في فضاء الاحتفال بسيد الفنون: دورة زمن الشعر تتواصل/ إبراهيم اليوسف
بعيداً عن القضايا الكثيرة التي تناولها الشاعر والناقد أدونيس في كتابه “زمن الشعر”، ومن بينها العلاقة بين ثنائية “القديم” و”الجديد” وحضور الأيديولوجيا في النص، ودعوته إلى فردانية روح الناص في نصه ضمن شروط محددة، فإن إشارتين مائزتين يمكننا التقاطهما – من هذا الكتاب – تتعلقان برؤيته لجدوى الشعر، وتوصيفه النبوئي لزمنه، ما حدا بنا أن نقتبس منه عنوان كتابه هذا الأكثر أهمية، ونتخذه ضمن عنواننا لهذا الفصل الاستقرائي، حيث تأتي أهميته من خلال حساسية الرؤى، المتناولة من لدنه، والتي أثارت، ولما تزل، أسئلة كثيرة من قبل المبدعين والنقاد، على اعتبار أن رؤيته النقدية هذه، تحاور محطة مفصلية في تاريخ الشعر العربي، عبر خطابه النقدي، المتكامل لأول وهلة، وهو حال خطاب شركائه في الرؤى عينها في مجلة “شعر”، كفرادى، أو كجماعة، رغم بعض تباينات والتقاءات وجهات أنظارهم، ما دامت هذه الرؤى لم تكن مارقة، اختلفنا معها أو اتفقنا، لأنها أثرت، ولا تزال، في جيل كامل من المبدعين، والمثقفين، لا سيما أن أدونيس كان ينطلق من خلال تحد بارز للأيديولوجيا، السائدة، وكانت الواقعية الاشتراكية واجهتها الرئيسة، وهي في أوج ازدهارها وجماهيريتها على الإطلاق.
ما لا شك فيه أن أدونيس خلال كتابه المومأ إليه، لم ينطلق من خلال ردة فعل إزاء الصدمة الثقافية بمنتج الغرب الإبداعي، لا سيما في ما تم طرحه من قبل سوزان برنار في كتابها “قصيدة النثر من بودلير إلى اليوم” 1959 على وجه التحديد، وكان خطابه يرزح تحت هاجس التغريب، وإن كانت قطيعته مع التراث ليست نهائية، لا سيما عندما كان يرى أن الشعر القديم كان ثورة في زمنه، وأننا مطالبون بالاستفادة من هذا التراث، شريطة تجاوزه، على اعتبار أن التجاوز ينم عن الارتباط بالحاضر، والتعبير عنه، وإن كان في هذا عدم إغماط لحق أي نص ضمن زمنه.
لقد استطاع أدونيس أن يسجل حضور “نظريته” عميقاً – رغم كل ما قد يسجل عليها – لأسباب كثيرة، ومنها تمكنه من “هضم” التراث وإعادة تفعيله من الحاضر وهو ينشد المستقبل، وفي هذا ما لا يعني أي تطويب لآرائه، بكاملها، لا سيما أن الواقعية الاشتراكية التي تعامل
“يفند أدونيس آراء أمثال ابن قتيبة الدينوري (828-889)، الذي رأى ضرورة التزام الخلف بمنهج السلف، شعرياً، وغير ذلك الكثير من النقاط التي استوقفته، إلى جانب رؤيته في الوزن، واعتباره سعيد عقل صائغاً لا خالق شعر” معها من موقع العدو اللدود، لم تُفهم من قبل كثيرين، كما هي، نتيجة محاولة سوء قراءتها على أنها تجعل من الفن أداة تسويغ للسياسة، أو الأيديولوجيا، ما أدى إلى النفور الكبير منها، ناهيك عن أن بعضهم رأى في نظريتها حرفية تناول الواقع، بتقريرية بلهاء، وهو تجن كبير على جهود الكثيرين من المبدعين الكبار الذين كتبوا الشعر الإبداعي، مهتدين باستشرافات واستشراقات هذه النظرية، أو حتى استعماءاتها..!
يعجُّ كتاب أدونيس بالحديث عن أعلام النقد والشعر القدامى، في الوقت الذي ينظر فيه للمعيش، إذ يرى أن بداية ثورة الشعر تنطلق من رحم العصر العباسي، على أيدي أبي نواس وأبي تمام، وهما شاعران إشكاليان؛ أولهما لأنه استهزأ من منهج القصيدة التقليدية، وطلليتها، وثانيهما الذي قيل عنه “إن كان هذا شعراً فإن كل ما قالته العرب باطل”، بل إنه يفند آراء أمثال ابن قتيبة الدينوري (828-889) الذي رأى ضرورة التزام الخلف بمنهج السلف، شعرياً، وغير ذلك الكثير من النقاط التي استوقفته، إلى جانب رؤيته في الوزن، واعتباره سعيد عقل (توفي عام 2014) صائغاً لا خالق شعر، وقد يضاف إلى كل ذلك- نظراً لصلته الوثيقة بـ”الشعر والزمن”- ما دار خارج إطار هذا الكتاب، من حوار ساخن بين كل من محمد دكروب وأدونيس حول مفهومي “الثورة” و”الشعر” وهو ما يمكن أن يتم استقراؤه على نحو آخر، عبر قراءات أخرى، في ضوء مواقف أدونيس مما يجري في بلده.
زمن الشعر والأبدية
من أبرز ما جاء في كتاب أدونيس هذا، هو حديثه عن زمن الشعر والأبدية، وهو في إطار التنظير لخطابه الشعري الذي يجب أن يخلق واقعه، لا أن يحاكيه، أو يعيد رسمه، ليكون هناك عالم فني، غير العالم الواقعي، وفي هذا قفز فوق الواقع، ودعوة للتنصل من وظيفية الشعر، هذا من جهة، بيد أنه من جهة أخرى خطاب مبطن، متفائل بمستقبل الشعر، بل يعد عدم الاستغراق في رؤيته هذه نتاج ثقته المطلقة بديمومة روح الشعر، لا سيما أن فصول الكتاب أنجزت في أهم مرحلة تألق فيها الاهتمام بالشعر، وهي مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث أثر هذا الكتاب ولا يزال يؤثر في أجيال شعرية كاملة.
وإذا كان أدونيس يكتب نصوصه الإيمائية، في مقاطع شبه فيسبوكية، بلا توقف، فإن هناك حضوراً معرفياً في هذه النصوص، وإن كانت تقدم هويتها كمسرودات، لا كشعريات، بل إنه توقف عن تقديم نصوص مهمة بوزن قصيدة “قبر لأجل نيويورك”، على سبيل المثال، رغم أن نصوصه التي يكتبها الآن باتت تتوجه إلى معرفيتها، على نحو جلي، وتفوق الكثير من نصوصه الأولى التي كتبها في بداية تجربته. يقول في نص “كيركيغارد، وجهٌ مرسومٌ على الهواء”:
كوبنهاغن، أعندك ما تضيفين؟
ليس فيّ غيرُ الأجنحة، وقلّما أحطّ. لا أعرف أين وكيف؟ وليست
هذه هي وحدها مشكلتي، مَن أسأل؟
ما تقول، أيّها النّورس الذي أراه للمرّة الأولى في مدينة أراها، على الأرجح،
للمرّة الأخيرة؟
– لكن، ماذا تنتظر أيُّها الشّاعر، من وطنٍ لا رأسَ له،
وله ملايين القرون؟
(جريدة “الحياة”، 27-11-2014)
ما جعل كثيرين يتشاءمون وهم في سياق استقرائهم لمستقبل الشعر، انطلاقاً من واقعه، ويرون أننا لم نعد على موعد – بحسب طروحاتهم – مع قصائد مدوية كالتي كان ينتجها بعض رموز الأجيال السابقة، ناهيك عن عدم مقدرة الشعر على أن يكون الحامل الوحيد ليوميات ثورات “الربيع العربي”، بسبب تسيد الصورة، والمقال، و”البوست”، بل عدَّ بعضهم رحيل محمود درويش إعلاناً عن موت الشعر، لا سيما أن ذلك ترافق مع ظهور أجناس أخرى، في المشهد الثقافي، بزخم غير مسبوق، من قبل – كما هو شأن الرواية – بل إن وسائل النشر الإلكتروني باتت تبتلع على مدار الساعة، من اليوم، ملايين المقالات – وبغض النظر عن تقويمها الفني العام – وفي ذلك تقويض بيّن لأطروحات أدونيس – عراف القصيدة العربية، بلغة د.عابد إسماعيل – كأحد أئمة النقد المتحمسين للشعر، وإن ضمن توصيف أدونيسي خاص، بيد أن النص الذي بشر به أدونيس، ومعه جماعة شعر من أمثال يوسف الخال – أنسي الحاج – فؤاد رفقة – شوقي أبي شقرا (1957-1959) وغيرهم من رواد الحداثة بات يزدهر، ويسجل
“النص الذي بشر به أدونيس، ومعه جماعة شعر، بات يزدهر، ويسجل حضوره، وإن كان هذا النص يحقق بعض الرؤى المستبشر بها، أدونيسياً، مقابل أخرى أسقطت من الحساب التقويمي لهذا الشاعر الناقد”
حضوره، وإن كان هذا النص يحقق بعض الرؤى المستبشر بها، أدونيسياً، مقابل أخرى أسقطت من الحساب التقويمي لهذا الشاعر الناقد.
وإذا كان توصيف ملامح النص الفيسبوكي، الأكثر انتشاراً الآن وهو نص لم نتفاجأ به بل كان دارجاً قبل انتشار حمى الإنترنت وما جاء به من فتوحات تقنية، اتصالاتية، هائلة، بيد أنه بات يسجل نقلته الهائلة، إذ صار يقدم ناصين فيسبوكيين، على نحو عفوي، تمتلك نتاجاتهم مقومات شعريتها، من دون أن يكتشف كثيرون منهم قيمة ما ينتجون، إلى جانب أعداد كثيرة من المدونين الذين عرفوا بإنتاجهم الشعري، من قبل، أو بعضهم ممن بات ينشر نتاجاته لأول مرة عبر عالم الإلكترون.
ثمة ردة نشهدها الآن إلى الشعر، في ما إذا كانت هناك هجرة في الأصل عن عوالمه، ولعل في عدم ظهور أصوات خاصة هو لأن من كان يكتب في مرحلة ما قبل انتشار شبكات التواصل الاجتماعي لما يزل نصه مستمراً، بل إن الضجيج الذي يرافق هذه النقلة العظمى على صعيد النشر، واختلاط الأصوات، وغياب المعايير، وما يمكن أن أسميه بـ”صدمة الناقد” إزاء هذا الزخم من الأصوات المتكاثرة، المتشظية، المتصادية، واستمرار مواظبته على محض أدوات تدوينية تعود إلى زمن النشر التقليدي، بل مفاجأته، بالكثير من التنظيرات غير المستوعبة من لدنه، من قبيل: النص القصيدة التفاعلية، كما الرواية التفاعلية، أو القصة التفاعلية.. إلخ، جعله في مرحلة ذهول تمام، ما عدا استثناءات عديدة، وإن كان لا بد أن نكون أمام مرحلة “الورش النقدية” و”المؤسسات النقدية” لأن هذه التحولات الجديدة باتت تستوجب جهوداً مشتركة، بدلاً من الجهود الفردية التي اعتدنا على مواظبتها على نقد الأدب والفن عامة.
ضفة ثالثة