شاحنة لؤلؤ/ أحمد عمر
كيف تعرفتُ على أبو محمد؟
لم نكد نقطع بالشاحنة المقيّدة ثلاثين فرسخا، حتى وجدنا نيرانا عظيمة، تذكّر بالنار التي أُعدّت لحرق أبي الأنبياء عليه السلام. تراكمت السيارات حتى تلاصقت وهي تنتظر عبور الصراط، وكثر الرصاص، فترجلت، ولحق بي سائق شاحنة الكرز، وآوينا إلى استراحة قريبة من مكان المعركة التي وجدنا نفسينا في وطيسها. فوقنا كانت طائرة حوامة مثبتة في السماء مثل مروحة سقف، كانت المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا المشهد، فالآليات العسكرية غريبة المنظر في الشارع السوري، مخمّرة في الكهوف من ثلاثين سنة، أو أزيد، مثلها مثل الهضاب والتلال، بدت مثيرة كما لو انها قطع من المتحف، آية للناظرين، وسوريا بلد أمن واستقرار، هي لن تحارب، هي بلد معتزلة، بلد مقاومة وممانعة، وهو وصف ” علماني” استحدث بديلا عن الجهاد “الإرهابي”. كانت الحوّامة على ارتفاع ناطحة سحاب، لا قريبة ولا بعيدة، قال أبو محمد سائق الشاحنة متعجبا، وكنّا تعارفنا، وأمِن أحدنا الآخر، إنه يتعجب من مهارة قائد الطيارة، أبو شحاطة. لولا الدماء لكان مشهد الحوامة عرضاً من سيرك عسكري.
الحكاية أنني تأخرت عن باص العمل، أو أنه تعطل فتأخر عني، أو أن سائقها قُتل، فالرصاص الطائش كثير، والرصاص الرشيد أكثر، او أنّ أحد الحواجز الطيّارة على الأرض من غير أجنحة، منع الباص لسبب ما، بالرصاص المقاوم مثلا.
القذائف والبنادق الخرساء التي علاها الصدأ في المخازن، تكلمت، وتعلم الحديد النطق، وما تزال منذ شهر تزغرد، والحرب التي بنيت عليها السدود مع العدو، حطّمته، فاندلعت مع الشعب، الرصاص يسمع من جانب فرع الجوية، بؤرة الشرِّ المجيد، الحصين الذي يعمل كالحوامة في خلط مقادير الرياح وتبريد العسكر. كان الحاجز الأخير في المدينة يحصِّن موقعه يوما بعد يوم بالدُشم. تراكمت السيارات قرب حاجز قباء، فصوصا لامعة مثل عقد ذيل عقرب مسود بالسم، يقطر ببطء السيارات من ثقب في الحاجز نحو العاصمة سيارةً سيارة. جعلت أحدّث نفسي بالعودة إلى البيت، لكني كنت قد استنفذت جميع اجازات العمل التي قضيتها في الفراش بسبب المعارك الطارئة، لقد عشت كالبعير، على عكس سيف الله المسلول خالد بن الوليد. انهض من الفراش من غير نوم فأجد معركة، فأعود إلى البيت، وكان المدير قد حذرنا من الغياب عن العمل، وكانت تعليمات مشددة قد أرسلت تهيب بضرورة المواظبة على العمل، ليس من أجل الإنتاج ولكن من أجل الصورة الاعلامية، الشركة التي اعمل فيها، واسمها: ” معمل تحويل الشتاء إلى الصيف” وبالاختصار الإنكليزي من المصدر والإنشاء: CGWSL، كانت تنوي استكمال القسم الثاني من خطة الشركة، وتأسيس قسم جديد اسمه معمل “تحويل الصيف إلى الشتاء لولا “المؤامرة الكونية”. حمل اليابانيون المؤسسون امتعتهم ورحلوا في أول مظاهرة، مع أن شركة “كارنيغي” زعمت أن سوريا ستنجو من قطار الثورات العربية، وذكرت أسبابا ليس من بينها حكمة القيادة ولا طيش الشعب، وكان ذلك يتفق مع شعار: “سوريا الله حاميها”، تقريبا. الشعار صيغ بعناية في مخابر النظام وسراديبه التي خلطت المقدّس بالمدّنس، وكان المركبان الكيماويان الديني والدنيوي في عقار الشعار هما: الايمان للشعب والجنّة للنظام. عندما تغيرت المقادير المعدّة على النار الهادئة، قرر النظام أن يطيح بالقدر، فسوريا هي النظام، الجنة له وللشعب الجحيم.
وجدت شاحنة أمامي، محملة بكرات الكرز اللامع، سألته أن كان يقبلني راكبا فرحب، فركبت. باسم الله مجراها ومرساها، مكان عملي على بعد خمسين فرسخا، إلى أن وصلنا إلى نار إبراهيم الذي حطّم الاصنام، التي كنا نكره على عبادتها. لقد لقيت من عمري هذا نصبا.
استوقفنا عسكري، بجانب صورة كبيرة للنمرود، وطلب من السائق السيارة لإحضار ربطة خبز، هزّ أبو محمد رأسه بعناد من سيموت دفاعا عن سيارة الكرز. استسلم العسكري، تحركنا، قال أبو محمد إنّ العسكري مجنون، الطريق مسدود، والسيارة محملة بالكرز، لقد نضجت رأسه تحت الخوذة.
امتدت النار إلى الزروع التي أيبستها الشمس تمهيدا للحصاد، كانت أصوات البنادق تنطلق من بين الزروع، البنادق لن تستطيع فعل شيء في معركة برية في مواجهة الدبابات ومروحة تبريد الحوّامة. خرجنا من الاستراحة محتمين بالحيطان، نتلصص على الحوامة المثبتة في السماء بغير حبل او مسمار، أبدى أحد السائقين المحتمين بالاستراحة مرة ثانية إعجابه بمهارة قائد الحوامة، زمّرت السيارات الغاضبة فعدنا الى شاحنة الكرز، لكن الطريق بقي مسدودا، امتد رتل السيارات بجانبنا، ثم وجدت سيارة أحد الزملاء بلوحتها الحكومية، تقف بجوارنا، أشار إليّ سائقها، فاستأذنت صاحب الكرز مودعا، قلت: هذا زميلي، ودعت أبو محمد الكرز (هكذا صار اسمه)، وتمنيت له وصولا بالسلامة، وألقيت نظرة أخيرة على اللؤلؤ، وكنت اشتهيت حفنة منها، قفزت الى سيارة زميلي، وكان جبانا، وكل موظف جبان، لو قلت له، هذا حريق، لقال: كذاب هذه سحابة صيف. وودِّدت لو أني قلت لزميلي: إنَّ وزغة الاطفائية تزيد النار اشتعالا، في الغالب أن رغوة الإطفاء قديمة، وأصابها التلف، وتحولت إلى مادة قابلة للاشتعال، لكني أمسكت عن الكلام خوفا من أن يطردني من سيارته. أردت القول إن المظاهرات رأت أن تشغل معمل الشعب وتقلب الشتاء الدكتاتوري إلى ربيع، لكني أحجمت، كانت بي رغبة كبيرة في الثرثرة، كنت أغلي، وأحتاج الى حوّامة فوق روحي للتبريد.
بلغنا عسكريا آخر تحت الخوذة يفحص هويات السائقين، يقلّب الأسماء في الهوية، ويشمُّ طائفتها، حاول سائق سوزوكي جردونية بيضاء تحسين موقعه، ووقف أمام عسكري كان العرق يقطر من جبينه، فنظر إليه غاضبا ودفع بندقيته في نافذته نصف المرفوعة فحطّمها، لم يكن بالعسكري تحت الخوذة الثقيلة رغبة في الكلام، كان تحذيرا، أظنُّ أنَّ سائق السوزوكي نجا من القتل، كان ملتحيا واللحية شبهة تستحق الغضب إن لم يكن القتل. ولا أدلّة على عقود بين شركات انتاج شفرات الحلاقة وكبير صرافي النظام الذي كانت له عقود مع شركة كوكا كولا، وشركات أخرى كثيرة مثل على دلعونة.
انفتحت ثغرة في الطريق، فتسربت سيارتنا كما تتسرب حبة الرمل من ساعة رملية، مررنا بجانب الحريق العظيم، كانت سلسلة من الشاحنات المقطورات تحترق، أحصيت السيارات المحروقة عدداً وأنا أعبر، بلغ الإحصاء ستاً وأربعين سيارة، بينها سيارات سياحية، نضجت فيها الجماجم قبل نضج التين والعنب، كان الطريق قد ذاب من النيران، ووزغة الاطفائية الحمراء تحاول عبثا إخماد الحريق فتزيد من إيقادها، والمروحية تحاول تبريد الهواء فوق خوذات العسكر التي كانت تغلي مثل قدور مقلوبة، فكرت في إخراج هاتفي وتصوير المشهد، لكني لم أجرؤ، كان ذلك حدثا في أول أيام الثورة، وكان سيكون له دويٌ في الفضائيات، وكنت خائفا من زميلي الذي أقلني مكرها، محرجاً، بسيف الحياء ربما كان سيلام من الإدارة إن لم يفعل.
تحرّرنا أخيرا من وطيس المعركة، ألقيت نظر وداع على النار التي كانت تحرق الحقول، ابتعدنا واختفت النيران، وخلال نصف ساعة كنا في الشركة التي كانت معّدة بخنادق واقبية أعّدها اليابانيون، للسلامة الصناعية.
وصلنا، سعداء بالسلامة، في المساء عُدت بسيارة أخرى مع زميل صديق، بلغنا في طريق العودة شاحنة مغربلة بالرصاص، مقلوبة، مثل جزيرة معدنية في بحيرة من الكرز.
طلبت من زميلي أن يقف وأن يمهلني لعلي آتي بقبس من نار أو أجد على النار هدى، فتوقف، نزلت فنزل، نظرت في قمرة السيارة فلم أجد سوى آثار دماء، فإمّا أن أبو محمد الكرز أصيب، وإما هرب، وإما أسعف. كان الكرز يلمع تحت شمس الأصيل مثل اللآلئ. ركبنا، وصلنا إلى مكان المعركة، كانت النيران الكبيرة قد أخمدت، والزفت طريا، مائعا، والطائرة فُكت من سقف السماء، فالجو برد ولم يعد العسكر بحاجة إلى تبريد، الزروع كانت تحترق، تجاوزنا مكان المعركة، وجدت صديقي السائق يمدُّ راحته لي، بحفنة من اللؤلؤ، مسوّدة من الحمرة وأخرى برتقالية لها خط في خصرها مثل النطاق، تناولت حبتين حمراء قانية وبرتقالية فاتحة، رفعت اللؤلؤة الأولى من عودها ودسستها في فمي وكذلك سوّلت لي نفسي؛
كانت حامضة مثل طعم الثورة
أخذت الثانية، ونزعت عودها، وقذفتها في فمي قذفاً، وكذلك سولّت لي نفسي
كانت حلوة مثل طعم الثورة.
احتفظت بالنواتين
ذكرى من أبي محمد الكرز
في الأعلى.
_________________________________________
ملاحظة: استبدل القمح بالكرز في شاحنة أبو محمد بسبب إحراق القمح السوري.
المدن