئك الذين يبنون صروحهم وقلاعهم فوق الجماجم ويسقون حدائقهم بالدماء.
لا.. أنتم جديرون بالحياة، والوطن الذي في بالكم جديرٌ بكم، يلزمكم أمرٌ واحدٌ حتى تنطلقوا في درب الحياة، أن تعودوا إلى أنفسكم وتدركوا ذواتكم الإنسانية من جديد، فالوطنية تعني الحياة، وليس الموت.
العربي الجديد