إسلام العرب وحرير آسيا: ماركو بولو الجديد/ صبحي حديدي
في مقالة بعنوان «إسرائيل الآن»، نشرتها شهرية «أتلانتيك» في عدد كانون الثاني (يناير) 2000، أقرّ الصحافي والكاتب والمفكر السياسي روبرت دافيد كابلان بأنه، خلال إقامة في دولة الاحتلال الإسرائيلي مطلع السبعينيات وأداء الخدمة العسكرية في جيشها، لم يتلقّ الصهيونية، بقدر ما تعلّم الواقعية: «مثلما كانت رُهابات إسرائيل بصدد الأمن تبدو متطرفة للناظرين من الخارج، كذلك كانت الحياة في إسرائيل قد علّمتني أنّ النزوع الليبرالي الأَنْسُني لرؤية السياسة بمصطلحات أخلاقية كان متطرفاً كذلك». وليست مبالغة، أو إجحافاً للرجل، الافتراض بأنّ هذه المقاربة حكمت سلوكه طيلة تجواله بعدئذ في الشرق الأوسط، في سوريا والعراق والجزائر، طيلة عقد الثمانينيات؛ ثمّ في البلقان، حيث استلهم كتابه «أشباح البلقان»، الذي لم يُستقبل جيداً في وسائل الإعلام إلا حين ظهر الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون وهو يتأبط نسخة منه، وقيل يومذاك إنّ الكتاب أقنع سيّد البيت الأبيض بعدم التدخل في البوسنة.
ومنذ مقالته الأشهر «الفوضى المقبلة»، في «أتلانتيك»، شباط (فبراير) 1994؛ بات من المتفق عليه أنّ كابلان تلميذ نجيب لأفكار صموئيل هنتنغتون، ومقالته هذه هي النظير/ النقيض للمقالة الأخرى الشهيرة التي وقعها فرنسيس فوكوياما تحت عنوان «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، 1989. وبينما قال الثاني بأنّ الستار أُسدل على التاريخ مع سقوط جدار برلين، وانتصرت القيم الليبرالية والرأسمالية مرّة وإلى الأبد، ليس دون اقتباس الفيلسوف الألماني هيغل؛ أنذر الثاني بأنّ التاريخ سوف يستيقظ، أو هو استيقظ لتوّه، في بقاع مثل أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا والبلقان، فضلاً عن «مدن الصفيح، حيث محاولة النهوض من الفقر والاختلال الثقافي والاحتقان الإثني محكومة بنقص مياه الشرب، وتربة الزراعة، وفضاء العيش»؛ ليس، من جانبه، دون اقتباس البريطاني مالتوس، فيلسوف التشاؤم الغذائي والديمغرافي.
واليوم، في كتابه الجديد «عودة عالم ماركو بولو»، يعيد كابلان نشر 17 من مقالاته المفضلة، ويوزعها على خمسة أقسام: الستراتيجية، الحرب وأكلافها، مفكرون، تأملات، وماركو بولو مسترجَعاً. خلاصة الكتاب، أو مقالته الاستهلالية وتلك الختامية على الأقلّ، هي أنّ طريق الحرير الذي استكشفه ماركو بولو في القرن الثالث عشر، عبر الرحلة التي قادته من البندقية إلى الصين وكان حجر الأساس في إقامة إمبراطورية الخان الأعظم؛ إنما يُعاد إنتاجه اليوم، في طريق الحرير الجديد الذي تشقه الإمبراطورية الصينية المعاصرة، حيث الانسجام يسود الأقطار الآسيوية، والتنافر سمة العلاقات بين أمريكا وأقطار الغرب. خلاصة بسيطة، كما هي عادة كابلان في تسعة أعشار ما يستخلص؛ وجذابة للوهلة الأولى، في سطحها وتسطيحها، على غرار غالبية تنظيراته أيضاً.
في قسم «المفكرين» يمتدح كابلان ثلاثة: هنري كيسنجر (لأنه، من موقعه كـ»مفكر يهودي»، اتخذ «قرارات حياة أو موت، أثّرت في الملايين، وتضمنت تنازلات أخلاقية مضطربة»)؛ وصمويل هنتنغتون (لأنّ «معضلة المحافظ هي أنّ شرعية المحافظة لا يمكن أن تأتي إلا من كون الأحداث قد برهنت على صوابها، بينما في وسع الليبراليين كلما أخطأوا أن يلتجأوا مجدداً إلى القيم الكونية»)؛ وجون ميرشايمر (صاحب كتاب «مأساة سياسة القوى العظمى»، الذي يفصّل القول في مبدأ «الواقعية الهجومية» كما تعتمده القوى الكبرى لتحقيق الهيمنة، والذي يغفر له كابلان «زلّة» كتابه الآخر الشهير: «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة»). والحال أنّ خليط الثلاثة ليس عجيباً، أياً كانت مقادير التطابق والتناقض بينهم؛ ما دام موحّد هذه الأفكار المتزاحمة هو كابلان نفسه، القادر على «تنقية» ما ينفع منها للخلط والتوحيد!
لافت إلى هذا أنّ مقالات الكتاب الجديد تحمل، مراراً، اعترافاً من كابلان بأنه أخطأ في تأييد غزو العراق، سنة 2003؛ رغم أنه لا يرتقي بهذه الاعترافات إلى مستوى النقد الذاتي الواضح والمفصل، وتكاد الصياغات توحي بالتأتأة أكثر من الإفصاح. وثمة ما يدهش، حقاً، لأنّ صاحبنا لم يتحمس لذلك الغزو، ويصفق له ويهلل، فحسب؛ بل قال فيه مطولات التحليل والمدائح، ذات الطابع الجيو ــ سياسي والجيو ــ تاريخي، والجيو ــ ثقافي أيضاً! ففي مقالة بعنوان «تحريك التاريخ»، جزم كابلان بأنّ أيّ زعيم، منذ نابليون بونابرت، لم يعكّر صفو الشرق الأوسط كما فعل الرئيس الأمريكي جورج بوش (الابن، طبعاً)؛ ولهذا فقد حثّ الأخير على مزيد من تهشيم النظام ما بعد ـ العثماني هذا، حيث لن تكون العواقب أشدّ كارثية ممّا جرى بعد تقويض الإمبراطورية السوفييتية. وليس دون فضيلة المصارحة، وإنْ تجرّدت من كلّ قيمة أخلاقية أو حتى نفاقية، أنّ كابلان هتك المسكوت عنه ـ كما يفعل عادة، في الواقع ـ فلم يتردد في بلوغ الخلاصة التالية، بالحرف: «بدل الديمقراطية، خير لإدارة بوش أن تستقرّ على نوع من إدارة الحكم أياً كانت، ولنفكّرْ في خرائط العصور الوسطى حيث لم تكن هنالك حدود واضحة، بل مجرّد مناطق غير متمايزة في كردستان وبلاد الرافدين وسواهما، خاضعة للتأثير الفارسي»!
وعلى امتداد طريق الحرير الجديد هذا، يُبرز كابلان الأهمية الحيوية التي تكتسبها هذه المنطقة من آسيا، والأدوار التي تلعبها بلدان مثل الهند والباكستان والصين وأندونيسيا وبورما وسريلانكا وبنغلاديش وتنزانيا… في التوازنات الكونية. ومن المنتظر أن تكون هذه المنطقة محكّ ربح أو خسران المواجهات القادمة حول الديمقراطية، واستقلال الطاقة، والحريات الدينية؛ وهنا، يحذّر كابلان، ينبغي أن تتركّز السياسة الخارجية الأمريكية إذا توجّب أن تبقى الولايات المتحدة قوّة مهيمنة في عالم دائب التغيّر. صحيح أنّ نبوءته حول تفكك الهند والباكستان باءت بفشل ذريع، إلا أنّ هذا لم يردعه عن استكشاف مؤشرات من الطراز التالي: أنّ الخطوط الجوية اليمنية كانت، ذات يوم، تنقل 200 ألف أندونيسي مسلم كلّ سنة، لأداء فريضة الحجّ، الأمر الذي يخيف كابلان، لأنه يعني توطيد الصلات بين حضرموت وجاوة!
هذه عيّنات على حصتنا من طريق الحرير الجديد، في المستوى الجغرافي والطبوغرافي والديمغرافي؛ وأما على أصعدة سياسية تخصّ الديمقراطية والانتفاضات الشعبية، فإننا في رأيه لم نحصد سوى البغدادي وخلافته: «لم يكن الربيع العربي يدور حول صعود الديمقراطية، كما أعلنت النخب الغربية في البدء ــ راشقة قيمها وتجاربها الخاصة على جزء غريب من العالم لم يفقهوا عنه إلا القليل ــ بل حول أزمة جوهرية في السلطة المركزية». وأمّا انعدام شرعية السلطات العربية الحاكمة فإنه، في ناظر المواطن العربي، راجع إلى أنها «علمانية» و«فاسدة»! فهل، للمرء أن يتساءل، من صالح مسلمي شعوب شرق آسيا العيش في ظلّ أنظمة ديمقراطية، أم أنظمة استبداد؟ هنا محاججة صاحبنا: «في العالم العربي كان تصميم الإسلام على إنشاء حضارة تامة مكتملة أخلاقياً قد خلّف هامشاً محدوداً لتجذّر الشرعية السياسية العلمانية. وكانت النتيجة هي أنه، خارج المشيخات والملكيات التقليدية، برزت حاجة دائمة للجوء إلى إيديولوجية متطرفة، أو إلى نظام دكتاتوري برجنيفي عقيم على غرار حسني مبارك في مصر».
هل من كلمة عن عبد الفتاح السيسي، مثلاً؟ نعم، بالفعل، كلمة واحدة يتيمة تضعه تحت تصنيف «الفرعون القوي»، الذي جاء به ميدان التحرير بعد «نفحة ديمقراطية» قصيرة أتت، من جانبها، بالإخوان المسلمين. وفي كل حال، ثمة دائماً معيار انهيار البلقان التاريخي الذي تفكك تباعاً؛ وعلى غراره يُقاس انحلال «دويلات الباحة الداخلية» مثل سوريا والعراق، أو «سوريا الكبرى» «وبلاد الرافدين» حسب تعبيره.
وفوق هذا وذاك، وقبله وبعده: ثمة ماركو بولو العائد، وعالمه المستعاد!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس القدس العربي