يوميات شاميّة مجهولة… رحّالة غربيون وجباة عثمانيون وهنود مستقرّون/ محمد تركي الربيعو
مما لا شك فيه أن تاريخ مدينة دمشق العثماني شهد في العقود الثلاثة الأخيرة جهوداً واسعة وغنية، سواء على صعيد الكشف عن مصادر جديدة في قراءة هذا التاريخ الطويل (سجلات الطابو، والوقفيات، وسجلات المحاكم الشرعية)، أو على صعيد المقاربات البديلة لهذا التاريخ، من خلال التركيز على يوميات العامة، وطقوسهم وأساليبهم في الترفيه، بدلاً من حصرها بالأحداث السياسية وتاريخ الباشاوات والولاة العثمانيين الذي حكموا هذه المدينة.
غير أن اللافت في إعادة التقميش هذه ليوميات دمشق العثمانية، هو أن الاهتمام بقي أحياناً منحصراً بفترات زمنية على حساب فترات وقرون أخرى. فالملاحظ مثلاً أن القرنين السادس عشر، أو التاسع عشر شكّلا مصدر اهتمام جلّ المؤرخين والباحثين؛ فالأول يرتبط بدخول العثمانيين للمدينة وسيطرتهم عليها؛ صحيح أن الفترة الأولى لم تشهد استقراراً، كما يخبرنا بذلك مؤرخ دمشق ابن طولون الصالحي، بيد أن هذه المرحلة سرعان ما ستتطور إلى فترة استقرار في ظل اعتماد العثماني على بناء مؤسسات خدمية واقتصادية، ما خلق شبكات اجتماعية ودينية مرتبطة بهذا النمو الجديد. وكمثال عن هذه الفترة ومدى تطور المعرفة بها، يمكن أن نشير للجهود التي بذلها المؤرخ محمد م. الأرناؤوط، على صعيد الكشف عن وقفيات بعض الولاة العثمانيين مثل، سنان باشا وأحمد باشا، وهو ما مكننا من معرفة التطور العمراني الذي شهدته بعض أحياء هذه المدينة مثل، حي باب الجابية، أو تطور بعض الأسواق والخانات التي عادة ما كانت تُنسب في تطورها للفترة المملوكية.
وفي ما يتعلق بالقرن التاسع عشر، يمكن تفسير هذا الاهتمام بكون جل السرديات التاريخية نظرت لهذه الفترة بوصفها تمثل مرحلة الإصلاح العثماني. لكن مؤخراً أخذت هذه الرؤية تتراجع لصالح رؤية أخرى ترى أن التغيرات الاجتماعية والثقافية في المجال العام الدمشقي، بدأت في القرن الثامن عشر، وأن تغير الأحوال المعاشة في هذه المدينة، لم يكن يتوافق فحسب مع التطورات التي تشهدها المدن الأوروبية، وإنما كانت في بعض الأحيان سابقة وممهدة لها، كما في حال دور المقاهي في دمشق، كأماكن للنقاش وخلق رأي عام داخل المدينة. ولعل ما يميز دراسات هذه الفترة (القرن الثامن عشر) عن دراسات القرن السادس عشر، أنها كانت أكثر اهتماماً بدراسة دور العامة وأحوالهم، وأكثر تنوعاً على صعيد المناهج التاريخية، واعتماد مقاربات أوسع في العلوم الإنسانية. فعلى صعيد ثقافة الطبخ، استطاعت مثلاً بريجيت مارينو، من خلال اكتشافها لتطور حي الميدان، أن تبيّن لنا أن معظم بيوتات هذا الحي لم تكن تضم حجرة للطبخ، في هذه الفترة، بعكس البيوتات الواقعة داخل السور، وهو ما كان يعبر عن حداثة هذا الحي، ويشير إلى الخلفية الريفية لسكانه. أما على صعيد الزواج، نعثر مثلاً في دراسة «مظاهر سكانية من دمشق في العهد العثماني» لعالم العثمانيات السوري عبد الكريم رافق، على رؤية مغايرة للسردية التقليدية، أو الدرامية التي تتحدث عن زواج رجال المدينة بأكثر من زوجة، إذ استطاع رافق من خلال دراسته للتركات في منتصف القرن الثامن عشر، أن يكشف لنا أن المجتمع المحلي الدمشقي لم يكن يميل إلى تعدد الزوجات.
من ناحية أخرى، يبدو أن شرائح من العامة (القرن الثامن عشر) لم تكن راضية على التغيرات في القيم والعادات التي عرفتها المدينة، ولذلك نعثر مثلاً على شكوى في عام 1751 من أهالي محلة الظاهر بيبرس في دمشق، ضد فساد الأخلاق في حيهم (كشف عنها ودرسها المؤرخ مهند مبيضين)، وفي هذا السياق أيضاً يمكن أن نشير إلى حفريات سامر عكاش في «يوميات البديري»؛ فالأخير لم يكن يعكس من خلال حديثه عن «شلكات المدينة» ازدياد حالة الفساد الأخلاقي في المدينة في ظل التغيرات الجديدة في القيم والعادات، بل كان يعبّر عن موقف شخصية محافظة من ازياد ظهور النساء في أسواق وأحياء المدينة. وفي سياق البديري كذلك، لا بد أن نشير إلى كتاب «حلّاق دمشق» للمؤرخة الفلسطينية دانة السجدي، التي بيّنت لنا من خلال دراستها لمخطوطته الأصلية، أن أسلوب الأخير في الكتابة العامية، يكشف لنا عن ظهور ما دعته بـ«اقتصاد الكتابة الجديد» في المدينة (القرن الثامن عشر)، الذي تمثّل في ظهور كتابات لمؤلفين من خارج طبقة العلماء، وجاء كانعكاس لحالة التغيّر في الأسس التقليدية التي عرفتها دمشق في هذا القرن.
القرن المجهول:
مع هذه المعرفة الجديدة بالقرن الثامن عشر، أصبحنا أكثر قدرة على الإحاطة بثلاثة قرون من تاريخ دمشق العثماني، في حين بقي القرن السابع عشر ربما من أكثر القرون نسياناً وأقلها بحثاً من قبل المؤرخين المهتمين بتاريخ هذه المدينة؛ ربما باستثناء أعمال جان باسكوال، مع زميلته كوليت استابليه، الذي امتدّ قرابة خمسة عشر عاماً تقريباً لإعادة تركيب التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لدمشق، بالاستناد إلى سجلات المحاكم الشرعية (وثائق التركات والقسمة العسكرية)، ونتج لاحقاً عن عدد من الأبحاث والدراسات مثل «العائلات والثروات في دمشق» و«النسيح والناس: دمشق حوالي 1700»، «تكون فقيراً أو غنياً في دمشق نحو عام 1700»؛ أو دراساته عن العسكر في تلك الفترة، وعناوين أخرى عديدة ولافتة نشرها المؤرخ ناصر الدين سعيدوني في مقاله عن باسكوال. مع ذلك، فإن الإشكالية في هذه الأعمال أنها بقيت حبيسة الدائرة الفرنكفونية، كما يؤكد على ذلك مقال الأرناؤوط بمناسبة رحيل باسكوال عن دنيانا.
كما يمكن الإشارة في هذا السياق لعملين مميزين حاولا الكشف عن مصادر لدراسة أخرى لمعرفة هذا القرن، وإن بدت متفاوتة في أهميتها. الأول هو العمل الذي حققه المؤرخ التركي خليل ساحلي أوغلو، وشمل نشر أحد دفاتر ضريبة العوارض لسكان مدينة دمشق. نعثر في هذا الدفتر على معلومات دقيقة حول أسماء وأحياء ومحلات دمشق في تلك الفترة (21) حي، بالإضافة إلى أصحاب البيوت في كل زقاق من الأزقة الموجودة في المدينة. كما يوفر لنا الدفتر بعض المعلومات حول التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والحرفية لبعض الأحياء داخل المدينة وحجم هذه الأحياء. ففي حي مثل حي باب سريجة نعثر على أسماء (7) أزقة، في حين نجد أن حي شاغور الجواني يضم أسماء (13) زقاقاً، ومحلة القبيبات (30) وباب المصلى (14)، كما نجد أن العديد من الأزقة كانت تحمل أسماء بعض سكانها، فمن بين سكان زقاق ابن نعير الموجود في محلة قبيبات، هناك حسين وعلي أولاد زين الدين نعير. كما نعثر، في المحلة أو الحي ذاته، على زقاق بيت الحكيم نسبة إلى المعلم منصور بن محمود الحكيم وأخيه. ومن الأمور الطريفة التي نعثر عليها كذلك في هذا الدفتر زقاق باسم زقاق الهنود في محلة حضرة نور الدين الشهيد.
ورغم أن معظم أسماء مالكي البيوت لا تشير إلى أي أصول هندية (بيت العطار والحمصي)، إلا أن اللافت أن هناك ذكراً لأسماء أوقاف وبيوت عائلات هندية يذكرها الدفتر بـ «بيوت عدد 6 ساكن الحاج (-) هندي، وقف زاوية توته هنود أفغان» ما يؤكد أن الحي قد سُمِّي نسبة لسكن هنود في هذا الحي، وربما لأنهم هم من قاموا بتأسيس هذا الحي في فترة سابقة.
أما العمل الثاني الذي حاول نشر مصادر أخرى، فهو الكتاب الذي نشره المؤرخ السوري أحمد أيبش تحت عنوان «رحلات في بر الشام في القرن السابع عشر» الذي جمع فيه عددا من رحلات الأوروبيين (فرنسيين وبرتغاليين) ممن زاروا المدينة في تلك الفترة. ورغم أن أسلوب أيبش في جمع الرحلات شابه بعض الثغرات، إذ يذكر مثلاً أنه في تحقيقه وترجمته لنص الرحال البرتغالي سيباشتياو مانريك، الذي زار دمشق في ثلاثينيات القرن السابع عشر، عثر على فقرات يفوح منها «أسلوب ازدراء واضح لكل الشعوب (الشرقية) التي زار بلادها، وعند كلامه عن سكان الشام ودمشق أبدى كثيراً من التحامل والتعصب»، ولذلك «حذفت ذلك من النص، وتركت ما يختص بالوصف والرواية الشخصية»؛ وهنا قد يتساءل البعض، ألا يعدُّ هذا الأسلوب في التحقيق والترجمة تلاعباً أو تصرفاً غير قويم بالوثيقة رغم صدق النية؛ إذ ليس من مهمة المؤرخ أو المحقق أن يلعب دور الوصي أو الحامي لأفكار القارئ، كما أن وجود هذه الصور السلبية قد تتيح لنا التعرّف على الخلفيات التي دفعت الرحالة للقيام بمغامراتهم في الشرق؛ لكن خلافاً لهذا الجانب، لا يمكن أن ننفي الجهد المهم الذي قدمه أيبش على صعيد جمع هذه الرحلات وترجمتها وتحقيقها.
ما يُلاحظ في غالبية هذه الرحلات، بقاء طابع الوصف لجغرافية المدينة السائد في ما دونه هؤلاء الرحالة، كما ما يلفت النظر أن الجغرافيا الإنجيلية أو الرؤية اللاهوتية بقيت ثاوية ومتحكمة أحياناً في أسلوب وصفهم وسردهم لبعض معالمها. ففي رحلة البرتغالي السابقة نعثر على وصف لأسوار المدينة كالتالي «ما زالت على السور المذكور بوابة يسميها المسيحيون بوابة القديس بولس، وقريباً منها يحددون المكان الذي كان يقوم عليه منزل حنانيا التقي»، في حين يذكر الرحالة الفرنسي لوران دارفيو أنه في داخل الشارع المستقيم، يوجد سبيل ما يستند إلى عضادة ضخمة، «ويزعم أنه في هذا المكان بالذات تم تعميد مار بولص على يدي حنانيا». هذه المخيلة والاقتصار على وصف جغرافية المدينة وبعض معالمها، لم ينس بعضهم وصف أحوال العامة وحياتهم، وإن بشكل سريع. ففي الرحلة السابقة ذاتها يصف لنا دارفيو الصفات الجسمانية والنفسانية لأهل دمشق «يغلب عليهم جمال الطلعة وبياض البشرة مع ملاحظة في التكوين، كما يتصفون بالليونة والظرافة والدهاء».
وعلى صعيد شكل البيوت، يؤكد دارفيو أن الدور بغالبيتها العظمى مبنية باللبن وهي تبدو هزيلة الحجم من الخارج، أما في الداخل فهي كبيرة وجيدة التخطيط. ولعل في إشارته للمظهر الخارجي للبيوت ما يتقاطع مع بعض الدراسات العمرانية للمدينة، التي بيّنت أن هذا المظهر أخذ يشهد تغيراً في فترة القرن التاسع عشر، مقارنة بالقرنين السابع عشر والثامن عشر، بسبب اهتمام نخب وأعيان المدينة بالشكل الخارجي للمنزل أو الباب، كتعبير عن المكانة والهوية الاجتماعية. كما يأتي على ذكر التركيبة الدينية والاجتماعية لبعض الأحياء والقرى المحيطة بالمدينة. فمثلاً على صعيد قرية جوبر، يشير دارفيو «أنها تقع على بعد نصف فرسخ من دمشق، ولا يسكن فيها إلا اليهود بدون أن يخالطهم أحد من الأمم الأخرى. ولهم هناك مغارة يطلعون عليها الزوار، يقولون إن النبي أيليا اختبأ فيها عند هروبه من اضطهاد الملكة إيزابيل». وعلى الصعيد الصحي للمدينة، يذكر الرحالة الفرنسي جان دي تيفنو (1663)، وجود مشفى لمرضى الجذام يقع «ما بين باب توما وباب شرقي، لكنه أقرب إلى هذا الأخير ولا يبعد عن أسوار المدينة سوى بضع خطوات».
ومن الملاحظات الطريفة التي سجلها تيفنو أيضاً هو أن أهل دمشق وباقي الولايات العثمانية (يصفها بالتركية) لا شيء يكدّر مزاجهم «كرؤية أحد يمتطي حصاناً وساقاه في جهة واحدة، كما تفعل السيدات في فرنسا عندما غادرتها. وسبب هذه العادة الغريبة هو اعتقاد الاتراك أن العملاقين يأجوج ومأجوج اللذين عصيا الله كان يمتطيان الخيل بهذه الطريقة، ولذلك بمجرد أن يروا أحد ما في هذه الوضعية يرجمونه بالحجارة إلى أن يعدل وضعية ركوبه».
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي