أنا مواطنة صالحة/ ولاء صالح
المشهد الأول
أيلول 2018
«أنا مضطرة لذلك».
كنت مضطرة لتجديد جواز سفري المهترئ، والذي كان يُشعرني بالبؤس عند حمله وإخراجه. كنت أريد إنقاذ نفسي من مئتي دولار أدفعها زيادةً، ومن سوء معاملة موظفين السفارة السورية في بيروت وتأكيد السفارة لي بأني «مجرد لاجئة درجة عاشرة».
كنت أعزّي نفسي بتكرار هذه الكلمات، وأقنع نفسي المتوجّسة من زيارة دمشق. «ساعتين بالسيارة وبكون فيها»، الأمر لا يتعدى ذلك، وكل ماعلي فعله أن أنسلخ عن نفسي وأتصرف كمواطنة صالحة.
كانت مجرد فكرة؛ حلاً ينقذني من العديد من التكاليف والانتظار وسوء المعاملة. رغم هذا كنت أحسب ألف حساب لهذه الزيارة، ولا ألوم نفسي أبداً ولو أقنعت نفسي بعدم خوض هذه الرحلة نهائياً. ذلك أن آخر زيارة تَرَكَت فيّ العديد من الذكريات المؤلمة. وفي كل منا مخزون كافٍ من الذكريات التي لا يمكن للزمن أن يُزيلها: أول مدرسة ارتدتها، أول منزل عشت فيه، منطقتك التي حفظت عدد منازلها ومداخلها ومخارجها. في آخر زيارة عدت، وجدت جميع ما عدت لأجله قد رحل وآختفى، تغيرت ملامحه، بات مكاناً بغير زمن، بلا روح. رأيت منزلاً يشبه منزلنا الذي تركناه، لكنه بلا سقف، وجميع البيوت المحيطة كانت مدمرة بشكل كامل، وجميع من أعرفهم رحل ولم يبق منهم أحد. شعرت بوحشة المكان، وبغربة تجاوزت غربتي عن الوطن الأم. لكن فعلاً تخليت عن جميع مخاوفي وطردت التردد بعيداً. «أنا فعلاً مضطرة لذلك»..
لقد انتهيت من جميع معاملاتي واستلمت جواز السفر الجديد، ورأيت صورتي مطبوعة عليه. بالكاد عرفت نفسي. لكنني تذكرت موظف الهجرة والجوازات، رأيته يصعد على السلّم، هو ذاته الذي مرّرتُ له عبر الكوّة الصغيرة ألفي ليرة سورية مقابل إنجاز المعاملة بلا عناء. ابتسم لي، لكن أشك أنه تذكرني.
أسير في شوارع دمشق. أتصرف كسائحة، أحمل كاميرتي معلقة على رقبتي، ألتقط صوراً؛ صور أماكن لم أزرها من قبل، ألتقط صور غرباء وعابري طريق، ألتقط صور أفواه أناس وأطفال فارغة وجائعة، وأحياناً صور الكتابات على الجدران، حتى أني صورت طاولة وكأن من عليها عاشقان، ثم افترقا وبقيَتْ وردتُهم نائحة على الطاولة. ولم تخلُ الصور من ظهور بشار أو يده أو أخيه أو أبيه.
شباط 2019
بقيت عندي مهمة؛ زيارة أقربائي الذين بقوا في دمشق وريفها. عزمت على زيارة خالتي في برزة البلد، التي كانت آخر مرة زرتها قبل 8 سنوات. كان علي أن استقل «مكرو» ميدان–برامكة. كانت المرة الأولى التي أخرج فيها من مكان سكني ومحيطه بعد غياب أكثر من ثلاث سنوات. انطلق المكرو في رحلته المنشودة. «يلي ما دفع يدفع»، يقول السائق بصوت مرتفع. سمعت تمتمات، ثم تحولت لجَلَبة كبيرة بين رجلين اتهم أحدهما الأخر بالسرقة. علت أصواتهما، وتبادلا الشتائم، لدرجة أني سَدَدتُ أُذُنيَّ عن سماعهما. ثم نظر أحدهما إلي وقال بصوت عال: «إنتي شاهدة، ما شفتي كيف مد إيدو وسرق؟!». تظاهرت بالبلادة وعبرت بنظراتي لاتجاه آخر، متجاهلةً ما قال تماماً. كنت شاردة الذهن ولم ألحظ أحداً أو فعلاً. توقف سائق المكرو وأمر بأن ينزلا ويُكْملا المشاجرة على الرصيف.
كان يوماً شتوياً، لكنه ذو هواء جاف شعرت به بعد أن صعد الى المكرو شاب أصهب نحيل الجسم، وبعده مباشرة رجل أكحل عابس، يرتدي زياً عسكرياً ويعلق على خصره سلاحاً. انطلقت الرحلة.
بازدحام شديد يشبه يوم القيامة، توقفنا. أدرت نظري للجانب الآخر، شاهدت لوحة كبيرة. كنت أراها دوماً كلوحة فسيفسائية تحمل عدة معاني للوهلة الأولى. رأيتها متوحشة؛ لوحة يحتل 90% منها رأس حافظ الأسد ويداه المفتوحتان، و10% منها لفلاحين يبدون مبتهجين لكني بالكاد رأيتهم لصغر حجمهم. كُتب بجانب اللوحة «المقر العام لاتحاد الفلاحين». لعنتها أكثر من أربعين مرة في نفسي، حتى بدا الانزعاج على ملامحي. راقبت نظرات ذي الجاكيت العسكري، ورمقتُه نظرة كنت سأدفع ثمنها غالياً. كنت قد توتّرتُ من مشاهدة اللوحة. توقف الزمن برهة. كدت أختنق من مراقبته لي، حتى ظننت أن لديه راداراً يكشف العدو من الصديق. مشينا، تجاوزنا اللوحة، وبلعت ريقي ثم هدأت قليلاً.
بدا الطريق طويلاً وكئيباً، لكنه كان يسيراً قبل الدخول الى منطقة برزة، حيث طال أكثر بعدها وتحولت الثواني منذ ذلك الحين لساعات. قال لنا سائق الباص «أخرجوا هوياتكم». لم أُخرج هويتي في البداية. كان باعتقادي أن النساء يتم التساهل معهن. لم يسبق أن أخرجت هويتي مذ أن أتيت إلى دمشق. ابتسمت السيدة التي بجانبي وهمست: «أول مرة بتجي على برزة ما؟ خلي هويتك بإيدك، فيه تفييش». نسيت هويتي بيدي، ونسيت أين كنت حين وجدت نفسي في عالم آخر؛ عالم مليء بالخوف، لم يسلم فيه حائط ولا مبنى ولا مسجد حتى. أرصفة متكسرة، وشرطان كهرباء متشابكة ومعقدة ومرمية على الطرقات. كانت أعقد من أكثر شيء رأيته. بدا الطريق وكأني أعبر قارة أخرى، الكثير من الحواجز، والتفتيش والتفييش؛ والتفييش والتفتيش…
بدأ البعض يتذمر ويضع يده على أنفه بانزعاج، حتى وصلت الرائحة إلي. رائحة نتنة، تشبه رائحة مراحيض المرافق العامة. كدت أتقيأ. استوقفني الشاب الأصهب، اختطفني بصوته الرقيق الذي أنسانا جميعاً تلك الرائحة. نظرنا جميعاً للخلف، للصوت الصادر من هناك. كان هناك مقعدان فارغان، ومقعد ثالث يشغله الشاب. سمعنا تمتماته الغريبة، التي تحولت بعد حين إلى لغة مفهومة ولكن بحركات غريبة جداً. كان يضع على أذنه لعبة على شكل حصان، وعلى فمه لعبة أخرى، وكأنه كان يحدث الأولى فتسمع ما يقوله الأخرى. ضحك البعض، ثم اختفت الضحكات تدريجياً واختبأ كل واحد منا بظله. تحول المكان لرعب حقيقي عندما بدأ يتمتم «بشار الأسد رئيسي»، ويصمت، ونصمت جميعاً. كررها كثيراً. ذو الجاكيت العسكري يراقب بنظراته الجميع، والشاب يردد عبارات أخرى، مثل «أنا بالجيش النظامي»، «بشار الأسد رئيسي وأنا بالجيش النظامي». لم يتمالك ذو الجاكيت العسكري نفسه، فرفع يده ممسكاً بسلاحه، سدّده على رأس ذاك الشاب الفاقد العقل وهدّده. هز الشاب رأسه وصمت لبرهة، لكنه عاد يكرر ما كان يقول، إلى أن أمر السائق بالتوقف. نزل ذو الجاكيت العسكري ممسكاً بالأصهب المجنون من قميصه. ربما سيجده البعض جثة مرمية على أحد الأرصفة، سيقولون «مجنون وانتحر». لم يكن هذا أول حالة أراها من نوعها. فشوارع دمشق تشهد على كثرة هؤلاء، الذين يتخذون من الحدائق العامة مساكن ومنامات لهم. الكثير خرجوا من المعتقلات فاقدي الصواب والعقل. كان من أول من رأيتهم على هذه الحال ابن جارتنا في بنايتنا، والذي خرج بلا عقل بعد سبع سنوات من التعذيب في سجون الأسد.
أنا مواطنة صالحة، أشعر بثِقَل هذه الوطنية التي أحملها. أشعر بالصلابة. لم أحرك ساكناً لذاك الشاب. «أصلاً بيتساهل»، قالت إحدى السيدات.
أفهم تماماً الآن من يقول «المجانين أعقل منا».
المشهد الثاني (في برزة البلد)
أنتظر خالتي عند مسجد السلام، حيث انطلقت العديد من المظاهرات في بداية الثورة السورية. كان مسجداً كبيراً، عدد الثقوب والفتحات في جداره، وحجم الدمار الذي أصابه، كان كافياً لتمثيل نكبة برزة وما أصابها. كانت برزة البلد من أولى المناطق التي انتفضت في وجه النظام، وتعرضت لجميع أنواع القصف والصواريخ والاعتقالات، ثم لحصار خانق فَصَلَها عن جميع المناطق المحيطة بها، لتنال نصيبها من الجوع والقهر، قبل أن يسيطر عليها النظام بعد هدنة اتُفق عليها أواخر 2013 وبدأ تطبيقها عام 2014. تقول لي هـ.د، وهي من سكان برزة البلد الذين عادوا إليها بعد الهدنة، أنها سمعت عن بدل مالي عن منزلها المدمر بشكل كامل، ليتم قبولها ضمن قائمة المتضررين وتعويضها بمبلغ 200 ألف ليرة سورية (400 دولار) لم تحصل عليهم حتى الآن. ثم تروي لي أم غسان عن ابنها المعتقل عام 2012، والذي تم التعهد بإخلاء سبيله في اتفاقية الهدنة، لكنه لا يزال قابعاً في غَيَابة السجون. تلوم أم غسان نفسها لقلة المال: «لو أملك المال كنت دفعت وأخرجته، كالكثيرين من شبان برزة الآخرين».
نفض الحي عنه غبار الحرب، وتناسى ذكريات الحصار المشؤوم، ولكن وجوه سكانه لا تنسى، والشوارع لا تنسى. بساتينه المحترقة، وأبنيته التي صارت ركاماً، ضحكات الناس المصطنعة، وبسطاتهم المفروشة على الأرصفة بدل محلاتهم التجارية، وازدحام الطرقات، والتضخم السكاني الهائل الذي تلا تهجير أهالي الغوطة الشرقية وحرستا والقابون المجاورة. كان المساء قد حل في الخامسة بعد العصر، وحان وقت انقطاع التيار الكهربائي الذي قلّما شهدته في برزة مقارنة بباقي المناطق.
كدنا نصل. قفزنا فوق «نهر» من مياه التصريف الصحي. يشتكي سكان المناطق المجاورة من حجم التلوث والأضرار الكبيرة اللاحقة بهم. تجاوزنا «النهر» لنصل إلى «مقبرة الشهداء»، مقبرة أبطالنا، شبان برزة. كدت أبكي. اختنقت. قلت بصوت عالٍ وبانفعاليتي المعتادة: «الله يرحمن و…». وددت إكمال الجملة بـ«ولا يوفّق الظالمين». لم أكملها، بسبب رجل عريض الجبهة والمنكبين يسير ذهاباً وإياباً وكأنه حارس المقبرة. نظر نحوي ورفع حاجبَيه. تذكرت السيدة في المكرو وقلت «بيستاهلو». ومشيت.
أنا مواطنة صالحة فعلاً.
شعرت بهذا مرة أخرى بعد أن ارتعدتُ من أصواتٍ مُخيفة كصوتِ قذيفة تنزل كل عشر دقائق.
تطمئنني خالتي بكوميديا سوداء: « لاتخافي، عم يهدّوا بنايات، بدهن يطلعوا بدالها بأبراج». كم اطمأن قلبي فعلاً!
المشهد الأخير
انتهت الزيارة. عليّ العودة. تجولت بين الحارات، تجاوزت النهر اللعين، رأيت البيوت وفتحاتها الكبيرة. أسقف مهدمة، جدران مثقّبة، أعمدة كهرباء مالت على كل جانب، رائحة دمار ودماء خانقة… هذا ما التقطته من روائح. لم تكن كاميرتي معي، ولم أستطع تصوير شيء. لكن ذاكرتي التقطت تلك الصور وحَفِظَتْها جيداً. التقطتُ في آخر مشهد صورةً لمحل كبير يبيع أغراضاً معفشة، يجلس على بابه رجل ذو بدلة مموهة، وفيه صالة كبيرة تحتوي جميع ما قد يحتاجه الإنسان: من أدوات صحية أو كهربائية، أبواب حمامات، سجاد، ملابس، أحذية، أدوات مطبخ… عالم كامل بداخله. كان الرجل قد علق على باب محله خرزة زرقاء، ووضع خارجه سريراً جميلاً لطفل صغير، وبداخله دباً صغيراً مقلوع العين لجذب المشترين الذين قد تدفعهم الحاجة الكبيرة للشراء دون تفكير بمصدر الغرض. تختلف دوافع التبضّع، لكن تبقى حيوات الذين رحلوا وبقيت أغراضهم، تباع وتشترى في الداخل، تعبق بروائحهم وهم في الطرف الثاني من العالم. كل ما أعرفه أنها كانت زيارتي الأخيرة، وأني لن أرغب بالعودة أبداً، ولن أودّ أن أعود مواطنة صالحة مرة أخرى.
موقع الجمهورية