نوافذ تطلّ منها الحرب/ ابراهيم الزيدي
أعرف أن ما حدث، ويحدث في سوريا، استهلك ما يوازي مساحتها من الصفحات المكتوبة، وحين تضع الحرب أوزارها، سيستهلك أضعاف ذلك. فنحن ما زلنا في المرحلة الأولى من الزلزال، في حركته الارتدادية ثمة ما يفوق التصور من المآسي التي بدأت تلوح بوادرها للمتبصرين. فبذور المشاكل الاجتماعية والاقتصادية أصبحت موجودة في كل بيت. الآن صار بعض تلك المشاكل يطلّ من نافذة الحاجة، وهي النافذة التي تمتلك شرعية فتحها كل العائلات السورية التي ما زالت في الداخل، سواء تلك العائلات التي نزحت إلى المحافظات الأخرى، أو التي بقيت في مناطقها، فمشاكلنا ما زالت تقيّد ضد مجهول، تارة يكون ذلك المجهول هو الحرب، بدون الخوض في أسبابها، وتارة يكون ارتفاع قيمة صرف الدولار هو المشكلة، وتارة أخرى الغلاء الذي ينهش جيوبنا حين نمرّ بالأسواق. وها هو الشتاء يفتح نافذة مطالبه كعادته كل عام. وكأنه يريد من خلال هذا البرد الوقح أن يذكرنا بلحظات الدفء التي فقدناها منذ أن زغرد الرصاص في عرس الحرية.
وليس في جدار أيامنا ثقب لمفتاح، نتوسل به المستقبل بأحلام يقظتنا، الآن كل النوافذ عمياء، الحرب وحدها تبصر أهدافها، وحنظلة مستقبلنا يدير لنا ظهره، وأظافر الشك التي تنهش حلم وحدة البلاد، تهيئنا لإعادة النظر بكل الشعارات التي ملأت الكتب المدرسية، وأثقلت بها جدران المدن السورية. تلك الشعارات التي كلما أكلتها العوامل الطبيعية تعود إلينا بطبعة جديدة منها، مزيدة ومنقحة. وما زال البعض يتوسد الحطب في حديقة الأوهام، يتدفأ على جمر الذكريات، ويتحدث عن إعادة الإعمار، متناسياً أن بناء الإنسان أولاً، أمّا أولئك الذين يعتقدون أن السلام هو الغاية النهائية للحروب، فإن كرة اعتقاداتهم لا تقع في مرمانا، فالقائمون على المقتلة السورية لا يهمهم السلام، إنهم ينتظرون حطبنا أن يجف، ليضرموا فيه نارهم.
لم ينج أحد من الحرب، غير أولئك الذين يتنقّلون بين الامتيازات، أمّا الذين يدارون رجفة الذل في أياديهم الممدودة لاستلام السلة الغذائية التي تقطعت بها السبل، فإنهم يشكلون السواد الأعظم من السوريين. بالنسبة للطبقة الوسطى التي يتغنى بها المثقفون، والتي هي الحامل الموضوعي لتوازن الدولة، ثقافيّاً؛ واجتماعيّاً؛ وسياسيّاً، فقد انقسمت إلى قسمين، صعد أحدهما إلى فوق، حيث النهم للسلطة والمال، ونزل الآخر إلى تحت، حيث الفقر؛ وأمراضه التي يتعذر حصرها الآن. وما زال الخيال السوري يبتكر مبررات الحياة، فالمدن التي تجلس على أنقاضها تحولت إلى صورة شعرية، لا تحتاج كتابتها لأكثر من خيانة الحرب التي أنهكتنا. والأهل الذين نثرتهم الحرب في كل الأصقاع، تحولوا إلى أصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي. أما الأبواب التي نام الرنين في ذاكرة أجراسها، فقد تحولت إلى لوحات فنية، تؤسس لذاكرة عصيّة على النسيان. فشلالات الشوق يمكنها أن تنسدل على سرير اللون والكلام على حد سواء. مهما تمادت الكوابيس الوطنية في غيها.
لقد خرجنا من دائرة الخسائر الصغيرة، والأحزان الصغيرة، والأحلام الصغيرة، وتحولنا إلى طبقة ثرية، وثمة دول ومنظمات وهيئات كثيرة تتاجر بثروتنا من الخسائر والأحزان والأحلام. سوريا الآن مجموعة معلومات، مجموعة هائلة من المعلومات، معلومات سياسية؛ معلومات عسكرية؛ معلومات جغرافية؛ تاريخية؛ اقتصادية؛ دينية؛ عشائرية؛ عرقية؛ وثمة شحّ في المعلومات الاجتماعية، فالملاحظة الأبرز في الشارع السوري هي طغيان حضور الإناث، طغيان يشي بتغير ديموغرافي هائل، وهذا التغير لن يلبث مستكيناً لدور المرأة السابق في الحياة، حتماً سيعيد توزيع الأدوار، وهذا التغير الديموغرافي إلى الآن لم يتعرض له علم الاجتماع في الدراسة، وبالتالي سيتسرب تأثيره بدون (قنونة) سيبدأ عشوائياً قبل أن يستقيم، ما يؤكد على أنه لابد من إيجاد مقاربة جديدة للحالة الاجتماعية في سوريا، تلك الحالة التي ستنتج شكل الحياة (سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً) في سوريا المقبلة. يضاف إلى ذلك الهجرة التي شهدتها أغلب مناطق الريف في سوريا من جنوب دمشق إلى شرق الفرات، وآثار تلك الهجرة على مستقبل الحياة. الناس الآن تتوكأ على أمل فقد صلاحيته منذ زمن بعيد، وقد بلغ الصمت سن الرشد.
(فرط السكوت على فرط الأذى سقم / قد يسكت الجرح، لكن ينطق الألم)
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي