تسيطر على 4000 كيلومتر مربّع من سوريا… كيف يعيش السوريون في المناطق الخاضعة لنفوذ تركيا؟/ مراد الحجي
911 كيلومتراً هي طول الشريط الحدودي الذي يفصل سوريا عن تركيا، تلك الحدود التي تكرر أنقرة المطالبة بضرورة ضبطها، وتعمل خلفها في العمق السوري، معتبرةً أن ما يجري هنالك مرتبط بأمنها القومي.
وفي سياق هذه المطالبات، نفّذت القوات التركية وفصائل سورية متحالفة معها عمليتين عسكريتين، أولهما “درع الفرات” والثانية “غصن زيتون”، أسفرتا عن خضوع مساحة لا تقل عن أربعة آلاف كيلومتر مربع للنفوذ التركي، بالشراكة مع فصائل سورية.
عفرين… مدينة بمعالم وسكان جدد
مع نهاية المعركة بين القوات الكردية التي كانت تسيطر على منطقة عفرين من جهة، والقوات التركية وحلفائها من فصائل المعارضة السورية من جهة أخرى، في مارس 2018، وصل عدد النازحين من عفرين إلى 170 ألفاً، أي غالبية السكان وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فيما تعرّض مَن بقوا لانتهاكات مارستها الفصائل السورية التي سيطرت على المنطقة، قبل أن تشهد في ما بعد حالة استقرار نسبي، مهّدت لدخول المزيد من النازحين إليها.
قليلون هم الأكراد الذين بقوا في عفرين، ولكن الفترة الماضية، بُعيد استقرار المنطقة، شهدت عودة بعضهم، إلا أن الفصائل السورية المنتشرة هنالك لا تزال تضرب بيد من حديد بينهم، وتستغل محاصيلهم الزراعية.
وكانت الحكومة التركية قد أطلقت، في 20 كانون الثاني 2018، عملية عسكرية، بالتعاون مع فصائل عسكرية سورية، ضد وحدات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي والتي تتهمها أنقرة بأنها تابعة لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا وعدد من دول العالم، أفضت إلى السيطرة على عفرين وريفها.
لا أرقام دقيقة حول عدد سكان منطقة عفرين المختلطين بين أكراد وعرب، إذ تقول المصادر التركية إنه يبلغ 350 ألف نسمة، فيما تشير مصادر من عفرين إلى أن عدد النازحين إليها يصل إلى نصف مليون شخص.
يقول أحمد إبراهيم (20 عاماً) وهو طالب جامعي مقيم في عفرين: “يتم حالياً إجبار الفلاحين المتبقين على بيع محاصيلهم الزراعية من قمح وشعير بنصف قيمتها، أما المواسم التي تركها فلاحوها ونزحوا فقد سرقتها الفصائل، فيما احتكر التجار الأتراك شراء الزيتون”.
وتروي الصحافية الشابة التي نزحت من الغوطة الشرقية إلى ريف حلب، بسمة سقباني (27 سنة) أنه عُرض عليها السكن في عفرين لكنها رفضت “لسببين: الأول، أنني لم أتقبل فكرة السكن في منازل مَن هُجّروا بشكل مشابه لما حدث معنا في الغوطة؛ والثاني، أن الوحدات الكردية زرعت الألغام في الكثير من منازل عفرين”.
خيار وجود منطقة أخرى الذي توفّر لسقباني لم يكن متوفراً للكثيرين من مهجّري الغوطة وسواها من المناطق، لذا وفّرت عفرين الأمان لعشرات الآلاف منهم، ممن يعتبرون أن خلوّها من الأعمال الحربية يجعل منها منطقة مناسبة للسكن، بعد تدمير مدنهم وقراهم الأصلية.
يروي أبو كرم الأسمر (32 عاماً) وهو موظف إداري في أحد مستشفيات عفرين، ونزح إلى المدينة من الغوطة الشرقية: “الأمان متوفر في منطقة عفرين فهي تخلو من القصف والطيران الحربي، لكنها لا تخلو من المفخخات والعبوات الناسفة أحياناً، وانتهاكات الفصائل بحق المدنيين. أنا راضٍ بحياتي هنا مقارنة مع الأشخاص الذين يسكنون في المخيمات والمناطق غير الآمنة التي يقصفها الطيران”.
في نيسان 2018، تأسس في عفرين مجلس محلي، ضمّ 20 مقعداً تم توزيعها على مكونات المدينة، فنال الأكراد 11 مقعداً والعرب ثمانية مقاعد والتركمان مقعداً واحداً، ورُبط بالمجلس المحلي في حلب، وبالتالي بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية.
جوان عبد الكريم (35 عاماً) صحافي يقيم في القامشلي، عمل في عفرين قبل دخول القوات التركية وفصائل المعارضة السورية إليها، وواكب الأوضاع فيها، ويتواصل بشكل يومي مع نشطائها، يشكك في أهلية المجالس المحلية في عفرين ومحيطها لتسيير الأمور المدنية ويقول: “المجلس غير قادر على حماية أعضائه من انتهاكات الفصائل”.
ترأس المجلس المحلي في عفرين عند تشكيله المهندس زهير حيدر الذي قال عند استلامه منصبه إن “أهل عفرين سيديرون أنفسهم”. وبرأي عبد الكريم، “لم يملك هذا المجلس سلطة على فصائل غصن الزيتون، بل كان قراره تابعاً لولاية هاتاي التركية، إذ عَزَل زهير حيدر نفسه بعد حوالي سبعة أشهر من تأسيس المجلس، في مطلع أكتوبر 2018، وذلك بعد اعتقاله من قبل الجيش التركي لشبهة فساد، وفق ما أشيع حينها، قبل أيام من اعتقال شقيقه أيضاً”.
كما اعتُقل المحامي صادق نجار، رئيس اللجنة القانونية في المجلس، في 12 نوفمبر 2018، بتهمة الانتماء إلى وحدات حماية الشعب، على الرغم من أنه كان من المعروفين بمعارضة للوحدات. “هكذا هو حال المجلس الذي لا يملك أية سلطة”، يقول عبد الكريم.
وتقوم منظمات دولية بتوثيق انتهاكات في عفرين، وخاصة ضد الأكراد الذين لم يغادروا المدينة. وكشف المرصد السوري لحقوق الإنسان مؤخراً أن الانتهاكات في المنطقة تنوّعت ما بين القتل والخطف والاعتقال والنهب والسلب والابتزاز المالي والاستيلاء على ممتلكات الأكراد بهدف إحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة.
درع الفرات… تنمية بدون عودة لاجئين
تنشر تركيا بشكل مستمر أنباء عن عودة لاجئين سوريين من مدن تركية إلى المناطق الخاضعة لنفوذها في سوريا، فيما تنفي المصادر المدنية في مناطق درع الفرات أن يكون عدد العائدين كبيراً، أو حتى موازياً لعدد العابرين حديثاً إلى تركيا.
تتشابه الظروف المعيشية في مدن درع الفرات الرئيسية (الباب، جرابلس، اعزاز) فيما تختلف في تفاصيل تبدو هامةً للسكان، كانتماءات الفصائل العسكرية المتواجدة فيها.
و”درع الفرات” هي عملية عسكرية أطلقتها تركيا بالتعاون مع مجموعة فصائل عسكرية سورية معارضة في 24 أغسطس 2016، بهدف قتال داعش في المناطق القريبة من الحدود التركية، ثم وحدات حماية الشعب الكردية، وفرضت من خلالها نفوذها على عشرات المدن والقرى السورية، في أول توغل عسكري تركي مباشر في سوريا، قبل أن تعلن انتهاءها في 29 مارس 2017.
عام 2017، كان يعيش نحو 700 ألف شخص في مناطق درع الفرات، فيما تشير المصادر اليوم إلى أن عدد سكانها يتجاوز المليون نسمة، بعد موجات نزوح إليها في عامي 2017 و2018.
يقول الدكتور عماد حلال (33 عاماً)، وهو طبيب مقيم في مدينة اعزاز إن “تجربة اعزاز تختلف عن تجربتي الباب وجرابلس، على الرغم من تشابه طبيعة القوى المسيطرة ونموذج الحياة، إلا أن اعزاز لم تعانِ سابقاً من وجود داعش، كما أن القوى التي كانت تسيطر عليها هي قوى الجيش السوري الحر، وهي فصائل أغلبها من أهل اعزاز، وبالتالي انتهاكاتها أقل، وتعامل المدنيين معها أسهل”.
يتواجد الجيش التركي في مناطق درع الفرات مباشرةً، إنما بشكل غير كثيف، ولا علاقة للسكان بشكل مباشر مع القوى العسكرية التركية، لكن يمكن لك كمقيم في مناطق درع الفرات أن تشاهد دورية عسكرية تركية، وموقعاً تركياً.
يقول حلال: “لا نعتقد أن هناك إشرافاً مباشراً تركياً على تصرفات الفصائل السورية، إلا أنها تتصرف في حدود المصلحة التركية وفق ما نرى، فيما تبدو القوى الأمنية أكثر حضوراً ممثلةً بالمخابرات التركية التي يقودها في اعزاز شخص يُدعى أبو راشد الغزالي، كان ضابطاً في الجيش السوري ثم انشق وانضم للثورة، وبعدها تم تجنيسه في تركيا، ليعود مشرفاً على المخابرات في اعزاز، وله سمعة جيدة إلى حد ما بين السكان، خاصة مع قلة وجود انتهاكات”.
العبوات الناسفة والمفخخات والألغام لم تغب عن الحياة في مناطق درع الفرات، منذ 2016 وحتى مطلع العام الحالي. ففي 20 فبراير الماضي انفجر لغم أرضي بسيارة في بلدة بزاعة القريبة من مدينة الباب، ما أدى إلى إصابة مواطن بجروح، وكانت البلدة ذاتها قد تعرّضت لانفجار دراجة نارية مفخخة لم تسفر عن سقوط ضحايا، فيما أسفر تفجير دراجة مفخخة أخرى إلى سقوط 17 مواطناً بين قتيل وجريح في بلدة قباسين التابعة لمدينة الباب أيضاً في أغسطس 2018، ولم تنجُ منبج وجرابلس والراعي من أحداث مشابهة.
سُجلت في مناطق درع الفرات انتهاكات عديدة قامت بها الفصائل السورية المنتشرة هنالك، أغلبها كان موجهاً ضد الصحافيين والناشطين الإعلاميين، ومنها الاعتداء بالضرب والشتم على الناشط الإعلامي وائل عادل والمصور عمر حافظ في مايو 2018، وكانا يعملان مراسلين لتلفزيون سوريا (مقره تركيا)، من قبل عناصر يتبعون للأمن العام في مدينة اعزاز، كما تم اعتقالهما لمدة ثلاث ساعات.
أغلب القطاعات الخدماتية في درع الفرات جيدة نسبياً، سواء كان بعضها منجزاً تركياً أو غير تركي. تتوفر الكهرباء لمدة 24 ساعة، وتتوفر صهاريج المياه وشبكة الإنترنت والاتصالات التركية، وهو ما لم يكن متوفراً سابقاً في هذه المناطق بالجودة ذاتها، كما يتم تحسين الطرق.
ولكن المشكلة الأبرز في السياق الخدماتي هي أنه غير متاح للجميع بحكم الفروقات الطبقيية التي تزداد حدة في تلك المنطقة.
يقول حلال: “هناك طبقتان ظاهرتان في مناطقنا، هما طبقة من الميسورين وطبقة من المعدمين، بمعنى أنه لا توجد طبقة وسطى واضحة المعالم”.
أغلب موظفي المنظمات الدولية، والصحافيين، وقادة الفصائل، والتجار، يحصلون على رواتبهم ومداخيلهم بالليرة التركية أو بالدولار، فيما يتم التداول في الأسواق بالليرة السورية منخفضة القيمة مقابل هاتين العملتين، ما يجعل تأمين متطلبات حياتهم أسهل. فيما ينال العمال وعامة الشعب رواتبهم بالليرة السورية ليواجهوا ارتفاع تكاليف الحياة، خاصة أولئك النازحين الذين يضطرون لدفع مبالغ كبيرة لقاء إيجار منازلهم.
أقامت بسمة السقباني عدة أشهر في اعزاز التي تعتبرها من أكثر المناطق أمناً في الشمال السوري، لكن وضع النازحين هناك وفق قولها لم يكن سهلاً، خاصة من الجانب المادي.
تروي: “استأجرنا منزلاً في اعزاز مقابل 150 دولاراً شهرياً وهو مبلغ كبير بالنسبة إلى نازح، ولم يقبل صاحب المنزل، ومثله كثيرون، إلا الحصول على دفعة عن ثلاثة أشهر مسبقاً… أيامي الأولى في المدينة كانت في قمة الهدوء والراحة النفسية، لكن تفجيراً كبيراً هز الساحة جعلني وعائلتي نفكر بالسفر إلى تركيا، وهو ما حصل”.
في جرابلس يزداد أعداد السكان القادمين من المناطق المنكوبة بفعل العمليات الحربية، وفق محمد مصطفى (27 عاماً) وهو ناشط إعلامي مقيم في جرابلس.
يقول لرصيف22: “السكان في تزايد مستمر، فالمنطقة آمنة هنا بفعل وجود الفصائل العسكرية فيها، لكن الهجرة باتجاه تركيا مستمرة”، مشيراً إلى أن الظروف المادية تجبر البعض على النزوح من مناطق درع الفرات.
لا يخفي مصطفى مخاوفه من تقدم النظام، خاصة أن مطلع عام 2018 شهد تقدماً له في عدة مناطق من ريف إدلب، وهي مخاوف لا تغيب عن أي سوري يقيم خارج مناطق سيطرة النظام حالياً، خوفاً من النزوح مجدداً أو الرضوخ لسلطته التي عادةً ما تكون أقسى من سلطة أي قوة أخرى.
وتنتشر في مناطق درع الفرات مجالس محلية منتخبة في المدن والقرى الرئيسية، تتضمن مكاتب متعددة تشرف على سير الحياة والخدمات فيها، وتستعين بالشرطة المدنية وبالأمن لمواجهة المشاكل التي تعترضها. ولم يتدخل الجانب التركي في تشكيلها ولكنها تتلقى دعماً مباشراً منه يتمثل في الرواتب والمعدات والآليات المطلوبة لتسيير الحياة هناك.
يقول عسكري في أحد الفصائل السورية العاملة في مناطق درع الفرات لرصيف22: “عمل المجالس المحلية وفعاليتها مناسبة جداً للأوضاع التي نعيشها في ظل الحرب، فهي تقوم على توفير ما تستطيع من خدمات بالتعاون مع الحكومة التركية. لقد أصبحت المنطقة أكثر تطوراً مع تبني العمل المؤسساتي هنا”.
وفي الجانب الإغاثي، لا تستطيع أي منظمة أو جمعية العمل في مناطق درع الفرات دون التنسيق مع الجانب التركي، إذ تخضع الأعمال الإغاثية والدعم الإنساني لإشراف “آفاد” وهي إدارة الطوارئ والكوارث التركية.
رصيف 22