السوريون.. و”الشيخ شيخة”/ معبد الحسون
“الشيخ شيخة” قصة قصيرة ليوسف إدريس، ضمّتها مجموعته القصصية “آخر الدنيا” (1961)، ملخصها أن شخصا مجهولا، غريب السمت والمظهر والأطوار، وفد إلى قرية صغيرة معزولة في صعيد مصر. لا أحد يعرف من هو، ولا من أين أتى. ولا يمكن الجزم ما إذا كان مجنونا أم عاقلا. كان أعمى وأصم وأبكم. ومن حيث المظهر الخارجي، يكاد لا يشبه الرجال، حتى في مظاهر الرجولة المألوفة. كان أجرد الوجه حتى من شعر اللحية والذقن، ما يجعل المرء يحار في أمره؛ هل هو في الأصل أنثى أم ذكر. راح معظم أهل القرية يتوسم فيه البركة والصلاح، وأنه مباركٌ من الفقراء الدراويش، أهل الله. وجعلوا يذكرونه في مجالسهم ونواديهم بلقب “الشيخ”. وآخرون منهم، بما أن جنس هذا المخلوق غير مؤكّد أنه يعود إلى جنس الذكور، راحوا يلقبونه تلقائيا “الشيخة”. أخيراً، وبعد مرور سنوات على مكثه بين ظهرانيهم، وفي نواديهم وبيوتهم، احتالوا اضطراراً لأن ينادوه “الشيخ شيخة”، حلا وسطا، وقطعاً لدابر المبهم المشكل من أمره، حتى لا يقعوا في لبسٍ أو إشكال عند ذكره.
قضى “الشيخ شيخة” سنوات طويلة بين أهل القرية. دخل بيوتاً، وعرف أسراراً، واطَّلعَ على كل ما لا يجب الاطلاعُ عليه. أو ليس مخلوقاً أدنى مرتبة إنسانية من بقية المخلوقات؟ ألا يُتأوَلُ بالبداهة، ومن دون اكتراث له، بأنه على نقصٍ في الوعي والتمييز؟ ولا يكاد يُحتسب من بين أهل القرية المميزين الأسوياء؟ ثم إن الرجل، فوق كل احتساب أو اهتمام بشأن أو خطر، أعمى وأصمُّ وأبكمُ، فلم تُعرف له حادثة أو مشهد رأى فيه ما يرى المبصرون، ولا استبان عليه من ردود الأفعال ما لا يخفى على كل ذي سمع أو كلام ناطق. محايد في الخير، وفي الشر، ومنزوع الخطر إلى حدّ أن لا كينونة له يُعبَأُ بها، وإلى حد اعتباره غير موجود، واقعاً وفعلاً.
أفاق أهل القرية بعد مضي سنين طويلة، على مفاجأة غير متوقعة. .. “الشيخ شيخة” يعيش بينهم. يدخل البيوت، ويطّلع على كل أسرار الأفئدة، وكل غيب من حديث أو فعل أو مؤامرة أو غيبة أو نوايا غدر، أو مخططات كيد وانتقام تدبّر في سكون الليل. كل العماء والتاريخ السري والخفي للقرية وأهلها، كان “الشيخ شيخة” مطلعاً عليه، فهو المعرفة النكرة، وهو المُزدرى في نظرهم كالهباء أو اللاشيء. ولو أنه تسلل في غلسٍ من ليل إلى غرف نومهم، لما احتاطوا من دخوله بأكثر من تسلّل هرّة الدار فيما بينهم.
كانت المفاجأة التي صعقت الأهلين، وزعزت استقرارهم النفسي والاجتماعي والأخلاقي، حين سرت شائعةٌ بين الناس ذات صباح، راحوا يهمهمون بها، وبخلاف ما احتسبوا وما اعتقدوا
خلال سنين طويلة، أن “الشيخ شيخة”؛ يبصر ويسمع ويتكلم ويعقل كل شيء. وبغضّ النظر إن كانت الشائعة صحيحة أم كاذبة، فإن خطر تصوّر صدقيتها يوشك أن يمحق مستقبل القرية، ويدمرها وأهلها تدميراً. وكفى بمثل هذا الخبر زلزالاً قادراً على أن يفتك بتاريخ كثيرين، ويفضح كثيرين، ويُجلّي أسراراً طويتْ وظلت طيَّ الكتمان. فلم تمضِ أيامٌ قليلة، بعد انتشار الشائعة التي سرت حول حقيقة “الشيخ شيخة” الجديدة التي اطلع عليها كلُّ أهل القرية، حتى فوجئ الجميع بأن وجدوه مقتولاً عند الترعة. قاتله مجهول. وقد صُدع رأسُه بحجر ضخم، هشّم عظام جمجمته وأودى بحياته.
سورية وشعبها لا تشبه شيئاً في تاريخ الحياة المعاصرة، هي أقرب شبهاً من “الشيخ شيخة”. وهذا العالم من حولها لا يشبه شيئاً أوضح من أهل تلك القرية. هذا العالم، بأقويائه وأغنيائه وقواه المتدخلة والفاعلة، والمستبدّة في سفور شرّها وفصاحة إجرامها. أن يُحكَمَ السوريون من مجرم وخائن اسمه حافظ الأسد، مشكوكٌ حتى في سوريته، ثلاثين عاماً، وأن يُحكموا بعده بخليفته ووريثه، وابنه القاصر المشكوك حتى بقواه العقلية عشرين عاماً أخرى، كل ذاك فلأن السوريين أهون من أن يُستشاروا، وأقلّ من أن يؤخذ رأيهم في الأمر، ومن دون أقل اكتراثٍ بمصلحتهم.
الأسد الأب هو مرشح الإسرائيليين، بعد هزيمة 5 حزيران الفاضحة المدوّية. ما من ريب في ذلك. والأسد الابن هو مرشح كل قوى الاستبداد والغطرسة والاستثمار في منطقة الشرق الأوسط. من أميركا التي أسرعت إلى إرسال وزيرة خارجيتها، مادلين أولبرايت، إلى سورية، للمشاركة في جنازة الأب، والمباركة في توريث الابن بعد موت الطاغية، ومن أوروبا التي بادر رئيس فرنسا، جاك شيراك، إلى منح الوريث وسام السلام الذهبي، وصولاً إلى عرب النفط الذين دعموا خزانة نظام الأسدين بمئات مليارات الدولارات، خلال فترة النصف قرن الغابر المظلم.
رفعت تركيا مستوى الصلة ببشار الأسد إلى ما فوق السياسة، أو الدبلوماسية، فأصبحت العلاقات عائلية وشخصية بامتياز. وباتت متوالية ظهور رجب طيب أردوغان وزوجته مع بشار وزوجته تظاهرة إعلامية يومية، تغطي كل فضاءات الإعلام العالمي المشاهَد. وأصبحت صور هذا الرباعي المادة المفضلة للتغطية الإعلامية، والوجبة الشهية الأكثر ترويجاً، والمرشحة لكل مطابخ الإعلام المحلي والدولي.
رفعت إسرائيل شعار “الأسد خط أحمر”، رسمياً منذ هجم بوش الابن على العراق، وهدّد بأنه
سوف يطيح كل الأنظمة الاستبدادية التي تقتل شعبها، وتدعم الإرهاب والإرهابيين. يومها وجَّه بوش الابن تهديداً صريحاً لسورية ونظامها، واتهمها بدعم الإرهاب في العراق، وفي كل مكان. وما إن أوصل الإسرائيليون واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة رسالتهم إلى بوش أن الأسد هو الخط الأحمر المحظور الاقتراب منه، أو من سلطته، حتى بلع رئيس الدولة العظمى القوية لسانه، ولحس بزقته، وصمت صمت القبور عن أن يأتي على ذكر الأسد مرة ثانية.
الشعب السوري، أو “الشيخ شيخة” كما تخيله الآخر الخارجي، تعامل معه الجميع على أنه غير موجود في الواقع. الموجود الوحيد هو الأسد ونظامه فقط. لا شعب في سورية، وبالتالي لا قضية أو قضايا مثيرة للاهتمام يمكن أن تجذب اهتمام أحد، باستثناء تنويعات خارجية، يمكن أن تطفو على السطح من وقت إلى آخر: دعم الإرهاب، التدخل في لبنان، مقتل رفيق الحريري، مفاوضات مدريد.. إلخ.
أما احتمال أن يوجد شعب في سورية، واحتمال صدقية أن يكون هنالك عشرات المجازر قد حدثت، خلال استمرار خمسين عاماً من حكم الأسد الأب والابن، واحتمال وجود عشرات السجون المشتهرة بهذا الهولوكست والإبادات الجماعية، ذابت نفوس مئات آلاف من شبابه وأجسادها خلف جدران تلك السجون، وأن هذا الشعب قد عاش نصف قرن، بمستوى من الدخل، قريب من دولار واحد في اليوم، بينما نُهب نفطه وثرواته، وكل ما هو متاح بين يديه من إمكانات بدّدت على مشاريع فاسدة وشبكات فساد، وأهدرت كل طاقاته وحُرم منها. احتمال أن يكون لهذا الشعب حق الحرية، وحق ممارسة التجمع وممارسة السياسة والتعبير عن نفسه؛ كل هذه الاحتمالات مستبعدة، وغير مُفكَّر فيها أصلاً، إلا بمقدار ما يمكن لأهل تلك القرية أن يتخيلوا أنّ “الشيخ شيخة” بشر مثلهم كسائر البشر؛ يبصر ويسمع ويرى ويميّز ويعقل مصلحته من غيرها، ويعرف الخير مثلما يعرف الشر.
حين انفجرت الثورة السورية، في مارس/ آذار عام 2011، فوجئ العالم كله بها حقاً؛ فهذا
الشعب الذي سار يهدر بالملايين، وانكشف أنه قادر على تسيير مظاهرات مليونية في جميع ساحات الوطن، بلغ بعضها في يوم واحد 83 نقطة تظاهر على امتداد مساحات الجغرافيا السورية، وفي سائر مدنها ومحافظاتها، ظهر أن الشعب السوري لم يكن أعمى ولا أصمَّ ولا أبكمَّ، مثل “الشيخ شيخة” تماماً. وهذا محرجٌ ومؤذٍ، وخارج كل سيناريو وتفكير وتصور نمطي سابق له. وإذن لا حلَّ لهذه الفضيحة، ولهذا المُشكل الجديد، سوى أن يُصدَّعَ رأسُه، وأن تُهَشَّمَ جمجمته، وأن يغرق بالأصولية العابرة للبلدان، وأن يتمَّ التآمر عليه من كل دول العالم ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية، المعلنة ظاهراً والخفية، فلا راحة ولا طمأنينة ولا سكينة في هذا العالم، إلا بعد التأكد من مقتل “الشيخ شيخة”.. مُجسّداً بالسوريين.
قُتِلَ مليون إنسان، واعتُقِلَ ومات تحت التعذيب مثل عدد من قُتلوا، وهُجِّر نصف الشعب السوري، ودمرت بيوتهم وأوطانهم، وتمَّ استدعاء قوى خارجية استنفِرتْ وأحضِرَت لاحتلال سورية، وإحلال آخرين بديلاً عن شعبها. وجرى ذلك كله بعد أن باتت الشائعة التي تزعم أن “الشيخ شيخة” يعقل ويبصر ويسمع ويرى حقيقةً.. وليس وهماً. وما زال العالم يتصرف، ويبني كل سياساته وقراراته، على أساس أن السوريين مجرد مسخٍ من المسوخ، أشبه بـ”الشيخ شيخة”. وعلى هذا الأساس، لا يزال التعامل معهم والتصرّف بهم.
العربي الجديد