“يتم” و”يجري” وأخواتهما… الخوف من (صيغة) المجهول/ وضاح شرارة
تتعثر العربية، اللغة، بمسألة ضئيلة ينبغي ألا تستأهل الملاحظة أو التنبيه، هي أشبه بالحصاة التي تعترض طريق الفيلة السياسية العسكرية والحيوانية. ولكن التشبيه هذا، حال مثوله في الذهن، يذكر بآخر سابق، ذائع و”بليغ”، على معنى تواتره في كتب تدريس البلاغة، هو تشبيه البعوضة بحقير المخاصمة أو صغيرها، وقياس إدمائها مقلة الأسد على الأذى الذي يصيب به صغار القوم كبراءهم في خلافات هؤلاء وأولئك.
وبعوضة اللغة العربية، اليوم، هي “يتم”، الفعل المضارع من “تم” أو “ت م م”، على كتابة معجمية. وعلى سبيل المثل، أو التمثيل على ارتكاب الفعل، جاء في خبر إحدى الصحف العربية أن هيئة، بينها وبين العربية أواصر عصية على الفصم بل على الضعف، هي دار الإفتاء المصرية، استعادت صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي. وتتمة الخبر السار، بل المبهج، في الصيغة الرائجة، والأمارة الصريحة على تحديث الخطاب الديني حداثة لا هوادة فيها- هي أن الاستعادة أعلنت “بعد أن تمت سرقتها” في يومٍ ماضٍ من الأسبوع.
وقد يمر القارئ المتصفح بهذا الجزء من الخبر ولا يعيره إلا انتباهاً “طافياً”، على قول أصحاب التحليل (النفسي)، أو سطحياً، ولا غضاضة في سطحية الانتباه، في معرض علم نفس الأعماق، على ما يسمى هذا الباب من العلم من غير فخر ولا مطاولة. والأرجح على الظن أن هذا ما يحصل غالباً، فيمر القارئ… ولكن “يتم” (أو “تم”) تلح وتعود، وتستقر صيغة يكاد لا يكون منها مفر أو ملجأ في جمل لا تحصى مكتوبة، أعمل أصحابها في كتابتها الجهد والرأي والاختيار.
وما يلح ويتكرر، ويتذرع بالذرائع في سبيل عودته وعرض نفسه على الشهود، لا يبعد أن يكون عَرَضاً، على قول أصحاب النظر العيادي أو السريري. وهذا ما يعرض لـ”تمَّ”. فالخبر الذي أمثِّل به على مسألتي في الفعل الملح لا يكاد يروي السرقة والاستعادة الميمونة حتى يتطرق إلى رأي الدار العتيدة، فيكتب بعد سطرين من الواقعة: “وطالبت الدار بعدم الاعتداد بما يتم نشره على الحساب”. ويُطنب مصدرٌ في دار الإفتاء فيُندد بفعلة الهاكرز (وتجمع الدار الأزهرية المصرية، ووكالة الأمن الوطني الأميركية، وصاحب ويكيليكس جوليان أسانج، وإدوارد سنودن، الموظف الأميركي الذي أفشى مراقبة أجهزة أميركية رسمية حركات بعض الناس وسكناتهم، مجامع اصطلاحية دقيقة) فيقول فخوراً أن هذه “(المحاولات) تم التصدي (لها)”، وارتدت على أعقابها خاسرة خاسئة من غير شك.
وعلى هذا، في فقرة واحدة، توسل كاتب الخبر 3 مرات بـ”تم”. ولو ماشيت ولع كاتب الخبر بفعله المختصر والنافذ لكان عليّ أن أكتب غير مبالٍ: “تم التوسل بـ(تم) 3 مرات”. والحق أن الخبر الذي وقعت عليه مصادفة، وفي نفس يعقوب من غير شك ما فيها، لا يرتوي من صيده الثمين. فـ”تم التصدي” ثانية لمحاولات من صنف آخر حاولها الهاكرز، وأخفقت. وتمدح الدار على “ما يتم نشره على (صفحاتها)”.
ولا يفوت المقال الإشارة “إلى أنه يتم عمل بث مباشر بالفيديو ساعة كل يوم على الصفحة الرسمية للدار”. وهذه، أي”يتم عمل بث”، على أي وجه “تم العمل” وأياً كان موضوعه بثاً أو سمعاً وتلقياً، هي من ذرى الاستعمال والإعمال والعمل معاً، وبديلاً منهما أو نظيراً لهما. ولكنها لم تقتصر على النظارة والشبه، فأشبعت المعنى، وهو العمل، بتثنيته وازدواجه، وبلغت مرتبة التثليث، فخصصت انجاز العمل وتمامه، وسمته: “البث”، المباشر، “لايف” وليس المتأخر ولا المرجأ ولا المنتج، وُقينا شرهها جميعاً.
ولا يتعثر الصحافيون كلهم بحصاة “تم”، ولا تدمي مقلهم كلهم بعوضتها. فبعض آخر يعلق أو يهوى فعلاً آخر قد يكون أقل رشاقة من “تم”، ولا يقصِّر عن مباشرته. وعلى هذا، روت إحدى الصحف خبر نقض (فيتو) مسؤول لبناني على تولية عسكري عملاً أو وظيفة في الجيش. وأثمر النقض… نقضاً. “فجرى إسقاط الفيتوين”. ولما جرى ما جرى، ولا راد له، “أعيد وضع البند نفسه على جدول الأعمال”. ويخطئ من يظن أو يحسب أن لا فكاك من “الهدر وإزالة التعديات”، على ما أزمعت وزارة الطاقة وصممت.
والمتأمل في أجزاء الجمل التي مرت واستعملت “تم” و”جرى” فيما استعملتهما فيه، قد يلاحظ، والجزم أحرى وأصدق، أنهما بدل “من” مقصى أو مستبعد. فـ”ما يتم نشره”، تتسر على “ما يُنشر”. و”ما تم التصدي له” ليس غير “ما تُصدي له” (القبيح في الحالين) أو “ما تصدت الصفحة له”. وأما “يتم عمل بث” فتنوب نيابة فاسدة ومزعومة عن “يُبث”. و”جرى إسقاط” لا تزيد على “أُسقط” شروى نقير. وإذا “خُفض” الهدر و”أزيلت” التعديات، أُدي معنى “سيجري” على وجه لا مزيد فيه لمستزيد الخفض والإزالة.
وعلى هذا، يحل الفعلان الطفيليان وأمثالهما محل صيغة معروفة وشائعة من صلب أبنية اللغة، صرفها ونحوها، هي صيغة الفعل المجهول أو الفعل المبني للمجهول. ومعنى المجهول ليس خلاف المعرفة. فهو النكرة، على اصطلاح النحويين، أو الإضمار، على قولهم كذلك. والتنكير والإضمار لا ينفيان “إشغال” الفعل، نُشر وتُصدي وبُث وأُسقط، بمفعول. ويسمي سيبويه باب المبني للمجهول “باب المفعول الذي تعداه فعله إلى مفعول” (الكتاب، ج 1، ص 41-42، طبع عالم الكتب، 1983)، ويكتب شارحاً: “وذلك قولك: كُسي عبدُالله الثوبَ، وأُعطي عبدُالله المالَ. رفعتَ عبدالله ههنا كما رفعته في ضُرب حين قلتَ ضُرب عبدُالله، وشغلتَ به كُسي وأُعطي كما شغلت به ضُرب. وانتصب الثوبُ والمال لأنهما مفعولان تعدى إليهما فعل مفعوله هو بمنزلة الفاعل”.
وقد لا يدرك أو يَعقِل على نحو واضح من يقمع المجهول (اختصاراً)، ويستعين بمعرفة أو معلوم على النكرة والمضمر، أنه يقتصر على خيال أو ظل فاعل هزيل وغفل: يتم نشرُ، تم التصدي، تم البث، جرى إسقاط… وهذا تجهيل مجهول. فخسر القامع الغافل شاغلي النشر والتصدي والبث وأفعالهم، كما خسر المفعولَ الذي هو بمنزلة الفاعل، وسماه “المحدثون” نائب الفاعل. وحيث شُبّه لكاتب “تم” و”جرى” أنه يباشر من طريقهما وصف (“حكاية، على قول النحويين) فعل الفاعل على أبسط صورة وأقربها، يتبدد الفعل وفاعله ( الذي لا تنفعه صيغة المعرفة) في عمومية صماء وتجريد أبكم.
ويصدر إلغاء البناء للمجهول وحركات إعرابه، وحذف إعمال الفعل وتعديه الى المفعول عن توهم صلة مفهومة وبسيطة بين فعل مشترك يفتقر الى التخصيص والتعيين المتغيرين ولا يعني غير نفسه (تم الفعل: فُعل الفعل)، وبين فاعلٍ على شاكلة فعله افتقاراً إلى الخصوصية والعينية والذاتية. وينم مثل هذا التوهم بعموم سببية بدائية وميكانيكية خالصة، خلوٍ من علاقات التفاعل والرد المعقدة، ولا يتعدى زمنها لحظة آفلة وبارقة. أما اللغة، “ما يَشرُف به الإنسيون” (سان جون بيرس)، فلا تنفك من التضمين والكناية والحمل على السياقة، وهذه كلها تفريع على أصل الزمن.
المدن