الوحدة نوع من القدرات/ چو جوه بينغ
دائمًا ما يعتبر الناس التواصل نوعًا من القدرات، لكنهم يتجاهلون كون الوحدة مقدرة أيضًا، بل وأنها عند معنى بعينه تعد مقدرة أكثر أهمية من التواصل. لا شك في أن عدم البراعة في التواصل هو شيء مؤسف، وعدم تحمل الوحدة ليس ضروريًا أن يكون نوعًا من القصور الشديد.
إن تحمل الوحدة هو نوع من القدرات، صعب أن يمتلكها أي إنسان في أي وقت. كما أن امتلاك هذه المقدرة لا يعني عدم مداهمة الشعور بالوحدة للمرء مجددًا، لكن تحويل الوحدة إلى قوة إنتاجية.
هناك ثلاث حالات لوحدة المرء:
الحالة الأولى: القلق والحيرة، والتشوش، وفقدان رغبتك في فعل أي شيء، وخفقان قلبك بالوحدة.
الحالة الثانية: أن تألف الوحدة تدريجيًا؛ يهدأ فؤادك، وتضع نظامًا لحياتك، وتستخدم القراءة والكتابة وغيرهما من الأشياء لطردها.
الحالة الثالثة: تصير الوحدة تربة خصبة وفرصة عظيمة للإبداع والشعر، وكذلك تؤدي إلى تفكير عميق وخلق تجربة متعلقة بالبقاء والحياة والذات.
إن الوحدة تجربة جميلة وكذلك من اللحظات الرائعة في الحياة؛ فرغم وجود قدر من الشعور بالوحدة، إلا أن يكمن بداخله نوعا من الثراء. إن العيش داخل جدران الوحدة هو حيز لا غنى
“لا توجد ثمة علاقة بين شخصية المرء وميله إلى البقاء وحيدًا، فالإنسان الذي يميل إلى الوحدة، يمكن أن تكون شخصيته مفعمة بالحيوية في الوقت ذاته، وكذلك يُحب أن يكون لديه أصدقاء” عنه لنمو الروح، فعندما نعيش وحيدين، نبتعد عن مهامنا والآخرين، ونعود إلى ذواتنا. وفي تلك اللحظة، نصبح بمفردنا أمام الله وأنفسنا، ومن ثم نبدأ حوارًا مع ذواتنا ومع قوة الكون الغامضة.
عندما أتناقش مع الآخرين عن الماضي والحاضر، وأستشهد وأقتبس من الكتب الكلاسيكية، فذلك نوع من النقاش والدردشة، لكن عندما أنغمس فقط في قراءة أعمال الفطاحل الكبار والأساتذة العظام على مر العصور، حينها فقط تتدفق إلى قلبي مشاعر روحانية حقيقية. وحينما أسافر مع الآخرين تُعدّ سفرة وحسب، لكن حينما أجول سلاسل الجبال الضخمة والبحور الشاسعة بمفردي، حينها فقط أشعر أن هناك تواصلًا حقيقيًا بيني وبين الطبيعة.
تنطلق الحياة الروحانية بكل معانيها عندما نعيش بمفردنا.
يحتاج المرء إلى العزلة، من وجهة نظر علم النفس؛ وذلك من أجل التواؤُم مع ذاته الداخلية. وما يسمى بالتواؤم، هو أن نضع التجارب الجديدة في مكان في ذاكرتنا. ومن يمرون بهذه المرحلة فقط من الوفاق والانسجام، يمتصون المؤثرات الخارجية، وبهذا الشكل يمكن أن تصير ذواتهم مستقلة ومتنامية. لذلك، فوجود قدرة تحمل الوحدة أو انعدامها، له علاقة جدية بمقدرة المرء على بناء عالم داخلي يشبعه ويرضيه، كما أن هذا بوسعه أن يطور ويؤثر أيضًا على علاقته بالعالم الخارجي.
كيف يمكننا أن نَحكم إذا كان هذا المرء أو ذاك يملك “ذاتًا” أم لا؟ هناك طريقة موثوق بها لاختبار ذلك؛ هي أن ترى إذا كان يطيق، أو في استطاعته، البقاء وحيدًا أم لا. عندما تكون وحدك، هل تشعر بملل قاتل، وأنكَ لا تطيق تحمل ذلك، أم تشعر بالسكينة والغنى والرضا؟
لا توجد ثمة علاقة بين شخصية المرء وميله إلى البقاء وحيدًا، فالإنسان الذي يميل إلى الوحدة، يمكن أن تكون شخصيته مفعمة بالحيوية في الوقت ذاته، وكذلك يُحب أن يكون لديه أصدقاء. وبغض النظر كم يكون مبتهجًا لتواصله مع الآخرين، ففي نهاية المطاف تكون العزلة أو الوحدة حاجة ماسة في حياته. فمن وجهه نظره أن الحياة التي تفتقر إلى التواصل، هي حياة ناقصة، وتلك التي تخلو من الوحدة بإختصار تكون كارثية.
لا يوجد شخص على وجه البسيطة بوسعه تحمل الوحدة المطلقة. لكن من لا يطيق تحمل الوحدة إطلاقًا، هو شخص روحه خاوية. وهناك مثل هؤلاء الناس في الدنيا، أكثر ما يخشونه هو الوحدة، فإن جعلتهم يختلون بأنفسهم لبعض الوقت، يكون هذا بالنسبة إليهم نوعًا من التعذيب الوحشي. فعندما يصبحون غير منشغلين، سرعان ما يبحثون عن مكان يذهبون إليه للتسلية. فتبدو الأيام التي يقضونها في ظاهرها أيامًا ممتعة مفعمة بالحيوية، لكن في واقع الأمر، تكون قلوبهم خاوية مقفرة. فكل ما يفعلونه هو تجنب مواجهة أنفسهم بقدر المستطاع.
لدي تفسير واحد تجاه هذا الأمر، فهؤلاء يشعرون بنقص ذواتهم؛ لأن مصاحبتهم لمثل هذه الذات الفقيرة، أمر ممل وخالٍ من أي مذاق ممتع، فيجدون أن الترفيه الممل يكون أمتع بكثير بالنسبة إليهم. ونتيجة لهذا يصيرون كل مدى فقراء النفس، ومع مرور الوقت يفقدون أنفسهم، وتحوطهم حلقة مفرغة.
*****
چو جوه بينغ: كاتب وشاعر ومترجم وفيلسوف صيني معاصر، باحث بمعهد الفلسفة التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية. ولد عام 1945 بمدينة شنغهاي، تخرج في جامعة بكين- قسم الفلسفة عام 1967، ترجم أعمال نيتشه إلى الصينية.
برأيي أن أقرب طريقة لكتابة اسم Zhou guo ping بالعربية هي چو جوه بينغ، في “چو” ينطق حرف الجيم معطشًا، لكن نطقه يكون أثقل، كأن يضاف حرف دال خفيف قبله. أما “جوه” فينطق حرف الجيم كما ينطق في اللهجة المصرية.
المترجم: مي عاشور