(العزلة) عالم المخيلة الرحب: ويتمان، بودلير، رامبو ونيتشه في صحبة شربل داغر/ رشيد أزروال
الصحبة ملازمة، السير معا في درب واحد، ضم الشبيه والمختلف والمغاير والمتفرد في المسير، الغاية من الصحبة هي هذه الألفة المقيمة على تخوم الدهشة، هي قطف ثمار الشعر الناضجة في طرقات القراءة، والتماهي الكتابي حد الشبه، وحتى في حال عدم القصدية لتحقق هذا التماهي، إذ لكل شاعر عوالمه، لكن لكل شاعر ما يأخذ منه من عوالم جاره في قارة الشعراء، ليست جدلية التأثير والتأثر وحدها، بل ذاك الانبهار، فالقراءة عملية انبهار، والكتابة عملية إبهار، والشعر سيد الدهشة. شربل داغر يختار رفقاء دربه المضيء بعناية الذائقة وشيء من الرؤيوية المضمرة.. والت ويتمان، بودلير، نيتشه، ورامبو. ويسير هكذا في ممشى السفر الباطني والظاهري، وهو يتجول في ملامح من السير الشعرية للكبار.
واجب الزيارة
قرر المؤلف القيام بـ(واجب الزيارة) فبدأ بوالت ويتمان «قررت بعد ظهر اليوم زيارة ويتمان. لم تكن الشمس قد أودعت ابتساماتها الأخيرة، حينما دلفت إلى جانبه، تاركا لبعض الظلمة أن تقيم حدا بيني وبينه، من دون أن أقلق عكوفه إلى ماء بحيرة تطفو في عينيه الناعستين». أما نيتشه ــ يقول الكاتب ــ «فلم يدعني إلى أي بهو أو ممر في كتبه، وقعت عليه صدفة، مساء في فرانكفورت في مطعم، مع لوس أندرياس سالومي». بيد أن رامبو «أدار ظهره ومضى بدون أن يبلغه صوتي. عبثا وقفت أمام قبره، مع وردة بين يدي». لكن بودلير «ما أن أحل في المقهى، يخطرني النادل بأنه خرج للتو»، هذه مقتطفات من الزيارة التي استحالت إلى إقامة في الوقائع السير- شعرية المضيئة بضوء غريب لا يشبه إضاءة عادية تحملها حشود الناس.
ويتمان.. المبشر بالحلم الأمريكي
يكتب داغر عن شعر ويتمان ويلحظ هذا الاستهلال بما هو بشارة الشاعر
بـ(افتتاحا لتاريخ).. «يستهل، بدليل أنه يتوقف عند وقائع الحرب، وعند تخطيط مانهاتن، وعند تجربه السكك الحديدية، والسفن البخارية من عوالم وخطوط». هاجس التأسيس يشرئب صراحة من قصائده، هذه الوطنية التي تسع الجميع إلا تاريخ الهنود الحمرـ هل ويتمان «شاعر وطني»؟ يكتب المؤلف.. يتحدث عن الجديد، وعن «الحديث»، إلا أنه يعني به مما بات اسما جديدا لبلد قديم: «العالم الجديد»، وكأنه يتحدث كونه شاعرا باسم كولومبوس، ويجعل من كتابه قاربا:
«في سفن مبحرة
وعلى كل جانب تمتد الزرقة اللانهائية،
مع الريح الصافرة، وموسيقى الأمواج
ها هي أفكارنا، أفكار مسافرين،
وها هنا ليست الأرض، الأرض الصلدة، ما تتبدى وحدها
آنئذ لا تتلعثم أيها الكتاب، فلتحقق مصيرك،
فأنت لست تذكارا من الأرض فحسب،
أنت أيضا تشبه قاربا وحيدا يشق الأثير
أسرع يا كتابي أنشر أشرعتك البيضاء، يا قاربي الصغير- عبر الأمواج المهيبة» (القصيدة من ترجمة الشاعر المصري رفعت سلام للأعمال الكاملة لويتمان «أوراق العشب»). يقول داغر»غنائي بنبرة عالية، لا تبقي شيئا خارج استحواذها، خارج تملكها، الرجل والمرأة، الأبيض والعبد والهندي الأحمر و»الأمم البعيدة»، أسماء الولايات ومدنها وأنهارها ووديانها وحيثما يحط بويتمان الرحال». يتماهى الشاعر شربل داغر مع فكرة استقاها من محبرة التأمل في شعر ويتمان، يكتب بداية عن ثنائية الصوت والنص «هذا ماعشته إذ أقرأ قصائده، أكاد أن أستمع إلى صوته، حيث تبدو العلاقة ما زالت ممكنة بين الصوت والنص».
بودلير.. نزهة بين الحشود
القراءة خبث لما تتلقف المفردات المنفرة في الخطاب التداولي العادي، والصادمة في الخطاب الشعري، القارئ خبيث لما يتفاعل مع نصوص تدور حول عوالم الشر، يعرض الكاتب مفردات وجمل شعرية مقتطفة من قصائد «أزهار الشر» لشارل بودلير، ويكتب «أكاد أن أرى بودلير يقف على متن القصيدة، مشيرا إلى حضوره، الذي لم يعد خافيا. ليس بواعظ، أو مرشد، أو خطيب، أو متكلم باسم هذا أو ذاك، أو كناية: هو شريك القصيدة، ما يجعله أحيانا موضوعها، القصيدة تعد بسرد سيرة أخرى، هوية مختلفة، لمن هو الشاعر: يظهر الشاعر ضجرا في هذا العالم». هنا ملمح سير ذاتي، سيرة الشاعر في شعره، وقد يبلور الضجر عزلة تفضي إلى البوح الذاتي، إلى عرض وقائع حياة الشاعر، ألا يكون الضجر بابا سير ذاتيا في القصيدة؟ وكأنما يقدم الوصفة السحرية للشعراء في كيفية التعامل مع العزلة، يقول بودلير في قصيدته «الجموع»: «كثرة، عزلة: لفظان متساويان وقابلان للقلب عند الشاعر الحيوي والفعال. من لا يحسن تحشيد عزلته إنسانيا، لا يحسن كذلك أن يكون كائنا بمفرده في جموع شديدة الانشغال بأعمالها». بودلير المشاء كعادة ويتمان، يندس بين الحشود ماشيا كما تمشي هي، الترويح عن النفس كحاجة بشرية، لكن حاجته أعمق من الترويح، إنه يحث على فكرة قصيدة جديدة يتمتمها كما يتمتم مترجمه الشاعر شربل على أرصفة بيروت وهو يجمع أجزاء «يخته الشرقي».
رامبو.. العابر الهائل
رامبو، هذا «العابر الهائل» ــ بتعبير مالارميه ــ في مروره الشعري إقامة مؤسسة في التحول الجمالي من حال كانت عليه القصيدة إلى حال مغايرة، صادمة، وهائجة بسياقات تخييلية غاية في التفجر والدهشة، هائلة هذه الشعرية الجديدة، يكتب شربل داغر «كان قد تعلم وتمرس، في الصف كما في الكتابة، إن القصيدة نوع، ولها قواعد، وتقيد بها مثل مركب سكران من فرط على نفسه، قبل أن ينسف الارتكازات هذه، لم تعد هناك حاجة لـ»نوع». يفيد المؤلف أن الشاعر الفرنسي خرج من القصيدة إلى اللغة التي قادته إلى الشعر، رامبو كسر القوالب التقليدية (القصيدة النموذج المهيمن) ودخل إلى اللغة (يفجرها من الداخل ) ليثمر هذا التفجير البهي شعرا لا يشبه القصيدة/النموذج.
المؤلف إذ يتكلم الشاعر في داخله، يحاور رامبو بالشعر: «لكل جحيمه، في أكثر من فصل ، ما لا يكفي قصيدة، وربما حياة» يستدعي شربل قصيدة رامبو المدوية «فصل في الجحيم»، ثمة نزعة وجودية قد يسر لها رفات جان بول سارتر، لكل جحيمه الخاص، ليس في فصل واحد، بل هو كامن في فصول عديدة، وليس بمقدور قصيدة أن تسع هذا الجحيم الممتد عبر الفصول. في مقطع موسوم بـ»بقوة النسر» من الصفحات المخصصة لرامبو ثمة تصدير شعري له، نقتظف منه:
«أكره جميع المهن، للأسياد كانت أم للعمال. كلهم مزارعون، جهلة.
اليد التي تمسك بريشتها تساوي اليد التي تمسك بمحراثها.
يا له من قرن خاص بالأيدي
لن تكون لي يدي أبدا».
حتى وقدماه على الأرض، وترتفعان قليلا في الهواء خطوة خطوة حتى تعاود ضرب الأرض، فرامبو راودته ربما فكرة البرج العاجي، لكنه حتى والفكرة النخبوية التي ترى في أصحاب المهن الجهلة دونية ما، إزاء سمو الشاعر، فرامبو لم يكن له برج عاجي فوق العوام، كان برجه في قصائده ولم يعش في عزلة اجتماعية تامة، وهو الذي امتهن عدة مهن مختلفة وراء البحار ليعيش كالناس.
التلبس بكتاب نيتشه
أن يحتويك كتاب، يتلبسك في درب ما، في شرفة بناية، وتتبادل كلاما مضغوطا، وفي عجلة من أمره، تلك المحاورة القرائية لا تنبئ إلا عن افتتان بما بين دفتيه، يكتب: «بصحبة كتابه، مثل دليل ورفيق سفر وسفر، لكنني أتركه لأعود إليه، وأتفكر في ما يقول على أنه لي وحدي، من دون وصية أو التزام. رفيق لي». رفقة المؤلف لكتاب «هكذا تكلم زرادشت» الذي ألفه فريدريش نيتشه، يكمل الكاتب علاقته الرفاقية بهذا الكتاب الخطير»لهذا فتحت كتابه، على أنه ليست تعاليم المعلم، بل أقوالا وصلتني خارج وقتها، بما لها من قدرات كامنة على تحريضي، على استفزازي بأكثر من معنى».
الشذرات جعلت القارئ/الكاتب يطير بمتعة، ربما هذا سر انتشار أفكار نيتشه. هذه الشذرات المغرية أكثر، والمحفزة على مزيد من التأمل المفضي إلى التلذذ (الدلالي والأسلوبي) بسياقات كثيفة ورائقة عبر أسلوب شذري ماتع، المزج بين عمق الفكرة والتحليل الدائر حولها، ولغة عاكسة للفكرة والعمق بجمالية أخاذة. لهذا ينبهر القراء عبر الأزمنة وفي مختلف الأمكنة بالمنجز النيتشوي «هكذا تكلم زرداشت».
شيء من المقدمة الكاشفة
يتهم شربل المقدمة بالتضليل والخداع، لذلك أسقطها من عرشها الأثير وجعلها إلى الخلف، متأخرة عن نصوص الكتاب، كنص فقد سطوته ومركزيته البدئية، فقد دوره كمرشد ووصي على ما يليه، كأنها قبطان سفينة مبحرة أنى يشاء ـ المقدمة التقليدية تظهر ما تشاء وتضمر ما تشاء، بيدها حكم القيمة المسبق، تضلل القارئ وتخدعه بمظهرها التوجيهي الإرشادي كمن يوزع العظات على المؤمنين، لهذا، جعلها المؤلف تابعة لا متبوعة كما هي في تاريخ الكتب، وهذا انقلاب منهجي يحسب له. نقرأ: «المقدمة مضللة وخادعة دوما، فيما هي آخر ما يكتبه الكاتب فيه، ما جعلني اسميها في هذا الكتاب: مقدمة متأخرة». هذا الكتاب شعر في نقد، تجد فيه نصوصا شعرية تأخذك إلى الضفاف القصوى في التخيل، وتجد فيه أيضا قراءة في سيرة الشعراء الثلاثة وجارهم الفيلسوف، قراءة تتناول أعمالهم أيضا وليس مقتطفات من سيرهم فحسب. وضع الكاتب خطة مرسومة بدقة حول نيتشه، إلا أن البدء في الكتابة نجم عنه تناسل غريب أنجب ثلاثة مشاريع زاحمت المشروع الأول، «بدأت خطة كتب الكاتب والشاعر الألماني فريدريش نيتشه (1844- 1900)، لكنها استدعت كتبا لثلاثة شعراء آخرين: الشاعر الأمريكي والت ويتمان( 1819-1892)، والشاعر الفرنسي شارل بودلير(1821-1867)، والشاعر الفرنسي ارتور رامبو ( 1854-1891). كيف؟ ولماذا؟». في حديثه عن الصحبة التي كانت أول لبنة في معمارية العنوان، يقول:
«انطلقت من هذا الكتاب في نوع من «الصحبة» لها: أصاحبها في القراءة، في المشي بين سطورها. من دون أن أغفل عن أنني ــ إذ أسعى فيها ــ أسعى في دروب قريتي حيث أقيم، وأسعى في دروب لامرئية، مما أخطها وأمحوها، من دون أن ينقطع الهجس بها: بين إيقاع التلفظ وإيقاع الخطى، وإيقاع ما يلجلج في الصدور والشفاه». ويلح شربل داغر على نفي «تهمة» افترضها وهي التماهي «صحبة» بما يشبك أسباب صداقة، ورفقة طريق، على أنها لا تعني التماهي بيني وبينهم، إذ كنت مع أي كاتب منهم – في أدنى الأحوال – بأربع عيون وأربع أقدام». وان كان هذا النفي وإبعاد هذا التصور القرائي عن كتابه ليس ضرورة، فالتماهي في هذا المقام الذي يمزج بين الشعري والنقدي هو كتابة فوق كتابة، هو نوع ما «ميتا كتابة» بما يحمله هذا المفهوم من سعة وتصور بارثي ــ رولان بارث ــ لمفهوم الكتابة التي تقفز على الحصر الإجناسي.
شربل داغر .. الانزواء منجم المخيلة
النصوص الشعرية التي أبدعها الشاعر/ المؤلف هي استحضار «الأصحاب» الأربعة، وهي أيضا تأسيس على فكرة أو توليد ومضة من المنجز الإبداعي للصحبة إياها ، ونوع من اقتسام القلق الوجودي،وسفر المخيلة في الذات وذوات الأربعة الكبار، كما هي «عدوى» القلق فهي عدوى التفكر شعريا في الأعماق وفي الممشى الذي تحفه «أوراق العشب» في وطى حوب، القرية المزهرة، قرية الانزواء الذي يحبه الشاعر، ولعل هذا الانزواء منجم للمخيلة التي لا تحتاج إلى تخصيب قسري كما يحدث لبعض شعراء المدن، الانزواء خصوبة تتنزه في الممشى الأخضر أو على الترائب الرطيبة، لهذا فالعزلة الرائقة تمخض عنها الكثير من الأعمال الشعرية والسردية (النقد ضمنها) الجميلة والعميقة. ولعل المشترك بين «الصحبة» المختارة وشربل هو هذا الانزواء الذي أتاح غوصا أعمق في ثنايا هذه التجارب المضيئة.
٭ كاتب من المغرب
القدس العربي