النظام في مواجهة عسكرية مجهولة في جنوب سوريا/ قتيبة الحاج علي
تصاعدت في الأسابيع القليلة الماضية وتيرة الهجمات العسكرية على حواجز ونقاط قوات النظام في محافظتي درعا والقنيطرة، وبدأ بعض هذه الهجمات يتّخذ أسلوب العمليات المنظّمة التي تقودها مجموعات صغيرة العدد، محدودة التسليح، مركّزة الهدف. تزامن ذلك مع ظهور جهات عسكرية جديدة اتخذت أسماء مختلفة على المشهد الإعلامي لهذه العمليات، لتعلن مسؤوليتها عن بعضها سواء من خلال بيانات مكتوبة يصعب التحقق منها أو من خلال مقاطع فيديو للحظة التنفيذ، إلا أن معظم العمليات ما زالت من دون أي إعلان للمسؤولية.
خصوصية جنوب سوريا عموماً ومحافظة درعا التي اشتعلت منها الثورة السورية قبل 8 أعوام خصوصاً، وتميز “اتفاقية التسوية” التي أعادت سيطرة قوات النظام على المحافظة عن نظيراتها في المحافظات الأخرى، وضع الكثير من علامات التعجب على هذه العمليات العسكرية وأثار الكثير من التساؤلات حول الجهات التي تقف خلفها وأهدافها المباشرة وغير المباشرة منها. وبينما شكّك البعض وأشار بأصابع الاتّهام إلى النظام بالوقوف خلف هذه العمليات لأسباب عدة، رحّبت جهات أخرى بهذا التطوّر العسكري الجديد، بينما تخوّف فريق ثالث مما يحصل، محذراً من التداعيات، وبين هؤلاء جميعاً هناك حقيقة واحدة: ثكنات النظام وحواجزه، تتعرض لهجمات عسكرية غير متوقعة في جنوب سوريا.
المواقع والأطراف المستهدفة من هذه العمليات مختلفة، لم تقتصر على الثكنات والحواجز العسكرية لقوات النظام ولا على شخصياته العسكرية التابعة له فحسب، بل طاولت كذلك قادة سابقين في فصائل المعارضة متهمين من قبل وسائل إعلام المعارضة والكثير من رموزها بـ”الخيانة”، بعد الدور الذي لعبوه في استعادة النظام لسيطرته على جنوب سوريا. كذلك طاولت العمليات رؤساء وأعضاء في المجالس المحلية التابعة للنظام والذين استلموا مهماتهم بعد سيطرته العسكرية على المدن والبلدات، التي كانت تحت إدارة المعارضة وإشرافها خلال السنوات الماضية.
اتفاقية “التسوية” السارية حالياً جنوب سوريا، كانت العامل الأهم في ما يمكن اعتباره النشاط المسلح في المنطقة خلال الفترة الماضية، فالاتفاقية لم تجرّد فصائل المعارضة من كامل أسلحتها وحرمت قوات النظام من دخول مناطق عدة وتفتيشها، بحثاً عن الأسلحة أو تجريد المقاتلين السابقين والمدنيين من الأسلحة الفردية التي بحوزتهم، طبعاً باعتبار أن الشرطة العسكرية الروسية هي “الضامن” لعدم حدوث أي خرق في الاتفاقية. وساهم انضمام آلاف مقاتلي المعارضة سابقاً إلى قوات النظام وأفرعه الأمنية بمنحهم حق حيازة سلاح فردي، وهؤلاء لا يمكن “التعويل” على ولائهم المطلق للنظام، لما لهم من تاريخ يمتد لسنوات في قتاله، إذاً يمكن اعتبار أن حيازة السلاح بغرض مواجهة النظام في درعا والقنيطرة ليس بالأمر الصعب أبداً، والحصول على ملاذ آمن نسبياً بتوفير الغطاء الآمن لمنفذي العمليات ضد النظام، هو أمر متاح أيضاً.
عند تحليل العمليات العسكرية والهجمات التي يتعرض لها النظام في محافظة درعا بالذات، يمكن إدراجها تحت تصنيفين رئيسيين، الأول يتمثل بعمليات الاغتيال التي تطاول عناصر وضباط النظام وعناصر فصائل المعارضة، الذين انضموا إلى قوات النظام وأفرعه الأمنية، وهذه النوعية من العمليات ظهرت بشكل واضح مع اغتيال مشهور الكناكري، قائد “ألوية مجاهدي حوران” التابعة للمعارضة والذي انضم لاحقاً لفرع الأمن العسكري التابع لقوات النظام، تم اغتياله في الأسبوع الثاني من كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي. هذا الاغتيال كان الحلقة الأولى في سلسلة عمليات استهدفت قادة سابقين في فصائل المعارضة، كيوسف الحشيش ومنصور الحريري وعمر الشريف، الذين تم اغتيالهم جميعاً بعد أسابيع قليلة من اغتيال الكناكري.
العامل المشترك في اغتيال قادة فصائل المعارضة هو عدم القدرة على تحديد الجهة المنفذة، وغياب أي إعلان مسؤولية من أي طرف، ما فتح الباب على تأويلات وتفسيرات مختلفة، بين من وجّه أصابع الاتهام إلى قوات النظام، معتبراً أنها تعمل على تصفية حسابات قديمة أو إخفاء أسرارها باغتيال “عرّابي اتفاقية التسوية”، وبين من اعتبر هذه العمليات استمراراً لـ “النفس الثوري” وانتقاماً من القادة الذين ساهموا في استعادة قوات النظام سيطرتها على جنوب سوريا.
التدقيق في سياق تنفيذ عمليات الاغتيال وآلياته، يعطي مؤشراً واضحاً إلى أنها تتم بشكل مخطط ومنهجي، وبعد اختيار الشخصيات المستهدفة ومكان الاستهداف وآلية التنفيذ والاختفاء، علماً أن عدداً من هذه العمليات أخذ منحى استهداف الشخصيات المدنية المسؤولة عن المجالس المحلية التابعة للنظام، ليتم اغتيال محمد المنجر رئيس المجلس المحلي لبلدة اليادودة في مطلع العام الجاري، تبعه بعد أقل من أسبوعين اغتيال عبد الإله الزعبي رئيس المجلس المحلي لبلدة المسيفرة، إضافة إلى تعرض رئيس المجلس المحلي لبلدة المزيريب لمحاولة اغتيال فاشلة.
التصنيف الثاني للعمليات العسكرية التي تتعرض لها قوات النظام في درعا يتمثل بالهجمات على الثكنات والحواجز العسكرية باستخدام الأسلحة الفردية أو العبوات الناسفة، وهذه العمليات على محدوديتها وسرعة تنفيذها وربما عدم وقوع أي قتلى أو جرحى من قوات النظام خلالها، إلا أن الهدف الواضح منها هو إبقاء ثكنات النظام وحواجزه في حال استنفار وعدم راحة وتوقع دائم للهجمات، التي في الغالب لا تحصل إلا نادراً وبالتوقيت والمكان والكيفية التي يختارها منفذوها.
هذا النوع من العمليات تعيد إلى الذاكرة نوعاً مماثلة من العمليات خلال عامي 2012 و2013 مع بداية ظهور وتشكيل فصائل المعارضة المسلحة، وتعيد إلى الذاكرة أيضاً حالة الجدل التي رافقت تلك العمليات، فهي أيضاً باتت موضع شك من أطراف عدة، تتهم قوات النظام بـ”افتعال” هذه الهجمات لاتخاذها ذريعة تستخدمها لدى الشرطة العسكرية الروسية للسماح لقوات النظام بالدخول إلى مناطق “التسوية”، وتنفيذ عمليات اعتقال ومداهمات بحثاً عن منفذي هذه الهجمات، وهذه الاتهامات هي ذاتها ما وُجه للنظام في الأعوام الأولى للثورة عندما اتهم بـ”افتعال” هجمات مسلحة لجرّ الثورة من السلمية إلى العسكرية.
أبرز هذه الهجمات هو ما تعرض له مقر لـ”الفرقة الرابعة” قرب بلدة المزيريب مطلع العام الجاري، وهجمات محدودة على ثكنات في محيط بلدة طفس، وهجوم على فرع الأمن الجنائي في مدينة الصنمين وكذلك فرع الأمن العسكري في بلدة الكرك الشرقي، إضافة إلى هجمات على حواجز طرقية في محيط مدينة الحارة وبلدتي ناحتة والمسيفرة في ريف درعا.
غياب إعلان المسؤولية عن معظم الهجمات التي تستهدف قوات النظام، لم يستمر لفترة طويلة، حيث ظهر على المشهد الإعلامي ما يُسمى “المقاومة الشعبية” التي أعلنت مسؤوليتها في البداية عن عمليات على شكل بيانات مكتوبة، لكن كان واضحاً افتقار هذه البيانات للأدلة التي تدعم صدقيتها، كما أنها عانت من ركاكة في اللغة العربية وغياب للاحترافية عن التصميم والتنفيذ.
السادس من شباط/ فبراير من العام الجاري، شهد ما يمكن اعتباره إعلان المسؤولية الحقيقي الأول من “المقاومة الشعبية” عن إحدى عملياتها العسكرية، عندما نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لاستهداف أحد حواجز قوات النظام، قرب مدينة الحارة بعبوة ناسفة، قُتل وأصيب خلاله عدد من عناصر قوات النظام. المقطع امتاز باحترافية جيدة جداً، وثبات عال في اتخاذ الزاوية المناسبة للتصوير وانتظار لحظة التفجير، الأمر الذي دفع جهات عدة للتشكيك فيه، على نحو غير متوقع، متهمة النظام بالوقوف خلف التفجير وإعلان المسؤولية المزوّر في محاولة لاختراق صفوف “المقاومة الشعبية” واستقطاب الأفراد الذين يرغبون بالانضمام لها.
على غرار “المقاومة الشعبية”، ظهرت مجموعة أخرى حملت اسم “سرايا الجنوب” أعلنت مسؤوليتها عن إحدى العمليات العسكرية ضد مبنى لقوات النظام في قرية أم ولد في ريف درعا الشرقي بتاريخ الثامن عشر من شباط، وكما “المقاومة الشعبية” تدور الشكوك وعلامات الاستفهام ذاتها، حول هذا التشكيل الجديد.
وجود فكرة “المقاومة الشعبية” بحد ذاتها، بعيداً من المسمى الفصائلي أو احتكار أي جهة لهذا الاسم، بدأ بالانتشار بشكل كبير جداً، وتحديداً من خلال كتابة الشعارات على الجدران ومهرها بمسمى “المقاومة الشعبية” أو من خلال تشويه صور رئيس النظام التي تم رفعها في بعض المدن والبلدات. وهذا ما استقبلته وسائل إعلام المعارضة عموماً، بالكثير من الترحيب لما فيه من إعادة إحياء السبب الأول، الذي أدّى إلى إشعال الثورة السورية بعد كتابة مجموعة من الأطفال لشعارات مناهضة للنظام على جدران مدرستهم في درعا البلد. كما أن هذه النوعية من “المقاومة” السلمية لا يمكن التشكيك بالجهة التي تقف خلفها، بافتراض طبعاً عدم وجود أي دافع أو مبرّر للنظام للانخراط فيها.
يحتاج جنوب سوريا إلى المزيد من الوقت حتى اتضاح المشهد العسكري الجديد، بافتراض عدم صحة الاتهامات الموجهة للنظام بالضلوع في هذه العمليات، فإنه لا يمكن اعتبارها قادرة على تأسيس مشهد مستقبلي يغير من موازين القوة. هي تزعج النظام بالتأكيد، لكنها بشكلها الحالي لن تغير الكثير، أما في حال أُثبت أن النظام يقف خلف هذه العمليات أو بعضها فعلًا، فإن هذا يعني أن النظام ما زال عاجزاً عن فرض قبضته الأمنية والعسكرية، وبات يحتاج إلى الالتفاف على الضمانات الروسية في هذا الشأن، وأمام كلا الاحتمالين سيبقى الحذر والترقب خيار النظام وما تبقى من المعارضة.
درج