خمس سنوات على رحيل أنسي الحاج … الغياب بجرعات صغيرة
خمس سنوات على رحيل أنسي الحاج. الشعراء الكبار يجاورون الأبدية. لا عمر لغيابهم، فهم يعيشون ويموتون خارج رتابة الزمن. يخلقون زمنهم الخاص، ثم يتركون للعالم أن يأتي إليهم. يصنعون ذائقتنا، يؤطرون حياتنا، يتركون لنا أن نعيش قصيدتهم كأنّها قصتنا الحميمة. يؤسّسون لمستقبل دائم التجدد. إنّهم في قلب الوقت. والوقت، أساساً، يتشكّل من لحظة اشتعالهم.
سيرة «شاعر ملعون»
لا تذكر قصيدة النثر إلا ويذكر أنسي الحاج (1937 ــ 2014) معها وفي قلبها وروحها ورؤيتها، وهي القصيدة التي خاض مع أدونيس في مجلة «شعر» معركة تعريفها، قصيدة تحتفي بالشعر الخالد والأشكال المتغيرة. بدأ أنسي الحاج في مقدمة ديوانه الأول الصاعق «لن» (١٩٦٠) معركة، بحسب الناقدة خالدة سعيد، هي الأعنف منذ انطلاق حركة الشعر الحديث و«جعلت منه الناطق الرسمي باسم قصيدة النثر (في تلك المرحلة على الأقل)، ليس فقط لأنها تجلت في أعماله، بل قبل ذلك كله لأنه حمل لواء الدفاع عنها واحتل موقع التطرف في تبنيها». كانت بيروت تغلي، مختبراً ثقافياً وشعرياً وفضاءً تجريبياً عميقاً ومركّزاً: يوسف الخال يحاضر في «الندوة» اللبنانية عام ١٩٥٩ في انتقال القصيدة من الإطار التشكيلي ونسق التفاعيل إلى نظرة جديدة في الحياة والإنسان، محمد الماغوط ينشر «حزن في ضوء القمر» (١٩٥٩)، ثلاثة مقالات لأدونيس في مجلة «شعر» وأبرزها ما جاء في العدد ١٤ عام ١٩٦٠ لتقديم مفهوم الشعر الحديث ومفهوم قصيدة النثر مستلهماً الكتاب المرجع للناقدة الفرنسية سوزان برنار التي وضعت لهذه القصيدة شروطاً ثلاثة: الإيجاز والتوهج والمجانية. مقدمة «لن» دارت في هذا الفلك، لكن أنسي الحاج أعطاها بعداً رابعاً: هوية التمرد أو «هوية اللعنة»، ليقول عنها مقتفياً أثر الشاعر الفرنسي أنتونان آرتو: «قصيدة النثر عمل شاعر ملعون».
أراد أنسي، في «لن» و«الرأس المقطوع» (١٩٦٣) تحديداً، للقصيدة أن تكون فضاءً لطاقة الهدم وطاقة البناء، وأن تعثر كما قال رامبو على «لغة تختصر كل شيء، العطور، الأصوات والألوان» أو كما قال بودلير قصيدة تستعمل الشكل المرن والمتلاطم الذي يتوافق وتحركات النفس الغنائية وتموجات الأحلام وانتفاضات الوجدان. مرونة ظهرت أكثر في ديوان أنسي الثالث «ماضي الأيام الآتية» (1965).
ولد أنسي الحاج في قيتولي (قضاء جزين) عام ١٩٣٧، ليتابع دروسه في مدرسة «الحكمة»، ويبدأ حياته المهنية منذ عام ١٩٥٦ محرراً للصفحة الأدبية في صحيفتي «الحياة» و«النهار»، محوّلاً الأدب من زاوية يومية إلى صفحة متكاملة. أصدر بعدها «ملحق النهار» الثقافي الذي أسهم في مواكبة حداثة بيروت الأدبية والثقافية في سبعينيات القرن الماضي، يعاونه شوقي أبي شقرا الذي انضم بدوره إلى أسرة مجلة «شعر». المجلة التي كانت تمثل الجناح المشرقي للحداثة الأدبية العربية، بعد أن اكتمل جناحها المغربي بمجلة «أنفاس» التي صدرت في الرباط عام ١٩٦٦. حين توقفت مجلة «شعر» كتب أنسي «لقد سئمنا الجلوس وراء المكاتب وانتظار شعر الآخرين الذي لا يُقرأ، والتطلع في وجوه بعضنا البعض ونحن ننقص شهراً بعد شهر ويدب فينا الكسل. الكسل المنقذ، المنقذ من تحول الشعر إلى وظيفة والشاعر إلى كرسي». استمر أنسي في «النهار العربي والدولي» بعد نهاية مجلة «شعر» عند العدد ٤٤ عام ١٩٧٠، ليصدر في العام ذاته مجموعة «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» ويتبعها بـ «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» (١٩٧٥) وكتاب مقالات من ثلاثة أجزاء بعنوان «كلمات كلمات كلمات» (١٩٧٨)، ثم «الوليمة» عام ١٩٩٣ و«خواتم» بجزأين من التأمل الفلسفي والوجداني (١٩٩١ و١٩٩٧). بعد وفاته، أصدرت ابنته الشاعرة ندى الحاج نصوصاً غير منشورة في حياته بعنوان «كان هذا سهواً» (دار نوفل) عام ٢٠١٦. استقال أنسي الحاج من إدارة تحرير «النهار» عام ٢٠٠٣، وانضمّ عام ٢٠٠٦ إلى أسرة جريدة «الأخبار» في نواتها التأسيسية، ليجعل من أعداد يوم السبت وليمة تبدأ قراءتها من الصفحة الأخيرة. «احفر في الهاجس، تابع الحفر، حتى ينبجس اللب من الطرف الآخر. فإما جوهرة وإما فرَج الفراغ»، أنسي الحاج لا يتكرر، شاعراً وإنساناً.
منتخبات شعرية وشذرات لأنسي الحاج: النبع لا يطلب ماء
اختيار وترجمة: رشيد وحتي
رسالة من جاك بيرك
سيدي العزيز،
كان ممكنا لـ «قداس المرأة» هذا «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» أن يمشي بعكس رفضك الأوّل، رفض «لن» (1960) بكل ما يحويه من بهجة وإيجابية. هل لنا أن نقول بأنكم كتبتموه «عكس الكلمة»؟ كلا، لأن كلمتك تحب نفسها إذ تقول ذلك وأنتم تحبونها. أنتم تعثرون، على كل حال، على تناغم متدفق وكأنه صاف، يجتمع فيه النداء الحسي للمرأة وتقديس الأم العذراء. هو تجدد، إذن، لاستلهامك، في الإصرار على «العروبة» الثورية التي تقترح دوما على نفسها «(إحراق) العالم بشموس العودة».
سيكون جديراً ببلدك، وبالعرب عامة، أن يصغوا إلى صوت شاعر يدعوهم إلى توحيد ما تجزأ من جديد، وإلى الملاذ بالوحدة ضد الازدواج، عل هذه المرافعة عن الحنان تقنعهم، أو بالأحرى تخضعهم لعودتهم إلى أنفسهم.
شكراً لإرسالك هذا الكتاب الرائع، حيث يتجاوب بهاء المادة مع جمال الكلمة، وتيقنوا، من فضلكم، أني أكن لكم كل الود.
پاريس، 5 سپتمبر 1977
أنسي الحاج سرياليّاً في غنوصيّته
ساران ألكسندريّان*
سآخذ، هنا، السّرياليّة، لا بمعناها التاريخيّ، بما أنّ السّرياليّة انتهت كفعل جماعيّ، وإنّما بمعناها الكيفيّ. رومانسي وسريالي، صارتا كلمتين مفتاحيّتين لتاريخ الشعر، كما لو أنّ الشاعر الأصيل لا يمكن إلّا أن يكون هذا أو ذاك، كانت الرّومانسيّة تنهض على هوجة الأهواء، والسّرياليّة على التّواشج الأكيد للحلم والواقع.
■ ■ ■
وحقّاً، بقراءة شعر أنسي الحاج، كنت في حماسة رؤيته يتناول بطريقة شخصيّة تماماً قيماً مجّدها الشّعراء المذكورون آنفاً، دون أن يقلّد أحداً منهم. كان بوسعه أن يعنون، مثل پّول إلوار، ديوانه بـ«الحبّ الشّعر»، لأنّه يعيش هاته الحالة من التّعارض، الّتي يصفها أندريه بروتون في ما السّرياليّة، بقوله: «لم يكن ثمّة، في نظري، شيء يمكن غفرانه إلّا… إلّا وبعيداً «الحبّ الشّعر»، لتستعيد ها هنا العنوان الوهّاج والمرتعش لكتاب لپّول إلوار: الحبّ الشّعر، اللّذان لا يفترقان في جوهرهما، ويعتبران الخير الوحيد». نلحظ، لدى أنسي الحاج، هذا الإصرار المزدوج على أن يجعل من القصيدة شكلاً أقصى للحبّ، ومن الحبّ قصيدة سامية معيشة، وهو ما يتأكّد شيئاً فشيئاً بقراءة شعره، حيث نرى بأنّه انطلاقاً من التمرّد والحلم يبلغ هذا الهدف.
■ ■ ■
أقنعتني قراءة شعر أنسي الحاج إذاً أنّه كان وريثاً روحيّاً للشعراء العظام الذين درستهم في كتابي السّرياليّة والحلم، أولئك الذين كان يقول عنهم أراغون إنّهم كانوا جميعاً «رؤساء جمهوريّة الحلم». لكنّ في شعر أنسي الحاج شيئاً لا نجده في السّرياليّة التّقليديّة، شيئاً مضافاً، يعطيه فرادة خاصّة. شيئاً لحظته خصوصاً وأنا أقرأ قصيدته النّهريّة «الرّسولة بشعرها الطّويل حتّى الينابيع».
تذكّرت مقطعاً من بيان السّرياليّة حيث يصف أندريه بروتون سلسلة من الكتّاب قائلاً: «شاتوبريان سرياليّ في نزعته الإغرابيّة. بودلير سرياليّ في الأخلاق. مالارميه سرياليّ في النّجوى. سان-پّول-رو سرياليّ في الرّمز». دون أيّ قدرة على المقاومة، وأنا أقرأ «الرّسولة بشعرها الطّويل حتّى الينابيع»، قلت في نفسي: «أنسي الحاج سرياليّ في غنوصيّته». وهو ما بدا لي في الأبيات الثّلاثة الأولى: «هذه قصّة الوجه الآخر من التّكوين/ وجدتها وعيناي مغمضتان/ فالطّريق حبيبتي».
■ ■ ■
استنتج أحد أجود المعلّقين على التّراث الغنوصيّ بأنّ الغنوصيّين كان يسمّون المرأة Ennoïa، أي: الفكرة الأولى للّه. كانوا يعتقدون بأنّ اللّه فكّر في المرأة قبل أن يخلق الرّجل. من هنا تتأتّى الأنثويّه الصّوفيّة في الغنوصيّة.
■ ■ ■
من البديهيّ أنّ قصيدة أنسي الطّويلة نشيد حبّ دنيويّ، يبتهل فيه الشّاعر حبيبته الّتي ولدته. لكنّها أيضاً قصيدة دينيّة تفرد مساحات لإمكانيّات خلاص البشريّة، خلاص لن يتحقّق إلّا إذا تمّ تشريف المرأة لمزاياها الرّوحيّة، لا لوظيفته الجسديّة حصريّاً كزوجة وأمّ.
■ ■ ■
استعاد أنسي، في لاوعيه، ثيمات وهّجت غنوصيّة الأزمنة الأولى. ممّا يثبت حقّاً، كما تمنّى ذلك، أنّه شاعر ينابيع الكون. لذلك أعتبر أنسي ممثّلاً حديثاً للتّيّار الغنوصيّ، الّذي يبقى جوهريّاً في الفلسفة اللّاهوتيّة، وممثّلاً للتّيّار السّرياليّ الّذي — بتخلّصه من انحيازات السّرياليّة الماضيّة — يعدّ شعر المستقبل.
■ ■ ■
كان أندريه بروتون، مثلي، سيحبّ شعر أنسي، وخصوصاً «الرّسولة بشعرها الطّويل حتّى الينابيع»، وكان سيرى فيه ممثّلاً لتحرّر الرّوح. لأنّه يخلّص اللّغة من أسر البلاغة والدّوغمائيّة العقلانيّة، ولأنّه ينشد الوظيفة الميتافيزيقيّة للمرأة، يبدو لي أنسي محرّراً للشّعر ومحرّراً للحبّ، وأشهد، بحضوري هنا، على إعجابي بنشاطه الشّعريّ وبالانجذاب الأخويّ الذي أشعر به تجاه شخصه.
* مقاطع من كلمة تكريم لأنسي الحاج، ألقاها الشاعر والناقد العراقي ساران ألكسندريّان (1927 _ 2009) في «جامعة القدّيس يوسف» ببيروت، في 26 تشرين الثّاني 1998. العنوان من وضع المترجم.
«لن» _ 1960
1. للدفء
عوض أن تقبل من أمك تزوجها.
الأحرف تتلاحق. عوض ذلك يجب أن تتداخل. الصمت يشبه حروفاً يسكن يركب بعضها بعضاً بالتصاق تحت غارة. ليست الحروف قطارات. عوض أن تصمت مت.
— تحيا
تحت الحلق. وراء قشرتك.
2. ترتيلة مبعثرة
لن أسميك اسماً موسيقياً، لن أتبرع لك بمفاجأة
إنني شغوف بعريك حيث يأخذ هذياني مجده
إنني جائزة باسمك.
ما معنى الرمز؟ فم في الماء
لكني فم أصلع وأعمالي محترقة وبلا هدف.
الرمز غيب
وسرتك تغيب العالم كدوار الماء
الرمز قوة، ووهجك كسل مسلح
وأنا جرثومة مدللة بين نهديك.
لقد عمدوهن بأسماء غريبة إذا دعوتك شيئاً فسأنساه
هناك كتب لها رائحة الغرف وأناديها: يا كتباً لك رائحة الغرف. هناك شعر كالزجاج المكسر أناديه: أيها الزجاج المكسر. لكن لم أمسك لك بمنادى. أنت واضحة تتعقبني سمرتك ولهاث رحمك يسكنني.
تؤدين أدوارك في عيني وتفتحين شبابيك في نخاعي
ألحلم في مخدعك ومخدعك حيلة واعية!
ولسوف أدعوك
آه! ماذا؟
ولسوف أكتشف لك سجناً
آه
من يخرجني منه!
«الرأس المقطوع» _ 1963
1. بين أربعة رياح
سريران
بينهما نبيل روماني
على السرير الأحمر جبل يغالبه صبره. المرأة طازجة عليه، جامدة.
على السرير الأزرق رجلاه عاريتان. يلحس أبعاد ظهرها.
الباب مفتوح.
على الأرض، أمامها، مشيحاً بعنف، النبيل الروماني، ذو الشفة الجالسة على العرش.
الجدار الواقي من الهوة تبخر في الليل. الثلاثة معرضون.
فجأة ينغلق الباب ويرجع الجدار.
في مكان ما أستغيث…
2. الحياة المقبلة
منعت النساء من الانتحار بالحية، رميت الرسائل الزرق بالرصاص بعدما الحاكم محاها. وفي الساحة كبتوا النار بالزيزفون. وعند المساء لم يبق.
نعس العالم ونام.
خرج العاشق من السيف.
3. القفص
توقفت وبي رائحة العوسج وفارت الأنوار. وقعت النساء من النوافذ!
أما بقي طاووس أصيل؟
توقفت وبي رائحة الخبل. سريعاً تقصفت أنواري.
فاح حناني المربع.
4. لهذا السبب
قال الناطور قف على الشوار تشنق الغيظ.
ماتت الدالية بعدها.
«ماضي الأيام الآتية» _ 1965
1. محور الزئبق
أنا من جنس المحور
الحاوي القنافذ والعقارب
القبرات الجزيلة الصحو
أحصنة إبليس الراهبات
النسر ونخاع الصعتر
وجداول السرطان والهدهد.
أنا من طبقة المحور
المؤلف من الإنكار
من قربان التخطي
من روح قدس المخالفة
وأجود فعلة الوجه والقفا.
أنا من حرية المحور
كل واحد مني جزيرة
وصحراء وإخوة وأشرار
كل واحد مني صين
ومصر ويونان
كل واحد مني واحد
في عمق الماء واستراحة الجنون
كل واحد مني له
ضوضاء الملائكة ورؤوس الشياطين
حلول إرهابي وعصيان أبدي
كلما دارت الأشياء دورة
كانوا فيها وراءها وأمامها
كلما شوهدوا في مكان
شوهدوا في مكان آخر.
2. الكأس
لن أتوقف
لن أتوقف
تحت القمر بالثوب الأبيض
غرقا
في اليوم التالي
بين ضربات الصدر.
أنت
في قبة الضباب
وآبار الكنائس المستطيلة
في الأعياد
وشعشعة الواجهات
وحقول الإيقاعات الشعبية
ونحل الضجيج اليائس
وإقلاع السفن والخمور
تتبقين لي دون أن أشعر
تتبقين لي وأنا أشعر
فتقف التجاعيد والطراوات
والأرض تمد رأسها
تتبعنا من كلمة إلى كلمة
من عصفور
إلى عصفور.
سمعت وأنا بعيد
وعندما حاولت أن أقرب
وضعت يدك.
سمعت وأنا بعيد
ورأيت خلف الغابات
الشعوب القديمة.
3. اللحظة حرير وحجر
لا أذكر كتبت لك كلمة شعر: كل هذا كان تقليداً لطعمك الجسدي.
وعندما تبحثين عن بلاد يصلبون فيها العصافير مقلوبة، أتبعك لأرى بنفسجات قدميك تتفتح من خمير رغبتي الرتيبة. وهكذا أعبدك، تحت حرير اللحظة أو حجرها، وتحسبين تعبي نبوغاً.
لم أؤلف لك كلمة. وما إن كتبت حتى قلت: لا أريد أن أرى رجلاً.
وقبل أن أنزل إلى الرصيف، أنزلت غواصتي في بحرك، داناي، حيث لا غواصة لا بحر لا داناي.
وأضحكتك لأني لم أغرق في هذا الغوص، وظننت صرخة خجلي أغنية انتصار…
«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» _ 1970
1. كان خصرها أشقر
منذ ربيتك وأنت نجمة ضئيلة. كان خصرك أشقر فلما كبرت صرت كرزة.
تسوّين شعرك بأسنان شهوتي.
تحذرينني وأحذرك.
أنا الثعلب وأنت الثلج.
2. أجمل القارئات
تجلسين على حافة السرير، بالك في الريح وقدماك في العاصفة.
■ ■ ■
تتحرك يداك موجتين. ويبدأ السرير إلى الجنوب.
■ ■ ■
تمر الحروف. تحسبين أنك هرة. تنامين بين الحروف.
ينقلك النوم إلى الملك.
■ ■ ■
ترحلين على الكلمات إلى الأحراج. تقتربين من الصخور فتصبح مرايا. يصير الندى جداول، النقاط عصافير، الفواصل فراشات، الأرقام أشجاراً.
وينتظرك السرير عند غدير.
■ ■ ■
الصفحة السوداء جنيّة تؤجل عمل اليوم إلى الغد. تستحضر روح اللذة إلى نهديك الطافرين في عطلة.
لا أحد يحزر كم تشتهين وماذا تتخيلين.
■ ■ ■
أعجز عن حماية نفسي من أحلامك. أعرفك قليلاً أيتها القارئة الجميلة، أنت خليلتي وأختي. أعرف قليلاً كيف تمسكين الكلمات من خصرها، وتعصرين، تعصرين.
■ ■ ■
يضيء وجهك فتخفضين الضوء.
العتم المثالي هو الذي يعتقد أن أحلى ما فيه عري الجسد الأبيض.
■ ■ ■
تنفصل الغرفة بضحكة. تطير على تنفض نهديك.
■ ■ ■
تتربص بك أحراج جديدة عند كل نزول إلى السطر. تلتمسين جلد الكتاب فتخفضين الضوء أكثر.
■ ■ ■
سريرك مركب وهودج.
تشتد الريح. تجن حول قدميك العاصفة.
أنت، أجمل القارئات، على حافة السرير، تذهبين، تذهبين..
تصعد الكلمات إلى السرير تنتظر عودتك.
■ ■ ■
حين تعودين وقد انطفأ الضوء، ترتمي عليك الكلمات فرحة، ويتفجر وجهك بالنور، وتمسكك الكلمات من خصرك تعصرك، تعصرك..
3. غيمة الشمس
اليد على خصرها تجعلها وردة
الهواء على وجهها يجعلها فراشة
الضحك يجعلها موجاً
الحزن يبقيها شمساً خلف غيمة تحميها من اللصوص.
4. حتى مجيئي
لا أعرف لك أحداً ولا أرى ليلاً أو نهاراً. لا أسمع صوتاً ولا أشمّ وردة. أنت الوهم البض.
■ ■ ■
أتمنى القمر والشجر والحجر جواسيس على تحركات ركبتيك!
■ ■ ■
يتنشقها النهار. تستحم في مساقط الليل.
■ ■ ■
أخذتك وحملت مني الصباح.
5. التي تلبس فستان الورد
كعنق وردة
ابتهلت إلى حريتي
التي
لم
تقدر
أن
تفعل
لي
شيئاً.
جميلة الثلج
عيناها صعود ملاك وسقوطه
عيناها لم أحدق فيهما إلا نادراً، بسبب الأمل.
بسبب أملي أن أحدق فيهما غداً
عيناها الحالمتان بيأسي.
قوية بفستان الورد
وقميص الهواء
ومعطف السماء البيضاء.
يجمعنا كل شيء
ولا يفصل بيننا إلا الحب.
«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» _ 1975
[مقطع]
أقسم أن أكون لعبتك ومغلوبك
أقسم أن أحاول استحقاق نجمتك على كتفي
أقسم أن أسمع نداء عينيك فأعصي حكمة شفتيك
أقسم أن أنسى قصائدي لأحفظك
أقسم أن أركض وراء حبي وأقسم أنه سيظل يسبقني
أقسم أن أنطفئ لسعادتك كنجوم النهار
أقسم أن أسكن دموعي في يدك
أقسم أن أكون المسافة بين كلمتي أحبك أحبك
أقسم أن أرمي جسدي إلى الأبد لأسود ضجرك
أقسم أن أكون باب سجنك المفتوح على الوفاء بوعود الليل
أقسم أن تكون غرفة انتظاري الغيرة ودخولي الطاعة وإقامتي الذوبان
أقسم أن أكون فريسة ظلّك
أقسم أن أظل أشتهي أن أكون كتاباً مفتوحاً على ركبتيك
أقسم أن أكون انقسام العالم بينك وبينك لأكون وحدته فيك
أقسم أن أناديك فتلتفت السعادة
أقسم أن أحمل بلادي في حبك وأن أحمل العالم في بلادي
أقسم أن أحبك دون أن أعرف كم أحبك
أقسم أن أمشي إلى جانبي وأقاسمك هذا الصديق الوحيد
أقسم أن يطير عمري كالنحل من قفير صوتك
أقسم أن أنزل من برق شعرك مطراً على السهول
أقسم كلما عثرت على قلبي بين السطور أن أهتف:
وجدتك! وجدتك!
أقسم أن أنحني من قمم آسيا لأعبدك كثيراً.
«الوليمة» _ 1994
1. الأوّلون آخرون
أنا صديق الأشياء المنسيّة، وحين يطلع النهار تكتشف النوافذ بيان الليل.
عندئذ أنام، تاركاً للنهار ذاكرة الخبث المرهقة هذه.
ولا أغادر نظام تلك المناطق المقلوبة إلا لجناحَيْ ملاك يأخذانني حيث لا يسمح للملائكة.
هناك، حتى الأشياء العاقلة كالخزائن والطاولات، بل وأساتذة الحكمة، لا تتكلم، عندما تخلع عنها الطاعة، سوى لغة السقوط والندم.
وكما العاقل عقله يجننه، كذلك فإن المجنون جنونه يهديه.
والرابح يخسر والخاسر يربح.
2. الباب المرصود
من طيات ثوبك المشقوق
تروح
ظلال طليقة
ومن بياض عينيك ينفصل
برود
يفتح الحدود من جديد
ويغلقها..
3.سياج العراء الأخضر
عليكما بالغابة أيضاً، ينهمر ليلكما في أحضان يدها الهائلة.
القصعين والوزال والطيون، في مملكة الصنوبر، رفاق بلا حسد، منارة ترصدها صفوة الخطايا، ومخادع يغمرك، إذ تغمرك، عبق المجون الخبيء في التراب. وقبة الصنوبرات وأسوار أفيائها تبسط عليكما، أيها المستلقيان على الصخرة الملساء كالسماء، حماية الحرية…
4. القدر
القدر ابتسامتك الواقفة على كتفي
القدر لقاؤنا غير المستحق على حافة كل منا
القدر جمودك عندما أسكتك فتغلين
القدر غربتانا تعانقهما صحوة نومنا
القدر هو الصفحة البيضاء تنظر إليّ
فأقع منها كنسر يلاعب الفراغ
وأرتفع كروح من تحت الماء.
5. وفاء العصافير
أنساب كالماء بين الصخور.
جلست لأنظم
فرأيت الأوزان عصافير تبكي في أقفاصها.
أكان يمكن أن أترك العصفور حزيناً
من أجل أن أزين بيتي؟
وتركت الأوزان لأشداء القلوب.
وكم أنا معجب ببراعتهم!
وكم يطربني الغناء المنظم!
وكنت أود لو أكون مثلهم
ولكن ما حيلتي
إذا خلقني الله ضعيفاً أمام الحرية
فضيعت الأوزان وضيعتني
ولم أربح غير وفاء العصافير.
6. يوم بعد المطر
— أين، مع الشوق؟
— إلى الضفاف، صفصافة.
— ما هو العطر؟
— جنية ترمي الشائعات.
— من تنتظرين في العاصفة؟
— أنسى.
— ما هو الوعد؟
— يوم بعد المطر.
— ماذا تقطفين في بستان العالم؟
— البستان والعالم.
— ماذا تتركين لهم؟
— صوت الصيف ليناموا.
— ما اسمك؟
— اسمي على الشاطئ.
— متى نلتقي؟
— في غياب آخر.
7. منتهى الواقعية
لو لم أكن نائماً لكنت هائماً
البقية الباقية من اليقظة أهيمها حتى النوم.
وأتعامل معكم، وأنا نائم، بمنتهى الواقعية.
وإذا لم تفهموا فليس لأني غامض بل لأنكم تقرأون.
وكان يجب أن تناموا.
8. الرحالة
ركض وفتح وقفز وهبط إلى فلورانس، المدينة المسموعة، مع أنها مرسومة وراسمة، بكمنجات وفيولونسلات تمتقع لها الذكريات شهوة إن لم يكن حسداً.
ركض وفتح وقفز وهبط إلى باريس، المكحّلة حول عيون شعرائها، الأعيق بين نسائنا، التي كنائسها أشباح ذات تهديد جنسي.
ركض وفتح وقفز وهبط إلى لبنان، الممتحن للخراب الأوسع، المضروب لفرحته، المدمر لصوته الجميل جداً.
ركض وفتح وقفز وهبط وصعد وراح.
وفتح.
ودخل.
وفي الصالة السينمائية المظلمة جلس وعاد إلى بطن أمه.
«خواتم» 1و2 _ 1991-1997
عندما يحصل الحب تهجم العاصفة عمياء. يتجسد الجنون على شكل قلب.
كل حب اغتصاب.
■ ■ ■
الحقيقة عقاب الغيرة.
■ ■ ■
يوم ظننتني انتصرت على غيرتي كنت، في الواقع، قد بلغت قاع الاحتمال، فاستقلت من المنافسة حتى لا أغار. ظننتها قمة التضحية، وكانت ذروة الأنانية.
■ ■ ■
أصدق ما في الحب الغيرة، قاتلته.
■ ■ ■
ليست دموعك ما يقنعني، بل هو شعوري بعبثية حقي. فجأة تغمرني أمواج عبثية هذا الحق وأستسلم متنازلاً عنه لأي شيء تريدين، بما فيه الخداع، حتى أتفادى عبثية أخرى أسوأ، اسمك: عبثية الحقيقة.
■ ■ ■
نستطيع أن نفتدي الحب كما نفتدي خطايانا.
■ ■ ■
يتحدث الرجل عن التخطي وتفكر المرأة في العناق. هو يخرج وهي تدخل. خلافاً للشكل المظنون في التواصل.
■ ■ ■
تتجنب الحب حتى لا تصل بعده إلى البغض.
تتجنب البغض حتى لا تصل إلى اللامبالاة.
تتجنب اللامبالاة حتى لا تصل إلى الحب.
تتجنب الحب حتى لا تقع وراءه في القفر..
أنت كيفما درت خراب ما قبله، أو ذكرى نفسك.
موجة حركة عمياء،
وصدى موجة..
■ ■ ■
كنت أجمل لأن ابتسامتك كانت ابتسامة فتاة مظلومة تغالب حزنها، وتسامح.
كنت تحركين شعوراً بالذنب تجاهك ونخوة الحماية.
لما تحررت، فرغت عيناك.
أأقول: واأسفاه على خوابي العذاب! وكل ما أبغيه هو بلاغته من دونه؟
■ ■ ■
المبغض يعلمك. المحب يجملك.
■ ■ ■
حين تمجنين تخدمك براءتك، وحين تستعيدين هدوء التعقل تخدمك في رأسي ذكرى مجونك.
■ ■ ■
إصغاؤها لشعرك أشعر منه.
■ ■ ■
يداك الخفيتان تفتحان أبوابي الخفيّة.
■ ■ ■
من شدة الظل صرت شمساً خضراء.
■ ■ ■
لا أدافع عن الماضي، بل عن أمي.
■ شكر خاص لندى الحاج كريمة الشاعر الراحل على فتح أرشيفها لـ «الأخبار»
أبعد من اللغة، أقرب إلى الضوء/ بيار أبي صعب
خمس سنوات على رحيل أنسي الحاج. الشعراء الكبار يجاورون الأبدية. لا عمر لغيابهم، فهم يعيشون ويموتون خارج رتابة الزمن. يخلقون زمنهم الخاص، ثم يتركون للعالم أن يأتي إليهم. يصنعون ذائقتنا، يؤطرون حياتنا، يتركون لنا أن نعيش قصيدتهم كأنّها قصتنا الحميمة. يؤسّسون لمستقبل دائم التجدد. إنّهم في قلب الوقت. والوقت، أساساً، يتشكّل من لحظة اشتعالهم. نحن نؤرّخ الأزمنة والحقب، بابتكاراتهم وإبداعاتهم وتجاوزاتهم. أنسي الحاج واحد من هؤلاء. لقد ارتشف جرعة المطلق من أوّل الطريق، الباقي لم يكن سوى تفاصيل يوميّة. أنسي نموذج الشاعر الذي يسكن الهامش، فإذا صار متناً، هجره إلى أقاليم عذراء جديدة. وهو بالنسبة إلى الثقافة العربيّة، الشاعر الذي شرّع باب النثر على القصيدة، وصفّى اللغة بصبر وعناية، كي تتسع للرؤيا. كتب على أنقاض العالم القديم، ورقص على جثّة السائد. «أول الواجبات التدمير (…) التخريب حيوي ومقدس»، كما أوصانا في المانيفستو التأسيسي الشهير الذي قدّم لمجموعته الأولى «لن» قبل 59 عاماً. هناك أشياء كثيرة ما كنّا لنقرأها اليوم، وما كنّا لنكتبها، لولا اقتحامه المشهد الشعري ذات عصر مبارك من تاريخ بيروت. يكفي أن نعاين كم أن قصيدته تخاطب اليوم الأجيال الجديدة، كأنّها كتبت لهم، لنتيقّن من أن هذا المارد الغريب، هذا الفوضويّ بامتياز، هذا الطيف الوحيد الواقف على حافة العالم، يستعصي على الأطر والقوالب والخنادق. لا يعود من المهمّ إذاً أن نحصي سنوات غيابه، فالغياب والحضور نسبيّان جداً، ما إن نطأ فردوس الشعر. كل ما في الأمر، أن هذا الملاك الماجن، الوثني الباحث عن جذوة النار المقدسة، التجأ في الصمت، ليواصل حضوره. شفيع الضوء، شفّ عن اللغة، فصار القصيدة. نستعيده اليوم في «الأخبار»، وهو لم يغب عنّا لحظة، شاعراً ومعلماً ورفيقاً وزميلاً، وقلماً فريداً، وضميراً شقيّاً… وخصماً حميماً أيضاً، بقدر ما الذكاء يستفزّ، وجدليّة الفكر تحرّض على التحدي والاختلاف. اسمح لنا، أنسي، بأن نحتفي بوجودك بيننا، زملاء وأصدقاء وأقرباء، وقراء يتجاوزون حدود الضاد. اسمح لنا أن نتسلل إلى غيابك، فهنا يكمن سرّك. هنا نتحد بالقصيدة.
الشاعر الذي أراد أن يخترق جدار المعنى/ محمد ناصر الدين
«اقتربوا أو اهربوا. سأنقذ الغناء. سأشطف الأرض. حنجرتي الشياه الضالّة رماد المراثي والمزامير شعري. آكل القنديل أنفخ الشبح. أتسطّح على روابي الكلمة. من أجل ذلك تنهض الصاعقة لإشارتي. الموت للزهرة تلبس بابل تحتمي بمخلب الندى» (أنسي الحاج ـــ «الرأس المقطوع»)
مثل اشعيا ورؤياه، مثل صاعقة تنزل على الراعي في برية الرب تشق الثوب وترميه، أراد أنسي الحاج (27 يوليو 1937 ــــ 18 فبراير 2014) أن «يبج السد»، أن يزيح الشعراء الموتى من طريقنا ليفسحوا لنا مكاناً، أن يرينا أن تقديسنا لكل ما قد تمّ قوله شعرياً في أقصى جماليته وبلاغته هو ما يحنّطنا، ما يصنّمنا، ما يحجب أعيننا عن قوة هي أعلى، هي لغة الشعر، روحه الحيوية، طاقته الإيروسية، لأن «الشعر يعيش في لغته… الشعر ليس في تقنياته التي ألصقت به لتمييزه عن النثر مثلاً، وإنما في وظيفة ممارسته الإيمانية بوجود «عالَم خفي» نحسه لكن لا نراه. وهنا يكمن البعد الروحي للشعر. يحلم الشاعر بتكوين بشرية جديدة لا بكتابة شيء جديد فقط. الكتابة هي الجسد الجديد». مع أنسي يحلم الشعر بسِفرٍ تكوين جديد، لتكُن الكلمة بحاجة الحياة إليها لا بالشفقة ومن أجل ذلك تكون الكلمة كلها، وفوق الكل، أو لا تكون. في «لن» وجد أنسي الوقت الأمثل لاختبار الكلمة: ماذا يربح الشعر لو ربح العالَم وخسر نفسَه؟ وكان على الشعر في بيان أنسي التأسيسي في مقدمة «لن» أن يخضع من الآن فصاعداً لهذا الاختبار، وإلا «فلتمت الكلمة، فليمت الشعر، الأدب، الفن، لتنقرض اللغة، ليضمحل الإنسان الإلهي لحساب البرنامج»، قَدَران لا ثالث لهما للكلمة ــــ الشعر: إما الموت، وإما «لن»: لن تخدم الكلمة بعد اليوم نسقاً لا ترغبه، أو نصراً لا تحبه، ولن تعيش كالوردة الأليفة في الحذر والمطابقة للشروط البلاغية والاستيتيقية. فلتكن إذاً «العشبة الهوجاء» و«ليبسط النسر الجديد جناحَي ملكوته العملاق على الشرق والغرب. ليُزل هذا الوهم إذا كان وهماً، ولا يترك بارق غير الحق». لن يكون للزهرة بعد اليوم «أن تلبس برج بابل»، حين تنجح الكلمة في الاختبار سنصل إلى الأفق الذي تحدث عنه لوتريامون «يجب على الشعر أن يصنعه الكل. لا يصنع الشعر شخص واحد». حين تسقط أبراج بابل ستصبح كل كلمة مقدسة، والإنسان الذي يتصالح أخيراً مع الحقيقة، مع حقيقته، ليس عليه سوى أن يغلق عينيه كي تُفتَح أبواب الجميل والمدهِش والمقدّس.
في أول «كان هذا سهواً» (٢٠١٦) الكتاب غير المنشور في حياة أنسي الحاج، نقرأ كلمتين تصدّران القصائد: «ميتافيزيقا ودين». يقول ماتيس إن كل فن هو ديني بالضرورة. عند أنسي الحاج «الأول» لغة دينية تشبه لغة أنبياء العهد القديم المسلّحين، هجوم على اللغة وتعريتها من فصاحتها نظماً وأنساقاً وإخضاعها لتجربة بروميثيوسية قاسية ومتنوعة. في «ماضي الأيام الآتية» (١٩٦٥) و«ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة» (١٩٧٠)، تتخفف لغة أنسي من القسوة التي وسمت بها في «لن» و«الرأس المقطوع» (١٩٦٣) لتبدو كالمزامير أو الأناشيد، أناشيد مشذبة من السائد والمتداول ومردودة إلى براءة البشرية الأولى في ابتهالها وتوترها وخوفها وغنائها الذي يكون تفاعلاً مع وحيٍ أول. في أعمال أنسي اللاحقة، ستكون إعادة الاعتبار للمقدس، ليس بوصفه مقدساً شكلياً وإنما بتماهيه مع جوهر الشعر الذي يضع في كل الأشياء جرعة من المطلق. الشعر أيضاً عروة تصل الكائنات، وهو وإن كان لا يمتّ بقرابة لديانة أرضية أو مذهب أو دوغما، يُشرك أصغر الأشياء في دورة الكون. في مقدمة «خواتم» (١٩٩١)، كان أنسي واضحاً في ذعره من الإنسان الجديد، الذي لم يعد من شيء يخيفه، أو يدعوه للتأمل كما الإنسان القديم الذي كان يمحض الكلمة ما تستحق من التقديس والاحترام والرهبة: «يتألق العالم التكنولوجي، العدّاد، المنقّب. يتألق العقل الرياضي في بروده الساحق، جبروته المنتصر، ويدوسني. يتألق ويدوسني أنا المتعامل بالتأمل، المصرّف أعمال الحب من أول نظرة، أنا الشاعر الجواني، الملاك الماجن، الملاك الذي بتجدد سقوطه تتجدد محبة الله، أنا المجّاني، الرغبوي، المِتعَوي الهائم، الصوفيّ الشبق، الذاتي الهشّ، أنا المكوّن من خيوط أحلام، المنسوج بتراثات الوجدان والخيال والنعومة والصلاة والحب ودموع الحنان والكفر واليأس والتمرد». بعد أكثر من خمسين عاماً على «لن»، وقف أنسي الحاج موقف المتأمل من التجربة ليعيد فوق صفحته في جريدة «الأخبار» السؤال إلى مربّعه الأول: كيف ننقذ الأدب والفن واللغة والكلمة؟ هل يكون ذلك بإنهاء لغة وبناء لغة جديدة؟ بالعنف والانتهاك يقول بأننا استنفدنا هذا كله ووصلنا إلى الابتذال والخراب، «لقد أطلقنا أفاعي الحداثة من صندوق باندورا». هل كان أنسي الذي باغته الرحيل وباغتنا في ذلك اليوم الحزين من شباط (فبراير) ٢٠١٤ يفكّر في بيان شعري جديد يستبدل فيه «لن» بـ«كيف»؟ كيف يبتعد الشعر عن لغة الدهماء والغوغاء؟ كيف نرسم له غابة يهرب إليها من اللغات الإعلامية و«التجديدية»؟ كيف نصنع له مخرجاً للطوارئ نحو لغة نعمل على انتشالها بهدوء، على إعادة تكوينها، إذا استطعنا بعد، بما كان يسميه «أمومة الصمت»؟ كيف ينتصر الشعر اليوم على نسق ونظام تضمحلّ معه اللذة الداخلية الخاصة، الفريدة، العاصية، والتي كان الشعر بمعناه الأوسع هو مغنّيها ومُغنيها، حارسها ونبيّها أبد الأبد؟ وقف أنسي مودعاً على أطلال المدينة التي أراد يوماً أن يهدمها ليبنيها، متأملاً في طغيان المدنية الاستهلاكية التي أغرقتها في بحر البؤس العقلي ــــ الروحي ــــ اللساني. لا الهذيان، لا «بجّ السدود»، لا الكتابة الأوتوماتيكية، لا شيء ممكن مثل البدايات. الشاعر الذي يصفه الناقد الفرنسي كريستوف دوفان بأنه المرادف الحداثوي العربي لما كانه بول إيلوار في الشعر الفرنسي، سينعى نفسه ببيان جدلي أخير: «ستذهب إلى مكان تسمع فيه روحك أكثر. ينتشر غيابك في قيلولة السكون ملغياً حس الحدود.
من كان يهدي قد يبطل هادياً، ولكن من أحيا سوف يظل يُحيي».
حياته سلسلة مصادَفات/ يارا بو نصار
كم هي كثيرةٌ المواضيع التي لمْ أعد أناقشها بالصدى نفسه منذ رحيلك.
جلسنا ساعاتٍ كثيرة في مكتبك في جريدة «الأخبار» وغالباً ما تَحدّثنا كأصدقاء وشربنا القهوة وأكلنا الشوكولا. فقط أحياناً كلّمتني كحفيدتك عندما كنتَ تقلق عليّ.
كم تكلّمنا عن الحب، عن الخيال والحب، عن خيبة الأمل والحب، عن الأدب والفن. كم أخبرتَني قصصاً عن بيروت في الستينات والسبعينات وعن الحركة الثقافية فيها وفي محيطها. كم حدّثتَني عن باريس وكم شعرتُ بكَ عندما زرتُها متأخرة للمرة الأولى العام الماضي. كم تناقشْنا عن تفضيلي للمواجهة وراديكاليّتي في الصدق وعن حدّة أسلوبي. كم تناقشْنا عن نظرتنا للمرأة وكم اختلفنا أحياناً، حول بعض آرائي النسويّة التي كنت أنتَ تعتبرُها واقعية جداً و«عكْس الشعر» كما كنت تقول.
عندما قصصتَ عليّ ذكرياتٍ وحكاياتٍ من الماضي، كنتُ أصغي وأشعر بغبطةٍ لا أقوى على تفسيرها. لم أكن أجرؤ على مقاطعتك. كنتُ أعرف أني لو قاطعتك قد تنتبه أنّك تتكلم وعندها ستصمت وستنتهي القصة. كم أحببتُ هذا الجسر بيننا الذي امتدّ من نوستالجيا الماضي ورواسب بيروت في الحقبة الذهبية، إلى تغيّرات الحاضر وأحلام المستقبل. كم شعرتُ بالفخر والطمأنينة فيما أتشرّب ذكرياتك عن زمنٍ مضى. خلال إصغائي لك رأيتُ تلك الأحداث والمشاغبات تنبض بالحياة أمامي. ومرّات، كنتُ أُفاجئُك بمجيئي وأنت منهمكاً في كتابة مقالتك الأسبوعيّة. أصِل، أرى رأسك بين يديك ناظراً إلى الورقة أمامك، ترفع رأسك نحوي، تلْقي التحيّة سريعاً دون أن تتلاقى أعيننا، فأفهم. أجلس من دون كلام، أراقب يديك تتحرّكان، تكتبان. أراقب خطّك وأبتسم ابتسامة صامتة كي لا تشعر بأنك تُراقَب. في تلك الأوقات، كنتُ أتأمّل أهمية ذلك الصمت وأنا أشهد على عملية الخلق تلك. كنتُ أفكر كيف أني بعد رحيلك، سأتذكّر ذلك الصمت الغامر. لطالما سررتُ عندما وجدتُ في مقالاتك صدىً لأحاسيس وأفكار كنّا قد تكلمنا عنها في إحدى الأيام.
يوم ذهبتُ لتوضيب مكتبك مع أمي وأخي بدَوتُ باردة وعملية. فكرتُ فقط أنه الشيء الوحيد الذي يمكنني فعله في لحظات الانتظار تلك. سألني أخي «كيف قادرة تكوني هيك» وأجبْته «شو بعمل، حدا لازم يضبّ». شعرت يومها أنه من واجبي توضيب أغراضك في ذلك المكان، بِسرية وشفافية تشبهان وضعيّة رأسك بين يديك وأنت تكتب بصمت. فوضّبتُ أغراضك بصمت ولم أبكِ.
في عام ٢٠٠٨، قررتُ أن أستوحي موضوع الإخراج المسرحي لديبلوم تخرّجي من مجموعة لنصوصك. بعد انتهاء العرض قلتَ لي: «خلّيتيني إستِحي من حالي أنا وعم بِحْضَر قدّ ما كان العرض حميم». يومها اعتبرتُ هذه الجملة إطراءً، ولكني لمْ أسألك يوماً ماذا قصدتَ فيها تماماً. لربما قصدتَ أني اعتديتُ على خصوصية كتاباتك عندما حولتُها إلى حدَث بصريّ وصوتيّ. لم أسألك يوماً، وربما لو فعلت لكذبتَ عليّ كي لا تجرحني. لن أعرف يوماً.
تكلّمنا كثيراً وصمتنا كثيراً!
في الأشهر الأخيرة قبل رحيلك، كنتُ أراك يومياً وكنا نتحدث عن كل شيء إلا المستقبل. كنتَ تتكلم أكثر من العادة وتخبرني قصصاً، قصصاً، قصصاً (مع الوقت انتقلنا من القصص إلى مشاهدة أفلام سهلة ومضحكة للتمويه عن الواقع). شعرتُ بحاجتك الملحّة إلى مراجعة الحياة التي مرّت وتأريخها بطريقةٍ ما، فأصغيت. غالباً ما عدتُ إلى المنزل ودوّنتُ جملاً أو كلمات قلتها لي في سهراتنا المنزلية «حياتي مبنيّة على سلسلة صدَف»… في إحدى الليالي ظهرت أم كلثوم على التلفاز ورحتَ تغنّي معها! (ليتني أتذكّر الأغنية) غمرتْني السعادة عندما بدأتَ بالغناء! لمْ أسمع صوتك وأنت تغنّي منذ منتصف التسعينات… وكم كان صوتك جميلاً!
مؤخّراً أراك يومياً من جديد. أستعيد مشاهدة فيديوهات من طفولتي معظمها من تصويرك. أعيد مشاهدتها وأنا في طور تحضير عرض مسرحي جديد. تتكرّر لحظات صامتة بيننا في تلك المشاهد المصوَّرة، أشاهد مَقاطع من حياتنا اليومية على أشرطة أتعبَها الوقت. لمْ تكن تحب أن تُصوَّر، كنتَ غالباً وراء الكاميرا تطلب مني أن أرقص، أن أغني، أن أخبر حكاية أو أن أتحرّك «كأنّو مافي كاميرا». يفاجئني صبرك وأنت تؤرّخ مقتطفاتٍ من يوميّات حياتنا. تؤنسني ضحكتك وراء الكاميرا ويدفئني صوتك بينما تحدّثني، كما تستوقفني كادرات سوريالية في بعض تلك المشاهد بين عامي ١٩٨٦ و١٩٩٥. أتذكّر في تلك السنين كم كنتَ ترتجل قصصاً خياليّة! كنتَ حكواتيّاً ماهراً، مضحكاً، غامضاً، وكنتُ أغوص في مخيّلتك… وكم كانت ساحرة. في مجموعة رسائل كتبتها لك وعادت إليّ بعد رحيلك، أقرأ كم أحببتك، أقرأ كيف تطوّرت ديناميكيّة أحاديثنا من طفولتي إلى مراهقتي وما بعد. تستوقفني عبثيّة مسيرة تلك الرسائل التي كتبتها لك، ثم عادت إليّ لتذكّرني بشريط علاقتي بك. في إحدى الرسائل، أطلب منك أن تحتفظ بالورقة. ها هي الآن بين يدَيّ، فشكراً لاحتفاظك بها وها أنا أحفظك اليوم وكل يوم.
* ممثلة وفنانة مسرحية
المارق والمهتدي/ عباس بيضون
تعرفت على أنسي في الوقت الذي تعرفت فيه على مجلة «شعر»، وعلى قصيدة النثر وعلى «لن»، وأذكُر أن أنسي الوسيم الأنيق لم يكن يشبه كثيراً «لن» ولا الجلبة التي أثارها كتابه، وأظن أن أنسي يومذاك سعى ليشبه كتابه. وبالطبع كان هذا الكتاب الذي لم يكن قابلاً للفهم، وكان يبدو مزروعاً بالأسنان الحادة، مستعداً للعضّ، دامساً بعربية مظلمة. هذا الكتاب اجتذبتنا إليه قصته وضجته واجتهدنا ما أمكن لنجعله سائغاً ومفهوماً، فهو كتاب تحميه وعورته كما تحميه استحالته. قرأنا «لن» أو أَشبهُ أننا قرأناه ولم يكن نصيب «الرأس المقطوع» نصيب «لن» من الضجة، لكنه كان صنوه في الوعورة، والأرجح أن الكتابين نالا من الضجة نصيباً لم يكن له ما يماثله في قراءتهما. بالتأكيد كان الكتابان المتأثران بالسريالية يلويان اللغة ليَّاً ويخبطان فيها. وبالتأكيد لم يلد الكتابان أبناء لهما لكنهما بقيا مع ذلك إلى الآن أيقونتين للخروج والصدام. كانا لغة قائمة بذاتها تبدو في غرابتها ووعورتها تحفة. كنا نحسب أن أنسي الذي ناضل عن «لن» سيخرج من هذه المعركة أشرس وأكثر صدامية لكن أنسي غلبَه نحوله وأناقته ويتمه المبكّر فلم يتمّ معاهدته مع الشيطان وخرج هذه المرة ليقاتل لعنته، فلم ينجز طوال حياته الشعرية أكثر من ست مجموعات شعرية وغيّر في كتابه الثالث لغته السديمية واستبدلها بلغة فورية قريبة من الحكي، لغة عذراء تتصدى لكل صنعة وتكمن بلاغتها في خروجها من البلاغة.
في «ماضي الأيام الآتية» اخترع أنسي الحاج اللغة التي تحررت تقريباً من ماضيها اللغوي، من ثقل اللغة نفسها، لتستعير شعراً من حيث لا يطاوع الشعر، من الأفكار البحتة، من الحكي نفسه، من العري البلاغي، من الوضوح والانكشاف والبناء المباشر. بعد «ماضي الأيام الآتية» وتحديداً في «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» هبط الغناء على أنسي الحاج، لقد اكتشف مؤلف «لن» الذي يتخبط فيه الكلام بدون صوت وبدون إيقاع، اكتشف نعمة الغناء وتحول إلى مغن أوبرالي في حين، ومنشد في حين آخر، ورقيق توراتي في غيره. الغناء الذي تراءى للبعض أنه خيانة لقصيدة النثر كما صنعها في «لن» و«الرأس المقطوع» وثارت حول الكتاب هذه المرة ثورة مضادة. كان أنسي المغني يواجَه بأنسي المهشِّم، كما كان أنسي الشاعر يواجه بأنسي المدمدم، وكذلك كان أنسي الذي صنع لغة يواجه بأنسي محطم اللغة ومعتّمها: «قولوا هذا موعدي وامنحوني الوقت/ سوف يكون للجميع وقت فاصبروا/ اصبروا عليّ لأجمع نثري….كالشمس تدوس العنب/ كعنبٍ كالثدي/ كعنبٍ ترجع النار عليه». سار أنسي الذي لا يستقر على حال والذي يتغير مع كل كتاب في هذا الطريق الذي لم يخل من توبة وندامة ونوع من الاعتذار، فبعد كتابيه الفائتين عاد إلى غناء كنائسي، إلى البلاغة نفسها، إلى النثر الفني فكان كتابه «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» تجربة لم تميّز تماماً بين الخلق والاعتذار والتوبة فكأنه صدّق مخاوف منتقديه الذين توجسوا من أن تكون غنائيته الجديدة تراجعاً إلى النثر الفني وانقلاباً على القصيدة نفسها. لكن هذا لا يعني سوى أن تجربة جميلة دينامية حافلة بالانقلابات والتمردات على اللغة وعلى النفس وصلت إلى كمالها. لم يكن غريباً أن الشاعر الذي اهتدى في الشعر اهتدى أيضاً في الدين، فانتقل في الإيمان كما انتقل في الفصاحة. لقد تحوّلت التجربة الثقافية إلى تجربة ذاتية، واتّحدت الذات بالثقافة، ومن خلال هذه المكابدات كانت القصيدة تُصنع كما يُصنع الرَجُل، فعراك أنسي مع اللغة كان له من الشفافية ما يقترب كثيراً من عراكه مع نفسه، وكلاهما كان دائم الاحتدام. يتساءل أنسي في بعض خواطره: أما من دقيقة هدوء واحدة؟ أما من سلام للحظة؟ يدوس أنسي اللغة بداية إلى أن يطمسها، لكن يقين أنسي لم يكن في أي وقت ثابتاً، ما كان رجُل إيمان، وإيمانه حين يلوح يكون عامراً بالشك. ليس هذا عن إرادة فيه ولكن عن قلق مثابر لا ينفك وصدق مع نفسه لا ينفصل كثيراً عن فنّه، ويظل يسوقه من معركة إلى معركة. لدى أنسي ما يتعدّى الفن، لديه هذا الحلم بأن يكون الفن مفتاح الحقيقة، ولديه ما يتعثر به طالب الحقيقة من غوايات لا يلبث أن يستنفدها ليعود من جديد إلى صليبه. لا يمكن أن نروي فقط قصة أنسي مع الشعر، إنها أيضاً قصته الشخصية، كأن تكون قصته مع الإيمان. في «لن» و«الرأس المقطوع» كان أنسي الشاب يتبع السرياليين الملعونين الذين وصلوا إلى المصحّات العقلية، كان يهمّه بعد بروتون انتونان آرتو في عذابه مع المسرح واللغة ومعاناته النفسية والعقلية أكثر مما يعنيه السرياليون الأصحّاء. كانت السريالية بالنسبة له اختبار حياة ومشروعاً للسلب المطلق، وهو بالتأكيد لم يجد في الشعر سوى ارتطام باللغة وارتطام بالوجود وظَل طوال تجربته يرتجف من هذه اللعنة أو يثور عليها. لذا كان شعره الأول معركة مع اللغة تركت دماراً وحطاماً في الأكثر. لكن تجربة أنسي لم تكن خالصة للشعر. لم يكن الشعر بالنسبة له فناً فحسب، لم يكن جمالاً فقط. كان معاناة للوجود واتصالاً بالكينونة.
لذا لم يكن اهتداء أنسي وخروجه إلى الإيمان خالصاً أيضاً. لقد رمى نفسه على الإيمان وعلى الغناء وعلى الشعر كما رمى نفسه على الدمار وفي الحالين بقي عامراً بالشكوك. كان نصّه يتغير بتغير موقعه وتغير محله. المارق في ضيافة الإيمان، والمؤمن في حضانة المروق والمهتدي المارق، شعره كان يسير مع تحولاته. من لا إلى نعم، تحولات جذرية ترافقها تغيرات جذرية في الكتابة وقفز من لغة إلى لغة. مارق لكنّه أيضاً مهتدٍ ومغنٍ وفي الحالين شكاك وقَلِق ومعذَّب. لذا لا نستغرب إذا انتهت هذه المعاناة بالخروج من الشعر إلى كتابة قلِقة مباشرة في «خواتم» سريعة وخاطفة.
* شاعر وروائي
من دونه… من دون المدينة/ نضال الأشقر
كان يمكنُ أن تكونَ المدينة ما زالت هناك. باب ادريس، سوق الطويلة، نافورة العنتبلي، سوق القماش، سوق الإفرنج، شارع سعد زغلول. كانت تبدأ رحلتي لزيارة أنسي من باب إدريس.
أزور أولاً سوق الإفرنج ونبعته القديمة وأملأ عينيّ بالخضار والفاكهة وأتفرج على الناس السعداء الذين يشترون ويغسلون الفاكهة من النبعة الصغيرة في أوّل سوق الإفرنج. ثم أدخل سوق الطويلة وأمشي ببطء وأنظر إلى الفيترينات الجميلة الصغيرة. على يميني محلّات الأقمشة والثياب والبياضات، ثم ألتفت إلى أقصى اليمين فأرى النافورة ما زالت في مكانها والناس يأكلون الحلويات حولها.
أصل إلى درج عتيق ضيق آخر سوق الطويلة، أصعد… هناك كانت «جريدة النهار» وكان أنسي. ألقي التحية على الجميع شوقي أبو شقرا، الياس الديري، فرنسوا عقل ولويس الحاج. أنسي ينكبّ على التصحيح وعلى المقالات التي بين يديه، يومئ لي وبنظرة أفهم أن علي أن أنتظره.
كنا أصدقاء طوال عمرنا بمعنى صداقة عمر، هو يحبني وأنا أحبه. هكذا كانت علاقتنا منذ البداية، منذ أن عرفته خلال «خميس شعر» الملتقى الشعري في بيت أدونيس في ديك المحدي، بعد أن لجأ إلى لبنان. هناك سمعت أنسي يلقي الشعر لأول مرة، وأدونيس وبدر شاكر السياب، ونازك الملائكة ويوسف الخال إلخ… هناك تعرفت إليهم جميعاً دفعة واحدة ومن هناك انطلقت صداقتي مع أنسي.
ثم سافرت إلى لندن كي أتخصّص في التمثيل والإخراج، وكان يكتب لي وعني وعن ما كنت أقوم به في لندن، ولم يقطع أخباري عن القراء.
وعندما وقع الانقلاب عام 1961، كانت أول سنة أدخل فيها الأكاديمية الملكية وبقينا على تواصل. كان يكتب لي وأجيبه وفي الوقت نفسه كان ينشر لوالدي أسد الأشقر مقالاته الأسبوعية من السجن بقلم سبع بولس حميدان، وكانت «جريدة النهار» تتابع أخبار الوالد وهو ينشر له باستمرار. عند عودتي من لندن كان أنسي هنا في بيروت وشاهد مسرحياتنا وكتب عنها، واقتبس لنا «الآنسة جولي» لسترينبرغ وكان دائماً في الصفوف الأمامية ليشجعنا.
وأهم شيء كان في أنسي الحاج، عدا عن شعره وأناقته، هي أسراره وما يخفي وقصصه المتعددة وكلامه الخافت على الهاتف لساعات مع فلانة وفلانة وفلانة، لكنه كان يفاجئنا دائماً بشعره وبقصائده وبوجوده السحري الشفّاف.
وبعد انتظار في مكتب «النهار»، كنا ننزل عند «العجمي» ونشرب القهوة أو نأكل ونضحك. من مزايا أنسي تلك الضحكة المكتومة التي تنفلت منه بقهقهة رنانة.
أين أنت أيها الصديق؟ أين المدينة التي نحبها؟ أين ناسها؟ أين شعراؤها وأزقتها وأسرارها؟
كلها ذهبت مع الحرب والطائفية والكراهية والاقتتال… وبقيت هكذا حتى الآن لكن من دون أنسي ومن دون المدينة.
* ممثلة وفنّانة مسرحيّة
عبرَ برزخ الأسئلة إلى أرضه الخاصة/ خليل صويلح
هذا البستان لا يشبه بقية الأشجار، جنّة مشتهاة. هناك طعم مختلف لثماره، نكهة ما لاذعة تصيب الفم وحركة اليدين، سفرجل لغة، وتفاح بلاغة، كأن مياهاً سحرية عبرت تربته وروتها عميقاً، ولا شك في أن سماداً سريّاً أدى إلى هذه الخلائط. ستصطدم سكّة الحراثة بكنوز نفيسة، وأبجدية غير مكتشفة، وبعبارة واحدة، فإن ما أورثنا إياه أنسي الحاج «إنجيل عاطفة» في المقام الأول. نشيد إنشاد للحواس، صدام ما بين الطهرانية والشهوة. الآن، في الحركة الخامسة لغيابه، لا نحتاج إلى بيان «لن» كي نتدبّر براهين جديدة على فرادة معجمه، أو منابعه الأولى، أو خصائص شعره، ذلك أن لكل شاعر أسلافه وخيميائه السريّة لصناعة وليمته الخاصة، لكن سنذهب إلى بيدر «الذهب والوردة»، نحصي ما جنيناه. كان صاحب «الرأس المقطوع» قد اشتغل باكراً عمّا يجري في جوار القصيدة بنثرٍ موازٍ للإيقاع الأصلي، على الأرجح كي يردم المسافة بين ما هو شعر، وما هو نثر بهجنة لغويّة تعمل على مزج المتناقضات، هكذا أتت «خواتم» بأجزائها الثلاثة كنوع من تقليب التربة في إنبات بذور جديدة تتأرجح بين الحكمة والاقتصاد اللغوي. شذرات خاطفة تبدو كما لو أنها بيت القصيد. لا حاجة إلى طعنات جانبية كي يسيل دم العبارة. فالكلمة هنا، مكتنزة، مشبعة بالمعنى، متفلّتة مما يعيقها لتصل بكامل ريشها، أو كما يقوله «بين طبقتين من الذات: ذات مُغمَضة وذات مفتَّحة تتفرَّس بها». هذه النقلة التي اعتمدها صاحب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» ليست نسفاً لمقترحاته الأولى بقدر ماهي فلترة للتجربة بأكملها، وصقلها برخام بلاغة أخرى، بتقنية المحو إلى تخوم البياض، أو التقاء مجريين لنبعٍ شاهق، متدفق، عذب، وصافٍ، إلى درجة أننا نرى الحجارة في عمق الماء، وتالياً، وضع النثر في مقامٍ أعلى «كلمات سكاكين، جمل شفرات، نقطع بها علاقة. وكلمات دروع نصدّ بها أمواج الآخرين، تحمينا من محبتهم» يقول. هذا بيان آخر في مراقبة ما طرأ على مغامرته من تحوّلات وهدم وانزياحات. لم تعد القصيدة ترجيعاً لمعجمٍ مستعار، فلسنا بحاجة إلى إعادة تدوير مفهوم سوزان برنار لقصيدة النثر، أو مداولات «جماعة شعر» في معنى القطيعة والضدّ والتمرّد، إذ عبر شاعرنا برزخ الأسئلة إلى أرضه الخاصة، متخفّفاً من «آثام الآخرين» نحو فضاء شخصي صرف، يشبهه، من دون شبهات، فيما سيتوافد شعراء لاحقون إلى بستانه لمعرفة السرّ في مذاق ثماره. مريدون كثر لكنهم سيفشلون في الدوران بفلكه، بمتاهته، ببساطة مفرداته، بخلائط إنجيل العاطفة، وكتاب التصوّف، وشبقية اللغة ما بينهما. هناك دمغة يصعب تقليدها أو مجاراتها أو فحص خطوطها وحبرها السرّي. جموح يهتك المتوقع نحو المفاجئ والمباغت والمدهش بضربة مدية واحدة، فالاقتصاد اللغوي يشفّ إلى طبقة الحرير، من دون أن يتخلى عن الجماليات الدنيوية بوصفها مطلقاً آخر موازياً للمقدس.
هنا، في هذه البرهة الملغّزة، تكمن فرادة أنسي الحاج «أجمل الشعر لا ما تضاءلت صلته بالكلام العادي فحسب بل ما اخترع لغته مستعيداً بها زمام الفعل بالسحر» يقول. في كتابه الأخير «كان هذا سهواً»، سيواجه الموت وأسئلة العدم بالشبقية نفسها، والصفاء نفسه، والكثافة نفسها، مدركاً لوعة الغياب والفقدان والوحشة، وحشة الجسد المعطوب والروح القلقة، مثل «عصفور مخلّع تنتفض أجزاؤه من عجْز تلاقيها». مكاشفة الموت وجهاً لوجه، بهشاشة الكائن الذي يتحوّل مرغماً إلى ملحٍ ذائب وبخار، لا تفتك باللغة، بل تمنحها احتداماً وسطوعاً وألقاً، ذلك أن هذه الشذرات «استنطاق البدايات بحثاً عن نُور، وهي تجُوس الحواس في العتمة». لا أقنعة هنا، لكننا سنغوص في ألغاز الذات واضطرابها ووحشتها، و«الإقامة في الخوف». شاعر تأملي، وحكيم، دنيوي وروحاني، سوريالي وميتافيزيقي، ونبي بلا وصايا مُلزمة، لكننا سنتأبط «خواتمه» مثل تميمة لحماية أرواحنا من التلف. على مقلبٍ آخر، سننتبه إلى ريادة إضافية تتجاوز بواكيره، وذلك في نسج ما هو شعري في صلب نول السرد، وخلخلة طمأنينة أعشاب الحقلين في آنٍ واحد، نحو فضاء ثالث، سيكون علامة فارقة في تدويناته الأخيرة: «تحنين الرأس كي ترى الأرضُ وجهكِ فتعرف أنها ليست دائماً سطح الجحيم»، و«شمسكَ الليليّة تُخفي أرضي وتُظهر سمائي»، و«اليد أعمق من الفم». بافتراق شعراء «مجلة شعر» إلى جهاتٍ مختلفة، انبثق في المشهد الشعري السبعيني وما تلاه، شعراء يرتدون معاطف الآباء فوق أكتافٍ هزيلة: ماغوطيين وأدونيسيين، ودرويشيين من ضفة موازية، فيما لم يتمكنّ أحد من استعارة معجم أنسي الحاج، على الأرجح سيتعثّر بمشيته، وربما يقع في حفرة!
لنتبع خيط القصيدة الطويل/ محمد علي شمس الدين
أولى ضربات أنسي الحاج الشعرية، جاءت على صورة حرف رفض معقوف، حرف نهي، حرف نفي ممانعة على صورة منجل «لن» استله الشاعر من غفلة اللغة ليتخذه عنواناً لديوانه الأول ( 1960 _ «دار مجلة شعر»). وكأنما استله ليجز به الكثير من السنابل القديمة الهشة، ويجريه في داخل المقدس الشعري والمقدس الديني فيولد في الشعر، أو يؤذن بميلاد قوة رفض جديدة هي أشبه ما تكون بقوة الخطيئة. والرفض في اللغة هو الطرد والنقض، أي إفساد المبرم من العقود والبناء، وفي الفكر اللاهوتي والفلسفي مرتبط بالتمرد والعصيان. من هذه الإيحاءات السالبة للمفردة قوةّ دفع إلى الأمام مثلما تتولّد من حركة التجديف عكس الموج أو الريح للبحارة حركة تدفع بالمركب إلى الأمام.
اللغة الوحشية والمستنفرة لنصوص «لن» حملته من مرتبة الرفض إلى مرتبة هجومية أخرى أكثر تقدماً الاجتياح: «أنت لا تفهمين غزلي. قهقهي. في عينيك البربر والمسوخ. الحب والذئب. الحب وغيري» (النص الأخير في الديوان). هل المنادى امرأة؟ نحسّ في الجمل بشيء من السحر والهلع يمتزجان في مقام مفردة قديمة هي «الحب»… وكيف يتلاقى في عينيها «البربر والمسوخ أوثان القهقهة والذبح …. والذئب …. وغيري»، تلتقي في سفر واحد. هل المقصود امرأة؟ أم هي رمز ولعنة ومنجل ومطرح لإلقاء الهلع؟
لا يوصل نص أنسي الحاج في «لن» إلى تناول ثمار المعنى بسهولة، بل على العكس من ذلك، إنه يميل إلى تنويم المعنى لإيقاظ نقيضه. إن قراءات متعددة لنصوص الديوان، لا تمنحك إمكانية التفسير، بل تدفعك دفعاً إلى التأويل. وهو على خلاف ما هو عليه الشعر العربي في خط سيره العام، من الجاهلية مروراً بالعصور الإسلامية، وصولاً إلى عتبات الحداثة، فالقاموس في الاتجاه العام للشعر العربي كان دليلاً ومساعداً أولياً لفهم لغة القصائد وما يستغلق من المعنى يفهم على ضوء أصول البلاغة من بديع وبيان… لكن ثمة استثناء في هذا السياق العام للقصيدة العربية جاء على أيدي شعراء الباطن، سواء من استخدم منهم المصطلح الفلسفي أم من استخدم المصطلح الصوفي. إن المقاييس اللغوية لابن جني في الخصائص التي تستقيم لجلاء الغموض في بعض أشعار المتنبي، لا تصلح لجلاء الغموض في أشعار ابن عربي أو المعري. سنكون هنا محتاجين إلى معرفة باطنية صوفية أو معرفة فلسفية تزحل فيها الكلمات من معانيها الاصطلاحية في المعجم أو في دفتر النقد المدرسي، وذلك في اتجاه الرموز. هل مال أنسي الحاج في «لن» إلى باطنية تعبيرية؟
يقول: «أخاف. الصخر لا يضغط صندوقي وتنتشر نظارتاي. أبتسم. أركع. لكن مواعيد السر لا تلتقي والخطوات تشع ويدخل معطف. كلها في العنق. اَذان وسرقة» (قصيدة «هوية»). أقول: عبثاً الشرح هنا. ولكن ليس عبثاً التأويل. فمفتاح القول «أخاف». وما تحته من جمل شتى هي ككريات تدور في فضاء الخوف. اسمع كلمة «أخاف» وأغمض عينيك وامش في دهاليز النص تحت مظلّة الخوف. وأنت لست مدعواً لتفهم أنت مدعو لتهجس. الهاجس يسبق الفهم. الهاجس هو لبّ القصيدة.
عنوان القصيدة «هوية» واَخر جملة فيها «دم حديث»، وبين العنوان والنهاية سير عكس سير النصوص الشعرية العربية المألوفة ابتداءً من الشكل وصولاً للإيقاع، وبينهما دوران اللغة. فالشاعر يعرض للبصر شكلاً نثرياً ويعرض للسمع إيقاعاً شعرياً مختلفاً عن إيقاع الوزن والقافية، ولا نعرف ماذا نسميه على وجه الدقة إذا لم نسمه «قصيدة». إذا كان هذا هو الشعر الجديد في لحظتذاك (1960) فهو لا شك شعر إشكالي بعناصره المعروفة، بما في ذلك تلك المختلف عليها فيه. الواضح أنه شعر يحمل راية الضد. لو قلنا هذه «قصيدة _ ضد»، فسيمكن استعمال العبارة نفسها في الطرف الاَخر من المعادلة، فيكون الضد ضد ضده وتقوم الحرب. وهذا ما حصل بالفعل. «قصيدة نثر». لأن النص الثاني في الديوان وهو تحت عنوان «أسلوب» يعزز من فكرة القتال التي يحملها الشاعر. ففي منتصف النص المسربل بإشاراته الغامضة يقول: «على أصفى أراضيكم أشك ياسي». يقول ذلك كمحارب قديم برمح . ولكن من «هم» في «أراضيكم هذه»؟ ولماذا اليأس؟
لا يخفى أن الشاعر يقاتل على أرض الكلمات. يقفز ويلغز ويرمز بها. يناور. يرسم أعداءه ويشكهم برمح اللغة. وهو، كمقاتلي القبائل البدائية في الغابات، يتستر بأقنعة وبالريش. وربما لو رفعنا قناعاً أو ريشة عنه، لانجلت الصورة. يتضح ذلك في النص التالي، وهو بعنوان «الغزو». و«الغزو» في القصيدة حرب تحدث من ثقب الباب. وفيها تصرف ساخر بالسائد من اللغة ومعانيها، وألعاب خفية تدفعنا نحو استجلاء الحيلة الشعرية للشاعر عن طريق الافتراض. يقول: «القطب ارتفع إلى مستوى الحدث»، وذلك في زحمة وصفه لصراعه مع قادم مجهول نحوه للقتال. ضربه على عينه، ثم لبطه على قطبه. ما القطب؟ بضحكة لطيفة نسأل. ونجيب نعم عرفناه. القطب هو موضوع الجذب. وهو في النص عرفناه. نعم عرفناه. من آخر النص تثبتنا من معرفته: «الحرب معطف الشهوة» (كما يقول) و«الحرية افتراس المرأة»، لكن، في التضاعيف، هناك زعزعة في الأسلوب، وسخرية من أقوال دينية مسيحية «من ضربك على خدك الأيمن …» من خلال التحوير، ومحاولة للسيطرة على القارئ والاستحواذ عليه من خلال القناع والغموض، ومن خلال إيقاع نثري يختلف عن النثر، وكأنه شيء من السحر. فغالباً ما الشعراء هم سحرة. والكلمات هي حبالهم الجميلة.
في نصوص «لن» أنسي الحاج صاحب لغة ملغّزة. الإلغاز ربما جاء وليد خوف وتقية، وربما كان وليد التباس أساسي في نفس الملغز. وقد يكون الإلغاز شيفرة تتوجه إلى فئة مقصودة بعينها لتحجب صاحبها وإخوانه عن فهم العامة اتقاءً لسوء فهمهم، أو لتحجبه عن أهل السلطة والبطش اتقاءً لبطشهم. هكذا فعل في الماضي «إخوان الصفاء» مثلاً . لكن الإلغاز اليوم هو أشد تعقيداً من أن يكون تقية أو نتاج الخوف وحده. هو أداة مواجهة سواء جاء في نص فكري أو سياسي أو شعري. النص الرامز نص يحتوي على قوة الغامض والمستعلي معاً. وهو نص مستفزّ. لذلك يتسرب إلى المجابهة والديمومة. النص القراَني مثلاً، في الاَيات المتشابهات، هو نص ملغز، لذلك ينطوي على قوة لا تضاهى. لا يعني ذلك بالضرورة أن كل نص ملغز هو نص جوهري، كلمات السحرة والألعاب الطلسمية تشوّش الوعي. ثمة إذن إلغاز إيجابي (إذا صحت العبارة) وعليه يعوّل في النص الحديث.
بشيء من الجلد والدربة يمكن التعامل مع ألغاز أنسي الحاج. هذا الإلغاز الذي كان وافراً في «لن» و«الرأس المقطوع»، وتراجع لصالح الترسل والوجد في «ماضي الأيام الاَتية» و«الرسولة» ليصل إلى حدود الحكمة في «الوليمة» و«خواتم». ولعل الإلغاز هو عينه «الرفض»، إذ يهب ليكشف ستراً كثيرة شعرية وسياسية ودينية كانت استقرت حتى غدت في المتاحف. في آخر قصيدة «حالة حصار» يقول أنسي الحاج: «أعلن العهر الحقيقة». يا للغرابة. للشاعر أحياناً دورات منتظمة يستقيم فيها التأويل كما في قصيدة «البيت العميق»(ولعلّه يقصد القبر). لكن غالباً ما هو صاحب شطح ونص كاسر، والمهم أنه صاحب أسلوب «يسوع ديكك لا يصيح ديكك لا يصيح يسوع ديكك لا يصيح»… «هات السوط السوط السوط . الجلد يربى بالقوة». وتراه أحياناً يتراجع عكسياً مثل من يقتحم. وتراه يهذي كالمحموم من خلال لعب لغوي جديد حيث تتوالد عنه الكلمات بتساحب اَلي إيقاعي شبيه بالقوافي المتتالية وما هي بالقوافي «ضباب ذباب عذاب .. وراء الوراء وراء الصوت. اللعب الطلب … الخ»، وذلك كله في سريالية كلامية هي أشبه ما تكون بشريط من أشرطة سينما اللامعقول.
المقدمة : قرامطة جدد
مع نصوص «لن». ستغدو المقدمة التي وضعها الشاعر لديوانه في بعض مفاهيمها، أقلّ دلالة من الديوان نفسه، في البعض الاَخر ، بياناً مسانداً للديوان. فهو إذ يبدأ بجملة «هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة ؟» ما يلبث أن ينخرط في ثنائية قديمة (شعر / نثر) ويضع أصولاً لكل من هذين الفنين، أصولاً تقبل أن يقفز الواحد منها من مكانه إلى مكان اَخر بسهولة. «النثر سرد والشعر توتر . النثر يقيم علاقة بالاَخر على جسور من المباشرة والشعر يترك هذه المشاغل …» إلخ، ومع أنه هو نفسه يشير إلى أن هذه الثنائية في فهم قصيدة النثر تجعل من البحث «هذياناً»، إلا أنه يعود فيلصق بالنثر «الزلزلة السطحية الخدّاعة لطبلة الأذن…».
وبعصبية نقية مستميتة يدعو «للهدم والهدم والهدم. إثارة الفضيحة والغضب والحقد». وإن دعاة القصيدة الجديدة قد يتعرضون للاغتيال أو الجنون. وإن علينا أن نبجّ سد ألف عام من الشعر العربي. يقول: «أول الواجبات التدمير. التخريب حيوي ومقدس»، وينهي بقوله: «نحن في زمن السرطان نثراً وشعراً وكل شيء. قصيدة النثر خليقة هذا الزمن حليفته ومصيره».
كتب أنسي الحاج مقدمة «لن» في العام 1960 وكأنه داعية من دعاة حركة سرية جديدة في الشعر… قرامطة جدد. ولا تخفى النبرة الاَرتوية على بيانه. وقد انضوى تحت هذا البيان جماعة من الشباب على امتداد اللغة العربية في المشارق والمغارب. لأن لهذا العنف في الدعوة جاذبية خاصة تجذب إليها دعاة الرفض وتحرير الشعب من عبودياته القديمة. لأن الشعر هو روح الأمة.
والاَن. ماذا نرى في هذه الدعوة وفي هذا العنف؟ الاَن وبعد أربعة وخمسين عاماً على صدور «لن» ومقدمتها؟
نقول نعم، إذا كان العنف من أجل تصفية النوع الشعري. نعم من أجل تصفية الحياة من أدرانها. فإذا كانت السلاحف البحرية ضخمة الرأس تهاجر عشرات اَلاف الكيلومترات في رحلة صعبة محفوفة بالموت لتحافظ على النوع وما يستحق الحياة منها، وإذا كان الأوز المخطط الرأس يعبر جبال «هملايا» ليبقى منه الصنف الأقوى، فإن رحلة ألف عام وأكثر للشاعر من الكلمات تستحق المغامرة لتصفية النوع الشعري. لاستحقاق الديمومة. ونحن نتفق معه في المبدأ. لكن نختلف في الماهية. ماهية الأقوى وماهية القصيدة. وهذا الاختلاف هو أمر حيوي على ما نرى، إذ إن السلاح الخطير للتغيير الذي دعا إليه أنسي الحاج، لم يوضع دائماً بين أيدي أناس يحسنون استعماله. لقد كان من سوء الاستعمال أن الكثير من شعراء القصيدة الجديدة، الموعودة، انتهوا إلى أن يطلقوا النار على أنفسهم. ولعل في قول الشاعر في المقدمة عينها «ليس في الشعر ما هو نهائي» إشارة إلى التغيرات التي طرأت عليه هو بالذات، فطاولت الكثير من آرائه النقدية في المقدمة، ورأيه في ماهية قصيدة المستقبل، ورأيه في اختياراته من الشعراء.
إن توقيت هذه التغيرات الشجاعة مهم، إذ إنها جاءت عشية موته، في الأيام الأخيرة من المرض، وكأنها اعترافات اَخر الرحلة. يقول في «خواتم» (3) تحت عنوان «كلما جرحت هذي البرتقالة/ تتبسم» ( جريدة «الأخبار» عدد السبت في تشرين الثاني 2013): «العديد مما جزمت به في مقدمة «لن» نقضته في قصائد «لن» نفسها. يؤلم هذا التذكير وينعش اليقين بأن لا دائم في التنظير. لا ما يتناول الشكل فحسب بل الجوهر. وهل نعرف الجوهر لنحجمه؟ وأليس لكل جواهره؟ لم أتوقف عن الاعتذار عما اقترفته من تنظيرات اعتباطية في شأن لا يحتمل إلا التواضع. وما جاء من استنادنا أنا وأدونيس إلى كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر إلا إغراقاً لنا في جملة أخطاء». يقول «أحياناً أعاود مطالعة الشعر الذي تحمست له من زمان، فلا أصدق متى أغلق الكتاب وأرتاح من هذا الصدى. إيقاع الموت …». يقول: «ونحن معشر ديوك الحداثة، أجهز أولادنا على الباقي بعدما فتحنا صندوق «بندورا» واندلعت منه أفاعي الكاوتشوك وعقارب القش. أعرنا أنفسنا لنكون جنود الهدم وبيادق القدر. أطعنا إشارات المرور الذي كان ممنوعاً وانتزعنا السدود وانتشينا بما تراءى لنا انتصاراً …». جاءت كلمات أنسي الحاج هذه، وهو في صدد الكتابة عن تجربة شعرية مغايرة لشعره، ومغايرة لتجربة قصيدة النثر، وهو إذ يضع إصبعه على موضع التقاطعات الجوهرية في الأشعار، يعلن تعديلاً في نظراته في المقدمة لماهية قصيدة المستقبل، فيقول: «الشاعر شاعر في أي شكل أراد. العطية الشعرية لا تضيع بتنويع الأداء. بالعكس، الشعر أصواته جميع ما يرتدي وما الرداء سوى حيلة». وأبعد من حراسة النظرية وعيونها المرتجفة. وبعيداً عن أيّ مراقبة سوى مراقبة الشاعر لذاته وقتاله فيها وعلى أرضها، لنتبع خيط القصيدة الطويل، باعتباره هو وحده الصراط المستقيم.
أنسي الحاج رمح ملتهب في الشعر. وقد تضيق الأرض أحياناً عن أن تتّسع لمثل هذا الرمح.
*شاعر
كيف تُحِبّ شاعراً؟/ رشا الأمير
ليس كما اتَّفَقَ، ولا كتدحرُجِ «جلمود صخرٍ حطّه السيل من علٍ»، أن تحب شاعراً ــ سواء أكان المتنبي أم أنسي الحاج ــ وأن تثابر على حُبِّهِ. بل الأدنى إلى المعقول لربما أن يحبَّ واحدنا المتنبي، مثلاً، من أن يحبَّ الحاج؛ فالمتنبي، مهما تعاطاه الواحد منا، ناءٍ بعيد، وكل ما يتناقله الرواة عنه عُرضَة للنقد والجرح، وكلّ ما في الكتب، حتّى العَدل منها والمنصف، عرضة للنقد والمراجعة. أما أنسي (الحاج)، ورغم مرور خمس سنوات على رحيله، ورغم أنَّ الخمس السنوات كفيلة بأن تُحيل عِظامَ أعتى جثة، وأمرَّها، مكاحِلَ، ــ (ولقد كان أنسي ذا عظم مُرّ) ــ أمّا أنسي، فهنا، أقرب من حبل الوريد، بمتناول الذكريات ــ والذِّكْرياتُ، إن صح ما ذهب إليه أحدهم يوماً «ضفادع»!
لمائة سبب وسبب لك أن تكره المتنبي، ولضعفها من الأسباب، لأنه هنا، قريب، ولأنك عرفته بمقدار ما قرأته، لك أن تكره أنسي الحاج ولكنك، رغم كل الأسباب الموجبة لأن تكرهه، تحبه، ويزيدك هذا الحب حيرة: «تَبّاً له وتَبّ… ما الذي يغفر خطايا الشعراء وسقطاتهم؟»؛ (وأسارع إلى الإضافة وإلى تقييد قولي: «الشعراء الشعراء» فلا يدرج نفسه في عداد هؤلاء كلّ ذي أحد ذيّل بتوقيعه شيئاً ما أسماه قصيدة).
… تحبه وتكرهه، وتُكبِر فيه هذا، وتعتب عليه ذاك، ومن حيرتك تقول: لحسن الحظ أنَّ الشعراءَ، شأنَ سائر البشر، يموتون، وأنَّ غيابهم، كأي غياب، يرخي من سطوتهم، ويُشْحِب من ظلّهم، بل ويُجَرِّئُ عليهم.
في الذكرى الخامسة على رحيل أنسي الحاج لا بأس لربما من بعض التَّجَرُّؤِ عليه، ومِنَ التَّساؤل، عما يبقى بيننا وفينا من تركاته الكثيرة. ولا عبثاً أقول قولي هذا ولا لكي أفسد الذكرى على محييها… فإنما نتجرأ على أنفسنا متى ما تجرأنا على أنسي الحاج أكثر مما نتجرأ عليه، وإنما نتطفل على مستوراتنا نحن متى ما تطفلنا على حياتَي أنسي الحاج العامة والخاصة أكثر مما نتطفل عليه أو نتعدى أطواراً لا ينبغي تعدّيها… (ولا سيما أن حياتَيْهِ تينك كثيراً ما تعانقتا عناقاً من الحميميَّة بمكان يصعب معه فصل إحداهما عن الأخرى).
فضلاً عن القلم، كان أنسي الحاج صاحب سلطة، وككل صاحب سلطة كان ضنيناً على سلطته هذه، حريصاً على تمويه أسباب احتفاظه بها، ومن ثم ما أحاط به نفسه من هالة ومن مريدين. ولا عيب فيه أنَّه كان كذلك، ولا عيب أنَّ «حسن التخلص» كان سياسته الأثيرة. ولكن أنسي الحاج، إلى هذا جميعاً، لم يتزلّج على الشعر وغيره من فنون الكتابة فحسب، بل كان قطعةً من بلد، («لبنان»)، أقلُّ ما يقال اليوم في هذا البلد إنَّه يتقادم، رأي العين، على قدم وساق… وبهذا المعنى فأنسي الحاج، كما آخرين، ليس ملك نفسه، ولا ملك مريديه، القدامى والمحدثين، بل مرفق عام يجري عليه «حق المعرفة» كما يفترض أن يجري على سواه من المرافق العامة، وبهذا المعنى أيضاً يحلو لي أن ينكبَّ أحدهم يوماً على وضع سيرة تُحْصي حَيَواتِ أنسي الحاج الكثيرة فيرثيه الراثون على بينة من أمرهم ومن أمره…
لست ممن يعظّمون من شأن «الحقيقة»، أو ينسبون إليها فضائل شفائيّة سحريّة، ولا ممن لبسوا السواد يوم طرد أنسي الحاج طرداً من «النهار»، بيت أبيه، وكان ذلك إيذاناً بما يتسارعه تقادم البلد الذي كان هو، أنسي الحاج، أحد عُمَدِه، ولا ممن راعهم أن ينتهيَ به الأمر في «الأخبار»، ولا ــ بما يتجاوز أنسي الحاج والمناسبة ــ ممن يحمِلون تقادم لبنان ذاك على محمل النازلة الكبرى التي تنذر بالويل والثبور، ولا… ولا… ولكن أن تحبّ شاعِراً من طريق القراءة، ثم أن يُكتب لك أن تتّصل بينك وبينه معرفةٌ شخصيّة، ثم أن تعمل في مؤسسة يشارك هو في إدارتها، ثم أن تلتقي به مجدّداً بوصفك ناشِراً لأعماله الأولى، ثم… ثم… ثم أنْ يموت، ثم أن تحاول أن ترثيَه صادقاً… كلا، ليس كما اتَّفق أن تُحِبَّ شاعِراً… ليس كما اتَّفق أنْ تُحبَّ أنسي الحاج!
* روائيّة وناشرة
صاحب «لن» في عيون شعراء مصريين: كان رهانه ألا يراهن على الجمهور!/ محمد شعير
صاحب «لن» في عيون شعراء مصريين: كان رهانه ألا يراهن على الجمهور!
يراه عبد المنعم رمضان «رفيقاً» في الحياة وفي الموت، ويصفه الشاعر محمد عيد إبراهيم بـ «هدهد سليمان» الذي كان دليلاً إلى «الشعر الذي لا سكّة له إلا في الموت ولا قلب له إلا في الحياة». هو الشاعر الصعب حسب تعبير محمد بدوي. هكذا أجاب عدد من الشعراء المصريين عن تأثير قصيدة أنسي الحاج على تجربتهم، عن حدود هذا التأثير.
في البداية يرى الناقد والشاعر محمد بدوي أنّ أنسي الحاج شاعر خاص، صعب، عالمه فردي ما حدّ من تأثيره في القصيدة المصرية: «تجربته بين أكثر التجارب تطرّفاً في رفض الموروث. وإنه بعد ديوانيه «الرسولة» و«الوليمة»، تحوّل إلى شاعر خلاص بالمعنى المسيحي. وهي مفردات بعيدة عن اهتمامات القصيدة المصرية». ويتوقّع بدوي أن يتضح تأثير أنسي في القصيدة المصرية خلال المرحلة المقبلة، «لأن بعض التجارب الجديدة تحتفي بالفردية وهذا رهان من رهانات أنسي: عدم المراهنة على الجمهور».
بينما يرى الشاعر عبد المنعم رمضان أن صاحب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» لم يكن الأوّل في كتابة قصيدة النثر الحديثة، «سبقه جبرا إبراهيم جبرا بقصائد قرأناها فيما بعد مرة واحدة ثم أهملناها، كما سبقه توفيق صايغ بديوانه «30 قصيدة» وكان آنذاك عملاً شعرياً فارقاً، ولكن أنسي الذي لم يكن الأوّل، بدأ منذ ظهوره وكأنه الأكثر قدرة على الهدم والبناء، هدم موسيقى العبارة، وإقامة موسيقى الكلمة، كان منذ ظهوره الأكثر قدرة على استجلاب الإيقاع من مكان آخر، غير مكان الوزن، فاحتمت قصيدته بعالمها الداخلي، واستغنت عن الباترون واصطدمت باللغة المكرسة للشعر إلى أن عثرت على شفافيتها عبر تجارب من الكوابيس والوقاحة والصلاة والنعومة، أنسي الحاج كان رفيقي قبل أن يموت، وظل رفيقي حتى الآن». التقى رمضان أنسي في بيروت، وجمعتهما علاقة متميزة حتى أقنعه بإصدار أعماله الكاملة في طبعة شعبية عن «هيئة قصور الثقافة». تردّد أنسي بسبب خوفه من الأخطاء المطبعية، وعدم تمكنه من مراجعة الأعمال، فاتفق معه عبد المنعم على إصدار الأعمال مصورة بدون «صف جديد» فوافق على الفور بل وتنازل عن حقوقه المالية. رغم أن الشاعر إبراهيم داود يعتبر أن أنسي والماغوط وسعدي يوسف «هم الآباء الشعريون للقصيدة الجديدة في مصر، وهم الأقرب إلى ذائقتنا»، لكنه يضيف: «أنسي كان ضد سطوة البلاغة العربية، أو البلاغة الأوروبية. من هنا، كان تأثيره عميقاً على رغم حضوره الخافت». إلا أن الشاعر أحمد طه يختلف مع هذا الطرح معتبراً أن أنسي شاعر ينتمي إلى المدرسة البيروتية التي لم تؤثر في الشعر المصري لأن لها تقاليدها الاجتماعية، وأن تجربة رواد هذه المدرسة هي «روحية» لا يمكن استنساخها في كثير من المجتمعات.
ويتفق الشاعر علاء خالد مع داود: «كان أنسي من أوائل الشعراء الذين تعرّفت إليهم، وهو مع سليم بركات الأقرب إلى ذائقتي الشعرية. كان تأثير بيانه الشعري في ديوان «لن» عميقاً في تجربتي. لم تكن أهمية البيان لأسباب شعرية فحسب، بل أيضاً لِما قدّمه من تصوّرات لفكرة السلطة والشعر، وكيفية وجودهما معاً». أما الشاعر جرجس شكري فيري أن أنسي الحاج عكس كل الشعراء، «دخل إلى القصيدة مسلحاً بأدوات النثر وليس بأدوات الشعر التي نعرفها، دخل وهو يثق تمام الثقة في أن يمنحه النثر شعراً خالصاً من دون دعم أو مساعدة من أدوات الشعر التي نعرفها، ربما حاوره طويلاً وسأله لا تخذلني يا صديقي، فأنا أؤمن بك».
ويضيف شكري: «أقرأ شعر أنسي الحاج في صمت، ولا أناقش الآخرين حوله، لا أتحدث مع أحد عن شعره، وكأنه طقس سرّي ممتع، أتأمّله، أفكر في هذه السطور وفي قسوة المعنى، أهمس لنفسي بكلام أنساه بعد لحظات وأقول لي: لا تكتب عن أنسي الحاج، ولا تتحدث عنه، احفظه كمحبة لا تسقط أبداً»، ويكمل: «في أحيان كثيرة أجد الشعر في نثر أنسي الحاج أجمل من الشعر في نصوصه الشعرية، فتقريباً لا حدود فاصلة بين نصوصه (فلا شيء يخرج عن طاعة الشعر، ومن يخرج من طاعة الشعر يسقط)، كما أنه يرى أن الفنون كلها تنهض من وحي الشعر، فالشعر في البنية العميقة لكل الفنون وما يخلو من الشعر يخلو من الإبداع، يخلو من الحياة». الشاعر محمود خيرالله يصف علاقته بقصائد أنسي: «في فترات المراهقة الشعرية اعتبرنا قصيدته انحرافاً عن قضية الإنسان وحرَّيته، لكن قبل موته بقليل فهمنا أنه لا بد أن نعترف أن قصيدته تستطيع أن تبقى مع الزمن، شاهداً على أصالة من نوع خاص، على فرادَة أريد لها أن تبقى راسخة في الذهنية العربية، كونها فرادَة الاختلاف والعزف المنفرد، حتى في الشعر، يبقى العزفُ المُنفرد، نوعاً فادحاً من الجرأة». ويوضح خيرالله: «أنسي هو الشاعر الذي يترك أثراً بطيئاً ودامياً، في القلوب، فقد تسلل خجلاً في تجارب سبعينية وثمانينية، قليلون حاولوا تقليدَ نغمته، لكن المدهش حقاً أن كل الذين تمثلوه اعْوجَّت تجاربهم فجأة، لأنهم ليسوا هو، رجلٌ لا يرى في عتمته سوى عُري الحبيبة، ويستطيع ـ إذا ساعدته الظروف ـ أن يجدَ قمر استراحتهِ في ليلةٍ مُعتمة». أما محمد عيد إبراهيم، فيختتم: «أنسي، شاعر يريد أن يبدأ الكون، لكنه ليس آدم، هو قابيل، فقد تملّكته الكآبة التي لم يعرف كيف ماتت، لقد سحرته الأشياء بمجرد لمسة، كما سحر هو الأشياء بمجرد لمسة، فلا هي دلّته على الطريق، ولا عرف كيف يدلّها على ما كانت عليه أو ما ستؤول إليه، لا الرائحة أشارت إلى رائحة، ولا دلّ الموت عينيه في النهاية على الطريق القويم التي يُفترض أن نسلكه لنكتب».
من يهتك «شاعر الهتك»؟/ جوزيف عيساوي
ما تهمّني معرفته حول أنسي الحاج مسائل تتصل بأدبه، وكذلك بعض حياته العميقة، وهو الشاعر الشاعر، وهو إلى ذلك النجم الأدبي طوال عقود وإحدى أيقونات الحداثة اللبنانية: ما تأثير وفاة أمه وهو بعد طفل عليه، وبالتالي على أدبه؟ أو زواج والده بعد رحيل الوالدة، وكيف عاملته الخالة وانعكاس ذلك على نظرته إلى المرأة والحب والعائلة والأبوّة؟ كيف كانت علاقته مع آل تويني، أصحاب «النهار»، ومنهم ناديا، ومع يوسف الخال وجماعة مجلة «شعر»؟ وكيف أثّر كل ذلك على مسيرته وتحولاته الأدبية والصحافية؟
ما يعنيني دراسات في مدى تأثير «لن» الفعليّ على الشعراء وفي الحركة الشعرية العربية الحديثة. أو أسباب تحوّل الشاعر عن غضبه (في مجموعتيه الأوليين) ونقمته على الوجود والاخلاق وكل مؤسسة، وعلى الحب والعائلة (رغم أن «لن» نفْسه، «كتاب اللعنات» كما يوصف، مهدى «إلى زوجتي»!) نحو إيمان بالمسيح وعجائب القديسة ريتا وطهرانية ذات منحى صوفيّ من خلال المرأة، وهل قصة عشقه فيروز، أو ربما نساء لا نعرفهن، وراء هذا التحوّل من شيطان الإلحاد واللعنات إلى ملاك الشعر وسليمان شعر الحب (لكن من دون إيروسيات «نشيد الأناشيد» ولذاذاتها). لماذا لا يجرؤ كاتب على كلمة واحدة حول هذه العلاقة وطبيعتها مع المطربة، وقد ألهمت الشاعر أكثر كتبه سهولة وشعبية، «الرسولة بشَعرها الطويل حتى الينابيع»؟ وإلامَ يمنعنا الخوف والعيب والرقيب الداخلي أو الخارجي من كشف حياة الأدباء لإضاءاتٍ مختلفة على نصوصهم، علماً بأن بعض النقد الأدبي والثقافي (نظرية رولان بارت حول «موت المؤلِف» والبحوث الألسنية والسيميائية) لا يرى في عيش صاحب النص وسيرته فائدة لسبر معانيه.
ثم إن أنسي كتب في «خواتم»، قبل أعوام قليلة من غيابه، أن الشعر يكمن أيضاً، وخاصة خارج القصيدة أو خارج ما يمكن اعتباره شعراً، في مقالات بعض الكتّاب مثل سمير عطالله وغسان شربل، كما قال. واعتبر «خواتم»، وهي تأملات وتفكُّر في الوجود والانسان والحب والفنون، ذروة صنيعه الأدبي. فهل لأن القصيدة «أقفلت» لدى الشاعر المقلّ، المنقطع مرةً 15 عاماً عن الكتابة (بدءاً من عام 1976، بعد مقاله «كان لي وطن»)، أم لأنه يتمرد على منجزه الشعري وأشكال القصيدة وبنيتها، أم أنه في تأملاته النثرية بلغ عمقاً ووساعة في غَرْف موضوعات لم يطرقها شعره، إضافة إلى مدى من «الوضوح» والتأثير في القراء غير مسبوق في قصائده؟ هل بذلك كان يرفض النخبوية وانغلاق النص الشعري أقله كما كتبه في ما اعتبره البعض تحفته الأمضى، «لن»، وتابِعتُها «الرأس المقطوع»؟ أين كان أنسي سياسياً، أكان فقط يسار جريدة اليمين، «النهار»، عبر ملحقها، وبالتالي كان له يساره المختلف عن أحزاب اليسار، وبهذا المعنى كان بين اليمين واليسار بالمعنى السياسي والموقف من النظام اللبناني؟ لماذا توقف عن الكتابة طوال حرب لبنان؟ وهل هذا جرّاء موقفه الملتبس منها؟ وكيف «صرّف» غضبه وأين؟ هل كان موافقاً على السياسة التحريرية لصحيفة «الأخبار» التي كان «مستشاراً للتحرير» فيها؟
كلّها أسئلة، وهناك سواها، تحتاج إلى دارسين ودارسات ينقلون الكتابة عن أنسي من مجرد المديح الى النقد الثقافي والأدبي الذي يغْني الحركة الأدبية بالكشف والتحليل كما بالفهم الجاد للرجل ومواقفه السياسية والاجتماعية (ألم يتراجع مثلاً عن دعوته الى الحرية الجنسية؟) ومنجزه ومكانته في عصره والادب العربي عامة.
أخيراً هل بين أصدقائه ومريديه من قد «يخون» شيخه وكاهنه بنقل شيء من آرائه التي لم يفصح عنها علانيةً وقد لا يزعجه أن تُعرف بعد رحيله؟ هل بين حبيباته الشاعرات وسواهن من تتجرأ فتروي عن حياتها معه أو تنشر ولو رسالة صوتية أو قصيدة تلقتها من شاعر الحب عبر واتساب (كما فعلت غادة السمان برسائله إليها)؟ أيعقل ألا نعرف عن «شاعر الهتك» والسوريالية واقعةً غريبةً واحدةً أو فضيحةً ولو بسيطة أو سراً يكسر الصورة الرسمية التي حرص على الظهور بها اجتماعياً ويبدو أنها ستستمر الى أجل ليس بالقريب؟
أليس غريباً أن يكون أحد أوائل السورياليين العرب أكثر الشعراء ملائكية وتكريساً «كأنه جبران آخر أو فيروز أخرى للبنان» كما كتب محمد ابي سمرا؟ ترى هل سنحظى يوماً بسيرة ولو أوّلية لأنسي الحاج كما فعلت نادين أبو زكي مع نزيه خاطر في كتابها عنه «رئيس جمهورية من الأعداء»؟ أم أن سطوة أنسي، ومن مرّ في حياته، على الحياة الثقافية أقوى من أن تسمح بتنقيب كهذا يحترم حق الأدب والأجيال بكتابة تؤرخ وتشهد فتؤسّس لتراكم معرفي لا مدينة ولا ثقافة من دونه؟
* شاعر
كتابة الحبّ والتمرّد والحرّية/ عيسى مخلوف
يأتينا أنسي الحاج دائماً من جهة البرق الذي يلمع في كلماته. ومن خلال هذا البرق، لا نزال نلمحه في السماء العربية التي تزداد حُلكة، لأنّ من كان مثله لا يوضع على رفوف الذاكرة. من كان مثله، لفرط حيويّته، لا يغيب.
«كلمات كلمات كلمات». صرخة هاملت هي صرخته بالذات. كانت الكلمات أرضه وغصن أحلامه، وقد نقل عبرها قسوة الوجود وفرحه. جَمَّلَ عزلته والغربة، ولوَّنَ جروح طفولة لم تندمل، كما أزاح ظلال الواقع كمن يزيح عن وجهه الأغصان المتشابكة في غابة كثيفة مظلمة.
الكتابة، هنا، ليست فقط للكشف والتأريخ والشهادة، وليست للحلم بالأشياء البسيطة وبالتغيير. إنها أيضاً محاولة لاختراق الجدار المغلق ونافذة وهميّة للهرب. الهرب، لكن إلى أين؟
منذ البداية، عاش أنسي الحاج الخوف الأصلي المتجذّر في داخله. ديوانه الأوّل «لن» يبدأ بكلمة «أخاف». الخوف الذي ينبع من الفقد المبكّر ومن الهاوية التي في نفسه. وكان صوته يعلو ويرعد بمقدار ما يزداد خوفه، كأنما ليشعر بأنه لا يسير وحيداً في «ليل العالم». أنّ صوتاً حنوناً آخر سيطلع فجأةً من وراء صمت الصحراء الهائل وسيفتح أمامه الدروب. لذلك كان يبحث عن خلاص في الحبّ، أو بالأحرى في ما يتوهّمه وما يسقطه من نفسه عليه. أليس هو القائل: «بين جميع أنواع فشلي أختاركِ»؟ كأنّ سفينة الخلاص تنأى، فيما هي تقترب. كيف لا وكان يعتبر أنّ الحبّ يؤلم حتّى الموت إذا ما تبودل ويؤلم حتّى الموت إذا لم يُتبادل؟ هذا هو أنسي الحاج، المقيم عند حدود الثنائيات والتناقضات، داخل الأسئلة الصعبة لا في الإجابات الرخوة الجاهزة. يغضب ويشفّ، يثور ويخمد، يكفر ويصلّي، يلعن ويبارك، يشتعل ويعصف حيناً، وحيناً آخر، ينزل مطراً خفيفاً أو ضوءاً عذباً في ليلة صيف. وكتابته التي تحفر عميقاً في الذات بحثاً عن النواة الأولى هي كتابة الحبّ والتمرّد والحرّية.
حين التقيته في «النهار العربي والدولي» في باريس، أوّل وصولي إليها، لم يكن بعيداً، فكراً وعاطفة، عن لبنان الذي كان يشتعل بنيران حربه الأهلية ويتحوّل أرضاً خصبة للذئاب. وكانت تلك الحرب تنغّص عليه فرحته في وجوده في المدينة التي يعشق. كان يعيش حالة غضب وقرف، وخيبة أمل كبيرة بالواقع اللبناني. خيبة أمل بالبلد ونظامه السياسي، وبالناس والحياة، وخصوصاً الناس الذين سقطوا في براثن الفخّ الطائفي. كان منفاه الداخلي أشدّ وقعاً من الابتعاد قسراً عن المكان الذي حلمَ به على «هوى حبّه». وكنّا، حين ينتهي من عمله في ساعة متأخّرة من الليل، نذهب، أحياناً، إلى مطعم «لاكالافادوس» القريب من مقرّ المجلّة، ونحتسي كأساً من النبيذ الأحمر، بينما نستمع إلى الصوت المعتّق الأجشّ لمغنّي الجاز الأسود الذي يساعدنا على وداع نهار آخر.
* شاعر
لئلا يُجعل أسير «لن»: أنسي الحاج من القصيدة المارقة إلى دعة الانشاد/ بسام حجار
لئلا يُجعل أسير «لن»: أنسي الحاج من القصيدة المارقة إلى دعة الانشاد
ما عاد الشاعر «حراً» وما عاد «النبي، العرّاف والإله»، فهل يعني هذا أننا جاوزنا «زمن السرطان، هنا، وفي الداخل»؟ هل جاوزنا الحد الذي جعل من مقدمة «لن» (1960) مجموعة أنسي الحاج الشعرية الأولى، بياناً مهّد لقصيدة النثر العربية طريقاً أوصلتها إلى ما تتقوّم به الآن؟ لمَ السؤال؟ ربما لأن قارئ أنسي الحاج، وبعد خمسة وثلاثين عاماً من صدور المقدمة والكتاب، يختصر الطريق دوماً باللجوء إلى قراءة مستعادة للمقدمة البيان والكتاب الجارح، مستعيناً بهما لرسم صورة للشاعر مجتزأة وجانبية. ففي مثل هذا التناول اختصار لمسار ليس خيطياً كما يحلو للنقد أن يرى. وربما كانت المقدمة «المارقة» امارة تناقض يرسم سبل السير في اتجاه ما يجاوزه، وما ينقصه، وما يجعله الماضي المتجاوز، وليس الماضي المقيم في حاضر يكون مثل الحال الهستيرية.
القصيدة المارقة
هل أن شروط قصيدة النثر، على ما زعمت سوزان برنار، هي «الإيجاز (أو الاختصار)، والتوهج، والمجانية»؟ وهل أن عالمها هو عالم «بلا مقابل»؟ قد تكون ذرائع هذا القول في الاعلان الصارخ، «نحن في زمن السرطان»، أي في زمن هو المظهر النقيض لزمن العافية، ما يقتضي كتابة مختلفة هي نقيض كتابة العافية والتمام. من ذلك الاعتلال إذاً، وبسبب منه، كانت قصيدة النثر ضرورة. ولأنها كانت منه اتخذت شكله ومضمونه. فالواقع سرطاني، والحياة سرطانية، على غرار الخلايا السرطانية (العضوية) التي تتكاثر إلى ما لا نهاية مع فقدان وظيفتهما، ويكون التوالد والتكاثر (والتورم) مدعاة خلل واعتلال؛ وما يصح على الواقع والحياة، يصح في اللغة، إذ تميل هذه اللغة في العبارة عنهما إلى «هسترة متواصلة ومستميتة» لأصول صرفها ونحوها وانتظامها وتركيبها. تكاثر فوضوي في الخلايا، يوازيه، أو يخالطه، على نحو هذيان الجنون أو «اللعنة»، هذر من النثر المارق، أي النثر المنتثر والمنثور. فالمرض مرضان، اختزان هائل لمضامين الرفض وغرائزه وميوله ونزعاته، ودفق لغوي يكاد، لتزاحمه، أن يصاب بالعي، والتأتأة. وهذه كلها نقائض الفصاحة واللسان القويم. قد لا يجدي هنا أن نتخذ من شعر أنسي الحاج شواهد نثبتها بين السطور لكي يستقيم للقارئ إدراك مثل هذا التناقض الذي يفضي الى تناغم وانسجام. فالمقدمة وقصائد «لن» أصبحت بعد احتلال قصيدة النثر مكانتها (لا بل سيادتها على المناخ الشعري بالعربية)، أشبه بالاصل الناظم، نظراً وممارسة. غير أن ما تدور حوله المقدمة لا يجد تمثيلاً افضل من قصيدة «فقاعة الاصل، أو القصيدة المارقة» («لن»، ص 61)، وأقصد «شارلوت»، وهي ليست امرأة، وليست طيف المرأة، بل نثرة الاصبع. وقصيدة أنسي الحاج هذه، مارقة، أو هكذا يسميها، وعن حق، لأنها تجمع كل معاني الامراق والمروق والتمرق والامتراق، أي إنها تجمع كل معاني الانتثار و«سقوط الشيء، من الشيء»، و«الفساد» و«الخرق» و«التجاوز» والخروج من الشيء وعليه، من غير مدخله. على غرار السرطان، وعلى غرار اللغة الهستيرية.
في كل ذلك، كان أنسي الحاج يستعير التعريف من تجربة قصيدة النثر (الفرنسية) ليقوّض به نسقاً كان سائداً حتى في تجارب جاورته، زمنياً، وحملت راية التجديد والحداثة. لذا كان شعر أنسي الحاج يستجيب في «لن» (البيان) و «الرأس المقطوع»، إلى ضرورات التأسيس، وكل تأسيس هو شكل من أشكال القسر، فكانت قصيدته تميل إلى «الإيجاز»، وتتألق في «توهج» لافت غير مألوف، لكنها كانت تقف دون عتبة «المجانية»، فرفض الوظيفة يغاير التأسيس لهذا الرفض الذي هو «وظيفة» (للشعر) على نحو ما. وما جاء في «الرأس المقطوع» إنما كان بمثابة التأكيد، عبر تجربة الكتابة، على ما جاء في البيان/ المقدمة: «أول الواجبات التدمير». فكان إطلاق صرخة «المروق» مدوية، كأنما لإعلان نهاية زمن وتجربة، هما، في آن واحد، تدمير لعبارة الخارج وتدمير للذات الحميمة. وكان التلمس كأنه تلمّس ما في جوهر الفرد «المارق» من خلال صورته في مرآة مكسورة. فلا اللغة لغة، ولا الفكرة فكرة، ولا المعنى معنى. عبث يراكم عبثاً مدمراً يطاول، أوّل ما يطاول، مزاعم الذات الجمعية. وإذا كانت التجربة المجاورة آنذاك تفرد في إنشادها للجوقة محلاً ومكانة، فقد كانت أدعية أنسي الحاج وتداعياته ولغة جنونه تفاقم، عبر صرخة في العراء، فرادة الصوت التي لا تنتظر جواباً (خلاصاً؟) إلا أصداء الصوت.
الترسل وجانب الطمأنينة
لم تكن الصرخة عابرة، غير أنها كانت صرخة في قفر. وما خلفته لم يكن مجرد وهم أو صدى، بل ربما كانت الصدمة التي جعلت أنسي الحاج «يتجاوز الحد الذي يرسمه لنفسه» أو الأحرى، الصدمة التي أتاحت له، على الدوام، أن يبدد لغته نثراً وانتثاراً، قبل أن يعاود امتلاكها نضرة معافاة وجديدة. وكأن «هسترة اللغة» إبراء لها مما يعلق بها، في سياق التجربة، من استكانة للمعنى الواحد. لم يصبح الزمن معافى، وهو سرطاني ما يزال، غير أن «ماضي الأيام الآتية» كان مطهر القول فيه. والمطهر اختراع محض لذات تريد أن تجتنب الفصام الحاد، فتقيم على مزاج النقيضين ردحاً أو ملاوة، إنه القول الوسط، بين «المروق» و«اللعنة» و«الفساد»، وبين الرسل والاسترسال الذي هو استئناس وطمأنينة. لم يصبح الزمن معافى ولم تر النفس فردوسها الأرضي بعد، غير أنها تقيم بين عذابات التذكار وعذابات التوق والانتظار، اذ لم يستو النطق بعد على الرفق والتؤدة (أو «التمهل»، كونديرا) لكنه يكتم الصرخة في منزل أدنى إلى اليأس منه إلى الرجاء، وإن كان الرجاء بلغة مقاصده. ولذا يسود التواتر في لغة مصفاة لكنها تحمل عناصر من ترابيّتها الحارة. ولا يصدح الانشاد واستدعاء المنادى، من غير أن تطمئن إلى توأمها، الكائن المقيم بين عتمة ونور. الكائن الطيفي الذي لا يعطى له أن يكون مدمّراً (كما في بشارة المقدمة) كما لا يعطى له أن يبلغ استكانة الدعة والطمأنينة. وإذ ذاك لا تحتفظ قصيدة النثر من تعريفات «المقدمة/البيان» إلا بما يعينها على الاحتفاظ بحريّتها في إنشاء تجربة الإقامة على النقيضين، على العتبة بين الإيغال في النشيد، والمبالغة في الايجاز، فلا يطلق عنان اللغة جامحة إلى حدود «الهسترة» ولا تزمّ إلى حدود الاقتضاب. غير أن المؤكد أن القصيدة ما عادت هي نفسها، وما عاد أنسي الحاج شاعر «لن» وحسب، بل أصبح أيضاً شاعر «ماضي الايام الآتية» الذي تُلي بـ«ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة» (1970 للطبعة الاولى)، والذي ربما كان اجمل مجاميع أنسي الحاج على الإطلاق.
فقارئ «ماذا صنعت بالذهب…» يأنس الى لغة مختلفة، أو الأحرى، إلى إيقاع لغوي مختلف، لأن ما يتبدل في تجربة أنسي الحاج ليس المعجم الهائل الذي يستخدمه، بل نبرته. وما كان يبدو محض انتثار متعمّد للغة ترفض أشكال اتّساقها المسبقة، يستحيل ترسلاً في الكلام فيه «التوفر والتمهّل والتثبت والتفهم والترفق من غير أن يرفع صوته شديداً» (لسان العرب)، وكأن الكلام يتآلف (في تنافره) نبرة قبل أن يستقيم الإنشاد نشيداً (كما في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»).
قد يكون «ماذا صنعت بالذهب…» علامة على حدة في سياق تجارب قصيدة النثر العربية، وربما قيّض له ذلك، لأنه كان محل اختبار ومزاج لشفاء مزدوج؛ الأوّل من دمار العالم، والثاني من وهم لغة قادرة على اجتراح المعجزة. معجزة النبوة والعرافة، ومعجزة الألوهة.
صارت الأرض أرضاً والسماء سماءً والفكرة فكرة والمرأة امرأة… وصار أنسي الحاج ما كانه وما هو في حاضر الآن وما سيكونه في مقبلها، وذلك في وقت معاً، وربما صارت اللغة احتجاجاً مكتوماً «لا ترفع صوتها شديداً» أشبه باعتمال الهجين من كل شيء. نصفها سماوية ونصفها ترابية ونصفها خبر ونصفها غناء ونصفها نثر تبرع في جمع هذا القدر من الانصاف في واحد متعدد. هو العالم الذي لا يني أنسي الحاج يرسم حدوده ليعاود محوها مجدداً، فيكون العالم عالماً ويكون العالم ذروة التلاشي في قيمه التي هي حقيقة أكبر منه. وفي هذا مقدار من شفافية الانتماء الى عناصر بسيطة، وفيه أيضاً حرية اليتيم المأسوية.
اليتيم
واليُتم يُتم الفقدان الأبدي. الفرادة، لا الصلة ولا النسب. فرادة تقف مثل علامة على عتبة أشياء، وعند منعطف عوالم ذات أبواب مغلقة. ولذلك ربما جُعِلت مقدمة «لن»، منذ صدورها (في مجلة «شعر») إلى اليوم، ذريعة لسجال تنظيري دار ويدور (ولو متأخراً) حول قصيدة النثر (ولنا في السجال الشعري المصري الآن خير مثال على ذلك)، غير أن تجارب قصيدة النثر العربية التي تلت ما سُمّي «مرحلة الروّاد» لم تستلهم شعر أنسي الحاج، وكذلك الأمر التجارب الشعرية اللبنانية. لا بل ربما كان محمد الماغوط (وهو أبرز شعراء هذه القصيدة، إلى جانب الحاج، في ذلك الوقت قبل أن ينحاز إلى المسرح ثم إلى الصمت)، إذاً ربما كان محمد الماغوط الأبرز أثراً في تجارب الشعراء اللاحقة، او حتى سواه ممن لم يكتبوا قصيدة النثر. وليس في هذا القول أي رغبة في خوض سجال، وإنما المغامرة في طرح سؤال ليست الإجابة عنه إجابة بديهية كما تبدو: لمَ يُجعَل أنسي الحاج أسير «لن» ومقدمته؟ ولم لا تُقرأ تجربة هذا الشاعر في سياق اتصالها وانقطاعها وتناقضها وإنكارها المتصل لما أنجزته برفضها الحدود التي رسمتها لذاتها بداية ثم لم تكفّ عن الخروج عليها وعنها، على غرار القول الذي يُنشأ على استدراك لا يني يفضح نقصان القول إذ يقال. ولذلك ربما يبقى للأشياء غبطة أن تقال تكراراً.
قلة قليلة من الشعراء يتواصل السجال حولهم، أو الأحرى يُستأنف، كلما استؤنفت أسئلة الشعر، وأسئلة القصيدة التي صارت نثراً، وأنسي الحج واحد من هذه القلة القليلة. خمس مجموعات له يُعاود طبعها بعد سنة واحدة من صدور مجموعته السادسة «الوليمة» (1994)، أي بعد نحو عشرين عاماً من الصمت. فإذا بالسجال يُستأنف، وإذا بالسؤال (سؤال الشعر) يُطرح مجدداً، وبالحماسة التي تفترضها أعمال لم تفقد شيئاً من نضارة قولها: «لن»، «الرأس المقطوع»، «ماضي الأيام الآتية»، «ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة»، و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع».
فلا شك في أن قصيدة النثر قد استعادت اليوم بعضاً من أبرز علاماتها المضيئة.
* مقال منشور في «الملحق الثقافي» في جريدة «النهار» (السبت 4 آذار 1995)
هوية قلقة/ رضا عطية
يأتي أنسي الحاج في مقدمة الشعراء العرب الذين عبروا بالقصيدة العربية، في تأسيسه لقصيدة النثر، إبداعاً وتنظيراً، إلى عهد ما بعد الحداثة، بسعيه لتقديم لغة مختلفة ومتجاوزة لأسلافه من الشعراء. لقد سعى أنسي الحاج لإحداث قطيعة ما مع اللغة الشعرية المألوفة وتقديم نصّ شعري يعتمد على لعبة الإرباك اللغوي والإرجاء الدلالي، تأكيداً على لامحسومية المعنى ولايقينية العلاقة بين الدال والمدلول، لقد أمست، اللغة الشعرية عنده، أداة للتعبير عما تموج به الذات، كنفس إنسانية، من تهويمات وانفعالات مارقة، بدت اللغة في نصوصه متمرّدة كروحه. تبدو الذات في شعر أنسي الحاج قلقة، في حالة بحث دائم ومحاولة تبصُّر مستمر لهويتها الموسومة بالقلق والاضطراب، كما يبدو في قصيدة «هوية»:
«أخاف./ الصخر لا يضغط صندوقي وتنتشر نظّارتاي. أتبسّم،/ أركع، لكنْ مواعيد السرّ تلتقي والخطوات تُشعُّ،/ ويدخل معطف! كُلّها في العُنُق. في العُنُق آذان/ وسَرِقة./ أبحث عنكِ، أنتِ أين يا لذّة اللّعنة! نسلُكِ/ ساقط، بصماتُكِ حفّارة!/ يُسلّمني النوم ليس للنوم حافّة، فأرسمُ على الفراش/ طريقة؛ أفتحُ نافذة وأطير، أختبي تحت امرأتي،/ أنفعلُ!/ وأشتعل!…/ تعال أصيح. تعال أصيح. إنّني أهتف: النصر للعِلم!/ سوف يتكسّر العقرب، وأتذكّر هذا كي أُنجبَ بلا/ يأس.». تبدو الذات المسكونة بخوف ما، خوف يعبّر عن ارتياب وإحساس بقلق وجودي من العالم، في حالة بحث عن «لذة اللعنة»، في إعلان عن تمردية الذات وعصيانها، وكأنّ ذات الشاعر متلبسة بروح «بودليرية»، مقتدية ببودلير، «الشاعر الملعون»، الذي يشعر بضيق العالم وهامشية الذات التي تفضي بها إلى الثورة والتمرد. تبدو اللغة الشعرية في خطاب أنسي الحاج سوريالية الروح، تمسي اللغة كانفلات هذياني، ويستحيل الخطاب الشعري في تدفقاته تعبيراً عن رؤى تهويمية تجافي المنطق وتخرج عن موضوعية العلاقات بين الأشياء في هذا العالم، كما يعبّر «الفعل المضارع» عن استمرارية هذه الرؤى التي تداهم الذات وتلازمها. يبدو أنّ للذات، في خطاباته، عالماً آخر تطالعه، وذاتاً أخرى تعاينها غير أناها الموضوعية: «تُمطر فوق البحر/ أُناديكَ أيُّها الشبحُ الأجرد، بصوت الحليف، والعبد،/ والدليل، فأنا أعرِف. أنت هو الثأر العائد، صلْباً كالرّبا،/ فاحشاً، أخرس، وخططي بلا مجاذيف. أُسدِل رأسي على/ جبيني فتحدجني عينُك الوحيدة من أسفل؛ النهارُ/ يتركني اللّيلُ يحميك. النهارُ يدفعني «لك الّليل!»/ فأركض، اللّيلُ رَجُل! أهربُ أين وأنا الأفق؟».
تعبّر اللغة الشعرية، لدى أنسي الحاج، عن انفجار أو بالأحرى انفجارات الذات البوحية، كأنّها اعترافات «سرية»، تبوح بها الذات لنفسها، فيعبّر استعمال ضمير المخاطب هنا عن توترات «الوعي الشقي» المستبد بالذات في تأرجحها الوجودي وانشطاراتها وتشظّيها النفسي، فتبدو الذات في حالة حوار أو بالأحرى جدل دائم مع نفسها، المتبدية في تجليات شبحية. يبدو ذلك «الشيخ الأجرد» هو القرين الشبحي للذات، الذي يعبّر عن هويتها المتمردة وفعلها المارق، فتدخل الذات في جدل مع ذاتها الفائضة، تلك الذات التي تبدو في حالة فرار دائم، حتى يتبدى لها أن لا مكان يمكنها أن تفرّ إليه ولا مهرب تلوذ به بعد اكتشافها بأنها هي نفسها الأفق، في شعور عدمي بانعدامية الوجود وعدم قدرته على احتواء الذات واستيعابها. تبقى الذات في شعره في حالة مراقبة للوجود ولنفسها وبحث متواصل في المكان والزمان: «الحياة حيّة. العين دَرَج، العين قَصَب، العينُ سوق/ سوداء. عينيَ قِمْع تقفز منه الريحُ ولا تصيبه. هل/ أعوي؟ الصراخ بلا حَبْل. هناك أريكة وسأصمد./ سوف يأتي زمن الأصدقاء لكن الانتظار/ انتحر. الجياد تُسرع، عَبَثاً عَبَثاً، الخوف رقم لا نهائيّ./ السقفُ ينحلّ في قلبي والأرضُ لا مكانَ لها. أُهرولُ/ وأُقذَف، يكنسني الصدى، صدى! الأرض بعيدة بلا/ طريق، الأرض تنزل بلا عَتَبة./ أُطلَقُ على الهواء، أغرز الهواء بأليافي».
تكشف الذات عن لعبة الزمن معها، بين التوق إلى زمن الأصدقاء وانتحار الانتظار وكأنّ الذات تفقد الجسر الزمني الذي هو بالأحرى جسر نفسي يربطها بزمن مستقبلي باتت تستبعده بمثل شعورها بتباعد الأرض عنها وفقدانها «المكان».
تأتي صور أنسي الحاج الشعرية صادمة كما في تصويره «الحياة حية»، ومعبّرة عن عنف الذات إزاء العالم كما في «أغرز الهواء بأليافي»، كما تأتي، هذه الصور أحياناً «شجرية» في تفريعات للمشبه به كما في تصوير «العين» بـ «درج» و«قصب» و«سوق سوداء»، و«قمع» في ترسيم تصويري يلازمه تشكيل إيقاعي قائم على التكرارات الصوتية للفظة «العين» يعبر عن إيقاع الذات النفسي وكأني بالشاعر يرسم بالكلمات توترات الذات وذبذباتها الانفعالية وتردداتها الشعورية. كأن أنسي الحاج يعوض استغناء قصيدة النثر عن الإيقاع العروضي والمكوّن التفقوي يإيقاع صوري ونفسي.
* ناقد مصري
تعالوا لنُحيي وليمته!/ ندى الحاج
تُرافقني مع كل نفَس. لمْ ولن تتحوَّل إلى ذكرى تفيض بها ذاكرتي. كيف ذلك ولا تزال الحياة تضجّ بك، متصارعةً في كلماتك المتزاحمة في فصول حياتنا!
أبي، لن أُلَطِّف لك الحاضر وما سبقه في السنوات الخمس، التي أردتَ أن تتنحّى فيها عن مسرح الأحداث الأليمة العاصفة في أشلاء العالم العربي. لن أُصوِّر لك الجمهور المصفِّق في القاعات لبهلوانيّات الإعاقة الفكرية والسياسية والأخلاقية والروحية. فأنتَ اخترتَ رحيلك في الوقت المناسب كي لا تحرقك الأضواء الكاشفة للعقم الإنساني، الذي طالما أطلقتَ صرخاتك المدوية في وجه ظلاميته، وما كان من أحدٍ ليتلقّف حرقتك، إلا مَن أحبّك وتطابقتْ صرخته مع شغف روحك.
أبي، يا مَن لأجله أُحب ملكوت الحرف المُحيي، يا مَن كَتب بِحبر دمه أسفار الحياة والموت، أسألك وأنت في عليائك، هل وجدتَ الأجوبة الملِحّة التي أشعلت لياليك؟ نحن هنا مِن تواضُع التراب وتوهُّج النار لا نزال نبحث وندور، والبعض القليل والنادر يصغي لتموّجات الهواء وفي عيونه ماء.
أبي، هل تتذكّر الوعد الذي عاهدتكَ به أياماً قليلة قبل رحيلك؟ أنا على الأقل، أتذكّر.
قلتُ لكَ، محاوِلةً بكل ما لديّ من طاقة، أن أستبقيك خالداً في الحقيقة الجوهرية التي لا تزول رغم فناء الجسد. وكأني بجموحي ذاك، أواجه واقع الموت الحسّي بعشبة الخلود. أردتُ في كلماتي المنطلِقة من وعْد الحب، الذي طالما صدّقناه وتبعناه مغمضي الأعين حتى الأخير، أردتُ ببساطة أن أحضن موتك وأحوّله بدفْق الحب إلى حياة، وقلتُ لكَ: «بابا، سأُنشِئ لك مركزاً يحمل اسمك».
كلمات قليلة خرجت من صدري بنفَس واحد دون تفكير مسبق، كانت كفيلة بأن تحرِّك نظرك الملتمِع فجأة نحوي، مع محاولة جزئية منك لتدير رأسك صوبي. خمس كلمات أشعلتْ رغبتك بالحياة ولو لأيام قليلة جداً، أعدتَ فيها السؤال عن إمكانية تحقيق مشروع كهذا، وذلك بما تبقّى منك على قدرة للتنفس والكلام.
كلمات ما زالت تحفر في نفْسي وتُسائِلني كما سألتَني أنت على التمام «كيف سيتمّ ذلك؟ صعْب ولبنان بلدٌ صغير».
كنتَ في أيامك الأخيرة كما في حياتك كلها، الرائي الذي يسْتشِف الأمور ويدركها ببصيرته المدهشة، وأنا لم أشأ أن أصدّق استحالة تجسيد فكرة أملاها عليّ صوت الحب ببساطة الحق.
كيف أُصدّق صعوبة الأمر وأنسي الحاج ليس أبي وحسب؟!
هذا الإنسان المدهش الصادق، المارد المرهف، الخارق الهشّ، الرؤيوي المؤمن، السرّي المنتهِك، القابض على الرجاء في الهاوية، البحّار المؤتمَن على شعلة الحب كاملة ممتلئة كما ظلّت في قلبه.
هذا الإنسان الذي عرفته أباً حنوناً وشاعراً مارقاً ومفكراً مشرقاً وعبقرياً متواضعاً، كان صانع أحلامٍ فوق كل شيء، مبتكِراً من كلماته وأفكاره وخيالاته غيوماً تخطّت عمره وأعمارنا…
عبَر الزمن ولم يطوِ صفحة، بل اخترع صفحات من الزمن المضيء الذي حلم به له ولنا، ولقرائه الحالمين والمتجرئين والمتمردين على كل ظلم وكبت وسجن وتبعية وتعصّب وجهالة وعمى وكره وبطش وأذى يلحق بأصغر نملة تدبّ على الأرض، وصولاً إلى حزن الله على بؤس خليقته.
هذا الإنسان المتفلِّت من كل قيد، لم يشأ أن يستأثر بالحرية وحده. ظلَّ يلهث مهرولاً نحو القمة لينتشل النار من فم الأسد ويوزِّع شذراتها على الكائنات كلها، علّها تجيد الحلم وتجسّد الحرية.
كائنٌ من نار، كلماته من نار وحريته نار.
كيف يمكن لكائن ناريّ كهذا، أن يخمد في وجدان وعْدٍ أُطلقَ سهمه من قلبي، ليصيب قلب أبي النابض، أياماً قليلة قبل الصمت الأخير؟
في مكتبتك القابعة تحت الأرض، في المبنى الذي يسكن فيه أخي لويس، ترتاح روحك آمنةً بين أوراق الكتب التي عشتَ من أجلها وساعدَتك على المضيّ في الحياة. أمام مكتبك المخلص لك، الذي تلقَّف أمواجك الهادرة على مدى ستين عاماً، ننتظر لويس وأنا أن نحقق لك ذلك الوعد الخفيّ والصارخ في البريّة:
تعالوا إلى وليمة الحب، إلى كتابة الحب وعيْش الحب. تعالوا لنحيي وليمة أنسي الحاج، الذي يحبّها حارّة ومقبلِة على الحياة!
لا يكفي أن يمسح أخي الغبار عن مكتبتك ومجموعة لوحاتك الفنية وأغراضك الشخصية وصورك العائلية ويحفظها برموش عينيه! وأنتَ من عشاق الحياة بنبضها الخافق على إيقاع التجديد وآلات النفخ والوتريات.
لا يكفي أن تكون مكتبتك التي جمعتها طيلة حياتك نفَساً نفَساً، مُصانةً تحت ناظرنا، لأن المطلوب أن تدبّ الحياة فيها وتعيش، وأن تشكّل الجسر بينك وبين محبّيك والعطاش إلى التواصل مع فكرك.
المطلوب هو إحياء الروح وليس تحنيط الأموات. إحياء الوعد في مركز ولو صغيراً بحجم مكتبتك «الصغيرة» ــــ كما اعتبرتها أنت ــــ يحمل اسم أنسي الحاج.
هذا الاسم الذي لا يخصّ عائلتك الصغيرة وحسب، بل هو أوسع من الوطن امتداداً إلى الإنسانية جمعاء… وهل مَن يسمع؟
* شاعرة وكاتبة
مسامرة الوحشة/ فاتح كلثوم
«أنا لا أكتب بل أسامر وحشتي كي لا تبكي»، يقول أنسي الحاج، ويمضي في الكتابة إلى أن يتوقف النبض، بعدها تتابع الأوراق الّتي خطت حروفها مسيرة الثنائيات المعانقة للدهشة والفجيعة في فضاء الفسحة الضيقة المتاحة لما بعد الشعر أن يفعله داخل النفس.
أنسي الحاج لا يكتب، ونحن لا نقرأ! كلانا يبحث عن السحر في ما بعد القول، فنسقط معاً في تأويل الوحشة من غير مواربة، حيث عدم أمان الممكن، الفرصة المتاحة بسهولة، فأين المفر؟ هو السؤال الأهمّ الذي يتركه لنا ونحن نتظاهر بالقدرة على تفكيك الجمل الآيلة للتناثر تحت وطأة المجاز، نحسبها شعراً. في شعره تستيقظ المرأة من البيان خجولة، مشاكسة، أنيقة، فوضوية، لكنها عذراء، كما الغيم الموصى به أن يكون مرادفاً لما توصي به القبة الزرقاء المحاصرة بشباك ما نزّ في داخلنا من حنين إليها. هي ليست قصيدة كما نرغب أن تكون، هي مسامرات يُضاف إليها المباغت المتربص في وحشة التناقض الجغرافي مع الذات العاشقة، فنتّحد معها حيناً، وحيناً ندخل في تناقضاتها من غير رجعة، لنصبح في القرار كالقابض على جمر الفوضى المشكلة لما بعد القراءة. لكن البراءة المتوحّشة في عفويتها تأبى الخضوع للممكن لتجعلنا نقرّ مع صاحب «خواتم» بأن كلّ امرأة هاوية وكلّ حبّ سقوط، فيضيع الشعر من جديد وتصبح القصيدة في مأزق التملّص من الإيحاء الفوري والمؤجل في آنٍ معاً، ومعاً سوف نعود إلى المرأة، نطالبها بأن تصعد إلى السطح وتفرد غسيلها على خيال حبال الجار، فيصبح الخيال بلا حدود، لكنه بلا صبر أيضاً، وهذا مشروط بأن لا تخلو السطوح، لأنها عندما تنأى يُغمض الجار عينيه حسرة ويستسلم إلى غول الأعماق.
هناك في القاع حيث نتعلم الهزيمة، الهزيمة من ذاتنا، من وحشتنا، من المرأة، من القصيدة، أم من الإيحاء المحمّل بطاقة تدميرية قادرة على أن تقطع حبل المعنى التقليدي الّذي يتيحه الشعر في الشرح والتأويل، لتغدو مفتوحة على احتمال الإغراق في التصوف في آن المشاركة مع الإيروتيكية الفجّة، وفي حال التخلي عن الاعتراف بكلتيهما نقدياً، فليس من المواربة القول بأن الضحية ذات أقنعة لكنها تكره القدرة على أن تكون كالشمس في تجلّيات نورها عندما تريد أن تظهر في جغرافيا ما دون تأويل. بمعنى آخر، المباغت في المسامرات محكوم بجغرافيا المخالفات البائنة، حيث الوضوح يتماهى مع الغموض بغزارة التائب والمجرم معاً كي لا تبكي الوحشة بعيداً عنا، ونغدو غرباءً فتضيع منّا الخصوصية الّتي أشار لها بقوله «أنتَ مجموع ضحاياك؟ ضحاياك أيضاً مجموع روحك»، والتي نستطيع من خلالها تأطير الرؤية التّي انطلق أنسي الحاج منها في جميع ما كتب وبصياغات مختلفة عند خضوعها للتجنيس. كما أن تلك الرؤية هي بديل موضوعي لما تأتي به الجغرافيا من مفاجآت ميدانية على مدار الساعة وتجعل من ساكنها بشكل دائم في حالة من مسامرة الوحشة فماذا لو كان غير ذلك، ماذا لو تمّت إزالة السدود أو تمّ تحصينها؟
«في الأولى يتدفق الموج، تُرفع الكلفة، مع الثاني تتعمق العزلة، رفع الكلفة يأتي بالورود والشوك، ضريبة الأُنس قد تكون أشدّ من وطأة الوحشة تدعيم الحدود والسدود ينشف القلب لكنه يضمن الهدوء والخصوصية ونظافة المكان».
في أيّ طرف من الثنائيات المتوازية أبداً في كتاباته تكون النجاة: نسأل أنسي الحاج بعد رحيله، فتأتي الإجابة حائرة في ما بعد الشعر وما قبل الفاجعة: «الظل الناجم عن الاعتدال ما بين هذين القطبين، ظلّ حسابي وجبان، أين الحل إذاً؟ إنه في بقاء المشكلة: حيث المعاشر المختلط يزداد تحسسه بداخله كلما اندلق إلى الخارج، وحيث المنعزل المختبئ يزداد تسامحاً مع البعيدين عن سمعه ونظره».
*كاتب سوري
يُزهر فيك الأبد/ إيلي مارون خليل
في ذكرى «عبور» أنسي الحاج الخامسة.
اَلزّمانُ أبديٌّ! وعيناكَ شاسعتان تسعان ما لا تسعُه الأدهرُ!
شاسعتان عيناك، وعميقتان، تخبّئان ما لا تحتملُه الأسرارُ!
اَلزّمانُ لا نهائيٌّ ومُشاكِسٌ! وقلبُكَ قلِقٌ مُطمئنٌّ!
وهو أكثرُ مشاكَسةً من علّيقةٍ بَرّيّة،
لا يستقرُّ إلّا،
على التّنَقُّلِ المُنتفِضِ بوجه الطّمأنينةِ الهادئة…
اَلنّهارُ متواصلٌ! يمتدُّ متقطّعاً، متقاطِعاً،
متشابكاً ينسلُّ،
عاصفاً يستمرُّ،
واَلّليلُ يصافحُ الأحلامَ، على الآتي يُطِلُّ،
يستقبل النّهارَ متلعثِماً بظلاله الرّمزيّة!
اَلأسبوعُ يتناتشُ أيّامَه وساعاتِه ودقائقَه والثّواني
ظلامُه يُحيط بك كائناً وِجدانيّاً نَيِّراً
تَفيضُ وِجدانيّتُك، تُزيل مادّيّتَك الكثيفةَ،
تَصفو نورانيّتُك،
تَشفُّ،
تتقطّرُ، تعذَوذِبُ،
وبك تسمو،
وتأتلِقُ!..
ينمو عمرُكَ
هَشّاً، بين اليبَسِ والغبارِ
وقاسياً، بين الصّخْر والشّوك
وليّناً، بين الهواءِ والماءِ
وشَفيفاً، بين العطر والّلونِ…
تتفجّرُ أحلامُكَ
رؤىً آتيةً كالنّبؤات
وهي قلبٌ للحبّ،
أحاسيس للآلام،
شَغَفٌ للنّدم!
أيُّها الشّاعرُ!
يا بِكْرَ الأنامِ، ونبيَّ الأيّامِ،
يا شَفيفاً بين الأحلام،
يا العاصف الرّوح، الباذخ النّوايا، الضّاجّ الأجساد،
وحدك أجسادٌ في جسد،
يُزهر فيك الأبد!
* شاعر
في غياب الدليل…/ علي محمود خضير
التدفق، الاختراق، الحرارة، البراءة، واللاصنعة هي شعر أُنسي الحاج. إنّه الكلام البكر قبل أن يُزين، الصورة بلا إطار، الوردة قبل أن تُحبس في مزهريّة. بل هو الكهرباء التي سرت في جسد الشعر العربي الحديث فأضاءت وكشفت وغيّرت. لا ديكور ولا زخرف ولا تلفيق، بل الفوران الآتي من الانبثاق، العفوية، اللسعة الوهّاجة للجسد حين يجنُّ ويحنُّ ويشتعل. الكتابة الملتزمة كتابة أُنسي، التزام الرفعة والحق والمحبّة، والانحياز الكامل للجمال خلاصاً وحيداً للإنسانية لا السياسة ولا الاقتصاد. هو صاحب الأفق الصّعب والموقف الصّعب. رجل الكلام ورجل الصّمت أيضاً. وما بينهما من عمق وتأمّل وعرفان. وما قبلها وبعدها من ثقافة وتواضع ونزق وغضب ورقّة ونقد للذات يصل إلى حدود الجَلد، ومن احتفاء أصيل بالحياة وخلاصاتها التي بادلته الوفاء فمنحتهُ حكمتها.
■ ■ ■
يمثل أُنسي الحاج نموذجاً رفيعاً للتجربة الأدبية «الكاملة»، كل ما كتبه من شعر ونثر ونقد وصحافة كان يكمّل بعضه بعضاً، متطابقاً مع التجربة الروحية الداخلية للكاتب، كان يشبه كلامه، لا غربة أو مسافة بينهما، قالها مراراً في حواراته وبثّها في أفكاره: «كلامي هو ما أنا عليه، فلا تحملونا أكثر مما حملتنا الدنيا من رعب». هكذا أرى شعره، بالأخص «لن» و«الرأس المقطوع»… شعر وهو نارٌ «تتفجّر كصعداء. كروح كائن نفد صبره فراح يلعن» كانت اللعنة الرحمانية. الهشاشة ضد الجزالة. اللعثمة ضد البلاغة. الشك بدل اليقين. لغة مقطوعة، غير سائدة، وحشية، عمادها الصدمة والصلابة والذهاب بالكلمة للأقاصي. لينتقل بعدها لتجريب واختبار معرفة لغويّة أخرى في «ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة» ومحاولة تخليص اللغة من بعدها البلاغي باجتراح العودة إلى بكرية اللغة وانفعالها.
وليستمر في كل مشاغله الباقية يبتكر مع كلّ مجموعة نظامها اللغوي الخاص وفضاءها الدلالي والمعجمي، لكنه لم يركن إلى وصفة جاهزة أو يطمئن لقالب مستقر. روحه المضطربة، التواقة، ظلت تتطلع إلى التجدد، كأن الابتكار هروب، كأن البدايات غاية. ظل في مجاميعه كلها يبحث عن علاقة تعميق مع المفردة لا تنويع واجترار.
ومثل ذلك وأكثر يصح على الالتماعات الفذّة والخلاصات الإنسانية في «خواتمه» التي أراها إلى الآن، قارة غير مكتشفة. ذلك المزج المعجز بين حدود الشعر والنثر والفلسفة والفكر، القوس المشدود بين الحادثة اليوميّة والتعليق عليها، وبين الرؤى والخلاصات العليا المحكمة والمدهشة، حتى ليحار القارئ في قدرة أنسي العجيبة على الاستمرار والإطلالة كل أسبوع عبر زاوية السبت في «الأخبار» بهذا التدفق الهدّار كنهر جارف مترع بحياة طازجة وصاخب بالكلمات التي تلبط في موجاته، كأسماك من ذهب.
■ ■ ■
كنت أنتظر السبت لأقرأ أُنسي، بمرور الوقت وتراكم اللقاءات تحول الانتظار إلى طقس سحري، أنتظره كمن يترقب لقاء صديق حميم. كانت له القدرة على اختراق فارق العمر واختلاف الأجيال والأمزجة. يهمس برقة لي وإلى الآلاف غيري في وقت واحد من على شاشة الكومبيوتر، فيمس عصباً ما خفياً في الروح ويوقظ فيها سؤالاً وتطلعاً وسكينة. وكم من مرّة أردتُ ترك تعليق صغير في خانة القرّاء علّه يصل. لكني نهرت نفسي دائماً. أي وقاحة عندي لأخاطب هذا الكائن؟ أي كلمات ستفي وهو رسول الكلمات الصافية حتى الينابيع؟ كيف تهدى زهرة إلى غابة زهور؟ كيف يُكلم النور وتُشكر الدعة؟ يا للخيبة… لم أخبره، على الأقل، كم كانت كلماته تخفف عليّ وقع الموت العراقيّ اليوميّ وفجائع السيارات المفخخة وأخبار الفساد والتناحر. وكم أنا نادم على جبني وترددي. كنت أهرب من جحيم الشارع إلى نعمى العالم الذي صنعه أُنسي بالكلمات، وكان هذا العالم كافياً لأمثالي، حانياً ورحيماً كحضن أم.
■ ■ ■
أنسي أيضاً كان صمام أمان قيم في زمن الشح، منها أنه المعلم الرافض أي تعالٍ على قارئه، الناقد الناقم على نفسه، المحتفي كرماً بالجميع، ظل تواضعه ونكرانه لذاته بل التحرر العجيب من خيلاء النجومية وكارزميتها يرفعه خارج المقارنات والحسابات، وأظن الكثيرين يحسدون قدرته على قمع نفسه، هل تتذكرون حين أوصانا أخيراً ألا نسعى للانتصار؟ «ما من شيء بعد النصر إلا القبر». هذا الوعي العميق والانحياز التام للمسحوق والمهزوم والمنكسر في الحياة جعله أيقونة أرضية بقدر ما رفعه مَلَكاً يخفق بجناحين من رأفة وبصيرة.
■ ■ ■
إنني أفتقد صديقي الذي لم أره يوماً. وأنادي عليه كما نادى مرّة على اليسوع بنصه التاريخي عام 1967 وأقول له: احضر حالاً يا أُنسي… حصلت أشياء كثيرة بعدك نريد أن تقول شيئاً فيها. زَحَف ظلام فدع نور كلماتك يندلع ويبدده. توحشت غربة فقل شيئاً يُسكّن وجعها. «الجميع بانتظارك والأهل والأقارب ليسوا في خير». أصدقاؤك ينتظرون السبت، كل سبت، لكنك لا تجيء معه. قل لنا ماذا نفعل بالوردة؟ وأي وليمة نهرب منها وقد صار العالم كله ولائم دم ورعب؟ دلنا على مَن يفرك الخمول عن الخواتم. ومن أين تشرق «شمس العودة»؟ لم يزل وقت يا معلم. لا دليل في الطريق. هذه ليست النهاية. فتعال. «في ظلام النهاية جلستُ أكتب البداية./ في دم الأرض غمَسْتُ ريشةَ السماء./ وأقول للموت الداخل:/ ادخل! لن تجد أحداً هنا» («الوليمة»).
*شاعر عراقي
ملحق كلمات