عشرون عاماً على اعتقال أوجلان/ بكر صدقي
(قراءة أولية في كتاب مراد يتكين: “الفخ الكردي”)
الواقع أنه كتاب قديم نسبياً، فقد صدرت طبعته الأولى في العام 2004. لكن الطبعة الجديدة، الصادرة قبل أشهر قليلة، تتضمن إضافات مهمة، ربما تزداد أهميتها، هذه الأيام، بسبب عودة أوجلان إلى مسرح السياسة التركية والإقليمية، بعدما سمحت له وزارة العدل باستئناف زياراته الاعتيادية، من قبل ذويه ومحاميه على السواء.
صحيح أن حزب الاتحاد الديموقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، هو لاعب مهم في الصراع السوري، بصرف النظر عن غياب أوجلان أو حضوره في المشهد السياسي، لكن عودة “الزعيم التاريخي” إلى الظهور والكلام، من المحتمل أن تكون له آثار مهمة على سير الأحداث في الفترة المقبلة، وذلك بالنظر إلى سوابق مساهماته، وعلاقتها بتوجهات السياسة التركية الداخلية والخارجية، وبالنظر أيضاً إلى وزنه في وجدان مناصريه وتأثيره غير القابل للإنكار على خياراتهم ومسالكهم.
بهذا المعنى، ثمة فائدة في العودة إلى مسار طرده من سوريا واعتقاله ونقله إلى تركيا، في شباط العام 1999، وما سبق ذلك من أحداث ودسائس استخبارية برع الصحافي “مراد يتكين” في الغوص فيها، فأصدر كتابين في هذا الباب، الأول بعنوان “كتاب الدسائس للمهتمين” والثاني بعنوان “كتاب الجواسيس للمهتمين”.
أما في الطبعة المزيدة من كتابه “الفخ الكردي: أوجلان من دمشق إلى إمرالي” الصادرة
بمناسبة مرور عشرين عاماً على اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني، فقد جمع أكبر ما يمكن من معلومات حول تلك العملية التي ما زالت الدولة التركية تفخر بإنجازها بوصفها عملية دبلوماسية – استخبارية – سياسية ناجحة، ناقلاً شهادات موثقة من رجال السياسة والاستخبارات والدبلوماسية وضباط الجيش والشرطة ممن كانت لهم أدوار فيها.
في مقدمته للطبعة الجديدة، يلفت يتكين نظر القارئ إلى وقائع من الماضي قد تشكل دليلاً لقراءة الحاضر، بخصوص الدور الأميركي في أحداث المنطقة، وما يهم منها تركيا بصورة خاصة، فيقول إن جينا هاسبل التي عينها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أواخر العام الماضي، على رأس السي آي إي، خلفاً لمايك بومبيو الذي سيصبح وزيراً للخارجية، كانت في العام 1999 ترأس مكتب السي آي إي السري في تركيا. وهو العام الذي شهد التعاون الاستخباري الأهم بين الولايات المتحدة وتركيا، من خلال الدور الرئيسي الذي لعبته الاستخبارات المركزية الأميركية في إخراج أوجلان من السفارة اليونانية في كينيا، حيث كان يختبئ، وتسليمه للاستخبارات التركية (MİT) في 15 شباط 1999.
“كانت للولايات المتحدة، في ذلك الوقت، ثلاث أولويات استراتيجية فيما خص تركيا “يقول يتكين، ثم يعددها بالترتيب التالي: “1- خط نقل النفط باكو – جيهان؛ 2- التحضيرات القائمة من أجل غزو العراق؛ 3- التقريب بين تركيا والاتحاد الأوروبي”. لنلاحظ هنا أن يتكين ممن يتبنون النظرية التآمرية القائلة إن احتلال العراق تم بترتيب مسبق قبل وقوع هجمات 11 أيلول 2001 التي دفعت إدارة جورج بوش إلى شن حربين على كل من أفغانستان والعراق. ويعترف يتكين بجهله بما إذا كان لهاسبل دور ما في تحديد تلك الأهداف الاستراتيجية أو تنفيذها أم لا، بالنظر لسرية عمل الاستخبارات المركزية. لكن ذلك لا يمنعه من لفت النظر إلى وقائع متزامنة حدثت أثناء تولي هاسبل لمحطة الاستخبارات المركزية في تركيا، أي العام 1999، وفي مقدمة تلك الوقائع اعتقال أوجلان بدعم مباشر من السي آي إي. أما الوقائع الأخرى فهي كما وردت في مقدمة الكتاب:
في 21 آذار 1999، استقل فتح الله غولن طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية التركية متوجهاً إلى الولايات المتحدة حيث استقر في بنسلفانيا وتابع نشاطه من هناك قائداً لجماعة دينية كبيرة كانت حليفة لحزب العدالة والتنمية في السنوات الأولى لحكمه، ثم تحول التحالف إلى عداء فصراع وجودي، منذ العام 2013، وبخاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز 2016.
في أشهر الربيع بدأت الولايات المتحدة بتقديم السلاح والذخيرة لمقاتلي البيشمركة التابعين لبارزاني وطالباني. ويعتبر يتكين هذه الخطوة، في إطار العقل التآمري نفسه، تمهيداً لغزو العراق وإقامة كيان فيدرالي في شماله، فكتب يقول: “في اليوم نفسه الذي وافق فيه الرئيس الأميركي بيل كلينتون على العملية الاستخبارية المشتركة بين سي آي إي والاستخبارات التركية، أي في 5 شباط، وقع أيضاً على قرار بتقديم المساعدات للبيشمركة الكردية”.
في 18 تشرين الثاني 1999، تم التوقيع على إنشاء خط نقل النفط “باكو – جيهان” في أنقرة، بمشاركة كل من الرئيس التركي سليمان ديميريل ورئيس أذربيجان حيدر علييف ورئيس جورجيا أدوار شيفارنادزة، وبحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون كشاهد على التوقيع.
تركيا التي أوقفت التعامل بحكم الإعدام، بمناسبة محاكمة أوجلان، أصبحت عضواً مرشحاً في الاتحاد الأوروبي، في قمة هلسنكي المنعقدة في 10 كانون الأول 1999، وذلك بعدما تخلت اليونان عن استخدام حق الفيتو بخصوص عضوية تركيا، “بسبب دورها المخجل في إيواء أوجلان بعد إخراجه من سوريا، وبسبب الضغوط التي مارستها كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا عليها” حسب مراد يتكين.
من مساوئ هذا النوع من التحليلات أنها تترك لخيال القارئ أن يذهب بعيداً في استنتاجاته. فاللوحة التي يقدمها يتكين، أعلاه، توحي بأن الولايات المتحدة هي من يمسك بكل الخيوط كما لو أننا في مسرح دمى. فهي التي سلمت أوجلان لتركيا (في 4 شباط اقترح السفير الأميركي في أنقرة على الأتراك “تسليم أوجلان”، فاجتمعت قيادات الدولة العليا واتخذت قرارها بقبول تلك الهدية، كما ينقل يتكين في كتابه)، وهي التي استقبلت، بعد شهر واحد، فتح الله غولن على أراضيها. غولن الذي ستتغلغل جماعة مريديه في مؤسسات الدولة وأجهزتها بتسهيل من حكومة العدالة والتنمية، وصولاً إلى تنظيم انقلاب عسكري فاشل على الحكومة، بعدما اتسع الشقاق
تكمن أهمية الكتاب في تجميع عدد هائل من التفاصيل، وبعضها يكشف عنه للمرة الأولى، تفيد في تكوين صورة متكاملة لجزء من التاريخ القريب
بين الحليفين السابقين المدعومين من أميركا. وهي التي ستشترط على أنقرة وقف العمل بحكم الإعدام بخصوص عبد الله أوجلان، وستدعم طلب تركيا للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وستذلل العقبة اليونانية أمام فتح باب تلك العضوية. كذلك ستقوم واشنطن بتسليح بيشمركة الكرد في شمال العراق وتدعم إقامة إقليم فيدرالي. وهكذا سيقدم الكتاب مادة غنية لقارئ تركي مشبع بنظرية المؤامرة وبفكرة أن أميركا تحكم العالم.
على رغم ذلك، تكمن أهمية الكتاب في تجميع عدد هائل من التفاصيل، وبعضها يكشف عنه للمرة الأولى، تفيد في تكوين صورة متكاملة لجزء من التاريخ القريب.
لم أتناول، في هذه العجالة، من كتاب يتكين إلا الجانب المتعلق بدور الولايات المتحدة في تسليم أوجلان إلى تركيا. ستكون لنا عودة لاحقة إلى بعض الجوانب الأخرى منه.
تلفزيون سوريا