السوريون الضحية/ آلاء عوض
قد تتساءلُ، وأنتَ تشاهدُ بعض مقاطع الفيديو أو الصور، القادمة من أحد المخيمات الغارقة المزدحمة بالسوريين: لِمَ لمْ يحاول هؤلاء قبل اشتداد الشتاء إيجاد حلٍّ والنجاة بأرواحهم وأبنائهم عوضاً عن مراوحتهم في المكان؟ عِلماً أن واقع حال هذه الخيام في الشتاء بات معروفاً، ويتكرّر كل عام. بل إن كل عام يكون أسوأ من سابقه، نظراً لتباطؤ الدعم! ولكن الإجابة البسيطة والنمطية والعاطفية تكون أنه لا مكان لهم إلا الخيام، وأنهم عاجزون عن تحقيق أي تقدّم يذكر في مجال واقعهم القاتم، وأن مسؤوليتهم تقع على عاتق العالم، هذا العالم الذي تخاذل معهم، واستهدف قتلهم.
ومهما حاولتَ أن تجرّ تفكيرك نحو إجاباتٍ أكثر موضوعيةً لهذا السؤال، تجد نفسك، أنت السوري، عالقاً داخل حدود تفسير أننا (السوريين)، في وضعنا الراهن، لسنا قادرين على تحمّل مسؤولية أنفسنا، ولا بدّ للعالم أن يتحمّلها، وبما أن الأخير عاجز عن حلها غير مكترثٍ بها في الأصل، نجد أنفسنا ندور ضمن الفضاء ذاته (السوريون الضحية)، نقدّم لهذا العالم مزيداً من الأفكار الإبداعية، ونلقّم نشرات أخباره وصحفه بأدسم الموادّ وأكثرها جاذبية.
منذ ثمانية أعوام يعيش اللاجئون السوريون، كلّ شتاء، ظروفاً يستحيل وصفها، وتعجز الذات الإنسانية عن تصوّرها، فالأطفال يتجمّدون وبعضهم يموت برداً، وكبار السنّ كذلك، والنساء والرجال عاجزون عن فعل أي شيء، ومكان السكن يغرق بما فيه من عدة وعتاد، فتغدو الحال بعد زوال هذا الفصل أكثر مأسوية وأشدّ تعقيداً. فيما يقع اللوم والشجب بشكل روتيني على الآخرين، فالسوريون مستضعفون، وغير قادرين على مغادرة أماكنهم، ولا توجد فرص عمل تؤهلهم للاعتماد على أنفسهم، أو تغيير وضعهم ولو قليلاً، والحقّ أن بعضهم ألِف حالَ الضحية، هذه الحال التي تذهب بمعتنقيها إلى عدم الاستجابة، وإتقان فن الانتظار.
طبعاً، لا ينطبق هذا الفكر على اللاجئين المنكوبين في المخيمات، بل هو سارٍ على كل السوريين في كل المجتمعات، ويتبنّاه سوريون كثيرون اعتادوا المبالغة في منطق “من واجب الآخرين مساعدتنا”، ووصل ببعضهم إلى محالّ في غاية السوء، كأن يتوقع المواطن السوري أن من واجب المؤسسات السورية أن تجد له عملاً جيداً فقط لأنه ضحية ثورة وتهجير، في حين يُسقط عن نفسه أي واجبٍ في تطوير ذاته وأدواته للارتقاء بالعمل.
وفقاً لهذا المنطق، استطاع سوريون كثيرون استغلال حوادث ارتبطت بالثورة وبمشاركتهم الطوعية/ القسرية فيها، لتحقيق مكاسب على صعيد العمل والفرص المتاحة، وانتقلت عدوى التقاعس، وعدم التصالح مع الواقع والذات، إلى قسم من السوريين الشرفاء، الذين شعروا بأن الشذوذ عن القاعدة “من يعمل ويكافح يلاقِ” هو الخيار الأسلم، لا بل تعززت قاعدة مضادة، أن القادرين على العمل والإنتاج لا يحصلون على الدعم وفقاً لآلية عمل المنظمات الدولية، لذا فإن إثبات عدم القابلية فرصةٌ لا يمكن ركنها جانباً في ظل تأزم الحال.
لا أحد يستطيع أن ينكر كارثية ظروف العمل بالنسبة للسوريين، وأن حالة الاعتماد الذاتي بالنسبة لسواد الشعب أضحت ضرباً من الخيال، في ظل شحّ الفرص، وقلة منابع التعليم والتأهيل، لكن ذلك لا يمكن أن يكون مسوّغاً للاستسلام، فنحن أمام حاجة ضارية للعمل والنهوض. نحو ثلاثة ملايين سوري من أصل 22 مليوناً من ذوي الحاجات الخاصة، وفقَ تقرير الأمم المتحدة لعام 2017، هؤلاء عاجزون عن العمل عجزاً شبه تام، فضلاً عن جيل من الأطفال الذين خسروا تعليمهم. ومن دون التطرّق إلى باقي الشرائح السورية المعوزة من نساءٍ غير مؤهلات فقدن المعيل، وكبار في السنّ، وطلاب منتشرين في كل أصقاع العالم، ومطالبين بأداء استثنائي ومضاعف لإثبات الذات، فإن السوريين أمام تحدٍّ حقيقي للحياة أو الموت، بمعناهما الحقيقي والمجازي.
أخيراً يكون السؤال: هل نحن قادرون على فعل شيء، بدلاً من انتظار المساعدة. في الحقيقة لا بدّ أن يكون في وسعنا تغيير اليسير من واقعنا، فالمساعدة المأمولة لم تعد متوفرة، ومعظم المنظمات التي تتولى تقديم الدعم والمساندة لمتضرّري الحرب السورية تقلّصت أعمالها، إن لم تكن قد توقفت كلياً، وقسم من المنظمات المدعومة أوروبياً، شرعت توجّه أعمالها نحو دعم ملفات أخرى مرتبطة بالحوكمة والاستدامة والتعليم، وهذه الحقيقة ينبغي نشرها وترسيخها في عموم المجتمعات السورية، بما فيها مجتمعات اللاجئين السوريين في أوروبا، الذين ما زالوا يعتمدون على المساعدات التي شارفت على الانتهاء.
العربي الجديد