مقالات

سامي الدروبي: مترجم دستويفسكي السوري/ محمد عبد العزيز

“يا إحسان سامي ليس ملكاً لك، إنه ملك لقرّائه” هذه العبارة التي قالتها صديقة لإحسان بيات زوجة سامي الدروبي، جعلت الزوجة تنشط لجمع ما يخص مسيرة حياة سامي الدروبي الثقافية في كتاب وتسجل ذكرياتها معه.

سامي الدروبي هو المترجم السوري الشهير الذي ترجم وقدم الأعمال الكاملة لدستويفسكي باللغة العربية في ثمانية عشر مجلداً. ولد سامي عام 1921 بمدينة حمص، ودخل كلية الآداب في القاهرة عام 1942 ثم عاد وعمل معيداً في جامعة دمشق، وفي عام 1952 عين مدرساً ثم أستاذاً في كلية التربية.

قصة حب وزواج، ودستويفسكي شاهد

التقت إحسان بزوجها سامي في نيسان عام 1954، وفي الكتاب نرى وصفها الصادق والعفوي لبدايات الإعجاب والحب بينهما في الجامعة وتقربه منها وطلبه يدها، سجلتها بقلم المحب فكنت أقرأ وأبتسم من عفويتها ولطف هذه التفاصيل.

ساعدت إحسان زوجها سامي في أعمال الترجمة، فكان يمسك بالنص الفرنسي ويملي عليها الترجمة وهي تكتب، لأن هذه الطريقة توفر الكثير من الوقت، وكان أول عمل مشترك بينهما ترجمة رواية “مذلون مهانون” لفيودور دستويفسكي. عندما سألته زوجته لماذا انصرفت اهتماماتك لترجمة دستويفسكي أجابها أنه بدأ يقرأ دستويفسكي منذ سن السادسة عشرة، فما انقضت بضع سنين حتى أتى على كل كتبه وأعاد قراءتها أكثر من مرة، وأضاف أن دستويفسكي واحد من الأدباء الذين لهم نزعة فلسفية، ولا شك أن دستويفسكي معاصر دائما.

وفي عام 1966 تم التعاقد بين وزارة الثقافة المصرية وسامي الدروبي على نشر ترجمته لأعمال دستويفسكي الكاملة فكان قراراً ثقافياً هاماً. وكتب العديد من المثقفين والصحفيين المصريين مقالات تشكر جهود سامي الدروبي، ومن هؤلاء رجاء النقاش وأحمد بهاء الدين، واحتفظت زوجته بهذه المقالات ونقلت اقتباسات منها في كتابها عنه.

دستويفسكي ضرة إحسان في بيتها

في إحدى الأمسيات دعيت أسرة سامي الدروبي إلى عشاء في بيت السفير السوفيتي فينوغرادوف، فقال لها مندهشاً: “عندما قيل لي إن السفير السوري سامي الدروبي أنهى ترجمة ثمانية عشر مجلداً لدستويفسكي برغم أعبائه كسفير عربي بالقاهرة تعجبت وقلت أسألك: كيف وجد الوقت؟” فكانت إجابة إحسان أن زوجها يوزع وقته بدقة فائقة بين عمله الرسمي بالسفارة والبيت، وأن دستويفسكي ضرتها، وبعد أقل من شهر زارهما السفير السوفيتي في عيد رأس السنة وحمل لهما هدية: لوحة زيتية لدستويفسكي، وقال مازحا “أرجو من السيدة إحسان أن لا تزعجها هديتي.. الضرة”، وانفجروا ضاحكين من تحول دستويفسكي لجزء من حياتهم.

السياسة والأدب

عمل سامي الدروبي عام 1961 سفيراً للجمهورية العربية المتحدة في البرازيل أيام الوحدة بين مصر وسوريا، وقد سبقه في هذا المنصب الشاعر عمر أبو ريشة. وحدث الانفصال في فترة عمل سامي وكان من مؤيدي استمرار الوحدة. وعاد إلى دمشق، وعمل بالسياسة وعمل أستاذاً في الجامعة. سجن سامي الدروبي فترة في عهد الشيشكلي، وشارك في العمل على انقلاب الثامن من آذار، وهو الانقلاب الذي أطاح بحكومة الانفصال وأتى بحزب البعث. تحكي زوجته أنه بينما كان يتابع أخبار الانقلاب فاجأها بالتحدث إليها عن نصوص كتاب “مياه الربيع” لتورجنيف وأنه يجب أن ترسل إلى دار اليقظة وغيرها مسودات كتبه. وتعجبت زوجته من محاولته الانفصال عن السياسة بالحديث عن الكتب، وقد كان يفعل ذلك محاولاً أن يهدأ من توتره. ثم إن الحكومة الجديدة بعد الانقلاب عينته وزيراً للتربية.

سفير فوق العادة: سامي الدروبي في يوغوسلافيا

في أيام الوحدة بين مصر وسوريا، وبالتحديد في أغسطس 1959، توجه وفد مشترك ضم من الإقليم الجنوبي (مصر) عبد المنعم الصاوي والمترجم إبراهيم زكي خورشيد ونجيب محفوظ في رحلة تكاد تكون من الرحلات النادرة لنجيب محفوظ الذي يكره السفر (أليس هو من أرسل ابنته لتسلم جائزة نوبل ولم يذهب بنفسه)، وضم من الإقليم الشمالي (سوريا) سامي الدروبي وعبد الله الدائم. عن هذه الرحلة كتب محمد شعير تحقيقاً صحفياً. من الأشياء الطريفة في الرحلة مقابلة نجيب محفوظ أديباً يوغسلافياً أراد أن يترجم رواية زقاق المدق لكنه توقف عن الترجمة لأنه كان يتوقع أن كتابات نجيب محفوظ إسلامية لكنه رأى في الرواية خمراً ونساء، هذا الشخص نفسه سأله سامي الدروبي عن ملهى ليلي فقال لهم: لأجل خاطركم سأدلكم، ولكن لن أذهب إلى هناك لأني رجل متدين.[1]

تنقل لنا إحسان زوجة سامي الدروبي الاكتشاف الذي توصل إليه سامي في هذه الرحلة، لقد تعرف على كتابات “إيفو أندريتش” وقرر أن يترجم له رواية “جسر على نهر درينا”، وكان اكتشاف سامي الدروبي له قبل أن يحصل على جائزة نوبل والذي يدل على ثقته فيما يختار من نصوص. وكانت زوجته تشعر بفرح لأنه يحب أن يشارك القراء ما يعجبه من النصوص وينقلها بحب إلى اللغة العربية. والطريف أن سامي سيعمل بعد ذلك سفيراً لسوريا في يوغوسلافيا وسيقلده الرئيس “تيتو” وساماً في نهاية عمله كسفير، ويقول له “إنني أقلدك هذا الوسام لا كسفير فحسب، بل ككاتب وأديب”.

الدروبي في بطرسبرج وزيارة لبلدة تولستوي

عندما زار الاتحاد السوفيتي طلب من مرافقيه زيارة قرية تولستوي، وكان يترجم له في تلك الفترة رواية “لحن كرويتزر”. وعندما زار لينينغراد كان يتتبع الأماكن التي ذكرها دستويفسكي في رواياته، فيقف ويقول هذا الجسر الذي يظهر في رواية “الليالي البيضاء” وفي هذا المكان كتب دستويفسكي عنه، وبرغم أنه أنهى ثمانية عشر مجلداً من أعمال دستويفسكي وشعر بالفرح لإنجاز هذا العمل الضخم، إلا أنه تحمس لترجمة تولستوي وبدأ بترجمة “الطفولة والمراهقة والشباب” مباشرة بعد الانتهاء من دستويفسكي.

في هذه الزيارة ترجم قصتين وهو في المستشفى بعد إصابته بوعكة صحية، وقدم الكتاب هدية لدار التقدم في موسكو لطباعته، وكم كانت فرحته عندما قررت وزارة التربية في سوريا تعميم كتابه المترجم “الموسيقي الأعمى” في مناهج طلاب الصف الثالث الإعدادي، وقال: لقد أخذت أكبر أجر من كتبي كلها، فهذا الكتاب سيدخل إلى بيت كل عائلة لديها طالب في الإعدادية. وتقول إحسان إنه طبع من الكتاب ما يقارب مئتين وخمسة وسبعين ألف نسخة. كان سامي الدروبي يرى في طلابه، أنهم أولاده بالروح، وقد أهدى مكتبته إلى جامعة دمشق.

الدروبي وعبد الناصر

بقراءة مذكرات زوجته عنه يكتشف المرء كم كان متورطاً في السياسة. فنحن الآن نعرفه كمترجم شهير لكنه كان مؤمناً بأفكار عبد الناصر وسافر إلى بلغراد ليستقبل عبد الناصر عند وصوله لها، وأغضب هذا حكومة سوريا في ظل وجود مشاكل مع عبد الناصر. لكن هذا القرب سيجعله موضع ثقة للسعي في إعادة العلاقات بين مصر وسوريا بعد الانفصال، والكواليس الشيقة التي تحكيها زوجته عن حياته كسفير سوريا في مصر في غاية المتعة، في إحدى الصفحات تقص حكاية مأدبة لعبد الناصر في بيتها، وكيف أنها حضرت لهذه الزيارة وقامت بالتجهيز لكل التفاصيل حتى إنها خافت أن تثق في أي طباخ يعد الطعام لرئيس الجمهورية في بيتها، فكانت تشرف بنفسها على كل التفاصيل، وعاد سامي الدروبي للبيت ففوجئ من هذا التحضير المبهر، وقال لها: “أنا أعلم أنني تزوجت من بنات الإنس وليس من بنات الجن”، فكانت هذه العبارة أظرف مديح سمعته منه.

في الكتاب تجد حديث إحسان عن مواقف “الأخ سامي” كما كان يدعوه عبد الناصر معه. علاقة مقربة زادت بسبب عمل الدروبي سفيراً لسوريا في القاهرة، حتى إن عبد الناصر كان يهتم بالحالة الصحية لسامي بعد إصابته بمرض القلب، بل بعث إليه دواء يابانياً كان عبد الناصر يتناوله بسبب إصابته بنفس المرض. تعرض سامي لفقد ابنته وهي طفلة، وكانت من الأزمات الكبيرة التي عاشها، وهاتفه عبد الناصر معزيا ودعاه للمكوث معه شهراً في الإسكندرية بعد تلك الأزمة، ليس هذا فقط بل إن عبد الناصر بلغ الدروبي أنه يود أن يرسل رسالة لأحمد بهاء الدين بأنه لن يعتقله بعد أن نشر أحد المقالات، ذلك أنه يعرف أن بهاء الدين مخلص، وقام الدروبي بالتبليغ لما بينه وبين أحمد بهاء الدين من صداقة متينة.[2]

كان سامي مؤمناً بأفكار الوحدة وعمل أثناء الوحدة مستشاراً ثقافياً في القاهرة، وحزن بسبب الانفصال وارتجل كلمات أبكت عبد الناصر عند تعيينه سفيراً لسوريا، وكان حبه لمصر كبيراً وجاءت حرب أكتوبر 73 وهو سفير في إسبانيا فعمل على استصدار بيان من الخارجية الإسبانية يؤيد العرب، وعملت زوجته بالتمريض في أحد المستشفيات أثناء نكسة 67.

ظل سامي الدروبي يعمل ويترجم إلى آخر حياته، وطلب معجماً باهظ الثمن من فرنسا لكنه رحل بعد حصوله عليه بثلاثة أيام. وظل وهو على مشارف الأبدية، وزوجته تساعده على مد خط الأوكسجين، يصحح كلمة في ترجمته ويقول لها لقد أرقتني تلك الكلمة بالأمس. وفي 12 شباط 1976 توفي بعد أن وصل إلى ترجمة الفصل الخامس عشر من رواية الحرب والسلام لتولستوي.

لقد سجلت لنا زوجته الوفية إحسان بيات حياته ونقلت لنا كواليس الكتابة والترجمة والعمل الدبلوماسي والسياسي في كتاب جميل مليء بالحب والتوثيق الشيق.

[1] كتاب (نجيب محفوظ إن حكى) ليوسف القعيد. ونقلها محمد شعير في مقالته (يوميات رحلة نجيب محفوظ الأولى إلى يوغوسلافيا). هذه الرحلة التي كانت حبا أو خوفا من ناصر.

[2] تجدر الإشارة إلى أن ترجمات سامي الدروبي لم تقتصر على الأدب، بل تنوعت لحقول معرفية مختلفة منها ترجمته كتاب “الضحك” لهنري برجسون، و”المذهب المادي والثورة” لجان بول سارتر، و”منبعا الأخلاق والدين” لهنري برجسون، و”مدخل إلى علم السياسة” لموريس دوفرجيه، و”معذبو الأرض” لفرانز فانون، وكتاب “تفكير كارل ماركس” وكتاب “علم النفس التجريبي” وغيرها الكثير من الكتب القيمة والمميزة.

 تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى