الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيّلة” لعزمي بشارة.. تأصيل غير متخيل/ وائل قيس
يبيّن المفكر العربي عزمي بشارة في كتابه “الطائفة، الطائفية، الطائفية المتخيّلة”، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مراحل تطور مصطلح الطائفة إلى الطائفية، قبل أن ينتهي المطاف بالحديث عن إنتاجها كطوائف متخيّلة، من خلال عمله على مقارنتها بالظواهر الاجتماعية التي حكمت تطورها في سياقها الديني إسلاميًا ومسيحيًا ما يحيلنا لفهم التاريخ على اعتباره تاريخ طوائف.
تحولات الطائفة.. الطائفية
رغم أن الطائفية كانت غير طافية للسطح خلال القرن الفائت في المنطقة العربية، لكنها تغذّت، ووجدت طريقًا لها بعد انهيار مشروع الدولة الوطنية–القومية، وهي– أي الطائفية– في جذورها التاريخية حسبما يرى بشارة قد كانت في مرحلة ما بعد الاستقلال “كامنة في بنية الدولة الهشة بنيويًا، (القوية) ظاهريًا”، بحيث أنها مكّنت النخب السياسية والدول القومية من “استدعائها ضد النظام القائم أو في الدفاع عنه”، فهي صحيح أنها لم تكن في مراحل تاريخية معينة “تحتل الصدارة” في المشرق العربي، لكنها كانت أيضًا “قائمة في الخفاء أو العلن”، والطائفية باعتبارها كيانات متخيّلة يقصد بها “المتخيّل الاجتماعي” وحالة من “تصور التبعية”، كونها ظاهرة “ممكنة في المجتمعات الحديثة التي لم تُنجِز فيها سيرورة الحداثة علمنة الوعي الاجتماعي”.
سابقًا كان المؤرخ بندكت أندرسن (1936–2015) قد اشتغل على مفهوم المتخيّل من منظور الجماعة في كتابه “الجماعات المتخيّلة”، الذي وصف من خلاله الأمة بأنها “جماعة سياسية متخيّلة”، وأضاف نقلًا عن إرنست غلنر معرفًا القومية بأنها “تخترع الأمم حيث لا وجود لها”، لذا فإن الأمة بنظر أندرسن يجري تخيّلها على أنها “محددة” و”سيّدة” و”جماعة”، والثانية يرجع مصدرها للتسيّد؛ من هذا المنحى يمكننا أن نقرأ في الطائفية المتخيّلة كما حددها بشارة بكونها عبارة عن “تصور التبعية (المولودة غالبًا) لدين أو مذهب مع ملايين البشر، الذين يعرفون بعضهم، ولم يشكلوا يومًا جماعة بوصفها انتماءً إلى طائفة اجتماعية دينية كبرى بناءً على ماضٍ مشتركٍ من المرويات والقصص والأساطير”.
وفيما كان الظنّ أن الطائفية ذاهبة إلى زوال مقابل صعود الانتماء الوطني، برز تطور جذري في تاريخها حين وجدت نفسها أمام أول فرصة، وبلورت رؤية جديدة بتحولها لـ”خطاب سياسي ووعيٍ يحكم القيم السلوكية في الحياة اليومية”، ودفعت بإعادة “الطوائف على نحو مختلف كليًا عما كانت عليه”، فقد لعب تأجيج الشعور الطائفي على سجال الهوية، ففي الوقت الذي نزع الوطنيون لتأكيد هوية الوطنية والقومية على أنها القاعدة، كان الخطاب الاستشراقي الغربي ينزع عنها هذه الصفة بالذهاب إلى أن “الهويات المحلية أو القبلية هي الطبيعية”، ويؤكد على اصطناع الهوية القومية العربية.
الطوائف المتخيّلة.. صراع إنتاجية المفاهيم الدينية
بالعودة إلى أندرسن، فقد كان دقيقًا في تقديمه لظهور الجماعات الدينية المتخيّلة، وفي معرض حديثه عن نشأة تلك الجماعات بما فيها “أمة الإسلام”، تمّت لديها حالة الجماعة “المركزية” بالاعتماد على اللغة أو “النص المقدس”، ويرى على سبيل المثال أن “اللغة العربية المكتوبة تعمل عمل الأحرف الصينية في خلق جماعات من خلال العلامات، لا من خلال الأصوات”، لذلك نجد أن “الجماعات الكلاسيكية” دائمًا ما تتصور نفسها على أنها “مركز الكون، عبر وسيط لغة مقدسة مرتبطة بنظام للقوة فوق أرضي”.
لكن الحال مع مفهوم الطائفة المتخيّلة يختلف لدينا هنا، فإذا كانت الجماعة تعتمد على اللغة كوسيط لمخيّال مركزيتها، فإن الطائفية المتخيّلة كما يراها بشارة تغذي إنتاج الطوائف بتحويل الانتماءات الدينية والمذهبية إلى “جماعات متخيّلة تشكل مرجعية سياسية” من حيث إن مهمتها الأولى تكمن في “استدعاء الانتماء الطائفي لدى الفرد، ومنح الانتماء هذه المعاني، وفي مقدمتها الـ(نحن)، ودائمًا في مقابل الـ(هم)”.
تتسم الطائفية في العصر الحديث بنقطتين أساسيتين، أولًا “تغلب الانتماء الطائفي على بقية هويات الفرد”، وهنا يختفي مفهوم الجماعة المتخيّلة بعدما تفرّعت عن الجماعة الواحدة هويات متخيّلة جديدة، وثانيًا في استعارتها لـ”مفردات الطوائف الدينية التقليدية ومصطلحاتها ورموزها المتوارثة”، وهي هنا في هذه الاستعارة تقوم بـ”إنشاء جماعة متخيّلة لا تشكل كيانًا اجتماعيًا متجانسًا أو ذا مصالح مشتركة”.
يطالعنا هنا واحد من الأسئلة الهامة فيما يخص المتخيّل من ناحية الفرق بين القومية والطائفة المتخيّلة، والتي حدّدها صاحب “مقالة في الحرية” بأن القومية يقوم تخيّل انتمائها إلى لغة أو ثقافة، لذلك نلمس قربها من الواقع الحديث، وهي مرتبطة بمفاهيم تحررية كحق تقرير المصير والسيادة، لذلك نراها “أكثر تأهيلًا لتوحيد المجتمع المتعدد الطوائف في هوية واحدة”.
أما الطائفية فهي تعمل على تحويل الطائفة الدينية إلى “متخيّل تفكيك العلاقات التي نشأت بحكم الدولة الحديثة”، ففشلت في توحيد مجتمعات متعددة القوميات في كيان سياسي، وفي مطرح آخر تعمل على “الاستغلال المتبادل بين الطائفية والحركات والتيارات التي تقوم بتسييس الدين” بسبب تدخل رجال الدين في السياسة الطائفية للجماعة.
الطائفية.. الإثنية.. العلاقات الاجتماعية
يتشابه القول عند البحث عن معنى الإثنية، والذي يشير لأنها فئة من الناس يجمعها مميز أو أكثر باستثناء الجانب العرقي، وهو مثل المعنى المقابل لمفهوم الطائفة إذا ما حاولنا البحث في معاجم اللغة العربية، لكن علينا الانتباه أن أنتوني سميث اعتبر الإثنية “نواة نشوء القوميات بتوسط من الدولة”، وهي مرجحة أن “تندثر أو تندمج أو تتهمش كثقافة فرعية، فلا ينشئ عنها قومية”؛ وهي تقابل ما يرى دونالد هوروفيتس من أن “المشاعر الإثنية” ظهرت مع انتشار الأيديولوجيات المتحدثة عن “المساواة”، ويضيف بأن للأحداث السياسية “عواقب إثنية في المجتمعات التي يتغلل الانقسام الإثني في حياتها”، والذي اعتبرها عند المشرقيين أنثنة للمذاهب.
غير أن بشارة يخالف هوروفيتس وجهة نظره معتبرًا أن التطابق بين الإثنية والانتماء الديني “مسألة متغيرة”، فالطائفية السياسية غالبًا ما تجنح لـ”أنثنة الطائفة الدينية”، والتعامل معها على أنها “جماعة يشترك المنتمون إليها بصفات موروثة ثابتة منفصلة عن الإيمان أو عدم الإيمان بالدين”، ويضيف متساءلًا لماذا لا يتم اعتبار النزاع الإثني صراعًا بين جماعات إثنية؟ والطائفي صراعًا بين طوائف دينية؟ والقومي صراعًا بين شعوب؟ قبل أن يجيب بالإشارة لأن السبب يكمن في الفرق بين مصطلحات السياسات.
وللمقاربة أكثر، يوضح بشارة بالقول إن العنف الإثني ليس “إثنيًا في جوهره” إنما يجري توصيفه بذلك من قبل الصحفيين والباحثين والفاعلين..إلخ على اعتبار أن الإثنية والعرق والقومية هي “أشكال في فهم الواقع الاجتماعي وتفسيره وتمثيله، بينما الطائفة أو الفئة هي ليست جماعة إنما “تحديد لجماعة”، وتضمن لنفسها أكثر من الحدود التي تفصلها عن غيرها”، كونها “تشمل تضامنًا وعلاقات متبادلة وتواصلًا بين الأفراد والوحدات المكونة لها”، ومن هنا نجد أن الفئوية أو الطائفية “ترسمان الحدود، وتنتجان جماعة من خلال رسم الحدود ذاتها، جماعة متخيّلة”.
وكما الحال مع الإثنية، يرى بشارة أن الطائفية تتحول إلى “بنى وعلاقات اجتماعية مفروضة على الفرد حتى لو لم يكن طائفيًا”، يمكننا الاحتكام للنموذج اللبناني، بعد أن أصبح محكومًا من نواحي الحياة الاجتماعية داخله، وفي هذا الجانب تعني الطائفية “مجموعة من التحديات التي يتأثر يها وعي الفرد لذاته وأنماط سلوكه وعلاقات التبادل الاجتماعية والسياسية في حياته”، وهي تظهر أو تتأجج بشكل واضح خلال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويضاف إليها “الصراع الوجودي على السلطة”، وتغيب في حالات عدم النزاع كون الدولة أو الأمة تملك القدرة على دمج الناس “وطنيًا” بما “يتجاوز الاختلافات الطائفية”، فعليًا يمكننا النظر لعديد التجارب العربية كما يحدث حاليًا في سوريا أو العراق أيضًا.
إذًا.. ماذا عن الطائفية مصطلحًا؟
يشير صاحب “في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟” في الدلالة على مصطلح الطائفية إلى أن التمييز الذي ينتشر في الوعي اليومي بين الطائفية والمذهبية يعتبر أن الأولى “تبعية لطائفة دينية من بين طوائف عدة”، أما الثانية فترد تبعية علاقتها لـ”جماعة مذهبية من ضمن مذاهب عدة في إطار دين بعينه”، لكن في الحقيقة فإن التمذهب مردود على “تبني عقيدة دينية”، ويعمل على تنظيم “ممارسات جماعة دينية في العبادات والمعاملات”، بينما التعصب لجماعة بالانتماء إلى ديانة أو مذهب فهو ما صار يعرف حديثًا ياسم الطائفية لأنه تعصب لـ”جماعة من البشر، وتحديد الموقف من الآخرين، بعد تصنيفهم بموجب هذه الانتماءات”، لذا فإن “اشتقاق طائفية في هذه الحالة يماثل اشتقاقي قبلية وقومية، وما يوسم مذهبية في الوعي اليومي هو في الواقع طائفية”.
وعند العودة للمفهوم الوصفي الإسلامي الكلاسيكي للطائفة، نجد لسان العرب عرفها بأنها “الطائفة من الشيء: جزء منه (…) يقال: طائفة من الناس وطائفة من الليل”، وفي الحديث “لا تزال طائفة من أمتي على الحق” وهنا تعني “الطائفة: الجماعة من الناس”، ووفق هذا المعنى فإن مصطلح “الطائفة” يقصد به “فئات على أساس الانقسام إلى جماعات مميزة دينيًا أو مذهبيًا أو مهنيًا”، وتبعًا لذلك يشير بشارة إلى أنه “في مراحل ما قبل الحداثة وجد في اللغة العربية لفظ (طائفة)، ولكن لم تعرف العربية لفظ (الطائفية) إلا حديثًا”.
وفي النظر لمصطلح الطائفة في المنظور السوسيولوجي الحديث، نرى أن ماكس فيبر ميّز بين الكنيسة والطائفة بمصطلح Church، ومصطلح الفرقة Sect التي تترجم للعربية خطًأ بـ”طائفة” كما يقول بشارة، لأن هذا المصطلح “أقرب إلى ما كان يقصد به في الماضي بالفرقة والفرق”، ويضيف بأنه يستخدم في عصرنا للدلالة على مجموعة من أتباع اتجاه ديني أو فلسفي أو سياسي في حال تميز هذه الجماعة يتعاليمها، وهو ما يقصده فيبر في تحديده لمصطلح Sect، ويشير بشارة إلى أن الكنيسة Church عند فيبر “مؤسسة دينية”، لأنها “تشمل في الحالة المسيحية رجال الدين وأعضاء الكنيسة، وهم الرعية، أو العامة، أو الشعب”، وهو ما أصبح يسمى باللغة العربية المعاصرة يـ”الطائفة”، إلا أن قيام الكنائس كاتحادات طوعية في حالة الفرق البروتستانية “يشوش دلالة المصطلح عربيًا”، ويبعده “عن الطائفة الدينية” في سياقها العربي المعاصر.
ويميز بشارة الاختلاف بين الطائفة والفرقة، بأن أي مؤسسة دينية – طائفة تتميز بوجود حدود “جغرافية أو (أثنية) أو سياسية للطائفة الدينية… ومؤسسات إدارية تدير المصادر الروحية والمادية إلى حد ما”، وتحول تجربتها الدينية إلى “المأسسة والروتينية” لإيجاد الحلول “الوسطى مع النظام الاجتماعي القائم، والتكييف مع التغيرات فيه”، أما الفرقة فإنها تقوم على أساس “الاعتناق، أو التجربة الذاتية”، إضافة لأنها “انتقائية العضوية وإقصائية، ومنغلقة منسحبة عادًة من المجتمع أو من الحلول الوسطى مع ما تعتبره (آفات) جاء الدين ليصلحها”.
الطائفة في فروقها عن مصطلحات متعددة
التمذهب والتطييف
يأخذ بشارة من الصراع بين السلطنتين الصفوية والعثمانية نموذجًا للحديث عن الاختلاف بين المذهب/ الطائفة، من حيث إن الصراع الذي دار بين السلطنتين (1533 – 1555) سرّع من تطور المؤسستان الفقهيتان “تطورًا نوعيًا كبيرًا، أي بطريقة ممؤسسة ومحددة الوظائف والمراتب في ميدان العبادات والعلامات”، فهتين السطلنتين كانتا مبنيتين على “تراتب هرمي وتكامل وظيفي”، ومضلعتين بـ”وظائف الضبط الاجتماعي الأيديولوجي والتنشئة الاجتماعية وفقًا لمذهب الدولة”.
يشير بشارة هنا إلى أن “البروباغندا” التي قامت على صياغة وتحديد “العقيدية، التعبئة التحريضية، المقولات المذهبية”، ساهمت في “بناء الطائفة الدينية كيانًا اجتماعيًا ذا عقيدة محددة أو أتباع أو أعضاء”، وينوه في هذا الخصوص إلى قوله بذلك على الرغم من اعتراضه على وجود مؤسسة دينية في “حالة الإسلام” لأن الإسلام دينًا ينفي “الكهنوتية أو مؤسسة رجال الدين، لكن التاريخ السوسيولوجي للمؤسسة الفقهية أكسبها صفة مؤسسة رجال الدين ووظائفها”.
الجماعة الأهلية أو المجتمع المحلي
عند الحديث عن الجماعة الدينية فإنها من الممكن أن تلتقي مع “الروابط القبلية العضوية القائمة”، أو تشكل “ما يشبهها لناحية العيش المشارك والتكامل”، وهي بذلك تتطابق مع “الجماعة بوصفها تنظيمًا اجتماعيًا للاكتفاء والإدارة الذاتيين وسبل العيش”، أما الجماعة الأهلية فيلزمها عناصر “العضوية، التأثير، التكامل وتلبية الحاجات، والتواصل العاطفي المشترك” لإعادة تركيبها في مجتمع حديث، وهو مالا ينطبق على الطوائف الدينية.
فالطائفة الدينية في عصرنا ليست جماعة أهلية عضوية محلية، ولا جماعة حديثة، بل هي كما يراها بشارة “جماعة متخيّلة”، لأنها غير ناجمة عن “حياة تشاركية”، بل مرجعها عنصر واحد هو “الهوية الناجمة عن قناعة أن الاشتراك في الإيمان بعقيدة معينة أو الولادة لعائلة تنتمي إليها دون الإيمان بها بشكل الهوية. وتحول الطائفية الهوية إلى تميز عن الطوائف الأخرى”، وتجعل منها “الطائفة السياسية جماعة سياسية”، فهي خلافًا لحالة الجماعة الأهلية “لا يعيش الفرد في الجماعة، بل تعيش الجماعة فيه، وتسكنه”.
الفرقة والافتراق إسلاميًا
كانت أهم سمات الصراع على الخلافة في العصر الأموي “القبلية”، فهو دار بين “تحالفات قبائل متغيرة ومركبة في العراق والشام”، لذلك لم يتخذ شكل الصراع المذهبي أو الطائفي، وتحول الصراع على الإمامة تدريجيًا إلى إلى مذاهب في تفسير القرآن وقراءة السيرة النبوية، وبعدها إلى صراع لاهوتي مذهبي، وهذه الاختلافات اللاهوتية لم تتحول إلى “طوائف اجتماعية عابرة للمحلات الصغيرة” إلا بعد قرون كما يقول بشارة، فالذي تشكل هو “الفرق المنشقة الصغيرة”، ويرى من خلال مراجعته للنصوص التراثية المرتبطة بالفرقة والفرق أنها لفظ يعني الأتباع أو الحزب، أو الطائفة بمعنى جماعة من الناس، لأن الفرقة هي نتاج التفرق إلى فرق نتاج الاختلاف، لكن مع تمأسس المذاهب أطلق بعض الشيعة الإمامية لقب “شيخ الطائفة” على مرجعها الشيخ الطوسي.
فالمفهوم السلبي للطائفة تطور في ضوء “تحولات الاجتماع السياسي الإسلامي بعد نشوء مفهوم الأمة الإسلامية وتفرقها إلى ملوك طوائف بمعنى السلالات الحاكمة”، وبعدها “أسقط المصطلح السلبي على انقسام الأمة إلى فرق”، فقد قسمت الفرق الإسلامية في تكريس “حديث الافتراق” إلى 73 فرقة، 72 فرقة منها هالكة وفرقة واحدة ناجية، والجماعات الدينية الإسلامية تخاصمت وتوافقت بوصفها “أحزابًا” تتصارع على الخلافة والإمامة، ثم بوصفها فرقًا “تتبنى تفسيرات وتأويلات اعتقادية ومذهبية فقهية للنصوص المقدسة في مجرى التناقضات الاجتماعية والسياسية”.
لذلك نجد أن الطائفة الدينية في عصرنا هي “جماعة متخيّلة مؤلفة من أتباع دين أو مذهب”، وعملت على إعادة بناء أيديولوجيتها بما “يسبغ عليها بواسطة التخيّل سمات التماسك والوحدة”، فالمقصود بطائفة في عصرنا هم “أتباع الديانة أو المذهب نفسه فقط، سواء أكانوا قد تشكلوا اجتماعيًا فعلًا أم لا، إنهم يتخيلون أنفسهم كأنهم جماعة”، ولهذا يصفهم بشارة بأنهم “جماعة متخيّلة”.
من الطائفة الدينية بما هي جماعة إلى الطائفة بوصفها جماعة متخيّلة
تعرف الطائفة الدينية عمومًا على أنها جماعة تنتسب إلى معتقد ديني، وهي ماضيًا جماعة محلية، وفي المعنى الحديث تشكل أساسًا اجتماعيًا وثقافيًا تنطلق منه “الطائفية السياسية وتساهم في إنتاجها وتعيد إنتاجها كطائفة متخيّلة حتى بعد اندثارها”، وهي التي “يتمكن الأفراد من تخيل الانتماء إليها في ما يتجاوز الأهل إلى دولة بأكملها، أو حتى ما يتجاوز الدول”، ومن هذا المنطلق فإن الطائفية في العصر الحديث تعني تحول “التابعية لدين أو مذهب في ظروف معينة إلى هوية جماعية فعلية مباشرة أو إلى جماعة متخيّلة”.
وتمتاز الطائفية الدينية الحديثة من التعصب لمذهب أو لفرقة دينية في العصر الوسيط بأربعة مميزات يلخصها بشارة بالتالي: “تراجع أهمية الفوارق الدينية حتى أنها تكاد تنسى، قمع الخيار الإيماني الفردي المتوّلد من ظروف الحداثة الذي أنتج الطائفية السياسية، منافسة الانتماء إلى الجماعة الوطنية الأوسع، لم تعد الطائفة تلك الفرقة القديمة المنعزلة عن حياة المجتمع والدولة”، فالطائفية لم تعد دينًا يتوسع أو يحاول فرض نفسه، بل أصبحت “جماعة دينية بانت حدودها، وخلفت الانتشار من ورائها”، فهي “تقوم ما بعد عهد الأديان وانتشارها”.
أصبحت الطائفية “نمط من سلوك” صار معنيًا “بمصالح لجماعة الهوية التي تعرف بالانتماء إلى هذا الدين، أو إلى هذا المذهب”، وهي تعنى كذلك “بالمصالح الافتراضية لجماعة الهوية، كما صاغتها قيادة هذه الجماعة لمصلحتها”، حتى شملت المتديّن وغير المتديّن، لكن “ليس بوصف الدين عقيدًة أو أيمانًا، بل بوصفه هوية دنيوية لطائفة متخيلة من البشر”، وعندما تبذل الجهود لنشر المذهب بدوافع طائفية في عصرنا الراهن، فإن نشره يعني الولاء السياسي لحزب طائفي أو دولة طائفية، وهو ما يدرجها ضمن الطائفية السياسية.
نهاية، لا تقدم هذه القراءة عرضًا وافيًا لما تضمنه البحث النظري والتاريخي حول “الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخلية” للمفكر العربي عزمي بشارة، إنما ركزت على تاريخية تطور مفهوم مصطلحي الطائفة، الطائفية، وصولًا لمرحلة “الطوائف المتخيّلة”، فهي تجاوزت العديد من الإشارات التي عمل على صياغتها بشارة في وضعه تعريفات جديدة للطائفة والطائفية، وقدم كذلك قراءة شخصية تتعارض مع نظريات سابقة جرى طرحها في شؤون الجماعة والمجتمع ومسألة الهوية.
الترا صوت