من بورسعيد إلى إسطنبول: لقطات من أسفار برنارد لويس للشرق الأوسط/ محمد تركي الربيعو
في الحادية عشر تقريبا، كان الطفل برنارد لويس قد ولد في عائلة يهودية. وبحكم هذا الانتماء كان كغيره من الأطفال يجري تعليمهم عددا من الكلمات والعبارات اليهودية للاحتفال بطقوس وصية المعبد، التي يتم على أثرها الاعتراف بهم كأعضاء كاملي الأهلية في الجماعة. لم يكن هذا الطقس أمراً سهلاً لطفل صغير، إذ كان عليه تعلم الأبجدية وحفظ الألحان والإلمام بقدر من الكتابة، رغم ذلك، كان تعرفه على هذه اللغة اكتشافا مبهجا؛ لم تكن مجرد لغة صلاة، بل وجد لها قواعد كباقي اللغات الإنكليزية والفرنسية.
في إنكلترا حيث كان يعيش، بدا هذا الشاب الصغير مولعاً بعالم التاريخ. كان تدريس هذه المادة بالنسبة للطلاب البريطانيين في ثلاثينيات القرن العشرين يقتصر في الأساس على التاريخ الإنكليزي، أو يتناول الحروب والصراع مع الفرنسيين.
في أحد الأيام، سيقرر لويس تجاوز أصدقائه وعالم الحوليات الإنكليزي، عبر الطلب من والده شراء كتاب له حول تاريخ فرنسا «وعندما حقق طلبي كان بإمكاني دراسة تاريخ الحرب الإنكليزية والفرنسية من وجهتي النظر».
لاحقا أدى به هذا الشغف لتعلم اللغات والتعرف على عوالم الماضي، إلى التحاقه بجامعة لندن لدراسة تاريخ الشرق الأدنى والأوسط. الالتحاق بهذه الأقسام، كان يفرض على الطالب تعلم لغات البلدان التي يدرسونها؛ لم يكن برنامج الدراسة سهلاً كما يذكر لويس، بل كان صعبا ومدهشا في الآن ذاته؛ سيصبح يومه مثقلا ومدهشا بعوالم اللغة اللاتينية والعربية الفصحى، ولاحقاً التركية والإيرانية. يؤكد لويس أنه في تلك الفترة «لم يكن هناك برنامج مشابه في أي جامعة أخرى». سيقضي في أروقة هذه الجامعات سنوات وسنوات، وهو يتعلم لغات وتاريخ الشرق الأوسط، مع ذلك، بقيت معرفته ببلدان هذا العالم مجرد معرفة عن بعد؛ وغالبا ما كان اللقاء يقتصر على الخرائط وكتب التاريخ الإسلامية.
في تلك الفترة، كان السير هاملتون جب مؤلف كتاب «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» يعمل أستاذاً في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن؛ جيب ولد في مدينة الإسكندرية في مصر، حيث كان يعمل والده في شركة لاستصلاح الأراضي. هذا المنشأ، إضافة إلى دور أستاذه المستشرق توماس أرنولد دفعاه إلى عشق اللغة العربية وتدريسها؛ في أحد الأيام سيقترح جب على لويس التعرف على مدن الشرق الأوسط عن قرب «الآن أربع سنوات وأنت تدرس الشرق الأوسط، ألا تعتقد أنه قد حان الوقت لكي ترى المكان؟». هذه الدعوة، بالإضافة إلى منحة الزمالة التي منحتها الجمعية الآسيوية الملكية بتوصية من أستاذه، ستتيحان له القيام بأول رحلة إلى الشرق الاوسط في عام 1937/1938.
من بابل إلى التراجمة
في كتابه «من بابل إلى التراجمة: تفسير الشرق الأوسط»، الصادر في عام 2004 عن جامعة أكسفورد؛ ترجمه الراحل طلعت الشايب، الذي وصفه بأنه أقرب ما يكون للمكتبة الكبيرة (850) صفحة؛ حاول لويس من خلاله وصف بعض المحطات الأساسية في مسار رحلاته المتكررة إلى الشرق الأوسط؛ أسئلة، ومشاهدات؛ ومغامرات بحثية؛ بالإضافة إلى 51 بحثا ومقالا عن الشرق الأوسط؛ كثير من موضوعاتها لم تكن قد خطرت على بال لويس في مرحلة شبابه، وربما لم يكن ليخوض غمار اكتشافها لولا تأثير هذه الزيارات وتقلبات هذا العالم.
ستكون بورسعيد أول موطئ قدم له في بلاد أم الدنيا؛ يذكر لويس انطباعاته، الانطباع الأول عند وصوله بأسلوب لا يخلو من صور استشراقية جنسانية عن الآخر الشرقي «تذكرت المستعرب الإنكليزي أدوارد لين وهو يصف أول قدوم له إلى المنطقة التي خلبته لغتها وثقافتها.. أشعر بأنني مثل عريس مسلم يقابل عروسه التي سيقضي معها باقي عمره، ويراها لأول مرة بعد الزواج». يتفاجأ لويس بأن عربيته لم تكن جيدة كما ظن، هذا الأمر سيدفعه للالتحاق بالدراسة في جامعة القاهرة «كنت أفعل كل ما يفعله الطلبة عادة، أحضر المحاضرات والندوات، وأقرأ الكتب والصحف وأتحدث مع الناس، واستمع كثيرا لما يقولون، وحدث أن شاركت في مظاهرة طلابية لا أتذكر مناسبتها». بعد انتهاء المنحة الدراسية، عاد إلى لندن في أوائل صيف 1938، حيث سيلتحق بوظيفة محاضر مساعد في مادة التاريخ الإسلامي. في هذه الأثناء سينهي الصفحات الأخيرة من أطروحته للدكتوراه حول «أصول الإسماعيلية» التي تناول فيها الخلفية التاريخية والدينية للخلفاء الفاطميين. لكن خلافا للثناء والمدح التي حظيت به هذه الأطروحة في عوالمنا العربية، لا يظهر لويس هذا الحماس، حيث يؤكد أن رياح الحرب كانت تلوح بالأفق، ولذلك كان يرغب بترك شيء ما بعده، «لا أعتقد أنها كانت فكرة جيدة، حيث أن الأطروحة لم تكن جاهزة للنشر».
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، غدا حال لويس كحال باقي الرجال الإنكليز ممن أجبروا على الالتحاق بالقوات المسلحة. عند وصوله إلى ساحة المعركة ألحق بداية بفرقة المدرعات، لكنه لن يستمر طويلا؛ فبحكم معرفته باللغات، جرى نقله لجهاز المخابرات؛ وهناك جرى إلحاقه بإحدى إدارات الخارجية البريطانية في القاهرة؛ صدفة ربما لم تخطر على باله في الأحلام.
مغارة علي بابا العثماني
بعد انتهاء الحرب، عاد لويس من جديد إلى عمله التدريسي في لندن. لن يمكث طويلاً؛ إذ لم يستهوه العمل التدريسي، لذلك اقترحت عليه الجامعة العودة للشرق الأوسط لاستكمال أبحاثه. هذه المرة لن يتاح للويس زيارة القاهرة؛ ففي أوائل خريف 1949 حينما بدأ جولته الثالثة، كان الوضع في المنطقة يشهد تغيرات كبيرة. كانت حرب 1948 قد شهدت انتكاسة كبيرة لم تشمل العرب وحسب، وإنما أيضا وجود اليهود وصورتهم في المدن العربية؛ ولذلك أخذت دول عربية عديدة تفرض قيوداً صارمة على اليهود. وفي ظل هذه الواقع لم يعد أمامه سوى زيارة ثلاث دول (تركيا وإيران وإسرائيل). أخذ يرتب أموره للتعرف على إسطنبول العثمانية والجديدة. لم يكن أي غربي قد اطلع قبله على الأرشيف الغني للإمبراطورية العثمانية، إذ لم يكن مسموحا سوى للباحثين الأتراك فتح خزائنه. لكن حسن الحظ سيقف إلى جانب هذا المستشرق، بعد أن قررت إدارة الأرشيف انتهاج سياسة أكثر ليبرالية مع الباحثين الغربيين. يصف لنا لويس شعوره بعد الموافقة على طلبه بالاطلاع على الأرشيف العثماني «حالة من الدهشة والبهجة.. مثل طفل أطلقوه حراً في محل للعب، أو مثل غريب في مغارة (علي بابا) لم أكن أعرف من أين ابدأ».
ديك رومي في القصر التركي
أثناء تنقيبه في الأرشيف، كانت العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا تشهد تطورا كبيرا، ما انعكس لاحقاً في انضمام الأخيرة لحلف شمال الأطلسي؛ وتعبيراً عن هذا التقارب، قرر الرئيس الأمريكي ترومان أن يهدي الرئيس التركي عصمت أينونو (ديكا روميا) بمناسبة عيد الشكر. سيبقى هذا الطائر الرومي يحوم في ذاكرة لويس قبل أن يحط بين كلمات مقاله «ولائم الشرق الأوسط « الذي نشر عام 2002.
يذكر لويس أن هذا الطائر (أو الديك) لم يكن معروفا في نصف الكرة الشرقي، لاحقاً؛ وبعد وصوله أطلقت عليه أسماء عديدة «ديك حبشي» أو رومي أو تركي؛ كل هذه «الكلمات كانت تعني ببساطة أنه شيء غريب… وعجيب مقبل من مكان مجهول».
عدم المعرفة هذه ببعض أنواع الأطعمة، هل كانت تعني أن الشرقيين لم يعرفوا الطعام أو فن الطبخ وآدابه كما استنتج بعض الرحالة الغربيين؟ سيبقى هذا السؤال يشغل بال لويس قبل أن يعثر على إجابة عنه في شهادة للغزالي المتوفى سنة 1111 عن آداب المائدة والأسلوب الصحيح واللائق في تناول الطعام، وكيف ينبغي ألا يأكل المرء من «دورة القصعة، ولا من وسط الطعام، بل يأكل من استدارة الرغيف، إلا إذا قل الخبز فيكسر الخبز ولا يقطع بالسكين»؛ في دروب أخرى من أوائل القرن الخامس عشر، سيلتقي لويس بشاعر يكنى بـ«أبو إسحق أطعمة»؛ كان قد سمي بهذا الاسم لأنه كرس كل إنتاجه الأدبي لكتابة شعر عن الطعام من أشهره رسالة بعنوان «ملحمة الأرز المطيب بالزعفران وفطيرة اللحم».
عالم الكتب في قاهرة السبعينيات
خلال فترة الستينيات والسبعينيات، سيصدر لويس كتابا صغيراً عن العرب، أما باقي أوقاته فسيقضيها في العمل التدريسي، أو في إكمال جولاته في أرشيف الأوقاف والأسواق العثمانية. لم يمنع هذا الأمر لويس من كتابة بعض المقالات عن التغيرات التي كان يعيشها الشرق الأوسط، وهي تغيرات وفق رأيه كانت كبيرة ومهمة في المجالات الدينية والقومية والاجتماعية. ولعل من أبرز ما سجله آنذاك من ملاحظات هي المشاهد التي التقطتها عيناه عن آخر أيام جمال عبد الناصر وعالم الكتب في القاهرة؛ ففي مقال نشره سنة 1969 بعنوان «عودة إلى القاهرة» وبعد فترة من الغياب، سيسجل لويس أولى ملاحظاته «كان أول انطباع .. هو وجود مساحة أكبر من الحرية. في الماضي كان انتقاد النظام يتم خلسة. الأمر الآن مختلف، فالناس يطلقون النكات.. لكن بينما كانت النكتة السياسية في ألمانيا النازية، أو روسيا السوفييتية أكثر توجها ضد الزعيم أو النظام، فهي موجهة في مصر غالباً ضد الأمة المصرية نفسها. ما يذكره لويس أيضا في هذا المقال هو أن الصورة المقدمة عن عبد الناصر في الخارج، كانت صورة شخص معتدل، يكبح بصعوبة بالغة دولة مصرية مصممة على القتال؛ أما انطباعه الشخصي، فكان على العكس من ذلك، «أرى شعبا مسالما، مرهقا يجره زعماؤه جرا. لقد سئم المصريون صغارا وكبارا، المغامرة والحرب». كان يمكنه الحصول على الصحف الأجنبية في القاهرة، لكن في الغالب كانت تصله منقوصة الصفحات.
كان الشيوعيون كما وجدهم لويس جماعة مثيرة للاهتمام آنذاك في القاهرة؛ كانوا أكثر الناس ذكاء وثقافة وتعليما ؛ كثيرون منهم تلقوا تعليمهم في مدارس وجامعات فرنسية أكسبتهم الطابع الفكري والنزعة اليسارية الفرنسية. في المقابل كانت مكتبات وأكشاك بيع الكتب هي الأماكن الأخرى التي يمكن أن تقع فيها عيناك على النفوذ الشيوعي «هناك تنوع كبير في كتب الشؤون العامة والسياسة والتاريخ، أكثر مما كان في الماضي. قبل سنوات قليلة كان يمكن ان تجد كتباً عن مصر، عن الشؤون العربية وإسرائيل.. الآن هناك كتب عن آسيا وإفريقيا السوداء وأوروبا وأمريكا اللاتينية». هذه الكتب كما رآها لويس بوصفها تعبر عن رؤية ونفوذ موسكو؛ لكن لم يقتصر عالم الكتب على الكتب المعادية للإمبريالية، وإنما شمل أيضا الكتب التي تتناول الحملات الصليبية (حرب المسلمين المقدسة كانت نضال الأمس الوطني، والنضال الوطني هو حرب اليوم المقدسة؛ المملكة اللاتينية كانت محمية صهيونية وصلاح الدين كان عبد الناصر زمنه الذي قهر العدوان الثلاثي للحملة الصليبية الثالثة).
السفر إلى أمريكا
عاد لويس في عام 1974 ليقتفي أثره أستاذه جب من جديد؛ لكن هذه المرة لن تكون الرحلة الى الشرق، بل إلى عوالم الجامعات الأمريكية؛ هناك ستتاح له فرص التفرغ للبحث والكتابة في جامعة برنستون. اختيار هذه الجامعة ربما جاء بحكم اهتمامات وكتابات لويس عن الإسماعيليين والقرامطة؛ فقد مثلت الجامعة في تلك الفترة مركزاً رئيسيا في أمريكا لدراسة الأدب الفارسي والتشيع. كان المؤرخ الفلسطيني ميشيل مزاوي قد سبقه بسنوات في الالتحاق بأروقة هذا المكان، من خلال إعداده لأطروحة حول «أصول الصفويين». خلال تفرغه سيستغل كما يذكر الفرصة لتنظيم المادة التي جمعها خلال سنوات البحث، لتصدر لاحقا في عدد كبير من الكتب، أهمها «اللغة السياسية في الإسلام» و«ظهور تركيا الحديثة» و«العرق والعبودية في الشرق الأوسط».
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي